ملخّص:
لا جدال في أنّ القول الفلسفي يَصبح خطابا أكثر إثارة، عندما يُوجّه سياط تجريحه لذاته. فالفيلسوف المُعاصر يُوفّقُ في رصد أزمة الفلسفة، ولا يتوانى في الاعتراف بها وتشريحها، عبر كشف بُعد المُراكمة المُتحكّم في حضور الأزمة، واقعًا مُتعيّنًا. ففضلا عن فشل النزوع الإيديولوجي لدى مُدرّس الفلسفة في الإقناع بنُبل مهنته من خلال إلحاحه على الحاجات التي تدّعي إشباعها، يُعايش الفكر الفلسفيّ، مع ذلك، عمق الأزمة -المُعضلة، بين العجز عن الإقناع بأهمّية الفلسفة، من ناحية، وتبرير كونها عديمة الفائدة، من جانب آخر. أليس الفيلسوف هو الذي يستفيق على وهم الادّعاء بالملكيّة الدّاخليّة لفكرٍ توهّم أنّه نقديّ بإطلاق؟ أليس هو الذي توهّم القدرة على سحب الاعتراف الاجتماعيّ والسياسيّ به؟ ألم يمتنع ذلك الاعتراف أكثرَ بتعذّر كلّ صلوحيّة للاستعمال الفلسفي أمام التّقنيات التي تضمن التّمكّن من الحياة في عصر التقدّم العلميّ؟ والحال هذه، كيف لا تتهافت الفلسفة ولا يتآكل الفيلسوف، وهو إمّا مُنشغل بتبرير وجوده أو مهموم بالسّعي، غير المُجدي، لنيل الاعتراف؟
الكلمات المفتاحيّة: الفلسفة – الأزمة – الإيديولوجيا – الثّقافة – الاعتراف.
Abstract:
There is no doubt that the philosophical statement becomes more exciting speech when it is injured by the whips of its self-injury. However, is also likely to argue that the crisis of philosophy is an opportunity for renewal, by addressing the factors that have contributed to the crisis. In addition to the failure of the ideological orientation of the philosophy teacher to convince of the nobility of his profession, by insisting on the needs that philosophy claims to satisfy; the philosophical thought however, experiences the depth of the crisis-dilemma, between the inability to convince of the importance of philosophy, on the one hand, and justifying that it is ef great benefit, on the other hand. Doesn’t the philosopher realize that his claim to absolute ownership is just an illusion? Didn’t he overestimate his own influence in society and politics? Hasn’t the rise of science and technology led to a decline in the importance of philosophy? Given the challenges that philosophy faces, how can Philosophy not collapse and the philosopher not be devoured, while he is either preoccupied with the futile pursuit of recognition?
Keywords: Philosophy – Crisis – Ideology – Culture – Recognition.
1- الفيلسوف بين إحراج “إيديولوجيا المهنة” ومخاطرها:
[26][2] “عند طرح مثل هذا سؤال: “لِمَ نُواظبُ على مُمارسة الفلسفة؟”، ونظرًا إلى مسؤوليّتي عن هذه الصّياغة، رغم أنّني لست أصمًّا تجاه رنين الهُواة الذي يتضمّنه السّؤال، سنخمّن الإجابة بشكل عامّ، وسنتّبع منهجًا فكريًا يجمع كلّ الصعوبات وأشكال التردّد المُحتملة، حتّى يُفضي في النّهاية إلى غايته، بطريقة حذرة إلى حدٍّ ما. “وبضربٍ من التّحدّي” نؤكّد على ما جعل من هذه المسألة موضوع شكٍّ بلاغيٍّ.[22] ويتوافق هذا المسار المشهور مع الموقف الدّؤوب والاعتذاريّ؛ إذ يُعدّ نهجا إيجابيًّا ويُنسَبُ إلى العضويّة مُسبّقًا. وعلاوة على ذلك، لا نتوقّع شيئًا أفضل من شخص تتمثّل وظيفته في تدريس الفلسفة، الذي يعتمد وجوده البرجوازيّ على حقيقة أنّه ما يزال يُمارس ويُقوّض مصالحه الواضحة، عندما يقع التّعبير عنها على نحوٍ عكسيٍّ. ومع ذلك، لديّ بعض الحقّ في طرح السؤال، لمجرّد أنّني لست متأكّدًا، تمامًا، من الإجابة”.
نادرًا ما جرى طرح المشكلة بقدر من الوضوح والأهمّية كما هو الحال، هنا، من قبل أدرنو (Adorno). إنّ محاولة تبرير الفلسفة كنشاطٍ مهنيٍّ هي محاولة مشروعة وذات مصداقيّة، فقط إلى الحدّ الذي يُمكّنها من عدم إعطاء الانطباع بأنّ الإجابة معروفة مسبّقًا. وليس بديهيًّا أنّ الفلاسفة سيجعلون وضعهم أسوأ بكثير من خلال الاعتراف، صراحة، أنّهم إذ يدافعون عن الفلسفة يدافعون، أوّلاً وقبل كلّ شيء، عن مكانتهم الاجتماعيّة، (سواء كانوا يتّمتعون بامتياز أم كانوا في حلٍّ من ذلك)، وعن وسائل وجودهم، حيث نتساءل، على أيّ حال، عمّا إذا كانوا قد نجحوا في إقناع الشخص العاديّ بأنّهم فعلوا شيئًا آخر حقًّا. على نحو ما قال نيتشه، في موضعٍ آخر، “نحن نفهم اللّاتينية، لكن ربّما نفهم، أيضًا، مصلحتنا”. واعتبارًا لوِجهةِ النّظر التي تولّدها “إيديولوجيا المهنة”، فإنّ جميع المهن في جوهرها نبيلة، لأنّها تقوم على نكران الذات ولا غنى للإنسانية عنها. والفلسفة، مَثلُها مَثلُ أيُّ نشاطٍ، لا تكون منفعتها الاجتماعيّة واضحة أو محدّدة بوضوح، نجدها تقصدُ إلى تبرير نفسها بإقناع نفسها، في أغلب الأحيان، بافتراض وجودٍ والإلحاح على الحاجاتِ التي تدّعي إشباعها.
ففي ما يتعلّق بهذا السؤال هناك موقفان محتملان، فقط، على نحو ما يلاحظ فاليري ( Valéry): “إنّ ما يمكن الاعتراض عليه في شأن الفلسفة هو أنّها عديمة الفائدة، بينما تجعل النّاس يعتقدون أنّه يمكن استخدامها في أيّ شيء وفي كلّ شيء. [23] يمكن، من خلالها، تصوّر نمطين للإصلاح الفلسفي: أحدهما، وهو التّحذير من أنّها لن تكون ذات فائدة؛ – وهذا سيكون لتوجيهها نحو حالة الفنّ وإعطائها جميع الحرّيات بالإضافة إلى العوائق الشّكليّة – أمّا النّمط الثّاني فهو ما من شأنه، على العكس من الأوّل، حثّ الفلسفة على أن تكون قابلة للاستخدام ومحاولة جعلها مماثلة لذاتها، وذلك بالبحث عن شروطها. ولكن من الضروريّ، قبل اتّخاذ جانب أو آخر، أن نُدرك، بوضوح شديد، ما هو المقصود بالخدمة وبالمنفعة”.
يُمثّل كلّ من الرأيين مخاطر واضحة. فمن ناحية، لا جدال في أنّه “بدون الطفيليّات واللّصوص والمغنّيين والمتصوّفين والرّاقصين والأبطال والشّعراء والفلاسفة ورجال الأعمال ستكون الإنسانيّة مجتمعًا حيوانيًّا. أو لا يكون مجتمعًا أو أيّ نوع من الأساس؛ ستكون الأرض بلا ملح “. ولكنّ الاعتراف، صراحةً، بأنّ الفلسفة ليست سوى واحدة من الأنشطة العديدة التي لا مبرّر لها و “الطّفيليّة” التي تتحمّلها المجتمعات المتقدّمة بل وتشجّعها، أحيانًا، والتي تتميّز بحقيقةٍ مفادُها أنّ أيّ محاولة لتعيين وظيفة اجتماعيّة مُحدّدة للفلسفة، من شأنه أن يجعلها تُجازف بتعرّضها للخطر، هو تنازل خطير إذا أصرّ المرء، علاوة على ذلك، على الدّفاع عنها، وإذا أمكنَ، تعزيز موقفه الخاص الذي يحتلّه في نظامنا التعليميّ، وتبرير الدّور المتميّز الذي يتضمّنه في انتسابه إلى التكوين الفكريّ والأخلاقيّ للإنسان وللمواطن. من ناحية أخرى، من الواضح أنّ النّشاط الذي يدّعي، صراحة، أنّه يخدم غرضًا ويعتقد أنّه يمكن أن يفسّر سبب ذلك، يُعرّض نفسه، بالضرورة، ليكون موضوع انتقادٍ وفقًا للنتائج الملموسة التي يحصل عليها؛ ولا يمكنه الهروب أبدًا من الالتزام بتوفير أدلّة ملموسة على “فائدتها” المفترضة، من وقت لآخر على الأقلّ.
اعتاد الفلاسفة المحترفون الدّفاع عن الفلسفة من خلال تقديمها على أنّها تخصّص “نقديّ” بامتياز، أي ممارسة وظيفة أساسيّة [24] لأجل أيّ مجتمع يرغب في أن يظلّ مُدركًا لطبيعته الحقيقيّة، ومُدركا لما هو عليه، على عكس ما يمكن أو ما يجب أن يكون؛ ذلك أنّ من واجب هذا المجتمع الاعتراف بالفلسفة ومنحها الجزاء. لكن، إنّ أقلّ ما يمكن قوله، على وجه التحديد، هو أنّ النتائج التي يمكن أن تدّعيها الفلسفة، على نحو هذا الترتيب، ليست بالضرورة مقنعة للغاية.
فإذا أخذنا في الاعتبار، على سبيل المثال، تطوّر الفلسفة الفرنسيّة خلال الأربعين عامًا الماضية، فإنّنا مُضطرّون إلى مُلاحظةِ، في المجال الذي تَشكّلَ لها كما يصفه ديكومب (Descombes) “بالاختبار الحاسم”، أي اتخاذ موقف سياسيّ، على وجه التحديد؛ أنّ الفلسفةَ ميّزت نفسها، قبل كلّ شيء، من خلال ما لا يمكننا أن نُدركه، اليوم، إلاّ على أنّه حالة استثنائية من اللّاوعي والعمى ، وثانيًا ، من خلال قدرة رائعة على التقرير بعد ذلك، كما لو كانت وما زالت أخطاء وأوهام الجميع، في الواقع، هي أخطاؤنا وأوهامنا من الأساس.
كتب أدورنو: “إذا كانت الفلسفة ما تزال ضروريّة، فهي كما كانت دائمًا، كنقد، وكمقاومة ضدّ التّوسّع في عدم التّجانس، كمحاولة، مهما كانت عاجزة، تجعل هذا الفكر في سعيه حتى يبقى مالكا لناصيته بنفسه، ولأجل الإقناع، وفقا لمقياسه الخاصّ، بزيفِ كلّ الأساطير، التي يصنعها المرء، فضلا عن التكيُّف المُستسلم المصحوبِ بإيماءة الصّرامة “. ولكنّ المشكلة تكمن في أنّ الفكر الفلسفي لم يعد ينطوي على الضّمانة، وبأيّ حالٍ من الأحوال، حتى يظلّ سيّدًا، دائمًا، على نفسه وعلى إنتاجاته الخاصّة. فليست الفلسفة “نقدا” بحكم تعريفها وإلى الأبد. إنّها تُساهم، أيضًا، في خلق أكثر أشكال الأساطير وضروب الخطأ، تميّزًا وثباتًا؛ فضلا عمّا يجب أن يكون لها، في نفس الوقت، من وظيفة التّنديد والمكافحة. فيزداد التّبايُن الفكريّ، الذي يتحدّث عنه أدورنو (Adorno) من خلال الخطابات الفلسفيّة، بما في ذلك الخطابات الأكثر نقدًا، على ما يبدو.
يمكن للفلسفة أن تأخذ، بل وتنجح إلى حدودٍ معيّنةٍ، في تحديد ما يعتبره العقل النقديّ الحقيقيّ [25] تعبيرًا نموذجيًّا بارزًا عن الدّوغمائيّة الأيديولوجيّة، والامتثال، في الوقت الحاضر، لأكثر أشكال النّقد قسوة وتعقيدًا. وبالتأكيد، لا يوجد شيء أكثر سذاجة وخطورة من تَمثُّل الفلسفة، إجمالاً، على أنّها تجسيد تامّ للوضوحٍ، وتمثُّلها، أيضا، في شكل حقيقة منزوعة السّلاح ومُنخرطة في حربٍ، احتمال خسرانها وارد مسبّقًا؛ ولكنّها تبقى، مع ذلك، أكثر نبلاً ومجدًا، ضدّ قوى الوهم والأكاذيب. وكأنّها (الفلسفة)، هي نفسها، لم يكن لها دور في هيبة، تلك القوى، وسيطرتهم ونوباتهم الشرّيرة !
2- الفلسفة ووهم سلطة السّيادة:
سيفهم القارئ أنّ عُذري الوحيد لطرح السؤال مرّة أخرى: “ما فائدة الفلسفة؟” وأنا لست متأكدًا، تمامًا، من الإجابة التي سأعطيها له، يتمثّل في هذا القول لأدرنو (Adorno): “ما له وظيفة يتمّ اكتشافه في سحر العالَم الوظيفيّ. فقط، الفكر الذي لا احتياطيَّ عقليَّ له وليس له من وهم الملكيّة الداخليّة شيء، هو ما يعترفُ لنفسه بأنّه ليس له وظيفة وأنّه لا حول له ولا قوّة، ربّما ينجحُ في سرقةِ نظرةٍ من نظامٍ ممكنٍ، من عدم الوجود، حيثُ يكون البشر وتكون الأشياء في مكانها الحقيقيّ. وبالنّظر إلى أنّ الفلسفة لا تصلح لشيء، وحتى من زاوية كونها ليست بالية بعدُ، فلا ينبغي لها أن تسود، إذا كانت لا تريد أن تكرّر خطأها بشكل أعمى، فتُقيم نصبًا تذكاريًّا خاصًّا بها”.
هذا الخطأ، وفقًا لأدورنو، هو إرث فكرة الفلسفة الدّائمة (la philosophia perennis)، التي تسمح للفلسفة بادّعاء أنّ “الحقيقة الأبديّة مكفولة لها بموجب مرسوم”. ربّما لا يوجد العديد من الفلاسفة، اليوم، الذين ما زالوا يدّعون، في انضباطهم، هذا النّوع من التّبرير الذّاتيّ الكافي، والامتياز الرّسميّ، أو حتى، ببساطة، أولئك الذين يستمرّون في الاعتقاد أنّهم يكشفون الحقائق الفلسفيّة لمسألة الأنواع كلّها. لكن من الواضح أنّ الفلسفة سترتكب خطأً كارثيًّا، تقريبًا، في تخيّل أنّ احتكار الحسّ النّقديّ وروح المقاومة، كان، بطريقة ما، ممنوحًا لها بمرسوم، وأنّه في حالة عدم وجود علاقة لها مُميّزة مع الحقيقة، يكون لديها، على الأقلّ، قدرة خاصّة جدًا على الاعتراف باللاّ – حقيقة، وإدانة إساءة استخدام القوّة الفكريّة بجميع أشكاله.
[26] “إنّ كلّ من يُدافع عن شيء ما تُقصيه روح العصر، لأنّ الزّمن عفا عليه وصار لا لزوم له؛ فهو، في تقدير أدرنو (Adorno)، يضع نفسه في أكثر المواقف غير اللّائقة. إذ تُعطي حُججه الانطباع بوجود عجز فعليٍّ لديه. نعم، ولكنْ فكِّرْ، فقط في الأمر، كما قال أدرنو، كما لو كُنتَ تُحاول إقناع الناس بقبول شيءٍ لا يُريدونه. يجب على من لا يرغب في الابتعاد عن الفلسفة أن يأخذ في الحسبان هذه الكارثة، أو هذا المصير الحتميّ. لزامًا عليه أن يعرف أنّ الفلسفة لم تعد صالحة للاستعمال في التّقنيّات التي تضمن التمكُّنَ من الحياة – التّقنيات بالمعنى الحرفيّ والمجازيّ – والتي تتداخل معها بطرق عديدةٍ. كما أنّها لا تقدّم، نهائيًّا، وسيلةَ تعبيرٍ للثقافة، كما كان الحال عصرَ هيغل (Hegel)، لفترةٍ أو لبضعةِ عقودٍ قصيرةٍ، كانت فيه الطبقة الرّفيعة من المثقّفين الألمان، في هذه الحقبة، مفهومة بلغتها الجماعيّة لعقودٍ قليلةٍ. (…) لقد كانت الفلسفة هي أوّل تخصّص يستسلم، في الوعي العام، لأزمة المفهوم الإنسانيّ للثّقافة، والتي لستُ بحاجة إلى مناقشتها بإسهاب بعدُ، منذ وفاة كانط (Kant)، تقريبًا، إذ وضعَتْ الفلسفة نفسها موضع شكٍّ من خلال علاقاتها السيّئة مع العلوم الوضعيّة، وقبل كلّ شيء علاقتها المُختلّة بعلوم الطبيعة، على نحوٍ أخصّ”.
ردّت الفلسفة على هذه الأزمة من خلال محاولاتِ استعادةٍ مُقنعةٍ، إلى حدّ ما، والتي كانت، في الواقع، بمثابة إنكارٍ محضٍ وبسيطٍ للأمر الواقع، هذا من زاويةٍ؛ أمّا من ناحية أخرى، فقد تمثّل ردّ فعلها في القيام بتطرّف منهجيّ من النوع الذي نلاحظه، نحن اليوم، أكثر فأكثر، والذي يهدف إلى تعجيل أو حتى استباق حركة تاريخيّة يتعذّرُ إلغاؤها، فضلا عن محاولة ضمان خدمة الفلسفة في أشكال تضعها، أحيانًا، في تعارُض صريح مع تقليدها الخاص؛ وإنّ أحد أكثر الكائنات نموذجيّةً وانتحارًا هو ذاك الذي يتألّف من اختيار الذّهاب إلى أبعد ما يمكن، أي في اتّجاه الهِواية والتّضييق والغبطة، التي تنتقدها بشكل عامّ العلوم الوضعيّة.
إنّ هذين الموقفين المتطرّفين اللذان يوجد بينهما، علاوة على ذلك، كلّ أنواع “الحلول” الوسطى، تتعايش وتتعارض بانتظام داخل نفس النّظام، ما هي إلّا واحدة من أكثر الدّلائل الملحوظة لحقيقةٍ مفادُها: أنّ فكرة الفلسفة أصبحت إشكاليّة، تمامًا، بالنّسبة إلى الفلاسفة [27] أنفسهم؛ ولم تعد كذلك، ولو للحظات، إلّا عندما تتطلّب، ضرورة، مواجهة تهديد خارجيّ، حقيقيّ أو مُفترض، يقضي بتحقيق بعض الإجماع الظاهري.
يمكننا، ودون أن يتمّ إغراؤنا بالعودة إلى فكرة الفلسفة الدائمة، أنْ نتأكّد من أنّ أهداف الفلسفة لا تختلف اختلافًا جوهريًّا، اليوم، عمّا كانت عليه، دائمًا؛ وأنّ الحفاظ عليها وتحقيقها هو أكثر صعوبة. لقد كتب راسل (Russel): “لا أعتقد أنّ مهامّ الفلسفة في عصرنا، على الأقلّ، تختلف عمّا كانت عليه في حقب سابقة. يبدو لي أنّ للفلسفة قيمة دائمة لا تتغيّر، إلّا في هذا الصدد: وهو أنّ عهودًا معيّنة تنحرف على نطاق أوسع عن الحكمة أكثر من غيرها، بما يُفيد حاجتها الأكبر للفلسفة، ولكنّها حاجةٌ مُقترنة باستعداد أقلّ لقبولها (الفلسفة). إنّ عصرنا، في كثير من النواحي، عصرٌ لا يمتلك الكثير من الحكمة، وتبعًا لذلك يستفيدُ بشكل كبير ممّا يجب أن تعلّمه الفلسفة”.
لكنّ الافتقار إلى الحكمة، الذي يُميّز العصر الحالي قد لا يظهر، فقط، في ما يميل الفلاسفة المحترفون إلى تأويله على أنّه رفض للفلسفة، بشكل عامّ. إذ يُمكننا القول، بلا شكّ، إنّ عصرنا يتميّز، أيضًا، من غيره بالحاجة الجامحة إلى الفلسفة، والتي تكون على استعداد لإشباع نفسها بأيّ وسيلة وبأيّ شيء، تقريبًا؛ ولكن، في نفس الوقت، مع الافتقار التامّ للحكمة في الفلسفات التي يقبلها هذا العصر، والتي يتعرّف فيها على نفسه عن طيب خاطر.
3- في الاستسلام لأزمة المفهوم المعاصر للثقافة:
لقد أصبح الاستنكار هو من الأفكار المهيمنة، على الفلاسفة المعاصرين. لأنّ الهوس بالكفاءة التّقنيّة والإنتاجيّة الاقتصاديّة، الذي يميّز العالم اليوم، يميل إلى تقليلِ نشاطٍ “عديم الفائدة”، عادة، كما هو حال الفلسفة في حفاظها على بقائها وقد عفا عليها الزمن. ولكن إذا كانت الثّقافة المعاصرة مهيمنة كلّيّا، كما تقترحها ضرورات من نوع وظيفيّ وذرائعيّ، [28] فمن السُخف والسُخريّة، تمامًا، محاولة تبرير وجود الفلسفة للقادة السياسيّين، بالإصرار على حقيقة مفادها: أنّها نشاط لا يخلو من أيّ نوع من المسؤوليّة، فحسب، بل تمثّل، أيضًا، خطرًا، دائمًا، على النّظام القائم وتتمثّل وظيفته الأساس في الطّعن فيه وزعزعته، بما أنّ هذا يرقى إلى حفظ أشخاصٍ لا يستطيعون فهم لُغة الذي بدأَ بإعلانِ: أنّه، في الواقع، غيرُ قابلٍ للفهم على الإطلاق.
وعلى العكس من ذلك، إذا لم تكن الجدوى معيارًا، حصريًّا، كما نعتقد؛ وإذا كان من المناسب، من ناحية أخرى، كما يؤكّد بوبر (Popper)، الانتباه إلى أنّ من سمات المجتمعات الديمقراطيّة تحمُّل ما تتعرّض له من نقدٍ، بل وحتّى تقبُّل ما يُثارُ حولها من نقاشٍ نقديٍّ، في أغلب الأحيان، بما في ذلك مناقشة أُسُسهم الخاصّة، بدلاً من اعتباره تهديدًا آليًّا لوجودهم، (والحال هذه)، يكونُ من السُّخف التّحدّث، في مجتمعات من هذا النّوع، عن ضرب من المؤامرة الضّمنيّة أو الصّريحة للسّلطة السّياسيّة ضدّ الفلسفة بشكل عامّ.
إنّ ما هو قيد البحث ليس الفلسفة نفسها، ولكن نوع الاعتراف الرّسمي والدّعم المُؤسّسي، الذي تحتاجه وتُطالب به، من أجل التمكّن من ممارسة هذه الوظيفة النقديّة بشكل فعّال. وهي ليست، من حيث الشرعيّة، محلّ نزاعٍ، بشكلٍ أساسيٍّ.
من الواضح أنّ هذا الإقرار بالمبدأ متوافق، تمامًا، من النّاحية العمليّة، مع الاستخدام المُنتظم لأكثر الإجراءات تعسّفيّة والأكثر خداعًا، والتي تسمح، عمومًا، لمن تستهدفهم بنزع سلاح أو تجنُّبِ أو منعِ الحرج. لكن، في هذه النّقطة، لا يختلف الوضع كثيرًا عمّا هو عليه داخل الدّوائر الفكريّة نفسها. فلا ينبغي على الفلاسفة، مثلا، أن يتوقّعوا المُعاملة بمزيدٍ من الصّبر والتّفهُّم والإنصاف، من قبل المجتمع الذي يُعلنون عن إنكارهم له. إذ أحيانًا ما تكون الحرب (التي يشنّونها) علنيّةً، أكثرَ ممّا يظهرون في نقاشاتهم وصداماتهم الدّاخليّة.
إنّ إضفاء الطابع المؤسّسي على الفلسفة، في أيّ شكل يتخذه، يطرح مشكلة، حتمًا. لأنّه من الصعب فهم كيف يمكن للنشاط، الذي لا يتألّف من استخدام طرق مُعترف بها ومُثبتة للوصول إلى نتائج مُحدّدة، أن يؤدّي، مع ذلك، إلى ظهور تكوين فئة من المتخصّصين [29] الذين يجعلونها مهنتهم. ولا شكّ أنّ معظم الفلاسفة يتفقون مع جيلنر (Gellner) في أنّ “الفلسفة، بشكل عامّ، هي مناقشة الأشياء الأساسيّة، والخصائص والمشكلات المركزيّة للكون، وحياة الإنسان، والمجتمع، والعلم “. ولكن، إذا قبلنا هذه الأنواع من التعريف، فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحديد نوع التدريب والتأهيل، والتقنيات، والمنهجيّة، والكفاءة أو الموهبة المطلوبة لمنح شخصٍ ما فرصة معقولة لتحقيق نتائج ذات مغزى في تخصّص، ما، مثل الفلسفة.
علاوة على ذلك، من الواضح أنّ الفلاسفة، أنفسهم، ليس لديهم سلطة مباشرة على الأوضاع والظروف التاريخيّة والثقافيّة التي تجعل من الممكن والضروري الحصول على نتائج من هذا النوع. كما يشير جيلنر (Gellner): “إنّ إنتاج الأزمات المفاهيميّة الأساسيّة، التي تتطلّب إعادة توجيه فلسفي لا يمكن التنبؤ به أو تنظيمه”. ويجب، ببساطة، أن يكون المرء ساذجا للاعتقاد بأنّ للفلسفة، ذاتها، وسائلَ إبقاء جميع الأنظمة المفاهيميّة في حالة أزمة دائمة.
هذا هو السّبب في أنّ نوع الوهم، الذي نجده في أساس أغلب محاولات الدّفاع عن الفلسفة وتوضيحها، والتي ننغمس فيها، حاليًّا، في سياق الفلسفة الفرنسيّة، (صحيح نوعا ما). وليس أدلّ على ذلك من المشروع الذي يجري إنشاؤه، مؤخّرًا، ألا وهو “المعهد الدّولي الفلسفة”. فلم تعد الفلسفة تمتلك تقليدًا يمكنها المطالبة به؛ وقد أصبح عدم الاستقرار وحالة القطيعة المستمرّة (مع موضوعاتها) هي، بالنسبة إليها، حالة طبيعيّة ودائمة؛ وصار من مهامّها إثارة، أو استغلال، حالات الأزمات بكلّ الطرق المُمكنة في جميع القطاعات الأخرى للثقافة المعاصرة.
لذلك تبدو الفلسفة، أكثر فأكثر، أشبه بفضوليّ متطفّل، مشغول في كلّ مكان، وداخل عصر يعتقد أنّه مُورّط فيه، طوال الوقت. أو لديه، على أيّ حال، الانطباع الدّائم، أنّه لا يتحرّك بسرعةٍ كافيةٍ وأنّه مُتحمّس، فقط، للجدّة الفكريّة؛ ولكنّه لا يخشى شيئا، في الوقت ذاته، [30] طالما استمرّت حماسته، بما يكفي، لتصبح قابلة، فعلا، للاستخدام.
[1]- jacques bouveresse, Le philosophe chez les autophages, Les editions de minuit, 1984. Pp. 21-30
[2]– ملاحظة أولى: الأرقام الواردة في الترجمة بين معقّفين هي أرقام الصفحات المتطابقة مع أرقام صفحات النص الأصلي الفرنسي.
– ملاحظة ثانية: العناوين الفرعيّة، الواردة في الترجمة العربيّة، هي من اقتراح المُترجم تيسيرا على القارئ متابعته للنصّ.
– ملاحظة ثالثة: يُذيّل النص الفرنسي الأصلي هذه الترجمة بداية من الصفحة 9.