التربية على القيم

التربية على القيم

أصبح من المعلوم أنه لا يمكن لأية أمة أن تنشد التنمية الشاملة دون أن يكون لها نظام تربوي قوي بكفايتيه الداخلية والخارجية. ولا يمكن لأي نظام تربوي أن يكون كذلك، إلا بمدى قدرته على تخريج أفواج مؤمنة بقيمها وأصالتها من جهة، وخبيرة مدربة في مجال العلوم والتقنيات من جهة أخرى. وذلك لأن التنمية الشاملة لا تعتمد على الكفايات والمهارات والمعارف التي يستطيع المتعلم امتلاكها فحسب، بل أيضًا على القيم التي يتمسك بها، وعلى المواقف والاتجاهات التي يتخذها اتجاه كثير من الأمور في المجتمع، ومنها اتجاه العمل وطبيعته، والزمن واستثماره، والتعاون ومداه، فعلى مثل هذه الجوانب الوجدانية والخلقية والإرادية في الإنسان، وعلى ما فيها من الإيجابيات تعتمد التنمية الشاملة إلى حدّ بعيد، وأهميتها لا تقل عن أهمية الجوانب المعرفية فيها.

ومن ثَمَّ، فإن تغيير المجتمع لا بد أن يتم من خلال تغيير الإنسان، أي أننا لا نستطيع تغيير المجتمع إلا إذا غيرنا الإنسان، وتغيير الإنسان لا يتم إلا من خلال إعادة بناء نسقه القيمي الذي يُعدّ مدخلًا مهمًا لتغيير أنساقه المعرفية والعلمية، من أجل أن يُضبح مشاركًا فعّالًا في تنمية مجتمعه على المستويات كافة. لهذا، تُعدّ القيم واحدة من القضايا التي دار حولها جدل كبير نتيجة التغيرات السريعة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، ولاسيما مع تنامي موجات العولمة، وما رافقها من تطورات هائلة في شتى المجالات المجتمعية، وما أحدثه ذلك من تغيرات في النسيج الاجتماعي والثقافي.

لذا أصبحت القيم في نظر علماء الاجتماع عنصرًا مهمًا من عناصر البناء الاجتماعي، تتطور بتطور المجتمع الذي توجد فيه، فالقيم نسبية في ثقافة أي مجتمع وليست مطلقة، وتختلف من مجتمع لآخر، فلكل مجتمع ثقافته، ولكل مجتمع معاييره الاجتماعية. وقد ذهب إلى هذا عالم الاجتماع الفرنسي “أميل دوركهايم” عندما نظر إلى القيمة بوصفها الجانب المعياري للحياة الاجتماعية، وأكد على دور نسق القيمة في تحديد السلوك الاجتماعي (دوركهايم، 1996: 75)، وهذا يؤكد ضرورة أن تقوم المؤسسات التربوية كافة على الاهتمام بالتربية على بالقيم، فكيف يتم ذلك؟

لا شك أن التربية على القيم تنطلق من كون القيم نسق من المبادئ والمثل والأفكار الموجهة لسلوك الفرد وتصرفاته، ومواقفه واتجاهاته، ولا قيمة للقيم إذا وظفت في شعارات مجردة، ولم تتجسد في مواقف الأفراد والجماعات وسلوكياتهم، كما أنها لا تنحصر في الأخلاق الدينية كالصدق والأمانة والتواضع مثلًا، وإنما تتسع لتشمل مجموعة من المجالات، إذ نجد القيم الإنسانية، كالتسامح والحوار والسلام وحقوق الإنسان.. وكذلك القيم الاجتماعية كالتضامن، والوطنية، والتضحية، والقيم الشخصية كالصبر والشجاعة والكرم.. إلى غير ذلك.

مع التأكيد على أهمية دور المؤسسات المعنية في إكساب القيم والتنشئة عليها في إطار عملية التربية على القيم، وهذه العملية تتطلب وسائل تربوية متنوعة، كما تحتاج إلى الاجتهاد في اختيار أحسنها وأنسبها. هنا يمكن تجاوز التوجهات المتمركزة حول المدرس ومحتويات المنهج، لأنها تنتهي بالناشئ إلى حالة من الخمول العقلي وتعزز لديه أمراض التعصب، والانغلاق على الرأي، خلاف التوجهات التي تتبنى وظيفة المحتوى وفعّالية المتعلم، والتي تدفعه إلى تطوير الكفايات واكتساب القيم من خلال مشاركته في بناء المعلومات عن طريق الاكتشاف والفعّالية، وعن طريق الاستماع والمحاكاة، مما يساعده على الانفتاح وتقبل الرأي المختلف.

ومما يستحق التنويه إليه، أن المؤسسات التربوية النظامية يجب أن تراعي في تربيتها على القيم ثلاث مكونات: أولها، المكون المعرفي: يشمل هذا المكون المعارف والمعلومات النظرية التي تتصل بالقيمة المراد التربية عليها، وعن طريقه يمكن تعليم هذه القيمة من حيث أهميتها وفوائدها، وما تدل عليه من معاني مختلفة ودلالات تربوية. وثانيها، المكون الوجداني: يشمل هذا المكون الانفعالات والمشاعر والأحاسيس الداخلية التي لا تظهر، وعن طريقه يميل الفرد إلى قيمة معينة. كما يتصل هذا المكون بتقدير القيمة والاعتزاز بها، فضلًا عن أنه يُشعر الفرد بالسعادة لاختيار القيمة، ويعلن الاستعداد للتمسك بها على الملأ. وثالثها، المكون السلوكي: هذا الجانب هو الذي تظهر فيه القيمة على أرض الواقع، فالقيمة تترجم إلى سلوك ظاهري عن طريق التفاعل (جيدوري، 2019: 14).

من هنا، يتعين التفكير في كل تربية باعتبارها تربية على القيم وليس مجرد نقل لها، فالمؤسسة التربوية هي الفضاء الذي تتم فيه تقييم ما هو أخلاقي وجمالي وسياسي، وإذا انتفى التقييم انتفت المسؤولية وسادت اللامبالاة، لذا ينبغي، من منظور القيم، أن تكون المؤسسة التربوية نموذجًا للمجتمع وليس العكس، لذلك علينا أن نبحث عن تسامي القيم داخل المؤسسة التربوية. فداخل كل مجتمع تؤكد القيم على ضرورة التسامي لمواجهة خطر اللامبالاة والسقوط في اللامعنى.

كما أن التربية على القيم تفتح المجال لتوظيف وتفعيل المعارف والمهارات التي تم اكتسابها، كما أنها تضفي على القيم واقعية، إذ تقدمها في سياق عملي، مع التأكيد على أهمية أن تتبنى وزارات التربية العربية مشاريع تربوية بهذا الخصوص، لأن القيم تُساعد المجتمع على تماسكه، وتُحدد له أهدافه ومثله العليا ومبادئه المستقرة، ومن ثَمَّ يستقيم المجتمع في وحدة واحدة تحفظه من التشرذم والفرقة، وذلك لكون القيم بمثابة الميزان الذي توزن به الأشياء، أي تُعدّ معيارًا لما يُقبل أو يُرفض من السلوكيات.

يبقى أن أشير إلى ما قاله الفيلسوف الوجودي “كيركيجارد” وهو يؤكد على أهمية القيم في الحياة الإنسانية، يقول: “صحيح أننا نتعلم لكي نصبح عمالاً أكفاء أو أطباء مختصين أو موظفين إداريين، لكننا لن نكون كذلك من دون إطار قيمي نُمارس أعمالنا وفق ما يرتضيه المجتمع، وأن جميع شهادات ومهن الدنيا لن تشبع رغبتنا في المعرفة، ولن تعالج قلق وجودنا في هذا العالم إلا إذا اتخذنا من القيم موجهاً ومرشداً يدلنا على الطريق الصحيح” (العوا، 1986: 46).

وهكذا، يتضح كيف أن التربية يجب أن ترتبط بالقيم باعتبارها عملية قيمية أصلاً، فالحديث عن التربية لا بد أن يكون ملازماً للقيم، لأن هذا التلازم يعني رؤية معينة للإنسان والمجتمع والعالم، فما أحوجنا في هذه الظروف الصعبة التي تعصف بالمجتمعات العربية على المستويات كافة إلى تعزيز ثقافة القيم أولاً، ثم العمل على تمكين الأجيال من السلوك بمقتضاها، فالإعلاء من شأن التربية على القيم، والعمل على تعميمها يؤدي حتماً إلى أن يُصبح الإنسان أكثر حرية وكرامة، في حين أن الحط من قيمتها والتقليص من دورها يرسخ الجهل والاستبداد، ويسبب على المدى البعيد انهيار النظام الاجتماعي برمته.


المراجع:

  1. جيدوري، صابر (2019) القيم الجامعية، المدينة المنورة، منشورات جامعة طيبة.
  2. دوركهايم، إميل (1996) التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دمشق، دار معد للطباعة والنشر والتوزيع.
  3. العوا، عادل (1986) العمدة في فلسفة القيم، دمشق، دار طلاس للنشر والترجمة والتوزيع.

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد