موقع السؤال الإيكولوجيّ في المتن الماركسيّ وراهنيّته

موقع السؤال الإيكولوجيّ

 

ملخّص:

تهدف هذه الدّراسة إلى تسليط الضّوء على طبيعة موقع السّؤال الإيكولوجيّ ومساحته في نصوص ماركس كما رآها بعض أهمّ قرّاء المتن الماركسيّ وشارحيه ممّن حاولوا قياس مدى حضور الوعي الإيكولوجيّ لديه. لا نسعى من خلالها إلى استجلاء الطّابع الإشكاليّ والسّجاليّ لعلاقة ماركس بالقضايا البيئيّة وإعطاء صورة تقريبيّة بالاستتباع عمّا تثيره إشكاليّة راهنيّة فكره من جدل فقط، بل والتّدليل أيضا على صعوبة ادّعاء القدرة على الإمساك بــ”حقيقة” النّصّ الماركسيّ لانفتاحه على تأويلات مختلفة واحتمالات معنى متعدّدة ولانهائيّة.

الكلمات المفاتيح: الإيكولوجيا – كارل ماركس – الاستقلاب – الإنتاجويّة – البروميثيوسيّة.

Abstract:

This study seeks to shed light on the nature of the location and scope of the ecological question in Marx’s texts, as seen by some of the most important readers and commentators of the Marxist text who tried to measure the extent of the presence of an ecological consciousness in him.

Through it, we do not seek to clarify the problematic and controversial nature of Marx’s relationship with the environmental issues, and to give an approximate picture, by extension, of the controversy raised by the current problem of his topicality; It also demonstrates the difficulty of claiming the ability to grasp the “truth” of the Marxist text due to its openness to different interpretations and multiple and infinite meaning possibilities

Key words: Ecology – Karl Marx – Metabolism – Productivity – Prometheanism.


1- مقدّمة:

لا شكّ أنّ المتتبّع الرّصين لتطوّرات الفكر الإيكولوجيّ المعاصر سيلاحظ أنّ احتداد الأزمة البيئيّة دفع العديد من الباحثين، خلال العقود الأخيرة، إلى إعادة قراءة نصوص كارل ماركس؛ ليس فقط لقياس مدى حضور وعي إيكولوجيّ واضح لديه بل أيضا لفحص إمكانيّة الاسترشاد بها في فهم جذور وأبعاد هذه الأزمة الّتي تختزل وتكثّف العديد من ملامح وأوجه الواقع المركّب، بغية العثور على مخارج وحلول تساعد على حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعيّة وتقليص البصمة الإيكولوجيّة. في هذا السياق، يلاحظ دانييل تانورو[1](Daniel Tanuro)  أنّه منذ ظهور أولى الأعمال الّتي حاولت استجلاء طبيعة علاقة ماركس بالإيكولوجيا، مثل كتاب “مفهوم الطّبيعة لدى ماركس[2] لمؤلّفه أَلْفْريد شميدت (Alfred Schmidt) المنشور سنة 1962، توزّعت آراء الباحثين بين توجّه يستنكر نزوعه الإنتاجويّ المفرط، وآخر يثني على نزعته الإيكولوجيّة الواضحة، ويمجّد نجاحه بالتّبعة في أنسنة الطّبيعة وطبعنة (Naturalisation) الإنسان، حسب تعبير جيرار رولي[3](Gérard Raulet) . فإذا كان التّوجّه الأوّل يشدّد -بعد التّدقيق والتّمعّن في نصوص ماركس- على النّزعة الإنتاجويّة الّتي طبعت “البيان الشّيوعيّ” و”مساهمة في نقد الاقتصاد السّياسيّ” و”الغروندريسه” (Grundrisse)، فإنّ التّوجّه الثّاني يلفت الانتباه إلى النّزعة الطّبيعانيّة(Naturalisme)  الّتي وسمت “مخطوطات 1844“، ويشدّد على مفهوم الاستقلاب Métabolisme)) بين البشر والطّبيعة الّذي اخترق نصوص “رأس المال“، ويقرّ بمركزيّة دور الطّبيعة في “نقد برنامج غوته[4].

في المقابل، فبالقدر الذي لا يمكننا نفي أهمّيّة هذا التّصنيف المزدوج (ماركس الإيكولوجيّ/ ماركس الإنتاجويّ) ونجاعته أو التّشكيك في قيمته الكشفيّة؛ بالقدر نفسه الّذي يدفعنا إلى التّشديد على كونه لا يفي أو يستنفد غنى وجهات نظر الباحثين وتنوّعها وتعدّدها حول موقع الإيكولوجيا في تفكير ماركس، أي حول حقيقة تصوّره لعلاقة الإنسان بالطّبيعة ومدى تشبّعه بتفكير إيكولوجيّ واضح. وبالأخصّ، بعد ظهور بعض القراءات الّتي استطاعت الانفلات خلال العقدين الأخيرين من مخالب هذا التّصنيف المزدوج، والابتعاد عن المنطق الحدّيّ والتّأويلات الأحاديّة والاختزاليّة بفضل تشديدها على الطّابع الإشكاليّ والمركّب لعلاقة ماركس بالإيكولوجيا.

نسعى فيما يلي إلى تسليط الضّوء على طبيعة موقع الإيكولوجيا في تفكير ماركس كما رآها بعض أهمّ قرّاء المتن الماركسي وشرّاحه ممّن حاولوا قياس مدى حضور الوعي الإيكولوجيّ لديه، وذلك من أجل إبراز الطّابع الإشكاليّ والسّجاليّ لعلاقة ماركس بالقضايا البيئيّة، وإعطاء صورة تقريبيّة عمّا تثيره إشكاليّة راهنيّة فكره من جدل؛ والتّدليل بالاستتباع على صعوبة ادّعاء القدرة على الإمساك بــ “حقيقة” النّصّ الماركسيّ لانفتاحه على تأويلات مختلفة واحتمالات معنى متعدّدة ولانهائيّة. يتعلّق الأمر بأربع تصوّرات مختلفة تعبّر عن قراءات متباينة ووجهات نظر خاصّة لطبيعة علاقة ماركس بالإيكولوجيا.

2- كارل ماركس: سجين بين مخالب النّزعة الإنتاجويّة والتّصوّر البروميثيوسيّ:

نجد من بين ممثّلي هذا التّصوّر أنتوني غيدنز (Anthony Giddens) وألان لبييتز (Alain Lipietz) وميشيل باريون[5](Michel Barillon) . فعلى سبيل المثال، يقول أنتوني غيندنز في كتابه “نقد معاصر للمادّيّة التّاريخيّة” ما يلي: »بالتّأكيد، ففي كتابات ماركس المبكّرة، وبشكل واضح في “مخطوطات 1844” على الأخصّ، نجد بعض الفقرات الّتي تشير إلى كون الطّبيعة ليست مجرّد واسطة (Medium) يمرّ عبرها التّاريخ البشريّ[…] لكنّ “التّوجّه البروميثيوسيّ” يظلّ دائما مهيمنا في كتابات ماركس»[6]. أمّا ألان لبييتز فيؤكّد بلغة جازمة على كون ماركس قد ساهم بشكل فعّال في تعضيض «الإيديولوجيا التّوراتيّة-الدّيكارتيّة (Biblio-cartésienne) المسكونة بالرّغبة في السّيطرة على الطّبيعة، والّتي وصلت إلى ذروتها مع “البرجوازيّين الغزاة”، وبعد ذلك مع السّحرة المتدرّبين السّتالينيّين الموجودين بسيبيريا وسهوب كازاخستان»[7]. ومن جهته، يؤكّد ميشيل باريون أنّ كارل ماركس «ظلّ مقتنعا بكون الرّأسماليّة هي شرّ تاريخيّ لابدّ منه، تقوم، رغما عنها، بمهمّة “تحضيريّة”. فباعترافه بقدرتها الهائلة على تسهيل استغلال الطّبيعة بدون حدود، فهو لم يكتف بتزكية النّزعة الإنتاجويّة الرّأسماليّة، بل وبرهن أيضا على انخراطه الكامل في المشروع الباكونينيّ والدّيكارتيّ»[8].

عموما، وبعد تنقيبه في نصوص مؤلّفات كارل ماركس وتقليب النّظر فيها، ينفي هذا التّصوّر وجود وعي إيكولوجيّ لديه، ويشدّد على تأخّره النّظريّ والسّياسيّ الكبير في المسألة الإيكولوجيّة، وإخلافه لموعده معها[9]؛ ليس فقط لكونه ظلّ متشبّعا بنزعة إنتاجويّة مفرطة وسجينا داخل تصوّر بروميثيوسيّ ومتمركز بشريّا (Anthropocentré)  للعالم والطّبيعة، كنتاج موضوعيّ لوفاءه للمشروع البيكونيّ والدّيكارتيّ الّذي يسعى إلى السّيطرة على الطّبيعة والتّحكّم فيها؛ بل وأيضا لكون المشاكل البيئيّة لم تكن مطروحة في عصره، أي خلال فترة الانتقال من المجتمع الإقطاعيّ إلى المجتمع الرّأسماليّ.

2- 1- النّزوع البروميثيوسيّ والبيكونيّ لدى ماركس:

يرى هذا التّصوّر أنّ نصوص كارل ماركس تكشف بوضوح عن قناعته الرّاسخة بكون مهمّة الإنسان هي السّعي إلى تسخير الطّبيعة وترويضها وإخضاعها وفق ما تمليه عليه مصالحه الخاصّة، وذلك على غرار كلّ من روني ديكارت الّذي أراد للإنسان أن يتحوّل بفضل العلم والتّقنية إلى سيّد على الطّبيعة ومالك لها، وفرانسيس بيكون الّذي شبّه الأرض بــ«امرأة عّامة (Publique) علينا إخضاعها، واقتحام أسرارها وتقييدها تبعا لرغباتنا»[10].

ومن نافل القول، التذكير هنا بأنّ هذا التّصوّر يستند في الدّفاع عن رأيه وتعضيض حجّته إلى بعض نصوص كارل ماركس (أو رفيقه إنجلز)[11]على غرار النّصّ الآتي:

«مع تملّك المجتمع لوسائل الإنتاج، سيختفي الإنتاج البضاعيّ، ومعه سيطرة المنتوج على المنتجين؛ وتترك الفوضى داخل الإنتاج الاجتماعيّ مكانها للتّنظيم المخطّط الواعي، فيتوقّف الصّراع من أجل الوجود الفرديّ. وبهذا، ولأوّل مرّة، ينفصل الإنسان، بمعنى من المعاني، بشكل نهائيّ عن مملكة الحيوان، وينتقل من ظروف العيش الحيوانيّة إلى ظروف إنسانيّة حقيقيّة. فشروط الحياة المحيطة بالإنسان، والّتي كانت تتحكّم فيه، تصبح، الآن، خاضعة لسيطرة ورقابة النّاس الّذين يغدون، لأوّل مرّة، سادة فعليّين وواعين على الطّبيعة، لأنّهم، وبما هم، أسياد حياتهم الخاصّة بالمجتمع. فالقوانين المتحكّمة في ممارستهم الاجتماعيّة الّتي كانت تقف في وجههم، باعتبارها قوانين طبيعيّة وغريبة ومسيطرة عليهم، ستطبق آنذاك من طرف النّاس بكامل المعرفة، ومن ثمّة ستصبح خاضعة لسيطرتهم. فالحياة[…] الّتي كانت تقف أمامهم كما لو أنّها محدّدة بشكل مسبق من طرف الطّبيعة والتّاريخ، تصبح الآن نتيجة فعلهم الخاصّ والحرّ. والقوى الغريبة والموضوعيّة الّتي كانت تتحكّم في التّاريخ من قبل، تصبح خاضعة لرقابة النّاس. فمنذ تلك اللّحظة فقط، سيصنع النّاس تاريخهم بأنفسهم بوعي كامل؛ وآنذاك فقط، سيكون للأسباب الاجتماعيّة الّتي يحرّكونها أيضا، بصورة مهيمنة، ومتنامية بشكل دائم، النّتائج الّتي يتوخّونها. وتلك هي طفرة البشريّة من مملكة الضّرورة إلى مملكة الحرّيّة»[12].

علاوة على هذا، يرى هذا التّصوّر أنّ التّاريخ البشريّ من وجهة نظر ماركس هو، في نهاية المطاف، تاريخ حرب الإنسان الدّائمة ضدّ الطّبيعة، مستشهدا بنصّه البليغ الآتي: 

«مثلما كان على الإنسان البدائيّ أن يناضل ضدّ الطّبيعة لتوفير حاجياته، وللبقاء على قيد الحياة وإعادة إنتاج نفسه؛ فالإنسان المتحضّر هو بدوره مجبر على القيام بالأمر نفسه، بغضّ النّظر عن بنية المجتمع ونمط الإنتاج»[13].

2-2- النّزوع الإنتاجويّ لدى ماركس:

يرى روّاد هذا التّصوّر أنّ النّزعة الإنتاجويّة تبدو واضحة لدى كارل ماركس، لكونه كان مهووسا بالدّفاع عن فكرة التّقدّم التّقنيّ وتحكّم الإنسان في الطّبيعة، ومشغوفا بالرّغبة الجامحة في الزّيادة في مستوى الإنتاج دون الالتفات لآثار ذلك على التّوازنات البيئيّة أو الوعي بمحدوديّة الموارد الطّبيعيّة وقابليّتها للاستنزاف. ودليلهم في ذلك أنّ ماركس يسلّم بكون تطوّر القوى المنتجة يشكّل القوّة المحرّكة للتّاريخ البشريّ، ويشدّد على كون الشّيوعيّة ليست سوى التّقدّم الهائل للقوى المنتجة الّذي يقود حتما إلى مجتمع الوفرة؛ ومن ثمّة، فكلّ تشكيلة اقتصاديّة واجتماعيّة تعيق تطوّر هذه القوى وتكبح جماح طاقاتها وإمكاناتها محكوم عليها، بقوّة منطق التّاريخ، بالاضمحلال والزّوال. فعند مرحلة معيّنة من تطوّرها، يقول كارل ماركس:

«تدخل قوى المجتمع الإنتاجيّة المادّيّة في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة، أو، بما هو مجرّد تعبير قانونيّ عنها، مع علاقات الملكيّة الّتي ظلّت حتّى ذلك الحين تتطوّر في كنفها. فتتحوّل هذه العلاقات إلى كوابح في وجه تطوّر القوى المنتجة بعدما كانت تعمل على تطويرها. عندئذ يبدأ زمن الثّورة الاجتماعيّة[…] لا تضمحلّ أيّة تشكيلة اجتماعيّة أبدا قبل أن تتطوّر جميع القوى المنتجة الّتي لها من الاتّساع ما يمكّنها من استيعابها»[14].

وضمن هذا الأفق، يؤكّد هذا التّصوّر على إشادة كارل ماركس المتكرّرة بالدّور التّاريخيّ والتّقدّميّ والثّوريّ الّذي لعبته البرجوازيّة في تطوير قوى الإنتاج، مثل قوله ما يلي:

«فالبرجوازيّة أخضعت الرّيف لسيطرة المدينة، وأنشأت مدنا ضخمة، وزادت بدرجة هائلة عدد سكّان المدن إزاء سكّان الرّيف، منتزعة بذلك جزء كبيرا من السّكّان من بلاهة الحياة الرّيفيّة […] ففي غضون سيطرتها الطّبقيّة الّتي لم يكد يمضي عليها قرن من الزّمن، خَلقت البرجوازيّة قوى منتجة تفوق في كمّيتها وضخامتها ما استطاعت خلقه الأجيال السّابقة كلّها مجتمعة. فترويض قوى الطبيعة، والمكننة، واستخدام الكيمياء في الصّناعة والزّراعة، والملاحة البخاريّة، والسّكك الحديديّة، والتّلغراف، واستصلاح أراضي قارّات بأكملها، وتغيير مجاري الأنهار[…] ففي أيّ قرن سالف كان من الممكن توقّع رقود هذه القوى المنتجة في جوف العمل الاجتماعيّ؟»[15].

وفي سياق متّصل، أي السّعي إلى التّأكيد على الدّور التّقدّميّ تاريخيّا للرّأسماليّة باعتبارها “شرّا تاريخيّا لابدّ منه”، أي معبرا ضروريّا لتحقيق المجتمع الشّيوعيّ المنشود بالنّظر لكونها تحطّم كلّ العراقيل الّتي تقف في وجه تطوّر القوى المنتجة، فتعمّق بالاستتباع سيرورة “انفكاك السّحر عن العالم”، يضيف ماركس ما يلي:

«إنّ واحدا من أبرز نتائج نمط الإنتاج الرّأسماليّ هو تحويله الزّراعة إلى تطبيق علميّ واع للهندسة الزّراعيّة -بالقدر الممكن في ظلّ شروط الملكيّة الخاصّة- بعدما كانت مجرّد جملة من العمليّات التّجريبيّة الخالصة الّتي تنتقل بشكل ميكانيكيّ من جيل إلى آخر، بين الجزء الأقلّ تطوّرا من المجتمع. فهو يخلّص الملكيّة العقاريّة، بشكل كامل، من كلّ أشكال السّيطرة والاستعباد […] إنّ عقلنة الزّراعة الّتي، وحدها فقط، هي من يسمح باستغلالها الاجتماعيّ وتحويل الملكيّة العقاريّة إلى قضيّة عبثيّة (Ad absurdum) هما أكبر مزايا نمط الإنتاج الرّأسماليّ. وعلى غرار كلّ مظاهر تقدّمه الأخرى، فالنّظام الرّأسماليّ لم يحقّق كلّ هذا إلّا بعد الإفقار الكلّيّ للمنتجين المباشرين»[16].

وفي موقع آخر، يشدّد كارل ماركس على “المهمّة التّحضيريّة (Civilisatrice) الكبرى للرّأسماليّة” لاقتناعه بدورها التّاريخيّ الفعّال في تشييء الطّبيعة وتطويعها بعنف، وجعلها قابلة لاستغلال غير محدود، قائلا:

«هكذا يبدأ رأس المال في خلق المجتمع البرجوازيّ والتّملّك الكونيّ للطّبيعة، وإقامة شبكة تضمّ كلّ أفراد المجتمع: هذا هو العمل الحضاريّ العظيم الّذي يقوم به رأس المال، فهو يرتقي إلى مستوى اجتماعيّ يجعل من خلاله كلّ المجتمعات السّابقة تبدو وكأنّها تطوّرات محلّيّة خالصة للبشريّة وكعبادة للطّبيعة. إذ تتحوّل الطّبيعة إلى مجرّد شيء بالنّسبة إلى الإنسان، مجرّد شيء نافع؛ إذ لم يعد ينظر إليها باعتبارها قوّة. بل حتّى الإدراك النّظريّ لقوانينها المستقلّة لا يبدو إلا مجرّد خدعة تسعى إلى إخضاع الطّبيعة للحاجات البشريّة، إمّا كشيء للاستهلاك أو كوسيلة للإنتاج»[17].

وعلاوة على التّنقيب والتّقليب في صفحات مؤلّفات ماركس والتّفتيش في دفاتره، وسعيا منه إلى تدعيم عدّته الاستدلاليّة وتصليب بنائه الحجاجيّ، غالبا ما يُذكر هذا التّصوّر الّذي ينفي وجود وعي إيكولوجيّ لدى ماركس بالنّزوع الإنتاجويّ المفرط والتّدمير البيئيّ الفظيع اللّذان ميّزا التّجارب السّياسيّة المنسوبة إلى الماركسيّة[18] أو تلك الكيانات السّياسيّة الّتي أعلنت بشكل صريح عن تبنّينها الماركسيّة كعقيدة إيديولوجيّة رسميّة للدّولة، وذلك على غرار الاتّحاد السّوفياتيّ. فاعتقاد هذا التّصوّر بكون السّتالينيّة هي ترجمة سياسيّة أمينة وتنزيل مادّيّ ملموس لنصوص كارل ماركس، بل وتجسيد عمليّ وتطبيق تاريخيّ لانتظاراته، جعله يستحضر ثلاث أحداث تاريخيّة مهمّة لتزكية وجهة نظره هاته، هي كالآتي:

أ- تطبيق ما سمّي بـــ”السّتاخانوفيّة[19](Stakhanovisme)  كقاعدة للعمل بجميع القطاعات الإنتاجيّة بغية الرّفع من كمّيّة الإنتاج المطلوبة من كلّ عامل، والتّمكّن بالتّبعة من اللّحاق بمستوى تطوّر المراكز الرّأسماليّة، بل وتجاوز درجة معدّلات نموّها ومستوى عيشها. فمعدّلات الإنتاج المطلوبة لم تعد تحدّد مع الحركة السّتاخانوفيّة بناء على حجم «إنتاجيّة العامل المتوسّط، بل عن طريق أخد المتوسّط بين السّتاخانوفيّين من ناحية، ومتوسّط العمّال من ناحية أخرى»[20]؛  وهو ما أجبر العمّال على الاشتغال في ظلّ ظروف كأْداء ووفق إيقاعات جهنّميّة بغية الرّفع من إنتاجيّتهم.

بالتسبّب في جفاف بحر آرال (Aral) الّذي يقع في آسيا الوسطى بين أوزبكستان جنوبا وكازاخستان شمالا، بعدما سعى جوزيف ستالين إلى «تحويل جمهوريّات آسيا الوسطى الأولى إلى مزارع عملاقة للقطن من دون الالتفات إلى واقع المناخ الجافّ السّائد في هذا الجزء من العالم والّذي لا يتناسب مع زراعة محصول شره يحتاج إلى كثير من الماء»[21]. هكذا تمّ سحب مياه نهريْ سير داريا (Syr-daria) وآمو داريا (Amou-daria) اللّذين كانا يصبّان في هذا البحر، وتوجيهها لسقي مزارع القطن، ولاستصلاح الأراضي الزّراعيّة في تركمانستان وأوزبكستان ومناطق أخرى جنوب كازاخستان[22]. وبعد مضيّ عقود من الزّمن «تراجعت شواطئ بحر آرال شيئاً فشيئاً، وتقلّصت مساحته بنسبة 90 بالمئة. فبعدما كان، إلى حدود ستّينيّات القرن العشرين، رابع أكبر كتلة مائيّة داخليّة في العالم، بمساحة تقدّر بنحو 68 ألف كيلومتر مربّع، تقلّصت هذه المساحة إلى العُشر. ممّا أدّى إلى تعرية مساحات شاسعة من قعره الّذي بات مكشوفا ومغطّى بالأملاح البحريّة، وازدياد تركيز المبيدات الحشريّة والموادّ الكيميائيّة الّتي تصل إليه مع مياه الصّرف الزّراعيّ، وبالتّالي نفوق الحياة البحريّة والأسماك»[23].

ج -كارثة تشيرنوبيل: انفجار إحدى المفاعلات النّوويّة بمحطّة تشيرنوبيل بشمال أوكرانيا السّوفياتيّة خلال اختبار أمنيّ سنة 1986.  وحسب تقارير الأمم المتّحدة، فقوّة الانفجار أدّت إلى «انتشار التّلوّث على أجزاء كبيرة من الاتّحاد السّوفياتيّ الّتي تتبع ما يعرف الآن بيلاروسيا وأوكرانيا وروسيا […] ولقى 31 شخصا حتفهم على الفور، وتعرّض 600 ألف ’’مصفّ‘‘ من المشاركين في مكافحة الحرائق وعمليّات التّنظيف لجرعات عالية من الإشعاع […] وتعرّض ما يقرب من 8,400,000 شخص في بيلاروس وروسيا وأوكرانيا للإشعاع، وهو عدد يزيد عن إجماليّ سكّان النّمسا. وتعرّضت 155 ألف كيلومتر مربّع من الأراضي التّابعة للبلدان الثّلاثة للتّلوّث، وهي مساحة تماثل نصف إجماليّ مساحة إيطاليا. وتعرّضت مناطق زراعيّة تغطّي ما يقرب من 52 ألف كيلومتر مربّع، وهي مساحة أكبر من مساحة دولة الدّانمرك للتّلوّث بالعنصر المشعين سيزيوم – 137 (عمره النّصفيّ هو 30 سنة) وعنصر سترونتيوم – 90 (عمره النّصفيّ هو 28 سنة). وأعيد توطين ما يقرب من 404 ألف شخص، إلّا أنّ الملايين ظلّوا يعيشون في بيئة تسبّب فيها استمرار بقايا التّعرّض الإشعاعيّ إلى ظهور مجموعة من الآثار الضّارّة»[24]. فعلى سبيل المثال، بيّنت دراســات وبائيّة شتّى أنّ الغدّة الدّرقيّة معرّضــة بدرجة كبيرة للإصــابة بالسّرطان جرّاء التّعرّض للإشعاع الخارجيّ أثناء الطّفولة[25].

وللإشارة، فمماهاة بعض أنصار هذا التّوجّه بين الماركسيّة وتأويلها السّتالينيّ، باعتبار ستالين ابنا بارّا لماركس، وميلهم إلى محاكمة الأطروحة الماركسيّة انطلاقا من التّجارب الّتي استلهمتها، ومن ثمّة محاسبة ماركس بجريرة ما فعله القادة السّوفيات؛ جعلهم يعتقدون أنّ للأحداث التّراجيديّة المشار إليها أعلاه، مثلها مثل كلّ فظاعات الحقبة السّتالينيّة المتدثّرة بلبوس الماركسيّة، والّتي لم ينج منها حتّى رفاق الأمس[26]، ليست نتاجا لتأويل فجّ وتوظيف سيّء واستلهام خاطئ للنّظريّة الماركسيّة، بل تجد منبعها التّاريخيّ ومرجعيّتها النّظريّة التّأسيسيّة في المتن الماركسيّ نفسه. وعلّة ذلك أنّ الماركسيّة تحوي في أحشائها حسب رأيهم جرثومة هذه الفظاعات، وتثوي في تضاعيفها بذور هذه الانحرافات لأنّه ليس هناك، كما يقرّر بعضهم، «دودة في الثّمرة ولا خطيئة تأتي متأخّرة، إذ أنّ الدّودة هي الثّمرة والخطيئة هي ماركس»[27].

والحال، وكما يستخلص ذلك هنري بينا-رويز في سياق دراساته لنصوص ماركس، أنّ من يحمّل نصوص ماركس مسؤوليّة الغولاغ السّتالينيّ يشبه ذلك الّذي يعزو “عظّة الجبل”[28]، المنسوبة ليسوع المسيح، مسؤوليّة المذابح والمجازر الّتي ارتكبتها محاكم التّفتيش[29]؛ لعدم وجود أي نص، حرره ماركس، يمكنه أن يؤكّد مسوؤليّته عن الفظاعات السّتالينيّة، لأنّه «كان فيلسوف التّحرير الجماعيّ والفرديّ. لقد ناضل طيلة حياته من أجل حرّيّة النّاس والشعوب. والدّليل السّاطع في ذلك هو تضامنه النّشيط مع إيرلندا وبولونيا وإبراهيم لنكولن والأمريكيّين المناهضين للعبوديّة. لقد دافع عن حرّيّة الصّحافة ضدّ الرّقابة القمعيّة البروسيّة، وعن حقّ الأمم في تقرير مصيرها، وعن الدّيموقراطيّة الحقيقيّة، كما هو واضح من خلال ثناءه على الابتكارات السّياسيّة الّتي أنتجتها كمونة باريز. لقد ناهض خلال حياته كلّ أشكال الدّغمائيّة وعبادة الشّخصيّة. لقد قال خلال نهاية حياته “لست ماركسيّا”، ضدّا على أولئك الّذين حاولوا التّحجّج بعمل ماركس لإضفاء الشّرعيّة على دغمائيّتهم المتحجّرة»[30].

واللّافت، أنّ هذا التّصوّر الّذي يخلط بين المثال (l’idéal) والواقع التّاريخيّ، في ما هي بالتّبعة بين الماركسيّة وأشكال تنزيلها السّياسيّ الواقعيّ، دون أن يكلّف نفسه عناء فصل القمح عن كومة القشّ وتجنّب رمي الرّضيع مع ماء الحمّام، يتجاهل وجود نوع من الاستقلاليّة النّسبيّة للفكر في علاقته بالحركة والواقع، أي بتجارب تحقّقه التّاريخيّ من جهة؛ ويغفل تعدّد تمثّلات هذا الفكر، وتنوّع تأويلاته وقراءاته من جهة أخرى.

يبقى أن نشير هنا إلى أنّ أنصار هذا التّوجّه الّذي ينفي وجود وعي إيكولوجيّ لدى ماركس لا يسعون كلّهم إلى “دفن ماركس ونعيه”، بل وكما لاحظ ذلك جون ماري هرببي[31](Jean-Marie Harribey)  ، يوجد من بينهم العديد من الماركسيّين، وذلك على غرار جيمس أوكونور (James O’Connor) الّذي يرى أنّ كارل ماركس لم يلتفت لما سمّاه بــ” تناقض الرّأسماليّة الثّاني”؛ وتيد بينتون (Ted Benton) الّذي يؤكّد أنّ ماركس رفض فكرة الحدود الطّبيعيّة، أي استصغر “الشّروط الطّبيعيّة الّتي لا يمكن التّحكّم فيها”، وضخّم من الدّور والقدرات التّقنيّة للإنسان[32]؛ ودانييل تانورو (Daniel Tanuro) الّذي شدّد على كون ماركس، مثله مثل إنجلز، لم يستوعب شروط الانتقال من الطّاقة المتجدّدة (الخشب) إلى الطّاقة الأحفوريّة القابلة للنّفاذ وتداعياته على الانسان والطّبيعة[33].

في المقابل، وكما يرى ميشيل باريون[34] (Michel Barrillon)، إذا كان أغلب الماركسيّين والماركسيّين الجدد يعترفون اليوم بتأخّرهم النّظريّ في هذا المجال، فهم مقتنعون حتّى الثّمالة بكونهم مؤهّلين أكثر من غيرهم لفهم الأزمة الإيكولوجيّة الرّاهنة وتفسيرها، بمن فيهم أولئك الّذين اقتحموا قبلهم حقل النّقد الإيكولوجيّ دون إدراك التّعالق الشّديد بين منطق الرّبح و”النّزعة الإنتاجويّة”، أو الالتفات إلى دور الملكيّة الخاصّة في الأزمة الإيكولوجيّة، أي باختصار : دون أن يحاولوا الاسترشاد بالماركسيّة وبنقدها لتصنيم البضاعة[35].

3- كارل ماركس :أحد أوائل منظّري الإيكولوجيا السّياسيّة:

يعتبر عالما اجتماع البيئة الأمريكيّين جون بيلامي فوستر (John Bellamy Foster) وبول بركيت[36] (Paul Burkett) والفيلسوف اليابانيّ كوهي سايتو[37] (Kohei Saïto) والفيلسوف الفرنسيّ هنري بينا رويز (Henri Pena-Ruiz) من بين أبرز ممثّلي هذا التّصوّر. إذ يؤكّدون على أنّ نصوص كارل ماركس -كما رفيقه إنجلز- تؤشّر بقوّة على وعيه بمحدوديّة ممكنات الطّبيعة ومواردها، وتشهد بوضوح على مدى إدراكه لخطورة الآثار التّدميريّة للثّورة الصّناعيّة على المحيط البيئيّ، وتفرض بالتّبعة تصنيفه كأحد أوائل منظّري الإيكولوجيا السّياسيّة. 

3- 1- جون بيلامي فوستر:

يرى جون بيلامي فوستر[38]، أحد أبرز رموز الإيكولوجيّة الاشتراكيّة (Éco-socialisme) في الفترة الرّاهنة، أنّ المدخل الحقيقيّ لاستجلاء طبيعة علاقة كارل ماركس بالإيكولوجيا لا يكمن في الحرص على معرفة مدى اهتمامه الواضح بالإشكال البيئيّ خلال حياته، بل في السّعي إلى قياس مدى نجاحه في صياغة رؤية تحليليّة دقيقة لجدليّة الطّبيعة (التّاريخ الطّبيعيّ) والمجتمع (التّاريخ البشريّ) بإمكانها أن تشكّل بوصلة مهمّة لفهم الأزمة الإيكولوجيّة بالمجتمع الرّأسماليّ[39]. وبلغة جازمة، يؤكّد أنّ نصوص كارل ماركس تبيّن بجلاء أنّه كان مسكونا علميّا وفلسفيّا بالانشغالات الإيكولوجيّة، ومدركا بسعة وعمق للعديد من جوانب أسئلتها الحارقة؛ وهذا ما لا يستطيع فهمه، حسب رأي جون بيلامي فوستر،  العديد من الإيكولوجيّين -بمن فيهم بعض أولئك الّذين يصنّفون أنفسهم بــ”الإيكولوجيّين الاشتراكيّين”- الّذين يرون أنّ التّيمة الإيكولوجيّة تظلّ هامشيّة، إلى حدّ ما، في منجز كارل ماركس، ويسلمون بعجزه عن التّحرّر من “النّزعة البروميثيوسيّة” الّتي قادته للدّفاع بشراسة عن مسلسل التّصنيع بغضّ النّظر عن حجم تكاليفه، ويجزمون بالتّبعة بعدم تركه إرثا إيكولوجيّا دالّاً، بل وينفون بالمطلق -في بعض الأحيان- مساهمته في تطوّر التّفكير الإيكولوجيّ[40].  ودليلهم في ذلك، كما يقول جون بيلامي فوستر، أنّ كارل ماركس كتب نصوصه خلال القرن التّاسع عشر، أي قبل بداية العصر النّوويّ واكتشاف البيسفينول (Bisphénol) والبارابين (Paraben) ومركّب ثنائيّ كلور وثنائيّ فينيل ثلاثيّ كلور والإيثان (DDT)؛ إضافة إلى كونه لم يسبق له بتاتا أن استعمل في كتاباته كلمة “إيكولوجيا”[41].

هكذا، إذن، سيعتبر جون بيلامي فوستر أنّ إحدى أهمّ الأوراش الفكريّة الّتي يجب الاشتغال عليها هي التّصدّي لستّة أحكام خاطئة حول علاقة ماركس بالبيئة: تتّهمه بعدم وعيه بمخاطر استغلال الطّبيعة أوّلا، وبدور الطّبيعة في خلق الثّروة ثانيا، وبوجود حدود طبيعيّة ثالثا، وبالطّابع المتغيّر (Variable) للطّبيعة رابعا، وبدور التّكنولوجيا في التّدهور البيئيّ خامسا، وبعجز الوفرة الاقتصاديّة عن حلّ المشاكل البيئيّة سادسا[42].

ضمن هذا الأفق العامّ، سيؤكّد جون بيلامي فوستر على أنّ مردّ اهتمام كارل ماركس بالمسألة الإيكولوجيّة هو اطّلاعه الدّقيق على الانتقادات الّتي وجّهها عالم الكيمياء الزّراعيّة الألمانيّ يوستوس فون ليبيغ Justus Von Liebig (1803-1873)[43] للتّقنيات الّتي تستخدمها الزّراعة الكثيفة (Intensive) ببريطانيا جراء تحوّلها، في نظره، إلى “نظام من النّهب” يتناقض بشكل جذريّ مع الزّراعة العقلانيّة[44]. إذ تتطلّب هذه التّقنيات، في منظور يوستوس فون ليبيغ، نقل الغذاء والألياف على مسافات طويلة من البوادي إلى المدن، دون القيام بأيّ شيء من شأنه أن يساعد على إعادة تدوير بعض الموادّ المغذّية -مثل الأزوت والفوسفور والبوتاسيوم- الّتي تنضاف في شكل نفايات بشريّة وحيوانيّة إلى نفايات المدن وتعمّق من تلوّثها؛ وهو ما جعل تربة بلدان بأكملها تفقد كلّ موادّها الغذائيّة الحيويّة[45].

علاوة على ذلك، يضيف يوستوس فون ليبيغ، الّذي يعتبر من بين العلماء الأوائل الّذين بيّنوا كيف أنّ الأشجار تنمو بفضل معادن التّربة[46]، أنّ هذه التّقنيات تندرج ضمن سياسة إمبرياليّة عامّة تقودها بريطانيا بهدف السّيطرة على كلّ موارد تربة البلدان الأخرى ومغذّياتها، بما في ذلك العظام البشريّة. فبريطانيا، في نظر يوستوس فون ليبيغ، »تحرم كلّ البلدان من شروط خصوبتها. لقد قامت بتمشيط ساحات القتال في لايبزيغ (Leipzig) وواترلو وشبه جزيرة القرم، واستهلكت عظام أجيال عديدة تراكمت في سراديب الموتى بصقلّيّة. واليوم، تدمّر سنويّا غذاء جيل المستقبل المكوّن من ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص[47]«.

في المقابل، يرى يوستوس فون ليبيغ أنّه إذا كانت بريطانيا قادرة على الاحتفاظ بزراعتها الرّأسماليّة المصنّعة، فذلك بفضل استيراد ذَرْق الطّائر (غوانو Guano) من البيرو والعظام من أوروبا. لكنّ استمرار هذا النّهب كان مشروطا باكتشاف أحواض الرّوث أو ذَرْق الطّائر الّتي تشبه في أهمّيّتها حقول الفحم الإنجليزيّ، وهو ما لم يكن ممكناً آنذاك، فتواصل بذلك استنزاف الموارد المتاحة دون القدرة على اكتشاف موارد أخرى جديدة. وهو ما دفع كلّ المناطق القرويّة، بل وكلّ أمم الكون إلى تصدير خصوبة أراضيها. إذ ليس هناك بلد، كما يقول يوستوس فون ليبيغ، «قادر على الانفلات من التّفقير الّذي يسبّبه تصدير الحبوب بشكل مستمرّ، كما الهدر غير المجدي للمنتوجات الّتي تراكمت بفضل تحويل السّاكنة الحضريّة للمادّة (La matière)»[48].

قادت كلّ الاعتبارات آنفة الذّكر يوستوس فون ليبيغ إلى التّشديد على خلاصة مركزيّة مؤدّاها التّأكيد على أنّ “قانون الاسترداد” (Restitution) يجب أن يشكّل المبدأ الأساسيّ الموجّه لكلّ زراعة عقلانية، لأنّ المعادن الّتي تُؤخَذُ من الأرض يجب أن تعود إليها، وعلى المُزارع أن يردّ إلى الأرض ما أخذه منها بل وأكثر[49]

واللّافت، في نظر جون بيلامي فوستر[50]، أنّ اطّلاع كارل ماركس على النّقد الشّديد الّذي وجّهه ليبيغ للزّراعة الكثيفة البريطانيّة، ومن خلالها للزّراعة الرّأسماليّة المصنّعة الّتي تسهم، في نظره، في إتلاف خصوبة التّربة وفقدانها لعناصرها المعدنيّة والعضويّة وتدهور إنتاجيّتها -لأنّها تحوي منطقا داخليّا يتعارض مع منطق “قانون الاسترداد”- جعله يثني عليه بقوّة من خلال رسالة بعث بها إلى فريدريك إنجلز سنة 1866، جاء فيها ما يلي: «كان عليّ أن أقرأ بشكل دقيق كلّ الكيمياء الزّراعيّة الجديدة الألمانيّة، وبشكل خاصّ يوستوس فون ليبيغ وشونباين (Schönbein) اللّذان تفوق أهمّيّة ما كتبا كلّ الاقتصاديّين مجتمعين»[51]. وفي الاتّجاه نفسه، سيضيف في الجزء الأوّل من كتابه “رأس المال“، قائلا: «من بين المزايا الخالدة لليبيرغ هو تسليطه الضّوء على الجانب السّلبيّ للزّراعة العصريّة من وجهة نظر العلوم الطّبيعيّة»[52]. وضمن نفس الأفق، وتيمّنا باستنتاجات يوستوس فون ليبيرغ، أكّد كارل ماركس بدوره على الطّابع التّدميريّ للزّراعة العصريّة، عندما كتب ما يلي:

«فمع الارتفاع المتزايد بشكل دائم لتعداد سكّان المدن الّذي يكدّسهم في مراكز كبرى، يراكم الإنتاج الرّأسماليّ القوّة التّاريخيّة المحرّكة للمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى، فهو لا يحطّم فقط الصّحّة الجسديّة للعمّال الحضريّين والحياة الرّوحيّة (Intellectuelle) للعمّال الرّيفيّين، بل يربك أيضا الدّوران (Circulation) المادّيّ بين الإنسان والأرض، من خلال إعاقة عودة عناصر خصوبتها، أي المكوّنات الكيميائيّة الّتي انتزعت منها واستخدمت في شكل غذاء، وملبس، إلخ. […] فكلّ تقدّم في الزّراعة الرّأسماليّة لا يعتبر فقط تقدّما في فنّ استغلال العامل، ولكنّه أيضا تقدّم في فنّ نهب التّربة: كلّ تقدّم في فنّ الرّفع من خصوبتها لفترة معيّنة هو في الآن نفسه تقدّم في تخريب المصادر المستدامة لهذه الخصوبة. كلّما اعتمد بلد معيّن، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، على الصّناعة الكبيرة كقاعدة لتطوّره، زادت سرعة سيرورة التّدمير هذه. فالإنتاج الرّأسماليّ لا يعمل على تطوير التقنية وتوليفة عمليّة الإنتاج الاجتماعيّ إلّا من خلال تدمير المصدرين اللّذين تنبع منهما كلّ ثروة: الأرض والعمّال»[53].

في هذا السّياق، يضيف جون بيلامي فوستر أنّ كارل ماركس لم يكتف بالتّشديد فقط على الطّبيعة اللّاعقلانيّة للزّراعة الرّأسماليّة، بل سينبّه أيضا وبشكل مبكّر إلى ضرورة استحضار بعض المخاطر المرتبطة بها، وذلك من خلال ما يلي[54]:

أوّلا: تشديد كارل ماركس على كون الرّأسماليّة تُجْهزُ، بشكل لا رجعة فيه، على “التّفاعل الاستقلابيّ” بين الكائنات البشريّة وكوكب الأرض، أي تحطّم الشّرط الأبديّ والضّروريّ -الّذي تفرضه الطّبيعة- لعمليّة الإنتاج، وهو ما يفرض ملحاحية “الاستعادة (Restauration) النّسقيّة” لهذه العلاقة الاستقلابيّة الضّروريّة، باعتبارها شرطا شارطا ونقطة استدلال رئيسيّة، و”قانونا لضبط الإنتاج الاجتماعي وتنظيمه”. في المقابل، فإنّ النّموّ في إطار الرّأسماليّة الزّراعيّة الموسّعة، وفي ظلّ التّجارة عبر مسافات طويلة، يسهم في تعميق حدة هذه القطيعة الاستقلابية وتفاقمها. لهذا يؤكّد فوستر أنّه بدون استحضار مفهوم “القطيعة الاستقلابيّة”، يصبح «مستحيلاً فهم التّحليل الدّقيق الّذي قام به ماركس للتّعارض بين المدينة والقرية، ونقده للزّراعة الرّأسماليّة، بل ودعوته أيضا إلى “إعادة استثبات” العلاقة الاستقلابيّة الضّروريّة بين البشريّة والأرض، أي تصوّره الأساسيّ للاستدامة»[55].

في هذا السّياق، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الفيلسوف اليابانيّ كوهي سايتو (Kohei Saïto) يرى في كتابه “الطّبيعة ضدّ رأس المال[56] أنّ مفهوم “الاستقلاب” يحمل في نصوص كارل ماركس ثلاثة معانٍ مختلفة[57]: فتارة يستخدم مفهوم “الاستقلاب الطّبيعيّ” ليشير من خلاله إلى تبادل المادّة (Matière) بين أيّ كائن حيّ كيفما كان نوعه وبيئته، وهو ما يسمّيه عموما بـــ”الاستقلاب الكونيّ للطّبيعة“؛ وتارة يستعمل مفهوم “الاستقلاب الاجتماعيّ” ليشير من خلاله إلى تبادل الموادّ (Matières) الّذي يجري خلال تبادل البضائع؛ وتارة أخرى يتحدّث عن مفهوم “الاستقلاب بين الطّبيعة والكائن البشريّ” ليشير به إلى التّفاعلات الّتي تتمّ بوساطة اجتماعيّة بين الكائن البشريّ والطّبيعة، وبشكل خاصّ خلال علميّة الإنتاج المادّيّ[58]. وإجمالا، يمكن القول إنّ مفهوم الاستقلاب يشير إلى التّبادل الحيويّ والتّفاعل الكيميائيّ بين الكائنات البشريّة ومحيطها الطّبيعيّ، أي «شبكة من تبادل الطّاقة والمادّة تسمح بالحفاظ على الحياة البشريّة وبتطويرها، وهو ما يمكن أن نسمّيه حاليا بــ”النّظام الإيكولوجيّ البشريّ[59]  «(Écosystème humain). فليس مستغربا البتّة أن يُعَنْونَ لودفيغ فيورباخ أحد كتبه بــ”الإنسان هو ما يأكل: سرّ التّضحية[60]، ليذكّرنا من خلاله بالحقيقة الوجوديّة التّالية: «ليس هناك أيّ شيء فينا لا يوجد خارجنا؛ ففي النّهاية، نحن مجرّد كتلة ( (Agglomérat من الأوكسجين والأزوت والكاربون والهيدروجين»[61].

ثانيا: تأكيد كارل ماركس على أنّ تفقير التّربة واستنزاف عناصرها المغذّية يؤدّي بالضّرورة إلى اتّساع رقعة التّلوّث وتزايد حجم النّفايات الحضريّة، إذ يقول: «في لندن لم نجد ما نفعله بالسّماد الّذي يأتي من أربع ملايين ونصف شخص غير استخدامه في تلويث نهر التّايمز (Tamise) بتكلفة هائلة[62]»، وتشديده على إسهام الصّناعة والفلاحة المكننة والموسّعة في تعميق سيرورة هذا الاستنزاف، وتنبيهه إلى أنّ «الصّناعة والتّجارة توفّران للزّراعة أدوات إنهاك الأرض»، على حدّ تعبيره.

ثالثا: تأكيد كارل ماركس على أنّ الزّراعة العقلانيّة الّتي تفترض وجود مزارعين صغار مستقلّين ينتجون كلّ بمفرده أو منتجين متشاركين، غير ممكنة في ظلّ الرّأسماليّة العصريّة، وتنبيهه إلى أنّ الشّروط الحالية تفرض تنظيما (Régulation) عقلانيّا للعلاقة الاستقلابيّة بين الكائنات البشريّة وكوكب الأرض، يسعى إلى تجاوز المجتمع الرّأسماليّ، أي ينحو نحو تحقيق المجتمع الاشتراكيّ والشّيوعي.

على ضوء ما سبق، يستنتج جون بيلامي فوستر[63] أنّ فكرة القطيعة الاستقلابيّة الّتي طوّرها كارل ماركس شكّلت المقدّمة التّأسيسيّة والعتبة الضّروريّة الّتي انبنت عليها مداميك نقده الإيكولوجيّ، خاصّة بعد أن اعتبر في كتابه “رأس المال” العمل البشريّ «مدخلا ضرورياً للاستقلاب بين الإنسان والطّبيعة، وشرطاً طبيعياً أبدياً لحياة النّاس»؛ ومن ثمّة، فكلّ قطيعة استقلابيّة هي بالتّعريف نوع من المخاطرة بــ “الشّرط الطّبيعيّ الأبديّ لحياة النّاس”[64].

ويضيف جون بيلامي فوستر[65]، أنّ المجتمع الرّأسماليّ، في منظور كارل ماركس، يفاقم ويعمق باستمرار هذه القطيعة الاستقلابيّة بين الكائنات البشريّة وكوكب الأرض، ومن ثمّة فهو عاجز بالطّبيعة على مواجهة مشكلة استدامة (Soutenabilité) هذا الكوكب، أي حمايته والحفاظ عليه في أفق نقله للأجيال المستقبليّة في وضعيّة مماثلة أو أفضل ممّا هو عليه.  وذلك على الرغم من تنبيه ماركس إلى أن الرّأسماليّة »تخلق المقدّمات المادّيّة لتركيب جديد أرقى بين الزّراعة والمانيفاكتورة مؤسّس على قاعدة بعض الأشكال الخاصّة الّتي تبلورت في تعارض مع بعضها البعض»[66]، وتشديده على كون تحقق هذا “التّركيب الأعلى والأرقى” يظل مشروطاً بحرص المنتجون المتشاركون بالمجتمع الجديد -أي مجتمع ما بعد الثّورة- على القيام «بالمأسسة النّسقيّة لعمليّة الاستقلاب بين الإنسان وكوكب الأرض، من خلال تحويلها إلى قانون ضابط للإنتاج الاجتماعيّ»[67].

علاوة على هذا، يؤكّد جون بيلامي فوستر[68] أن ماركس وإنجلز لم يكتفيا، في سياق تحليلهما للقطيعة الاستقلابيّة، بالحديث عن دورة الموادّ المغذّية للتّربة أو عن العلاقات بين المدن والقرى، بل سلّطا الضّوء أيضا، في العديد من أعمالهما، على بعض المشاكل والقضايا البيئيّة مثل اجتثاث الغابات، والتّصحّر،والتّغيّر المناخيّ، وانقراض الغزلان، وتسليع الأنواع (Espèces) ، والتّلوّث، والنّفايات الصّناعيّة، وإطلاق الموادّ السّامّة، وإعادة التّدوير، ونضوب مناجم الفحم، والأمراض، والاكتظاظ السّكّانيّ وتطوّر (أو التّطوّر المشترك Coévolution) الأنواع[69].

كلّ الاعتبارات السّالفة الذّكر، قادت جون بيلامي فوستر إلى التشديد على أنّ كارل ماركس، وخلافا لما يشاع، لم يفكّر في التّاريخ الاجتماعيّ (العالم الاجتماعيّ) بمعزل عن تاريخ الطّبيعة (العالم الطّبيعيّ) لكونه كان مسكونا علميّا وفلسفيّا بالهمّ الإيكولوجيّ من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ عناصر تفكيره بهذا الشّأن -وبالأخصّ انتقاداته الحادّة لعمليّة استنزاف التّربة باعتبارها تعبيرا موضوعيّا عن القطيعة الاستقلابيّة بين الإنسان ومحيطه الطّبيعيّ الّتي تخلقها المنظومة الرّأسماليّة- يمكنها أن تشكّل مفاتيح مهمّة لقراءة الأزمة الإيكولوجيّة الرّاهنة، ونقاط استدلال أساسيّة للاستجابة لتحدّياتها الحارقة. ومن ثمّة، يستخلص جون بيلامي فوستر ضرورة السّعي الحثيث إلى المصالحة بين نقد ماركس للاقتصاد السّياسيّ والإيكولوجيا السّياسيّة.

3- 2- هنري بينا رويز:

على خطى العديد من المنافحين الشّرسين عن ماركس الّذين ينبّهون إلى أنّ «الّذي مات مع الاتّحاد السّوفياتيّ ليس الماركسيّة، بل كاريكاتورها المأساويّ»[70]، ويرفضون بذلك المماهاة بين النّظريّة الماركسيّة وممارسات الأنظمة السّياسيّة السّلطويّة الّتي حكمت باسمها وتدثّرت بردائها، سيكرّس الفيلسوف الفرنسيّ هنري بينا رويز قسطا كبيرا من جهده الفكريّ في محاولة تحرير كارل ماركس من جبّة ستالين وتبرئته من فظاعاته المرعبة[71]. وذلك بالتّصدّي لكلّ المحاولات الّتي سعت إلى اشتقاق مضامين النّظريّة الماركسيّة من ممارسات أنظمة ما كان يعرف بـــ”بلدان الاشتراكيّة الموجودة فعليّا”، والّتي كان الحزب فيها، كما يقول روجيه غارودي، يتكلّم باسم الطّبقة، والجهاز (اللّجنة المركزيّة) يتكلّم باسم الحزب، والقادة يتكلّمون باسم الجهاز، والواحد (السّكرتير العامّ أو الأمين العامّ) يتكلّم ويفكّر باسم الجميع[72]. في هذا السّياق، يقول هنري بينا رويز في مقدّمة كتابه الّذي يحمل عنوانا دالّا وبليغا “ماركس مع ذلك“: «منذ زمن بعيد، وبشكل خاصّ منذ انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ، حاولت مثل الكثيرين فهم كيف أنّ مثالا للتّحرير (Idéal d’émancipation) ليس فقط للبروليتاريا بل أيضا للبشريّة بأكملها، أصبح إلى هذا الحدّ مشوّها، مَخُونا، مختزلا بصورة كاريكاتوريّة بفعل الانحراف الستالينيّ، الّذي لم يمسّ فقط الدّول الّتي أعلنت أنّها في طور بناء الاشتراكيّة، بل والحركة الشّيوعيّة العالميّة أيضا»[73].

ضمن هذا الأفق، أصدر هنري بينا-رويز سنة 2018 كتابه الموسوم بــ”ماركس: مفكّر الإيكولوجيا[74] ليؤكّد من خلاله على كون التّفكير الماركسيّ يمكنه أن يشكّل أداة تحليليّة مهمّة لمقاربة الأزمة الإيكولوجيّة الرّاهنة، بالنّظر إلى كون مقاصد نصوص كارل ماركس وروحها (وليس بالضّرورة منطوقها وحرفيّتها) لا تؤشّر فقط على وجود وعي إيكولوجيّ أصيل لديه، بل وتغذّي اليقين أيضا بإمكانيّة استخلاص نظريّة إيكولوجيّة متكاملة منها[75].  فعلى الرّغم من كون ماركس لم يسبق له، في نظر هنري بينا-رويز، استخدام مفهوم الإيكولوجيا الّذي نحته سنة 1866 الطّبيب والبيولوجيّ الألمانيّ إرنست هيكلErnest Haeckel  (1834-1919) تلميذ داروين (1809-1882) في كتابه “المورفولوجيا العامّة”، فإنّ القراءة النّبيهة والمتنبّهة لنصوصه تكشف بوضوح الحمولة الإيكولوجيّة القويّة لفكره. وهو ما يبدو طبيعيّا، في منظور بينا-رويز، إذا استحضرنا أنّ « التّكلفة الإيكولوجيّة لمنطق الرّبح اللّامسؤول، والتّكلفة الصّحّيّة لقلق ((Stress المردوديّة، والتّكلفة الاجتماعيّة للبطالة والتّفقير الّذي ينتج عنه: كلّ هذا شكل موضوع تفكير كارل ماركس»[76]

واللّافت، أنّ هذا الاستنتاج العامّ توصّل إليه هنري بينا- رويز بناء على الاعتبارات التّالية:

أوّلا:  يقول هنري بينا-رويز إنّه من اليسير أن نشتقّ من نصوص ماركس “القاعدة الخضراء” التّالية: “يجب على البشريّة ألّا تبذر، خلال فترة معيّنة، أكثر ممّا تستطيع الطّبيعة إنتاجه خلال نفس الفترة”. وهي دعوة واضحة إلى ضرورة تحقيق نوع من التّوازن بين اقتصاد الاسترداد (Restitution) واقتصاد الاقتطاع (Prélèvement)، والحرص على استعادة الاستقلاب الحيويّ بين الإنسان والطّبيعة[77]، وتعزيز التّضامن بين الأجيال؛ ومن ثمة النّظر للنّظام الإيكولوجيّ-الأرض (l’écosystème-terre) باعتباره خير مشترك بامتياز. وهو ما يشدّد عليه كارل ماركس في موقع آخر بقوله: «إنّ مجتمعا بأكمله، وأمّة معيّنة، بل وكلّ المجتمعات المعاصرة مجتمعة، ليسوا ملّاكا (Propriétaires) للأرض، فهم مجرّد حائزين لها (Possesseurs)، ينتفعون فقط بحقّ التّصرّف فيها، وعليهم أن يورثوها للأجيال المقبلة بعد أن يقوموا بتجويدها مثل كلّ أرباب الأسر الحاذقين Boni patres familias»[78].

ثانيا: تشديد كارل ماركس، في سياق انتقاداته الشّديدة لقرارات مؤتمر غوتا الّذي عقده الحزب العمّاليّ الألمانيّ سنة 1875، على كون «العمل ليس مصدر كلّ ثروة. فالطّبيعة هي مصدر القيم الاستعماليّة (الّتي تشكّل، في نهاية المطاف، الثّروة الحقيقية) مثلها في ذلك مثل العمل، الّذي هو نفسه ليس سوى مجرّد تعبير عن قوّة طبيعيّة، أي قوّة عمل الإنسان»[79]. وفي هذا السّياق، ينبّه هنري بينا-رويز إلى أنّه خلافا للاعتقاد السّائد، فكارل ماركس لم يشر في أيّ نصّ من نصوصه إلى كون الموارد الطّبيعيّة غير محدودة بل أكّد أنّها من الممكن أن تكون وافرة، والدليل في ذلك انتقاده بشدة لما سمّاه بــ “وباء فائض الإنتاج” الملازم في نظره لمنطق نمط الإنتاج الرّأسماليّ وديناميّته، والمتأصّل في بنيته الدّاخليّة، عندما كتب:

«فالمجتمع البرجوازيّ الحديث الّذي أنجب، بطريقة شبه سحريّة، وسائل إنتاج وتبادل ضخمة يشبه المشعوذ الّذي فقد سيطرته على القوى الجهنّميّة الّتي يستعين بها […] يكفي استحضار الأزمات التّجاريّة الدّوريّة الّتي تهدّد بشكل دائم وقويّ وجود المجتمع البرجوازيّ بأكمله. فالأزمات التّجارية لا تتلف، بشكل منتظم، جزءا كبيرا من المنتجات فقط بل وحتّى بعض القوى المنتجة الموجودة مسبقا. خلال الأزمات، يتفشّى وباء اجتماعيّ ما كان ليبدو في كلّ العصور السّالفة إلّا كشيء مناف للعقل (Absurdité): فائض الإنتاج. فالمجتمع يجد نفسه فجأة وقد أصبح يعيش في وضع من الهمجيّة المؤقّتة الّتي تغذّي الاعتقاد بأنّ مجاعة وحرب إبادة شاملة قد أفقدتاه كلّ وسائل عيشه: فتبدو الصّناعة والتّجارة وكأنّهما مجرّد ذكرى، لماذا؟ لأنّ المجتمع يمتلك فائضا (Trop) في الحضارة ووسائل العيش والصّناعة والتّجارة. فالقوى المنتجة الّتي يتوفّر عليها لم تعد صالحة للدّفع بالحضارة البرجوازيّة وبعلاقات الملكيّة البرجوازيّة إلى الأمام؛ بل بخلاف ذلك، أصبحت أقوى جدّا من هذه العلاقات الّتي باتت تعيق نموّها؛ وكلّما تجاوزت هذا العائق قادت المجتمع البرجوازيّ بأسره إلى الفوضى، وعرّضت وجود المجتمع البرجوازيّ إلى الخطر. فالعلاقات البرجوازيّة غدت أضيق من أن تستوعب الثّروة الّتي أنتجتها. فكيف تتغلّب البرجوازيّة على هذه الأزمات؟ بالتّدمير القسريّ لكتلة من القوى المنتجة من جهة، وبغزو أسواق جديدة وبالاستغلال الأقصى للأسواق القديمة من جهة أخرى. وبأيّ وسيلة إذن؟ بتنظيم أزمات أشدّ اتّساعا وأكثر عنفا مع التّقليل من وسائل منع حدوثها»[80].

ثالثاً: تشديد كارل ماركس في “المخطوطات الاقتصاديّة-الفلسفيّة 1844” على أنّ الطّبيعة هي الجسد غير العضويّ للإنسان، عندما يقول:

«فالطّبيعة، أي الطّبيعة الّتي ليست الجسد البشريّ، هي الجسد غير العضويّ للإنسان. فكون الإنسان يعيش على الطّبيعة يعني أنّ الطّبيعة هي جسده الّذي عليه أن يحتفظ بعلاقات دائمة به لكي لا يموت. فالقول بأنّ الحياة الفيزيقيّة والفكريّة للإنسان مرتبطة بشكل وثيق بالطّبيعة يعني أنّ الطّبيعة مرتبطة بشكل وثيق بذاتها، لأنّ الإنسان جزء من الطبيعة»[81].

من هذا المنظور، لا يمكن النّظر إلى الطّبيعة باعتبارها مجرّد خزّان من الطّاقة والموادّ الأوّليّة، ولا يمكن اعتبارها كشيء خارج المجتمع، بل هي جزء لا يتجزّأ منه.

رابعاً: تشديد كارل ماركس في “الإيديولوجيّة الألمانيّة” على الطّابع التّرابطيّ الشّديد غير القابل للانفكاك بين الإنسان والطّبيعة؛ إذ يقول:

«إنّ الشّرط الأوّل لكلّ تاريخ بشريّ هو بالطّبع استحضار وجود كائنات بشريّة حيّة […] فأوّل حقيقة واقعيّة يمكن معاينتها هي التّكوين (Complexion) البدنيّ لهؤلاء الأفراد والعلاقات الّتي يخلقها هذا التّكوين مع بقيّة مكوّنات الطّبيعة. بالطّبع، نحن لا نستطيع القيام بدراسة عميقة لبنية الإنسان الجسديّة في حدّ ذاتها ولا للشّروط الطّبيعيّة الّتي وجدها البشر جاهزة، أي الشّروط الجيولوجيّة والأوروغرافيّة (Orographiques) والهيدروغرافيّة والمناخيّة وغيرها […] كلّ تاريخ عليه أن ينطلق من هذه الأسس الطّبيعيّة، ومن التّعديلات الّتي طرأت عليها نتيجة فعل البشر على مرّ التّاريخ»[82].

خامسا: التّرابط الشّديد بين النّزعة الطّبيعيّة (Naturalisme) والنّزعة الإنسانيّة (Humanisme) وبين المسألة الإيكولوجيّة والمسألة الاجتماعيّة لدى ماركس؛ لأنّه لم ينظر لعلاقة النّاس بالطّبيعة بمعزل وباستقلال عن طبيعة علاقاتهم ببعضهم البعض، أو لنقل، بلغة هنري بينا-رويز، أنّ اهتمامه بالتّاريخ البشريّ للطّبيعة كان مقرونا بانشغاله الكامل بالتّاريخ الطّبيعيّ للبشريّة[83]. ومن ثمّة، يقول هنري بينا-رويز، فنقد ماركس للاقتصاد السّياسيّ هو نوع من الحرص على المزاوجة الدّائمة، والاقتران الشّديد بين نقد الاستغلال الرّأسماليّ من جهة؛ ونقد القطيعة غير المسؤولة للرّابط متعدّد الأشكال وللتّبادل الحيويّ بين النّاس والطّبيعة باعتبارها قطيعة في عمليّة الاستقلاب، الّذي يعدّ ضروريّا للحياة البشريّة[84]، من جهة أخرى. فالرّأسماليّة في منظور ماركس، يردف هنري بينا-رويز، لا تستنزف الإنسان فقط بل والطّبيعة أيضا؛ ومن ثمة فمصالحة البشريّة مع ذاتها تقتضي بالضّرورة مصالحتها مع الطّبيعة في أفق تحوّل النّاس إلى كائنات “طبيعيّة إنسانيّة”[85] (des êtres naturels humains)، وهو ما يبدو واضحا لدى ماركس، يشير هنري بينا-رويز، عندما يعتبر أنّ الشّيوعيّة هي نزعة طبيعيّة[86] مكتملة، إذ يقول:

«فالشّيوعيّة باعتبارها نزعة طبيعيّة مكتملة التّطوّر هي نزعة إنسانيّة، وباعتبارها نزعة إنسانيّة مكتملة التّطوّر فهي نزعة طبيعيّة. وهي الحلّ الحقيقيّ للنّزاع بين الإنسان والطّبيعة، والإنسان والإنسان؛ وهي الحلّ الحقيقيّ للصّراع بين الوجود والماهيّة، الموضعة (Objectivation) وتأكيد الذّات، الحرّيّة والضّرورة، والفرد والنّوع (Genre)»[87].

كلّ الاعتبارات السّالفة الذّكر قادت هنري بينا-رويز إلى التّأكيد على أنّ بلدان ما سمّي بــ “المنظومة الاشتراكيّة” تجاهلت تفعيل النّزعة الإنسانيّة (Humanisme) والنّزعة الطّبيعيّة(Naturalisme)  الإيكولوجيّة اللّتان كان ماركس متشبّعا بهما. فالنّزوع الإنتاجويّ المفرط والمضرّ بالطّبيعة وبالعمّال الّذي ميّز سياسات هذه البلدان، كان معاكسا في نظره لتوجّهات ماركس في المجالات الثّلاثة: أي التّحرّر الاجتماعيّ، واحترام التّوازنات الطّبيعيّة، والسّلطة الدّيموقراطيّة الحقيقيّة الاقتصاديّة والسّياسيّة[88]. فالخطط الخماسيّة- يردف بينا-رويز- «الّتي كانت تبجّل كمّيّة الخيرات الّتي يجب إنتاجها دون التّأكّد من جودتها الفعليّة، وسلطة جهاز تخطيط ممركز، ضدّا على التّملّك المحلّيّ والتّنظيم الفعليّ للإنتاج من قبل مجالس العمّال، لا علاقة لها بإعادة التّأسيس (Refondation) الثّوريّة الّتي تصوّرها ماركس وإنجلز للجمع بين التّحرّر الاجتماعيّ والمسؤوليّة البيئيّة. في الواقع، قامت الدّولة-الحزب بتفعيل رأسماليّة الدّولة أكثر من اشتراكيّة حقيقيّة. ولحظات حزينة وسمت هذا الانحراف»[89]. ومن بين أهمّ نتائج هذه الانحرافات الهيكليّة، يستحضر هنري بينا-رويز، بالأخص، قضيّة تروفيم ليسينكو(Trofim Lysenko) ، وجفاف بحر آرال (Aral)، وأسطورة ستاخانوف، وكارثة تشيرنوبيل.

ويبدو مفيدا التّذكير، هنا، أنّ هذا التّصوّر الّذي يحاول إثبات “إيكولوجيّة ماركس” لا يكتفي فقط، في سياق السّجال مع خصومه، بالاستشهاد بنصوص ماركس كما فعل كلّ جون بيلامي فوستر أو هنري بينا-رويز، بل ويستحضر أيضا بعض نصوص رفيقه فريدريك إنجلز الّتي تدعم بوضوح رأيه، وتقوّي عدّته الاستدلاليّة، وذلك على غرار هذا النّصّ الّذي يقول فيه ما يلي:

«لكن علينا أن لا نغترّ كثيرا بانتصاراتنا البشريّة على الطّبيعة، فهي تنتقم منّا عن كلّ انتصار. صحيح أنّ كلّا من هذه الانتصارات يؤدّي، بالدّرجة الأولى، إلى تلك النّتائج الّتي توقّعناها لكنّه يؤدّي، أيضا، بالدّرجة الثّانية والثالثة إلى نتائج مغايرة تماما غير متوقّعة، غالبا ما تلغي نتائج الأولى. فالنّاس الّذين اجتثوا جذور الغابات في بلاد ما بين النّهرين واليونان وآسيا الصّغرى وغيرها من المناطق ليحصلوا على أرض صالحة للحراثة وللزّراعة، لم يخطر ببالهم أبداً أنّهم، بذلك، أرسوا بداية القحل الحاليّ لهذه البلدان، إذ بإزالتهم للغابات حرموها من مراكز تجمّع الرّطوبة وخزنها. وعندما قام الجبليّون الإيطاليّون على المنحدر الجنوبيّ للألب باجتثاث أشجار الصّنوبر الّتي تمّ الحفاظ عليها بعناية فائقة على المنحدر الشّماليّ لم يفكّروا أنّهم، بذلك، يجتثّون جذور تربية الماشية والرّعي في مناطقهم، ناهيك عن أنّهم، بفعلهم هذا، يحرمون ينابيعهم الجبليّة من الماء طوال القسم الأكبر من السّنة، وأنّ هذه المياه تصبّ في موسم الأمطار سيولا دافقة على السّهول. وأولئك الّذين نشروا البطاطا في أوروبا، لم يكونوا يعرفون أنّهم، مع الدّرنات النّشويّة، كانوا ينشرون أيضا مرض تدرّن الغدد اللّمفاويّة (الدّاء الخنازيريّ) Scrofula. وهكذا تذكّرنا الوقائع، عند كلّ خطوة، بأنّنا لا نسيطر على الطّبيعة كما يسيطر فاتح على شعب غريب، لا نسيطر عليها سيطرة شخص موجود خارج الطّبيعة، بل إنّنا، على العكس، ننتسب إليها بلحمنا ودمنا ودماغنا ونعيش فيها، وأنّ كلّ سيطرتنا عليها تقوم في كوننا، بخلاف الكائنات الأخرى كافّة، نستطيع معرفة قوانينها وتطبيقها تطبيقا صحيحا. وبالفعل، فإنّنا مع كلّ يوم نتعلّم فهم قوانين الطّبيعة بمزيد من الصّحّة ومعرفة النّتائج القريبة والبعيدة أيضا لتدخّلنا النّشيط في مجراها الطّبيعي. ونحن نغدو أكثر فأكثر قدرة لاسيما منذ النّجاحات الكبيرة الّتي حققتّها العلوم الطّبيعيّة في قرننا الحاليّ، على ألا نأخذ بالحسبان أيضا النّتائج الطّبيعيّة البعيدة المدى لأعمالنا العادّيّة في ميدان الإنتاج على الأقلّ، ونتعلّم بالتّالي السّيطرة عليها. وبقدر ما يغدو هذا الأمر واقعا، يشعر النّاس، بل ويدركون من جديد وحدتهم مع الطّبيعة، ويسقط التّصوّر الأخرق والمنافي للطّبيعة القائل بالتّضادّ بين الرّوح (العقل) والمادّة، والإنسان والطّبيعة، والنّفس والجسد؛ هذا التّصوّر الّذي شاع في أوروبا منذ انحطاط العصور الكلاسيكيّة القديمة ولقي تبسّطه في المسيحيّة»[90].

زبدة القول، يرى هذا التّصوّر (الثّاني) أنّ العديد من المؤشّرات الدّالّة والدّلائل البيّنة مثل نزعة ماركس الإنسانيّة الطّبيعيّة (Humanisme naturaliste) الواضحة، ونقده الشّديد للنّظام الرّأسماليّ العاجز بنيويّا في نظره على احترام البيئة لكونه مؤسّسا على منطق الرّبح دون الالتفات إلى أضراره الاجتماعيّة والصّحّيّة والبيئيّة، تؤشّر بجلاء على أنّه كان يتمتّع بوعي إيكولوجيّ شديد ومتّقد وتغذّي اليقين بضرورة تصنيفه ضمن أهمّ الرّوّاد الأوائل الّذين وضعوا أسس الإيكولوجيا السّياسيّة الحديثة.

4- الوعي البيئيّ لدى كارل ماركس: ورش غير مكتمل:

من بين ممثّلي هذا التّصوّر الثّالث نجد المهندس الزّراعيّ والخبير البيئيّ البلجيكيّ دانييل تانورو (Daniel Tanuro) مؤلّف كتاب “الرّأسماليّة الخضراء المستحيلة[91]. فعلى سبيل المثال، يرى هذا الأخير أنّه من الممكن الحديث عن “إيكولوجيّة ماركس” شريطة الإقرار بأنّ الأمر يتعلّق بورش غير مكتمل، أي أنّ أشغاله غير منتهية، والسّعي إلى إعادة وضع تفكيره في سياقه التّاريخيّ ؛ ومن ثمّة، فمهمّة الماركسيّين، في نظره، ليست مدح كارل ماركس والثّناء على وعيه الإيكولوجيّ المبكّر، بل تطوير مشروعه هنا والآن، وتكييفه مع مقتضيات العصر ومستجدّاته[92].

في هذا السّياق، يجزم تانورو[93]بالقول إنّ تسليم بعض الإيكولوجيّين بكون ماركس كان متشبّعا بالنّزعة الإنتاجويّة، لا يصمد أمام التّحليل الموضوعيّ واليقظ لنصوصه. فبالرّغم من احتواءها على بعض العبارات المبهمة -القابلة للنّقد- الّتي يمكنها أن تغذّي هذا الاعتقاد، يضيف تانورو، فاللافت أن فكرة محدوديّة الموارد الطّبيعيّة تخترق المتن الماركسيّ بشكل واضح وقويّ. ودليله في ذلك تواتر تأكيدات ماركس المتكرّرة على كون الوجود الكمّيّ المحدود للتّربة والمعادن والقوّة المحرّكة للماء والموارد الأخرى هو الّذي جعل الملّاكين العقاريّين يهرعون لاحتكارها، مع كلّ ما استتبع ذلك من فصل بين المنتجين والأرض، وتشكّل طبقة مضطرّة لبيع قوّة عملها لمالكي وسائل الإنتاج، وتحويل جزء من فائض القيمة الإجماليّ إلى ريع…… إلخ. بلغة أخرى، كان ماركس مقتنعا جدّا باستحالة وجود نظام رأسماليّ بدون حدود طبيعيّة[94].

علاوة على هذا، يقول تانورو[95]، إنّ كلّ تقييم جدّيّ لعلاقة ماركس بالبيئة لا يمكنه أن يتجاهل مفهوم “التّنظيم العقلانيّ لتبادل الموادّ (Matières)” (أو “الاستقلاب الاجتماعيّ”) بين البشر والطّبيعة الّذي استخدمه في كتابه “رأس المال”، بعد أن أدرك، بفضل أعمال ليبيغ (Liepig)، أنّ التّحضّر الرّأسماليّ يكسر دورة المغذّيات (Nutriments)؛ إذ يقف عائقا أمام عودة السّماد البشريّ والنّفايات النّباتيّة إلى الحقل ويفقد التّربة عناصرها المعدنيّة. وهو ما دفع كارل ماركس، حسب رأي تانورو، إلى التّأكيد على ضرورة إلغاء عمليّة الفصل بين المدينة والقرية، وبين سيرورتي إنتاج المنتجات الزّراعيّة واستهلاكها على المستوى العالميّ[96].

في المقابل، فإقرار تانورو بالحمولة الإيكولوجيّة الأصيلة لمفهوم “الاستقلاب الاجتماعيّ” الّذي وظّفه ماركس، في سياقه تشديده على كون الانتقال إلى “مملكة الحرّيّة” مشروط بالتّدبير العقلانيّ للتّبادلات المادّيّة، وتحذيره من الانعكاسات السّلبيّة للزّراعة الرّأسمالية على مشكلة التّربة بين النوع البشريّ ومحيطه، لم يمنعه من التّنبيه إلى كون البعد الإيكولوجيّ للتّحوّل الاشتراكيّ لا يحضر في نصوص ماركس إلّا بطريقة عابرة وغريبة الأطوار[97] (Excentré). علاوة على هذا، سيلفت دانييل تانورو الانتباه إلى أنّ نظرة ماركس “الإيكولوجيّة” تحمل في طيّاتها جملة من التّناقضات الجوهريّة وتتخلّلها العديد من الهفوات الواضحة الّتي يمكن تكثيف أهمّها كما يلي[98]:

التّناقض الأوّل: يظهر واضحا، في نظر تانورو، من خلال تأرجح كارل ماركس بين النّقد الرّاديكاليّ للرّأسمال والافتتان بــ”مهمّته التّحضيريّة”، فاللّافت، حسب رأيه، أنّ كارل ماركس شدّد بالأخصّ في الفصل الرّابع من كتابه “رأس المال” على كون النّظام الرّأسماليّ يميل بالطبيعة إلى “الإنتاج من أجل الإنتاج”، وهو ما يعني نزوحه، بالضّرورة، نحو “الاستهلاك من أجل الاستهلاك”. ويرى تانورو أنّ ماركس يعتبر هذا المنطق اللّانهائيّ نتاج تحوّل النّقد إلى رأس مال؛ إذ أنّ صيغة بضاعة-نقد-بضاعة (أي البيع من أجل الشّراء) يحدّها الطّابع المتناهي للحاجات البشريّة؛ في حين أنّ الصّيغة الرّأسماليّة نقد-بضاعة-نقد (أي الشّراء من أجل البيع) الّتي اعتبرها بمثابة “الصّيغة العامّة لرأس المال” لا نهاية لها، ما دامت البداية (أي النّقد) والنّهاية (أي القيمة التّبادليّة) هما الشّيء نفسه؛ ومن ثمّة، فحركة رأس المال ليس لها حدود.

وفي هذا السّياق، يشدد تانورو على كون ماركس يستجلي بشكل مذهل تداعيات هذه الدّيناميّة على المستوى البعيد، خاصّة من حيث مساهمتها في ظهور المجتمع الاستهلاكيّ حينما يقول: «يتطلّب فائض القيمة النّسبيّ المؤسّس على الزّيادة في حجم القوى المنتجة، خلق استهلاك جديد؛ ومن ثمّة، فمجال الاستهلاك يجب أن يرتفع مثله في ذلك مثل مجال الإنتاج. يؤدّي هذا الأمر إلى النّتائج التّالية: أوّلا، التّوسّع الكمّيّ لحجم الاستهلاك الموجود؛ ثانيا، خلق حاجات متزايدة بتعميم الحاجات على مجالات أوسع؛ ثالثاً، خلق حاجات جديدة واكتشاف قيم استعمالية جديدة وإنتاجها […] ومن ثمّة، يجب استكشاف الطّبيعة كلّها واكتشاف الأشياء ذات الخصائص والاستعمالات الجديدة من أجل تبادل منتجات جميع المواقع والبلدان، وإخضاع فواكه الطبيعة للعلاج الاصطناعيّ في أفق إعطاءها قيم استعماليّة جديدة»[99].

في المقابل، يرى دانييل تانورو أنّ النّفس الإيكولوجيّ النّقديّ الّذي دمغ حديث ماركس عن المجتمع الاستهلاكيّ سيختفي عندما قال: «فالإنتاج المؤسّس على الرّأسمال يخلق بذلك شروط تطوّر كلّ خصائص الإنسان الاجتماعيّ، أي الفرد الّذي لديه أقصى حدّ من الحاجيات، وبالتّالي غنيّ بالمزايا الأكثر تنوّعا؛ باختصار شروط إبداع كونيّ وشامل قدر الإمكان، لأنّه كلّما ارتفع مستوى ثقافة الإنسان، كلما زادت قدرته على الاستمتاع»[100].

التّناقض الثّاني: يبدو واضحا من خلال موقف ماركس من طبقة الفلّاحين (Paysannerie). فتارة يؤكّد أنّ      «الزّراعة العقلانيّة لا تتوافق مع النّظام الرّأسماليّ (على الرّغم من أنّه يعزّز تطوّرها التّقنيّ) وأنّها تتطلّب تدخّل الفلّاح الصّغير الّذي يشتغل على أرضه بنفسه أو تحت سيطرة منتجين متشاركين (Associés)»[101]؛ وتارة أخرى يشدّد على أنّ «واحدا من أبرز نتائج نمط الإنتاج الرّأسماليّ هو أنّه يحوّل الزّراعة إلى تطبيق علميّ واع للهندسة الزّراعيّة -بالقدر الممكن في ظلّ شروط الملكيّة الخاصّة- بعدما كانت مجرّد جملة من العمليّات التّجريبيّة الخالصة الّتي تنتقل بشكل ميكانيكيّ من جيل إلى آخر، بين الجزء الأقلّ تطوّرا من المجتمع»[102]. ضمن هذا الأفق، يؤكّد دانييل تانيرو على أنّه في الوقت الّذي يثني فيه ماركس على مهارات الحرفيّين ويستنكر سرقتها -باعتبارها سبب تجريد عمل العامل من إنسانيّته عن طريق الآلات- فهو لا ينصف في المقابل الفلّاحين الّذين ابتكروا أنظمة زراعيّة حاذقة، وأنواعا لا حصر لها من النّباتات الّتي تتكيّف مع خصوصيّات المجالات البيئيّة المختلفة، مستخفّا في ذلك بطاقاتهم الثّوريّة.

التّناقض الثّالث (أو الثّغرة الثّالثة): يكمن في كون ماركس لم يع جيّدا، حسب رأي دانييل تانورو[103]، أهمّيّة الانتقال من طاقة التّدفّق (De flux) ذات الطّبيعة المتجدّدة (أي الخشب) إلى طاقة تخزين (De stock) غير متجدّدة (أي الفحم القاري Houille). ففي الوقت الّذي كان يدعو فيه ماركس إلى “التّدبير العقلانيّ لتبادلات الموادّ بين البشريّة والطّبيعة”، فهو لم يكلّف نفسه عناء التّفكير في تداعيات غياب هذا النّوع من التّدبير العقلانيّ في المجال الطّاقيّ، خاصّة أنّ الفيزيائيّ البريطانيّ جون تيندال (John Tyndall) قد بادر منذ سنة 1859 إلى تسليط الضّوء على “القوّة الإشعاعيّة” (وبالتّالي الاحترار) لثاني أكسيد الكربون. ومن ثمّة، فقد كان بإمكان ماركس، في منظور تانورو، أن يدرك أنّ ضخّ هذا الغاز في الغلاف الجوّيّ بشكل كثيف هو أكثر مظاهر التّدبير اللّاعقلانيّ لما يسمّيه بـ ـ”تبادل الموادّ”.

واللافت، يضيف تانورو، أنّه من غير المستبعد أن تولّد هذه الهفوة لدى الماركسيّين اللّاحقين نوعا من الاقتناع بكون الموارد الطّاقيّة يمكنها أن تكون محايدة، وأنّه بالإمكان، على سبيل المثال، وجود “طاقة نوويّة اشتراكيّة”[104]. بلغة أخرى، فعلى الرّغم من تشديد ماركس على الطّابع المحدّد تاريخيًّا للتّكنولوجيّات، أي باعتبارها غير محايدة اجتماعيّا، وتمييزه الدّقيق بالتّبعة بين التكنولوجيّات الما-قبل الصّناعيّة والصّناعيّة أي “الرّأسماليّة تحديدا” على حدّ تعبيره؛ فهو لم يدرك، في سياق تحليله للثّورة الصّناعيّة[105]، الحمولة الإيكولوجيّة والاقتصاديّة الهائلة للانتقال الطّاقيّ من وقود متجدّد (أي الخشب) إلى وقود قابل للاستنفاد (أي الفحم القاري). ومن ثمّة، فإنّ المسألة الطّاقيّة تظلّ، في نظر تانورو، بمثابة حصان طروادة حقيقيّ في “إيكولوجيا ماركس” وفي الماركسيّة بشكل عامّ بجميع اتّجاهاتها. 

ولعلّه من المفيد التّذكير هنا، أنّ تانورو يعزو خلط ماركس وعدم تمييزه بين طاقة التّخزين (De stock) وطاقة التّدفّق (De flux) إلى تعايش خطاطتين مختلفتين في ذهنه: الخطاطة الأولى دوريّة cyclique وتطوّريّة، أمّا الثّانية فهي خطّيّة. تبدو الخطاطة الدّوريّة التّطوّريّة واضحة، في نظر تانورو، من خلال معالجة ماركس في كتابه “رأس المال” لإشكاليّة التّربة حيث تمكّن من وضع قواعد تفكير سوسيو-إيكولوجيّ أصيل مبني على مفهوم “تبادل الموادّ”، أي التّدبير العقلانيّ للدّورات الطّبيعيّة الّتي يتحكم فيها الفعل البشريّ. فالنّظرة هنا لعلاقة الإنسان بالطّبيعة تظل دائريّة ولكنّها غير ثابتة: فالبشريّة تحوّل الطّبيعة وتقوم في حدود إمكانها بإغلاق عمليّة التّبادل معها. في المقابل، يؤكّد دانييل تانورو أنّ هذه الخطاطة الدّائريّة ستغيب في حديث ماركس عن الموارد الطّاقيّة لعدم التفاته للفروقات والتّمايزات بين طاقة التّدفّق وطاقة التّخزين؛ ليعيد بذلك إنتاج خطاطة الاقتصاد الكلاسيكيّ ذات الطّبيعة الخطّيّة والنّفعيّة: موارد – استخدام – نفايات (أي ثاني أوكسيد الكربون)، بعد أن غابت خلال هذه الخطاطة الخطّيّة -الّتي يعتبرها تانورو إحدى أهمّ نقاط ضعف الماركسيّة- إمكانيّة التّحكّم في آثار الفعل البشريّ نتيجة عدم الأخذ بالحسبان شروط إغلاق (Bouclage) دورة الكربون. إضافة إلى ذلك، يرى تانورو أنّ هاتين الخطاطتين تظلّان محكومتان بمنطقين مختلفين: المنطق الأوّل، يدعو إلى تدخّل حذر في الميكانيزمات الطّبيعيّة (“تدبير الأرض مثل أب أسرة جيّد”، كما يقول ماركس في رأس المال). أمّا المنطق الثّاني، فيحمل في طيّاته نوعا من اللّبس الإنتاجويّ (“تطوّر قوى الإنتاج” الّتي تحرّرت من “القيود الرّأسماليّة للتّطوّر”).

على ضوء كلّ ما سبق، يستنتج دانييل تانورو أنّ “أكلجة” النّظريّة الماركسيّة، أي ضخّ الجرعة الإيكولوجيّة اللّازمة في شرايينها، مرهون بالاشتغال على الأوراش التّالية:

أوّلا: تجاوز الرّؤية التّجزيئيّة والنّفعيّة والخطّيّة الّتي تنظر للطّبيعة باعتبارها منصّة (plate-forme) فيزيقيّة تشتغل البشريّة انطلاقا منها، ومتجرا تتبضّع منه الموارد اللّازمة لإنتاج وجودها الاجتماعيّ، ومزبلة لتخزين نفاياتها. فالطّبيعة هي، في آن واحد، منصّة ودكّان ومكبّ للنّفايات، ومجموع السّيرورات الحيّة الّتي تجعل المادّة تدور بفضل المساهمة الخارجيّة للطّاقة الشّمسيّة بين هذه الأقطاب من خلال إعادة تنظيمها باستمرار. لذلك، يجب أن تكون طريقة التّخلّص من النّفايات متوافقة كمّا وكيفا مع قدرات إعادة التّدوير وإيقاعاتها الّتي تمتلكها النّظم البيئيّة، حتّى لا يتمّ الإخلال بالأداء السّليم للمحيط الحيويّ. ومن ثمّة، فلابدّ، في نظر تانورو، من التّخلّي عن فكرة “التّحكّم البشريّ في الطّبيعة”، لأنّ الطّابع المعقّد والمجهول والتّطوّريّ للمحيط الحيويّ يفرض التّحلّي بنوع من اللّا-يقين.

ثانياً، التّسليم بكون مصادر الطّاقة وطرق التّحويل (Conversion) المستخدمة لتلبية الاحتياجات البشريّة ليست محايدة اجتماعيّا. فنمط الإنتاج لا يتميّز فقط بنوع معيّن من علاقات الإنتاج والملكيّة، بل وأيضا بشبكة تكنولوجيّة منسوجة وموجّهة بخيارات طاقيّة معيّنة. فالنّظام الطّاقيّ الرّأسماليّ ممركز، وفوضويّ، ومسرف، وغير فعّال، ومكيّف بالعمل الميّت، ومؤسّس على موادّ غير متجدّدة، وموجّه نحو الإفراط في إنتاج السّلع. ومن ثمّة، فالتّحوّل الاشتراكيّ الجدير بهذا الاسم، يفترض القضاء على هذا النّظام الطّاقيّ واستبداله التّدريجيّ بنظام عمل لا-مركزيّ وموجّه واقتصاديّ وفعّال ومكثّف من حيث العمل الحيّ، ويعتمد حصريًّا على مصادر متجدّدة، وموجّه نحو إنتاج قيم استعماليّة مستدامة وقابلة لإعادة التّدوير والاستخدام.

ثالثا: ضرورة التّشديد على التّرابط الوثيق والتّقاطع الشّديد بين الإفراط في استغلال الموارد الطّبيعيّة وقوّة العمل، والاضطهاد الباتريريكيّ للنّساء، والاضطهاد الاستعماريّ للمعرقنين(Racisés) . فتأكيد ماركس، في نظر تانورو، على كون الأرض والعمّال هم المصادر الوحيدة للثّروة، يتجاهل بالأخصّ عمليّة إعادة الإنتاج الّتي تقوم بها النّساء، والاستغلال الّذي تتعرّض له الأجيرات منهنّ، والاضطهاد الاستعماريّ؛ لأن الاستغلال المفرط للموارد الطّبيعيّة ولقوّة العمل، بالمجتمع الرّأسماليّ، يتشابك ويتمازج بشكل وثيق مع مختلف أشكال الاستغلال والاضطهاد والتّمييز الأخرى.

5- كارل ماركس المتعدّد:

يرى هذا التّصوّر الرّابع أنّ نصوص ماركس تحوي مقاربات ورؤى مختلفة، بل ومتضاربة، حول إشكاليّة علاقة النّوع البشريّ بالطّبيعة. فعلى سبيل المثال، عثر عالم الاقتصاد الفرنسيّ ميشيل هوسون (Michel Husson)، في سياق قراءته الدّقيقة للمتن الماركسيّ، على ثلاث رؤى مختلفة حول هذه الإشكاليّة[106]:

1-الرّؤية البروميثيوسيّة للإنسان: تبدو واضحة في نظر ميشيل هوسون من خلال “مخطوطات 1844“، حيث اعتبر من خلالها كارل ماركس أنّ الشّيوعيّة هي «الحلّ الحقيقيّ للصّراع بين الإنسان والطّبيعة»[107]؛ لقناعته الرّاسخة بكون القضاء على الملكيّة الخاصّة سيقود بالضّرورة إلى «اكتمال وحدة الجوهر الإنسانيّ مع الطّبيعة وانبعاث حقيقيّ لها، وسيؤدّي حتماً إلى الطّبيعانيّة المكتملة للإنسان(Naturalisme accompli) ، والانسانيّة المكتملة للطّبيعة»[108]. لكنّ هذا التّعايش والتّناغم والانسجام بين الإنسان والطّبيعة، الّذي تنبّأ ماركس بتحقّقه في ظلّ المجتمع الشّيوعيّ المنشود، لا يخلو، في نظر ميشيل هوسون، من وجود رغبة “بروميثيوسية” لديه في التّأكيد على تحكّم الإنسان في الطّبيعة والسّيطرة عليها.

2الرّؤية الإنتاجويّة: يتأكّد هذا الجنوح الإنتاجويّ بشكل لافت لدى ماركس، في منظور هوسون، من خلال مؤلّفه الموسوم بــ”مساهمة في نقد الاقتصاد السّياسيّ“، حيث شدّد على التّناقض/ التّعارض الشّهير بين “قوى الإنتاج” و”علاقات الإنتاج”، على الرّغم من أنّه لم يفصّل القول في طبيعة القوى المنتجة. في المقابل، يبدو هذا النّزوح أكثر وضوحا في كتابه “أسس نقد الاقتصاد السّياسيّ، حيث يبدي نوعاً من الانبهار بــ”العمل الحضاريّ  (Civilisatrice)العظيم لرأس المال” الّذي تمكّن من “الامتلاك (Appropriation) الكونيّ للطّبيعة”[109]. فبفضل الإنتاج الرّأسماليّ، يردف كارل ماركس، «تتحوّل الطّبيعة إلى مجرّد شيء بالنّسبة إلى الإنسان، مجرّد شيء نافع؛ إذ لم يعد ينظر إليها باعتبارها قوّة في ذاتها. بل حتّى الإدراك النّظريّ لقوانينها المستقلّة لا يبدو إلّا مجرّد خدعة تسعى إلى إخضاع الطّبيعة للحاجات البشريّة، إمّا كشيء للاستهلاك أو كوسيلة للإنتاج»[110].

3- الرّؤية الاستقلابيّة (Métabolique): تبدو واضحة، في نظر ميشيل هوسون، من خلال كتابات كارل ماركس (وفريدريك إنجلز) حول الزّراعة، وتحديدا حول الريع العقاريّ. فقد اعترض ماركس على فكرة دافيد ريكاردو الّذي كان يعتقد أنّ العائدات الزّراعيّة ستميل بالضّرورة إلى التّراجع لأنّ عمليّات الإصلاح والاستثمار تنتقل بالضّرورة من الأراضي الأكثر خصوبة إلى الأراضي الأقلّ جودة. إذ انتقد كارل ماركس كلّ الاقتصاديّين الّذين عالجوا إشكاليّة الريع التّفاضليّ، لتجاهلهم الأسباب الحقيقيّة الطّبيعيّة الّتي تقف وراء استنزاف التّربة ونضوبها بسبب ضعف المعارف المتعلّقة بالكيمياء الزّراعيّة وهشاشتها آنذاك[111]. فضمن هذا الأفق، سينبّه كارل ماركس، اقتداء بليبيغ (Liebig)، إلى مخاطر الزّراعة الكثيفة، لينتهي إلى التّشديد على كون الرّأسماليّة «تدمّر الينابيع الحيويّة لكلّ ثروة: الأرض والعمّال»[112]، وتعرقل بشكل خاصّ عمليّة الاستقلاب بين النّوع البشريّ والطّبيعة؛ أي تخلق- بلغة ماركس- « فجوة لا يمكن ردمها في التوازن المعقّد لعمليّة الاستقلاب الاجتماعيّ الّذي شكّلته القوانين الطّبيعيّة للحياة»[113]. وهو ما دفع ميشيل هوسون بوصف هذه المقاربة بـــ”المقاربة الاستقلابيّة”.

ولتعضيد حجّته في الدّفاع عن فكرة حضور هذه المقاربة الاستقلابيّة بشكل لافت في نصوص ماركس، يذكر هوسون بإحدى خلاصاته الأساسيّة الّتي لا تحتمل أيّ تأويل، والّتي يقول فيها ما يلي: «فالمغزى الّذي يمكن استخلاصه أيضا من دراسة الزّراعة هو أنّ النّظام الرّأسماليّ لا يتوافق مع الزّراعة العقلانيّة أو أنّ الزّراعة العقلانيّة لا تتوافق مع النّظام الرّأسماليّ (على الرّغم من أنّه يعزّز تطوّرها التّقنيّ)، وكونها تتطلّب تدخّل الفلّاح الصّغير الّذي يشتغل على أرضه بنفسه أو تحت سيطرة منتجين متشاركين»[114]. فالمنتجون المتشاركون، في نظر ماركس، «ينظّمون بشكل عقلانيّ عمليّة الاستقلاب الخاصّة بهم مع الطّبيعة ويضعونها تحت سيطرتهم الجماعاتيّة بدلا من أن تخضع لقوّة عمياء […] فهم يحقّقون ذلك بأقلّ قدر من القوّة المستعملة، وفي ظلّ أفضل الشّروط كرامة، وأكثرها ملاءمة لطبيعتهم البشريّة»[115].

وعلى ضوء كلّ ما سبق، يستنتج ميشيل هوسون الخلاصات السّبع التّالية:

أوّلا: إنّ تفكير ماركس في علاقة الإنسان بالطّبيعة ليس كتلة منسجمة ومتجانسة، ولكنّه كان دائم التّطوّر، وشديد المواكبة للتّطوّرات العلميّة الّتي شهدها عصره؛ وبالتّالي فهو يسمح بتأويلات مختلفة ومتعدّدة. وفي هذا السّياق، لابدّ من التّذكير كيف أنّ مفهوم الطّبيعة نفسه حمل معان متعدّدة في كتابات كارل ماركس، حصرها ميشيل باريون (Michel Barrillon) في خمسة، كالتّالي[116]:

  • في “مخطوطات 1844“، يعتبر ماركس الطّبيعة كنتاج “للنّشاط الحيويّ الواعي”، أي كبناء بلوره الإنسان باعتباره كائن-نوع اجتماعيّ (Générique) انطلاقا من فوضى العالم المادّيّ، أي من الطّبيعة الأولى الّتي لم تتعرّض بعد إلى أيّ تدخّل بشريّ (non-anthropisé).
  • في “الإيديلوجيّة الألمانيّة” 1845-1846))، الإنسان، وفق ماركس، وحده هو الّذي يشكّل الطّبيعة وفق حاجاته البشريّة؛ إذ لا يحتلّ الوعي سوى مكانة ثانويّة، لكونه يظلّ تابعا لإنتاج وسائل الوجود المادّيّة.
  • في “بؤس الفلسفة” (1847)، وفي كتاباته اللّاحقة، انتقد كارل ماركس الاستعمال الإيديولوجيّ لفكرة الطّبيعة كما تصوّرها الاقتصاديّون “البرجوازيّون”.
  • في كتاباته الاقتصاديّة، لا يظهر مفهوم الطّبيعة إلّا قليلا، ويبدو مرادفا لمفهوم القوّة المنتجة.
  • في بعض النّصوص الّتي كتبها خلال مرحة “النّضج”، كما خلال كتابي فريدريك إنجلز الأساسيّين “ضدّ دوهرينغ” (l’Anti- Dühring) و”ديالكتيك الطّبيعة“، تتمتّع الطّبيعة بتاريخ مستقلّ.

ثانيا: من بين أسباب ازدواجيّة فكر ماركس وغموضه بل وتناقضاته، في نظر ميشيل هوسون، هو أنّه كان يتطوّر باستمرار تبعا للتّطوّرات العمليّة الّتي شهدها عصره. على سبيل المثال، فقد حضَر ماركس العديد من النّدوات العلميّة، مثل تلك الّتي أطّرها الجيوفيزيائيّ جون تيندال (John Tyndall) الّذي يعتبر أوّل من شدّد سنة 1861 على وجود ترابط بين طبيعة تركيبة (Composition) الغلاف الجوّيّ (ليس فقط من حيث بخار الماء بل وثاني أكسيد الكربون أيضا) والتّغيّرات المناخيّة، فاستطاع بذلك هذا الجيوفيزيائيّ الإيرلنديّ وضع أسس أحد أهمّ أبعاد الإيكولوجيا، على الرّغم من أنّه -يضيف ميشيل هوسون- لم يشر إلى وجود علاقة بين تركيبة الغلاف الجوّيّ والتّغيّرات المناخيّة من جهة، والنّشاط الصّناعيّ من جهة أخرى.

ثالثا: لا يمكن تحميل كارل ماركس مسؤوليّة الحصيلة الإيكولوجيّة الكارثيّة للاتّحاد السّوفياتيّ الّتي يعدّ جفاف بحر آرال أحد أهمّ مظاهرها، والّتي لم يستفد قادته ممّا سمّاه ميشيل هوسون بـــ”الحدوس الما-قبل إيكولوجيّة”[117] لماركس. في المقابل، من الثّابت -يؤكّد ميشيل هوسون- أنّ ماركس أخلف موعده مع الإيكولوجيا عندما رفض اقتراحات الاشتراكيّ الأوكرانيّ سيرغي بودولينسكي (Sergueï Podolinsky)  مثل تلك المتعلّقة بدعوته ماركس إلى إدماج البعد الإيكولوجيّ-الطاقيّ    (l’éco-énergétique) في نظريّته حول فائض القيمة؛ أي دفعه إلى محاولة التّوليف بين الدّيناميكا الحراريّة والاقتصاد، ومن ثمّة إلى تعضيد نظريّته حول القيمة-العمل بقياس كمّيّة الطّاقة المستهلكة خلال عمليّة الإنتاج في أفق إعطاءها أساسا عمليّا سليما. وهو ما يحاول البعض القيام به الآن بالتّشديد على كون الطّاقة (الموارد الطّبيعيّة بشكل عامّ) هي ثالث ضلع في مثلّث عوامل الإنتاج بعد العمل ورأس المال، بل وأهمّها؛ وذلك على غرار أفيس كوشي الّذي يؤكّد في هذا الصّدد ما يلي:

«حاول ماركس تطوير النظريّة الرّيكارديّة للقيمة-العمل. لقد قام بتحليل انتزاع أصحاب رأس المال لفائض القيمة النّاتج عن العمل المأجور بشكل مطوّل، ليخلص إلى أنّ القيمة الوحيدة، القيمة “الحقيقية”، هي قيمة العمل المستثمر في الإنتاج. لكن هذا القياس يظلّ في نظرنا غير مكتمل، بل وهامشيّ مقارنة بالانتزاع الدّيناميكيّ الحراريّ من تدفّقات الموادّ والطّاقة. في الواقع، لم نلاحظ فقط أنّ الطّاقة تساهم بنصف الإمكانات الإنتاجيّة، في حين أنّ رأس المال يساهم فيها فقط بالثّلث والعمل البشريّ بالسّدس، ولكنّنا رأينا أيضًا أنّ الجودة الأوّليّة للموادّ والطّاقة أهدرت بشكل لا رجعة فيه في التّدفّقات الاقتصاديّة بموجب قانون الأنتروبيا (Entropie). فمهمّتنا اليوم هي تحليل ميكانيزمات انتزاع فائض القيمة الدّيناميّ الحراريّ  (Thermodynamique) من طرف مالكي الرّأسمال، أي ملاحظة كيف أنّ تدفّقات الموادّ والطّاقة، القادمة بشكل أساسيّ من دول الجنوب، تعدّ ضروريّة لتراكم الشّمال. لا يتعلّق الأمر باختزال الاقتصاد في الدّيناميكا الحراريّة، بل يتعلّق الأمر بمسألة قياس الأهمّيّة النّسبيّة لكلّ عامل من العوامل في عمليّة الإنتاج بالدّقّة اللّازمة»[118].

رابعا: شكّلت سنة 1928 مرحلة فارقة في تاريخ السّياسات البيئيّة الّتي تمّ تفعّلها خلال الحقبة السّوفييتيّة، إذ أنّ ما قبلها ليس مثل ما بعدها. فخلال بضعة سنوات، يقول ميشيل هوسون: «اهتمّت روسيا السّوفياتيّة الفتيّة بالحفاظ على الطّبيعة، خاصّة بإيعاز من لوناشارسكي (Lounatcharski) مفوّض الشّعب للتّعليم العموميّ، وبرعاية من العالم فرنادسكي (Vernadski) […] المعروف بنحته لمفهوم المجال الحيويّ (Biosphère) […] هكذا قام لينين بإنشاء أوّل منتزه طبيعيّ مخصّص حصريّا للدّراسة العلميّة للطّبيعة، وأصدر مراسيم لحماية مصايد الأسماك من الاستغلال المفترس، لكنّ هذا الأمر لم يدم إلّا وقتا قصيرا حيث سيبدأ منعطف جديد سنة 1928 مع بداية تفعيل سياسة زراعيّة تميّزت بالقمع ضدّ الكولاك. وبعد ذلك مع تصاعد النّزعة اللّيسينكوويّة (Lyssenkisme)»[119]. وفي هذا السّياق، يشير ميشيل هيسون إلى اختلاف الزّعماء البلاشفة في تعاطيهم مع ما يسمّيه بـــ”حدوس ماركس الما-قبل إيكولوجيّة”. على سبيل المثال: فنيكولاي بوخارين تبنّى مفهوم الاستقلاب لإعطاء بعض العموميّات؛ إذ يقول في كتابه “نظريّة المادّيّة التّاريخيّة”: «سيكون من السّذاجة أن نقول أنّ الإنسان هو ملك الطّبيعة، وأنّ كلّ شيء في الطّبيعة مصنوع لتلبية احتياجات الإنسان. (…) لا يمكن للإنسان أبدًا الخروج من الطّبيعة، وحتّى عندما يخضع لها، فإنّه يستغلّ قوانين الطبيعة فقط لتحقيق غاياته الخاصّة. لذلك فليس مستغرباً أن تمارس الطّبيعة بالضّرورة تأثيرًا كبيرًا على التّطوّر الكامل للمجتمع البشريّ»[120]. في المقابل، تظلّ نظرة ليون تروتسكي، حسب رأي ميشيل هيسون، متشبّعة بالنّزعة البروميثيوسيّة كما يبدو ذلك واضحا من خلال قوله:

«لا يمكن اعتبار الموقع الحاليّ للجبال والأنهار والحقول والمروج والسّهوب والغابات والسّواحل نهائيّا. لقد أحدث الإنسان بالفعل بعض التّغييرات الّتي لا تخلو من أهمّيّة في خريطة الطّبيعة، لكنّها مجرّد تمارين تلميذ بالمقارنة مع ما سيأتي. لا يمكن للإيمان إلّا أن يَعدَ بتحريك الجبال، والتّقنية، الّتي لا تعترف بأيّ شيء، ستقضي عليها بقوة الاشياء وستحرّكها بالفعل. لحدود الآن، لم تفعل ذلك إلّا لأغراض تجاريّة أو صناعيّة (المناجم والأنفاق)، لكنّها في المستقبل ستقوم بذلك على نطاق أوسع لا مثيل له وفقًا لخطط إنتاجيّة وفنّيّة واسعة النّطاق، وسيضع الإنسان قائمة جرد جديدة للجبال والأنهار، وسيعدّل الطّبيعة بجدّيّة ولأكثر من مرّة، وربّما سيعيد تشكيل الأرض حسب رغبته[…] سيتحكّم الإنسان الاشتراكيّ في الطّبيعة بأكملها […] عن طريق الآلة. سيعيّن الأماكن الّتي يجب أن تتحطّم فيها الجبال، وسيغيّر مجرى الأنهار، وسيتحكّم في المحيطات»[121].

خامسا: لا يمكن اختزال كارل ماركس في نزعة إنتاجيّة أو استهلاكيّة مفرطة بدعوى تصنيمه للتّكنولوجيا وعدم إقراره بمحدوديّة الموارد الطّبيعيّة. إذ يكفي، في نظر ميشيل هوسون، «أن نتذكّر هذا القول المأثور الجميل المأخوذ من كتّيب لمؤلّف مجهول[122] صدر سنة 1821، استشهد به ماركس- بنوع من الثّناء عليه- في كتابه “الغروندريسه”: “الأمّة الغنيّة حقّا هي الّتي تشتغل ستّ ساعات بدلا من اثنتي عشرة ساعة”[123].

سادسا: بتشديده على كون الرّأسماليّة لا تهتمّ إلّا بالقيمة التّبادليّة، وبتمييزه الدّقيق بين القيمة (التّبادليّة) والثّروة، يضيف ميشيل هوسون، يكون ماركس قد وضع أسس نقد الاقتصاد السّياسيّ الّتي يمكنها أن تمتدّ لتشمل أيضا القضايا البيئيّة، وتسهم في وضع لبنات تخطيط إيكولوجيّ جيّد. فالنّظام الاقتصاديّ، من هذا المنظور، لا يجب أن يكون محكوما بهاجس تحقيق الحدّ الأقصى من الرّبح كما هو الشّأن بالنّسبة إلى الرّأسماليّة، بل تحقيق الحدّ الأقصى من الرّفاهيّة في ظلّ الإكراهات الاجتماعيّة والبيئيّة. ومن ثمّة- يقول ميشيل هوسون- فمن الممكن استثمار أدوات التّحليل الماركسيّة لتأسيس إيكولوجيّة اشتراكيّة (Éco socialisme) تتمحور حول المبدأ التّالي: لا يمكن للحلول التّجاربّة/ السّلعيّة (Marchandes) (الضّرائب البيئيّة أو تراخيص إطلاق الانبعاثات) أن تستجيب بشكل كامل للتّحدّيات المناخيّة، الّتي يستحيل مواجهتها دون تفعيل إستراتيجيّة التّخطيط البيئيّ. علاوة على هذا، فتحليلات ماركس تظل، في منظور ميشيل هوسون، علاجٌ قويٌّ وترياقٌ فعّالٌ ضدّ الأطروحات المالتوسيّة (الجديدة) الّتي تدعو إلى الحدّ من نموّ عدد سكّان كوكب الأرض.

سابعا: خلافا لبعض الماركسيّين، مثل بول بوركيت وجون بيلامي فوستر، الّذين يحاولون إثبات “إيكولوجيّة ماركس” باستحضار مفهوم “القطيعة الاستقلابيّة” بين الطّبيعة والنّوع البشريّ الّذي استخدمه ماركس، فيبدو أنّ هذا الأخير كان واعيا بخطورة استنزاف التّربة والموادّ الطّبيعيّة لكنّه لم يكن مدركا لمآلات الكوارث الإيكولوجيّة المرتبطة بالتّغيّرات المناخيّة ومخاطرها. بالطبع، يقول ميشيل هوسون، فهاتين الظّاهرتين مترابطان، لكنّ مصادرهما مختلفة: فعلى سبيل المثال، من الممكن وقوع كارثة مناخيّة عالميّة حتّى قبل استنفاذ موارد النّفط أو المعادن النّادرة، لكنّ هذا الاستنفاذ لا يقود في حدّ ذاته بالضّرورة إلى كارثة مناخيّة. من جهة أخرى، يضيف ، فالتّهديد الأساسيّ الّذي يكمن في انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ، بما تخلقه من اختلالات مناخيّة مهمّة، لم يكن، في منظور ميشيل هوسون، معروفًا في زمن ماركس؛ ومن ثمّة فغياب هذه التّيمة في أعماله يبدو طبيعيّا ومتوقّعا.

وكخلاصة عامّة، يؤكّد ميشيل هوسون أنّ الإيكولوجيّة الاشتراكيّة ليست مطالبة فقط باستعادة (Restitution) إيكولوجيا ماركس، بل عليها أن تسعى أيضا إلى توسيع أفقها لكي يصبح من الممكن بناء مشروع اشتراكيّ إيكولوجيّ يصالح بين الماركسيّة والإيكولوجيّة، فلا يكتفي باتّخاذ مسافة نقديّة مع الإيكولوجيّة الرّاديكاليّة الّتي تدير ظهرها للمسألة الاجتماعيّة فقط، بل ويمكّن أيضا من القطع مع النّزعة الإنتاجويّة الّتي تشرّبتها الحركة العمّالية لمدّة طويلة.

6- خاتمة:

ختاما، وفي ضوء كلّ ما سبق، يبدو من غير المجدي، كما استخلص ذلك أيضا دانييل بن سعيد[124]، مجابهة ومعارضة ماركس “المَلك الأخضر” بماركس “الشّيطان الإنتاجويّ”، عبر استحضار بعض مقتطفات نصوصه بعد انتقائها بعناية شديدة. فالثّابت أنّ التّحرّر من سطوة التّفكير الرّغبويّ، والتّخلّص من مخالبه وأصفاده، سيجعلنا ندرك بسهولة أنّ نصوص ماركس تحوي تصوّرات مختلفة، بل ومتضاربة، حول سؤال علاقة النّوع البشريّ بالطّبيعة كنتاج موضوعيّ لتطوّرات فكر ماركس نفسه، وتفاعله الشّديد مع المستجدّات العلميّة الّتي شهدها عصره. إذ ليس عبثا أو من غير دلالة أن يشدّد بعض قارئي وشارحي نصوص ماركس الحصفاء والمتبصّرين، مثل: لوي ألتوسير، على وجود قطيعة إبستمولوجيّة بين أعمال ماركس “الشّابّ” وماركس “النّاضج”.

علاوة على ذلك، إذا كان من الواضح أنّ التّيمات الإيكولوجيّة لا تحتلّ مكانة مركزيّة في الجهاز النّظريّ الماركسيّ، فهذا لا يعني، في المقابل، أنّ ماركس لم يكن واعيا بخطورة استنزاف التّربة والموادّ الطّبيعيّة أو غير مدرك لمآلات اتّساع رقعة التّلوّث وتداعياتها (مثل تلوّث نهر التايمز Tamise) جرّاء تزايد حجم النّفايات الحضريّة في عصره. بالتّأكيد، يبدو أنّ ماركس يتعالى في العديد من القضايا على زمنه التّاريخيّ ويتجاوزه، لكنّه يظلّ، في النّهاية، نتاج هذا التّاريخ وخلاصته المكثّفة، أي أنّ فكره يظلّ مشروطا بحدود لحظته التّاريخيّة وشروطها الّتي لم تكن تعرف اضطرابات مناخيّة مهمّة أو تشهد تسارعا في معدّلات الاحتباس الحراريّ، مثلما هو عليه الأمر اليوم.

في المقابل، إذا كان من الضّروريّ تجنّب الإسقاط المتعسّف للسّياقات، فلابدّ، على سبيل الختم، من التّشديد بيقظة هادئة على الخلاصة المركزيّة التّالية: خلافا لما يدّعيه النّاعون لماركس أي المبشّرون بموته ودفنه، والّذين لا يقبلون، كما يقول محمّد المحيفيظ، »بأقلّ من الطّيّ المتسرّع لفكره جملة وتفصيلا، والإسراع بدفنه وتغييبه[…] في سعي حثيث لتبرير الواقع الحاليّ ووصم أيّ تفكير نقديّ يستشرف عالما آخر ممكنا بكونه مجرّد طوباويّة حالمة أو بقايا إيديلوجيا مفوّتة ذاهلة عن “نهاية التّاريخ”«[125]؛ فالمرور عبر طريق ماركس من خلال الاسترشاد ببعض مقولاته النّقديّة وأدواته التّحليليّة، واستلهام حدوسه الإيكولوجيّة المبكّرة- خاصّة نقده الإيكولوجيّ للرّأسمال من خلال حديثه عن “القطيعة الاستقلابيّة”- يبدو مهمّا لفهم جوانب واسعة من الأزمة البيئيّة الحاليّة وشحذ الوعي بعللها العميقة. وهو ما انتبه إليه، منذ العقد السّابع من القرن الماضي، روّاد “الإيكولوجيا الاشتراكيّة”    ((Éco-socialisme،مثل: مانويل ساكريستان (Manuel Sacristán) بإسبانيا، وريموند وليامز   (Raymond Williams) بأنجلترا، وأندري غورتز (André Gorz) وجون بول ديلياج (Jean-Paul Deléage) بفرنسا، وباري كومونر (Barry Commoner) بالولايات المتّحدة الأمريكية[126]. إذ يؤكّد هذا التّيّار الإيكولوجيّ، الّذي يستلهم أبرز المسلّمات الماركسيّة بعد تخليصها من شوائبها الإنتاجويّة[127]، على أنّ المشروع الاشتراكيّ الّذي يفتقد النَّفَس الإيكولوجيّ العميق هو طريق مسدود، وأنّ المشروع الإيكولوجيّ غير المؤسّس على التّصوّر الاشتراكيّ لابدّ أن يرتطم بالحائط. فمن المستحيل، في منظور هذا التّيّار الّذي يعدّ ميكائيل لووي (Michaël Löwy) وجون بيلامي فوستر أحد أبرز رموزه في الفترة الرّاهنة، التّوفيق بين الرّأسماليّة والإيكولوجيّة، والجمع والمزاوجة بين اعتماد اقتصاد السّوق وحماية المحيط البيئيّ من التّدهور. ومن ثمّة، لا يمكن تغذية الاعتقاد الواهم بإمكانيّة التّصدّي للأزمة الإيكولوجيّة الحاليّة في ظلّ استمرار النّظام الرّأسماليّ القائم من خلال الرّهان على ما يسمّى بــ”إيكولوجيا السّوق” أو “إيكولوجيا الحركات البسيطة”(Petits gestes) .

المراجع:

باللّغة العربيّة:

  • أنجلز (فريدريك): “ديالكتيك الطّبيعة”، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابي، بيروت، 1988.
  • حميش (سالم): “في نقد الحاجة إلى ماركس”، دار التّنوير، الدّار البيضاء، 2007.
  • غارودي (روجيه): “نحو حرب دينية؟ جدل العصر”، ترجمة صياح الجهيم، دار عطية، الطّبعة الثّانية، بيروت، 1997.
  • كليف (توني): “رأسماليّة الدّولة في روسيا”، ترجمة عمر الشافي، مركز الدّراسات الاشتراكيّة، 1998.
  • المحيفيظ (محمد): ماركس اليوم؟، مجلّة نوافذ، العدد 61-62، يناير 2016.

باللّغات الأجنبيّة:

  • Azam (Geneviève): «Pour une pensée de la limite : L’exemple de la privatisation du vivant», Revue du MAUSS, Vol. No21, No.1, 2003.
  • Barrillon (Michel): «Les marxistes, Marx et la question naturelle. Notes sur l’improbable éco-marxisme», Écologie & politique, Vol. 47, No. 2, 2013.
  • Béguin (Victor): «En quel sens Marx est-il écologiste?», Contretemps, 5 Mai 2022.
  • Daniel (Bensaïd): «L’écologie n’est pas soluble dans la marchandise», Contretemps, Ed. Textuel, N° 4, Mai 2002.
  • Foster (John Bellamy): «Marx écologiste». Trad. Aurélien Blanchard, Joséphine Gross, Charlotte Nordmann. Editions Amsterdam/Multitudes, Paris, 2011.
  • Foster (John Bellamy): «Le retour d’Engels», Contretemps, 28 Novembre 2020.
  • Foster (John Bellamy) et Burkett (Paul): «Marx and the Earth», Haymarket, Chicago, 2017.
  • Friedrich (Engels): «Anti- Dühring: M. E. Dühring bouleverse la science». Edition socials, Paris, 1878.
  • Giddens (Anthony): «A Contemporary Critique of Historical Materialism», Vol. 1: Power, property and the state, University of California Press, Berkeley and Los Angeles, 1981.
  • Harribey (Jean-Marie): «Marx, productiviste ou précurseur de l’écologie?» Forum ‘’Marx, 200 ans‘’, L’Humanité, Paris, 17 février 2018.
  • Harribey (Jean-Marie): «Marxisme écologique ou écologie politique marxienne», in Bidet J., Kouvélakis E. (sous la dir. de), Dictionnaire Marx contemporain, PUF, Actuel Marx Confrontation, Paris, 2001.
  • Haug (Timothée): «Le naturalisme critique de Marx et l’écologie», La Pensée, N°394, Avril/ Juin 2018.
  • Husson (Michel): «Marx a-t-il inventé l’éco-socialisme?», A l’encontre, 21 Décembre 2017.
  • Liebig (Justus Von): «Chimie appliquée à la physiologie végétale et à l’agriculture». Charles Gerhardt, Librairie de Fortin Masson et Cie, 2ème édition, Paris, 1844.
  • Lipietz (Alain): «L’écologie politique et l’avenir du marxisme», Congrès Marx International, “Cent ans de marxisme, Bilan critique et perspectives”, PUF, Paris, 1969.
  • Löwy (Michaël): «Eco-socialisme: L’alternative radicale à la catastrophe écologique capitaliste». Fayard/Mille et une nuit, Paris, Mai 2011.
  • Marx (Karl): «Critique du programme de Gotha», avec une préface et des notes d’Amédée Dunois. Librairie de l’humanité, Paris, 1922.
  • Marx (Karl): «Contribution à la critique de l’économie politique». Traduit de l’allemand par Maurice Husson et Gilbert Badia. Éditions sociales, Paris, 1972.
  • Marx (Karl): «Manuscrits de 1844 (Économie politique & philosophie)». Présentation, traduction et notes d’Émile Bottigelli. Les Éditions sociales, Paris, 1972.
  • Marx (Karl): «Le capital: critique de l’économie politique», livre III, trad. Catherine Cohen-Solal et Gilbert Badia, Les Éditions sociales, Paris, 1976.
  • Marx (Karl) et Friedrich (Engels): «(1845), L’idéologie allemande. Première partie: Feuerbach. (Les thèses sur Feuerbach)». Traduction française de Renée Cartelle et Gilbert Badia, 1952. Paris: Les Éditions sociales, 1970.
  • «Manifeste du parti communiste», Traduction de Corinne Lyotard, Libraire Générale Française, Paris, 1973.
  • Pena-Ruiz (Henri): «Marx quand même», Plon, Paris, 2012.
  • Pena-Ruiz (Henri): «Entretien avec Karl Marx», Paris, Plon, 2012.
  • Pena-Ruiz (Henri): «Karl Marx: penseur de l’écologie». Editions du Seuil, Paris, 2018.
  • Raulet (Gérard): «Humanisation de la nature, naturalisation de l’homme. Ernst Bloch ou le projet d’une autre rationalité». Klincksieck, Paris, 1982.
  • Saïto (Kohei): «La Nature contre le capital. L’écologie de Marx dans sa critique inachevée du capital», Editions Syllepse, 2021.
  • Schmidt (Afred): «Le concept de nature chez Marx». Traduit de l’allemand par Jacqueline Bois, PUF, Paris, 1994.
  • Tanuro (Daniel): «L’impossible capitalisme vert». La Découverte/Poche, Paris, 2012.
  • Tanuro (Daniel): «L’écologie de Marx, Un chantier inachevé, une invitation à l’approfondissement», Gresea, Juin 2022.
  • Tanuro (Daniel): «L’écologie de Marx, chantier inachevé», L’anticapitaliste, No 142, Janvier 2023.
  • Vert (Julien): «Marx et l’écologie», Révolution, 18 avril 2013.

[1]– Tanuro (Daniel): «L’écologie de Marx, chantier inachevé», L’anticapitaliste, , No 142, Janvier 2023.

[2]– انظر:

Schmidt (Afred): Le concept de nature chez Marx. Traduit de l’allemand par Jacqueline Bois,  Paris, PUF, 1994.

[3]– Raulet (Gérard): Humanisation de la nature, naturalisation de l’homme. Ernst Bloch ou le projet d’une autre rationalité., Paris, Klincksieck, 1982.

[4]– Tanuro (Daniel): op. cit. P.36.

[5]– انظر على سبيل المثال:

Barrillon (Michel): «Les marxistes, Marx et la question naturelle. Notes sur l’improbable éco-marxisme», Écologie & politique, Vol. 47, no. 2, 2013, Pp.115-143. Disponible sur: https://www.cairn.info/revue-ecologie-et-politique-2013-2-page-115. htm&wt.src=pdf

[6]– Giddens (Anthony): A Contemporary Critique of Historical Materialism, Vol. 1: Power, property and the state. Berkeley and Los Angeles, University of California Press, 1981, Pp59-60.

[7]– Lipietz (Alain): «L’écologie politique et l’avenir du marxisme», Congrès Marx International, «Cent ans de marxisme, Bilan critique et perspectives», PUF, Paris, 1969, P.187.

[8]– Barrillon (Michel): «Les marxistes, Marx et la question naturelle. Notes sur l’improbable éco-marxisme» Pp. 115-143.

[9] -Ibid. Pp.115-143.

[10]– Azam (Geneviève) : «Pour une pensée de la limite L’exemple de la privatisation du vivant», Revue du MAUSS, Vol. No 21, no. 1, 2003, P.307. URL : https://www.cairn.info/revue-du-mauss-2003-1-page-301.htm.

[11]– خلافا لمن يحاولون التّمييز بين كارل ماركس وفريدريك إنجلز، مثل عالميْ السّياسة جون ستانلي (John L. Stanley) وديفيد ماكليلان (David McLellan)، نميل إلى المماهاة بينهما، بالنّظر لاشتراكهما في تأليف “الإيديلوجيا الألمانيّة” سنة 1846 و”العائلة المقدّسة” سنة 1845 و”البيان الشّيوعيّ” سنة 1848؛ ولكون فريدريك إنجلز قام بقراءة النّسخة النّهائيّة من كتابه “ضدّ دوهيرينغ” -والّذي ساهم كارل ماركس بكتابة فصل منه كاملا- على مسامع ماركس قبل طباعته ونشره. أكثر من ذلك، فإذا كان ماركس قد قام بتحرير مقدّمة كتاب إنجلز الموسوم بــ”الاشتراكيّة: الطّوباويّة والعلم” فقد بادر هذا الأخير بإعداد المجلّد الثّاني والثّالث من كتاب “رأس المال” انطلاقا من المسودّات والمذكّرات الّتي تركها له رفيقه كارل ماركس بعد رحيله سنة 1883. انظر بهذا الصّدد:

Bellamy Foster (John): «Le retour d’Engels», Contretemps, 28 novembre 2020. Disponible sur: https://www.contretemps.eu.

[12]– Engels (Friedrich): Anti-Dühring: M.E. Dühring bouleverse la science. Paris, Edition sociales, 1878, p246. Disponible sur: http://gesd.free.fr/antiduhr.pdf.

[13]– Marx (Karl): Le capital: critique de l’économie politique, livre III, Trad. Catherine Cohen-Solal et Gilbert Badia, Paris, Les Éditions sociales, 1976, P.742.

[14]– Marx (Karl): Contribution à la critique de l’économie politique. Traduit de l’allemand par Maurice Husson et Gilbert Badia. Éditions sociales, Paris, 1972, P.18.

[15]– Marx (Karl) et Engels (Friedrich): Manifeste du parti communiste, Traduction de Corinne Lyotard, Libraire Générale Française, Paris, 1973, Pp.57-58.

[16]– Marx (Karl): Le capital: Critique de l’économie politique, Livre III, Trad. Catherine Cohen Solal et Gilbert Badia,  Les Éditions sociales, Paris, 1976, P.567.

[17]– Marx (Karl): Fondements de la critique de l’économie politique (ébauche de 1857-1858). Tome I, Roger Dangeville (trad.), Paris, Anthropos, 1968, P.367. Cité par :

Michaël Löwy, Éco-socialisme: L’alternative radicale à la catastrophe écologique capitaliste. Paris, Fayard/ Mille et une nuit, Paris, Mai 2011, P.45.

[18]– للمزيد من التّفصيل حول كيف يتمّ استحضار بعض الوقائع التّاريخيّة لنفي وجود وعي إيكولوجيّ لدى ماركس، انظر:

Pena-Ruiz (Henri): Karl Marx : penseur de l’écologie. Editions du Seuil, Paris, 2018, Pp.10-13.

[19]– نسبة إلى عامل المناجم أليكسي ستاخانوف (Alekseï Stakhanov)الّذي استطاع أن يتجاوز سقف محدوديّة إمكانات الإنسان الجسديّة، ويصبح رمزا للعمل الشّاقّ وللطّاقة البشريّة الاستثنائيّة بالاتّحاد السّوفياتيّ بعد أن استطاع، خلال مسابقة لاستخراج الفحم نظّمت سنة 2035، استخراج 102 طن في ستّ ساعات فقط، أي تمكّن من إنتاج كمّيّة تفوّق الحصّة المعتادة المطلوبة من كلّ عامل (المعدّل العامّ للإنتاج) بــ 14 مرّة.

[20]– كليف (توني): رأسماليّة الدّولة في روسيا، ترجمة عمر الشّافي، مركز الدّراسات الاشتراكيّة، 1998، ص11.

[21]– طاهر (محمّد): «آرال، البحر الّذي أعدمه السّوفييت»، أندبندنت عربيّة، الجمعة 24 يناير 2020. موجود على الرّابط التّالي: https://www.independentarabia.com

[22]– طاهر (محمّد): «آرال، البحر الّذي أعدمه السّوفييت» مرجع سابق.

[23]– المرجع نفسه.

[24]– الأمم المتّحدة: »اليوم الدّوليّ لإحياء ذكرى تشيرنوبيل 26 نيسان/أبريل»، موجود على الرّابط التّالي: https://www.un.org/ar/observances/chernobyl-remembrance-day/background

[25]– الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة: «استمرار الآثار الّتي خلّفتها كارثة تشيرنوبيل: تقرير الأمين العامّ»، 27 شتنبر 2019. موجود على الرّابط التّالي: https://documents-dds-ny.un.org

[26]– مثّل جريجور يزينوفييف وليو كامينيف اللّذان تمّ إعدامهما سنة 1936، ونيكولا بوخارين الّذي كان يلقّبه لينين بــ”محبوب الحزب” فتمّ إعدامه سنة 1938، وليون تروتسكي الّذي تمّ اغتياله بالمكسيك سنة 1940.

[27]– هنري-ليفي (بيرنار): البربريّة ذات الوجه الإنسانيّ، باريس، 1977، ص167. ورد في:

حميش (سالم): في نقد الحاجة إلى ماركس، دار التّنوير، الدّار البيضاء، 2007، ص19.

[28]– من بين ما جاء في هذه الموعظة، قول يسوع المسيح: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ، مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا؛ ومن أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا». كما جاء فيها أيضاً قوله: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ». إنجيل مَتّى. (الأَصْحَاحُ الخامس: العظة على الجبل، التّطويبات، استكمال النّاموس)، صص55-57. موجود على الرّابط التالي:

https://www.stmarkos.org/explainbible/MathewFullBible-Ar.pdf.

[29]– PeñaRuiz (Henri): Marx quand même, Plon, Paris, 2012, P.29.

[30]– Peña-Ruiz (Henri): Entretien avec Karl Marx,  Plon, Paris, 2012, P.09.

[31]– Harribey (Jean-Marie): «Marx, productiviste ou précurseur de l’écologie?» Forum ‘’Marx, 200 ans ‘’, L’Humanité, Paris, 17 février 2018. Disponible sur:

http://harribey.u-bordeaux.fr/travaux/soutenabilite/marx-productiviste-ou-ecologiste.pdf

[32]– Harribey (Jean-Marie): «Marxisme écologique ou écologie politique marxienne», in Bidet J., Kouvélakis E. (sous la dir. de), Dictionnaire Marx contemporain, PUF, Actuel Marx Confrontation, Paris, 2001, Pp.183-200.

[33]– Ibid. Pp.183-200.

[34]– Barrillon (Michel): « Les marxistes, Marx et la question naturelle. Notes sur l’improbable éco-marxisme», Op.cit., Pp.115-143.

[35]– Ibid.

[36]– انظر على سبيل المثال:

Bellamy Foster (John) et Burkett (Paul): Marx and the Earth. Chicago, Haymarket, 2017.

[37]– KoheiSaïto: La Nature contre le capital. L’écologie de Marx dans sa critique inachevée du capital. Editions Syllepse, 2021.

[38]– Bellamy Foster (John): Marx écologiste. Trad. Aurélien Blanchard, Joséphine Gross, Charlotte Nordmann.  Editions Amsterdam/Multitudes, Paris, 2011.

[39]– Bellamy Foster  (John): Marx écologiste, Op-cit.

[40]– Ibid.

[41]– Ibid.

[42]– Ibid. P.84.

[43]– خاصّة من خلاله كتابه:

Von Liebig (Justus): Chimie appliquée à la physiologie végétale et à l’agriculture. Trad. Charles Gerhardt,  2ème édition, Librairie de Fortin Masson et Cie, Paris, 1844. Disponible sur:

https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k283871/f3.item.texteImage.

[44]– Bellamy Foster (john): Marx écologiste, Op-cit.

[45]– Ibid.

[46]– Vert (Julien): «Marx et l’écologie», Révolution, 18 avril 2013. Disponible sur: https://www.marxiste.org/theorie/sciences-environnement/1036-marx-et-l-ecologie.

[47]– Bellamy Foster (John): Marx écologiste, Op-cit.

[48]– Ibid.

[49]– Bellamy Foster (John): Marx écologiste.

[50]– Ibid.

[51]– Ibid.

[52]– Ibid.

[53]– Marx (Karl): Le Capital, Traduction de M.J. Roy, Entièrement révisée par l’auteur, Éditeurs Maurice Lachatre et Cie , Paris, 1872, Pp.217-218.

[54]– Bellamy Foster (John): Marx écologiste, Op-cit. .

[55]– John Bellamy Foster, Marx écologiste, Op-cit. Ibid. P.85.

[56]– Saïto (Kohei): La Nature contre le capital. L’écologie de Marx dans sa critique inachevée du capital, Editions Syllepse, 2021.

[57]– Béguin (Victor): «En quel sens Marx est-il écologiste?», Contretemps, 5 mai 2022. Disponible sur: https://www.contretemps.eu/marx-ecologiste-nature-capital-saito/.

[58]– Béguin (Victor): «En quel sens Marx est-il écologiste?», op.cit.

[59]– Vert (Julien): «Marx et l’écologie», Op. cit.

[60]– Ibid.

[61]– Haug (Timothée): «Le naturalisme critique de Marx et l’écologie», La Pensée, N°394, Avril/Juin 2018, p67. Disponible sur: https://www.cairn.info/revue-la-pensee-2018-2-page-64.htm.

[62]– Marx (Karl): Le capital: critique de l’économie politique, Livre III, trad. Catherine Cohen-Solal et Gilbert Badia, Les Éditions sociales, Paris, 1976, P.111.

[63]– Bellamy Foster (John): Marx écologiste, Op-cit.

[64]– Ibid.

[65]– Ibid.

[66]– Ibid.

[67]– Ibid.

[68]– Ibid.

[69]– Ibid.

[70]– غارودي (روجيه): نحو حرب دينيّة؟ جدل العصر، ترجمة صياح الجهيم، دار عطيّة، الطّبعة الثّانية، بيروت، 1997، ص70.

[71]– ضمن هذا الأفق العامّ، أي السّعي إلى تحرير كارل ماركس ممّا سمّاه بــ” كاريكاتوره السّتالينيّ”، تندرج إصداراته الثّلاثة التّالية:

Peña-Ruiz (Henri): Entretien avec Karl Marx, Plon, Paris, 2012.

Peña-Ruiz (Henri): Marx quand même,  Plon, Paris, 2012.

Henri Peña-Ruiz, Karl Marx, penseur de l’écologie, Le Seuil, Paris, 2018.

[72]– غارودي (روجيه): نحو حرب دينية؟ جدل العصر، مرجع سابق، ص65.

[73]– Peña-Ruiz (Henri): Marx quand même, Op.cit, Pp.8-9.

[74]– Peña-Ruiz (Henri): Karl Marx, penseur de l’écologie, Op-cit.

[75] Ibid., P.11.

[76]– Peña-Ruiz (Henri): Entretien avec Karl Marx, Op. cit, p11.

[77]– Peña-Ruiz (Henri): Karl Marx, penseur de l’écologie, op-cit. p15.

[78]– Marx (Karl): Le capital: critique de l’économie politique. Livre III, Traduction de Catherine Cohen-Solal et de Gilbert Badia, Editions sociales, Paris, 1976, P.705.

[79]– Marx (Karl): Critique du programme de Gotha, avec une préface et des notes d’Amédée Dunois. Librairie de l’humanité, Paris, 1922. Pp.21-22. Disponible sur:

https://pandor.ubourgogne.fr/pleade/functions/ead/detached/GEME/GEME21-1.pdf

[80]– Marx (Karl) et Engels (Friedrich): Manifeste du parti communiste, Traduction de Corinne Lyotard, Libraire Générale Française, Paris, 1973, Pp.58-60.

[81]– Marx (Karl): Manuscrits de 1844 (Économie politique & philosophie). Présentation, traduction et notes d’Émile Bottigelli. Les Éditions sociales, Paris, 1972, P.60. Disponible sur: http://classiques.uqac.ca/classiques/Marx_karl/manuscrits_1844/Manuscrits_1844.pdf

[82]– Marx (Karl) et Engels (Friedrich) (1845): L’idéologie allemande. Première partie: Feuerbach. (Les thèses sur Feurbach). Traduction française de Renée Cartelle et Gilbert Badia, 1952. Paris: Les Éditions sociales, 1970, P.13. Disponible sur:

http://classiques.uqac.ca/classiques/Engels_Marx/ideologie_allemande/ideologie_allemande.html.

[83]– Peña-Ruiz (Henri): Karl Marx, penseur de l’écologie, Op.cit. P.22.

[84]– Ibid. P.17.

[85]– Ibid. P.16.

[86]– فالنّزعة الطّبيعيّة، كما يقول إميل بوتيجلي (Emile Bottigelli) لا تعني في منظور ماركس العودة إلى الطّبيعة، بل تعني أنّ الإنسان يعثر على طبيعته الخاصّة وأنّ بإمكانه أن يطوّر بشكل حرّ قواه الجوهريّة دون أن يتمكّن الاستلاب من إفساد هذا التّعبير عن الذّات، وجعل عالم الأشياء عالما مناهضا له بدل أن يكون امتدادا لكينونته فيؤدّي بذلك إلى نفي طبيعته كإنسان. اُنظر:

Karl Marx (Karl): Manuscrits de 1844 (Économie politique & philosophie). Présentation, traduction et notes d’Émile Bottigelli. Les Éditions sociales, Paris, 1972, p82. Disponible sur: http://classiques.uqac.ca/classiques/Marx_karl/manuscrits_1844/Manuscrits_1844.pdf.

[87]– Ibid. pp.81-82.

[88]– Peña-Ruiz (Henri): Karl Marx, penseur de l’écologie, Op-cit. P.12.

[89]– Ibid. P.12.

[90]– إنجلز(فريديريك): ديالكتيك الطّبيعة، ترجمة توفيق سلّوم، دار الفارابيّ، بيروت، 1988، ص171-172.

[91]– Tanuro (Daniel): L’impossible capitalisme vert. La Découverte/Poche, Paris, 2012,

[92]– Tanuro (Daniel): «L’écologie de Marx, Un chantier inachevé, une invitation à l’approfondissement», Gresea, Juin 2022. Disponible sur: https://gresea.be/L-ecologie-de-Marx-Un-chantier-inacheve-une-invitation-a-l-approfondissement.

[93]– Tanuro (Daniel): L’impossible capitalisme vert. ,Op. cit, P.139.

[94]– Ibid. P.139.

[95]– Ibid. P.139.

[96]– Ibid. P.140.

[97]– Ibid.  P.140.

[98]– Tanuro (Daniel): «L’écologie de Marx, Un chantier inachevé, une invitation à l’approfondissement», Gresea, Juin 2022. Disponible sur: https://gresea.be/L-ecologie-de-Marx-Un-chantier-inacheve-une-invitation-a-l-approfondissement#nb6.

[99]– Marx (Karl): «Grandrisse», Chapitre du Capital, Paris, UGE 10-18,1973, pp213-214. Cité par Daniel Tenuro, «L’écologie de Marx, Un chantier inachevé, une invitation à l’approfondissement». op.cit.

[100]– Tenuro (Daniel): «L’écologie de Marx, Un chantier inachevé, une invitation à l’approfondissement», op.cit.

[101]– Marx (Karl): Le capital: critique de l’économie politique. Livre III, Traduction de Catherine Cohen-Solal et de Gilbert Badia.  Editions sociales, Paris, 1976, P.129.

[102]– Ibid. P.567.

[103]– Tanuro (Daniel): «L’écologie de Marx, Un chantier inachevé, une invitation à l’approfondissement», op.cit.

[104]– Ibid.

[105]– Tanuro (Daniel): L’impossible capitalisme vert, Op.cit. P.141.

[106]– Husson (Michel): «Marx a-t-il inventé l’éco socialisme?», A l’encontre, 21 Décembre 2017. Disponible sur: http://alencontre.org/ecologie/marx-a-t-il-invente-lecosocialisme.html.

[107]– Marx (Karl): Manuscrits de 1844 (Économie politique & philosophie). Présentation, traduction et notes d’Émile Bottigelli. Les Éditions sociales, Paris, 1972, p82. Disponible sur: http://classiques.uqac.ca/classiques/Marx_karl/manuscrits_1844/Manuscrits_1844.pdf.

[108]– Ibid. P.83.

[109]– Husson (Michel): «Marx a-t-il inventé l’éco socialisme?». Op. cit.

[110]– Marx (Karl): Fondements de la critique de l’économie politique (ébauche de 1857-1858). Tome I, Roger Dangeville (trad.), Anthropos, Paris, 1968, p367. Cité par: Michel Husson, op.cit.

[111]– Husson (Michel): «Marx a-t-il inventé l’éco socialisme?». Op. cit.

[112]– Ibid.

[113]– Marx (Karl): Le capital: critique de l’économie politique. Livre III, Traduction de Cathrine Cohen-Solal et de Gilbert Badia. Editions sociales, Paris, 1976, p735. Cité par:  Michel Husson. op.cit.

[114]– Ibid., P.129.

[115]– Ibid. P.742.

[116]– Barrillon (Michel): «Les marxistes, Marx et la question naturelle. Notes sur l’improbable éco marxisme», Écologie & politique, Vol. 47, No. 2, 2013, Pp.115-143.

[117]– Husson (Michel): «Marx a-t-il inventé l’éco socialisme?», Op.cit.

[118]– Cochet (Yves): Pétrole apocalypse, Fayard 2005, pp158-159. Cité par: Michel Husson. op.cit.

[119]– Husson (Michel): «Marx a-t-il inventé l’éco socialisme?», Op. cit.

[120]– Boukharine (Nicolas): La théorie du matérialisme historique: Manuel populaire de sociologie marxiste, 1921, p46. Cité par: Michel Husson op.cit.

[121]– Tanuro (Daniel): «Écologie: le lourd héritage de Léon Trotski», La Gauche, 23 Août 2010. Cité par: Michel Husson Op.cit.

[122]– يشير ميشيل هيسون إلى أنّ هويّة المؤلّف قد كشف عنها لاحقا حفيده، ويتعلّق الأمر بــ”تشارلز وينتورثديلك”. اُنظر:

Charles WentworthDilke: The Source and Remedy of the National Difficulties, Cité par: Michel Husson, Op.cit.

[123]– Marx (Karl): «Le vol du temps d’autrui, une base misérable», Extrait des Manuscrit de 1857-1858 (Grundrisse), Cité par: Michel Husson Op.cit.

[124]– Bensaïd (Daniel): «L’écologie n’est pas soluble dans la marchandise», ContreTemps, Ed. Textuel, N° 4, Mai 2002, P.46.

[125]– المحيفيظ (محمّد): »ماركس اليوم؟«، مجلّة نوافد، العدد 61-62، يناير 2016، ص143-145.

[126]– Löwy (Michaël): Éco-socialisme: L’alternative radicale à la catastrophe écologique capitaliste.  Fayard/Mille et une nuit, Paris, Mai 2011, P.7.

[127]– Ibid., P.18.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد