الملخّص:
أثار “تقرير الحريّات الفرديّة والمساواة” في تونس جدلا فكريا وفقهيا نتيجة اعتماده معالجة أحادية في مستوى الرّؤية الفلسفية والمرجعيّة القانونية؛ فقد هيمنت على متونه الفلسفة اللّيبرالية ومقاربتها “الفردانية”(L’individualisme) والبراديغم “اللائكي”(La laïcité) لمنظومة حقوق الإنسان، والنّظر إلى الرّجل والمرأة نظرة بيولوجية صرفة. لهذا، يحتاج هذا التّقرير، إلى قراءة علمية نقديّة تسمح لنا بفهم الخلفية الفكرية التي توجّهه، وكشف أبعادها الأيديولوجية المخفيّة أو المسكوت عنها التي تستهدف تفكيك الأنساق الثقافية والقيمية الضّابطة للعلاقات وللسّلوكيات الفردية والجماعية في المجتمع التونسي.
الكلمات المفاتيح: الفلسفة الليبرالية ــ العلمانية ــ اللائكيّة ــ سوسيولوجيا القانون ــ الحداثة ــ الهوية.
Abstract:
The report on”Individual freedoms and Equality” in Tunisia sparked an intellectual and jurisprudential controversy as a result of its adoption of the unilateral philosophical vision and legal reference. liberal philosophy its “individualist” approach, and the blaming paradigm of the human rights system, and looking at men and women with a purely biological view, have permeated its content.
Therefore, this report needs a critical reading and a scientific vision that allows us to understand the philosophical background that guides it, and to reveal its social and symbolic dimensions hidden or untouched, which aims to dismantle the cultural and value systems that govern the relations and behaviors of individual and collective behaviors Tunisian society.
Key words: liberal Philosophy – Secularism – Sociology of Law – Modernity – Identity.
1- المقدمة:
بعد الأحداث السياسيّة المهمّة التي شهدتها تونس عام 2011، تجدّدت الأسئلة وعاد السّجال بين النّخبة التّونسيّة حول مقوّمات هوّيتنا الوطنية التونسية وأسسها اللغويّة والدينية. ونُشر حولها العديد من الدّراسات ونُظّم فيها كثير من الملتقيات من قبل المنظّمات المدنية والجمعيات الثقافية التي تدعو إلى إعادة النّظر في مقوّمات هوية تونس العربية والإسلامية، حتى أنّ هناك من رفض مبادئ الفصل الأوّل من الدّستور التونسي (2014) الذي يؤكّد على أن “الإسلام هو دين الدّولة”، ودعا بعضهم إلى إعادة بناء مرجعياتنا القانونية ومنظوماتنا الثقافية التونسيّة على أسس المقاربة الثقافية والحقوقيّة الليبرالية ذات المرجعيّة “اللائكيّة”(La laïcité) اقتداء بالتّجربة الفرنسية.
وفي هذا السّياق الجدالي، يتنزّل مشروع “قانون الحرّيات الفردية والمساواة”، الذي جاءت مداخله المنهجية، ومرجعياته الفلسفية والتّشريعية، مستقاة كلّها من الجهاز “المفاهيمي”(Conceptual) للمقاربة الفلسفيّة الليبراليّة والمرجعيّة التشريعية اللائكية؛ فكانت أغلب مضامينه تدعو صراحة إلى تغليب قيم “الفردانية” وتفكيك كل سلطة أخلاقية واجتماعية ورمزية توجه سلوك الإنسان ــ فردا وجماعة ــ وتضبط علاقاته في المجتمع تحت عناوين وذرائع حقوقية وإنسانية. كما عالج هذا التّقرير قضايا الحرّيات والحقوق والمساواة بين المرأة والرجل في إطار ثقافي وديني صرف في محاولة للاقتداء بـ “النّموذج الفرنسي”، وتحميل المسؤولية، في ما تعانيه المرأة في تونس من تخلّف وظلم وعدم مساواة إلى الدّين الإسلامي، وتبرئة أو تجاهل بقية المؤسّسات والأفضية الأخرى، وكذلك العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثّرت، بشكل مباشر، في منظومة حقوق الإنسان في المجتمع التونسي. واعتمد هذا التّقرير مبدأ “الانتقائية” في العودة إلى عدد من النّصوص التشريعية والدّينية دون غيرها، وفي الاقتداء بالتّجربة الأوروبية عامة والفرنسية خاصة. لذلك، تميّزت مقاربته لحقوق الإنسان بأحادية الرّؤية، وهي من السّمات التي تعدّ في نظرنا أهمّ نقاط الضّعف التي ميّزت مشروع هذا القانون وتهدّد المنظومة الحقوقية “النّسوية” السائدة منذ الاستقلال التي يعتقد أصحابه أنهّم من المدافعين عنها.
سوف نكتفي في هذا المقال، ضمن القراءة السّوسيولوجية، بالإجابة عن الإشكاليتين الرّئيسيتين التّاليتين: ما هي خصائص الفلسفة الليبرالية في “الفردانية” و “اللائكية” التي استند عليها مشروع هذا القانون ضمن معالجته لحقوق الإنسان بشكل عام وقضيّة المساواة بين المرأة والرّجل بشكل خاص؟ وما هي طبيعة الأعراض الاجتماعية والثقافية التي سوف تتشكّل نتيجة فلسفته التفكيكيّة لروابط الجمعنة وقيم الأنْسَنة في الأسرة والمجتمع في تونس؟
2- في الضّوابط المنهجيّة للدّراسة:
تقتضي عملية تشخيص الظّواهر القانونية في المجتمع، في ضوء المقاربة السّوسيولوجية، الالتزام بمجموعة من الضّوابط المنهجية العلمية والموضوعية من أهمّها:
- ضرورة اعتماد المقاربة الدّينامية في دراسة الظاهرة القانونية في المجتمع، بحيث تمكننا هذه المقاربة من أن نُقدّم فهمًا عميقا وعلميا للمسارات التاريخية والتطورات والتحوّلات التي شهدها المجتمع التونسي ضمن تعبيراته القانونية والسياسية والاجتماعية والثقافية، في علاقة بمختلف مكوّنات هويّته العربية والإسلامية. فليس من الوجاهة أن ننساق وراء عملية “النّمذجة” و “التّنميط ” (Standardisation) الثقافي لحياة الشّعوب، أو خلق “معايير” أو “مقاييس” موحّدة وثابتة لكل تصرّفاتهم وممارساتهم وفي أسلوب حياتهم العامة والخاصة، والتي لم تؤدّ في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، على مدى أكثر من نصف قرن، إلا إلى تشويه ذاتيّتنا الثقافية وتأزيم نفسيّتنا الجمعيّة.
- تحرير المنظومة التّشريعية من الأسلوب الانتقائي والمقاربات “التّجزيئية” (Micro) في تناولها لمسألة الحريات والمساواة والحقوق وكأنّها ظواهر مفصولة عن أبعادها المجتمعية الأخرى التي تتأثر بها وتؤثر فيها. فالدّراسة الموضوعية لأيّة ظاهرة اجتماعية أو قانونية ينبغي أن تتم وفق المقاربة “الشّاملة” (Macro)، أي أن تعالج وفق أبعادها المتعدّدة والمتفاعلة مع بعضها (السّياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية والرمزية..)، ولا نخرجها من منهجية معالجاتها الموضوعية لكيلا نظلّ نعاود إنتاج المشكلات أكثر ممّا نطرح من حلول.
- ينبغي أن ننظر إلى حقوق الإنسان باعتبارها وحدة متكاملة غير قابلة للتّجزئة وهي ترتبط ببعضها ارتباطًا وثيقا، بحيث يستحيل إعطاء أولوية لبعض الحقوق أو الحريّات على حساب الأخرى. فحقوق الإنسان سواء أكانت مدنية وسياسية أم اقتصادية واجتماعية وثقافية هي حقوق متساوية غير قابلة للتّجزئة؛ فهي مترابطة ووثيقة الصلة ببعضها بعضا. ولهذا، لا يمكن لأيّ قانون يتعلق بحماية حقوق المرأة أن تكون له فاعليّة واقعيّة دون وجود تشريع قانوني يتصدّى بالمثل إلى انتهاكات حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية. ولعلّ صدور العهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسّياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان في وقت متزامن عكس إدراك “المجتمع الدّولي” لوحدة منظومة حقوق الإنسان وعلاقتها الجدليّة.
- على الرّغم من وجاهة طرح قضيّة الحقوق والحريات والمساواة في المجتمع، في سياقها المطلق، فإنّه لا يمكن أن تكون دائمًا معبّرة عن حاجات مجتمعية راهنة، أو تطرح حلولاً حقيقية وفاعلة لحل لأزمات السّياسية والثقافية البنيويّة القائمة فعلا في المجتمع. لهذا، فمن البداهة المنهجية أن نعالج هذه المسألة وفق مقاربة محلية (وطنية وعربية)، أي ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار في مجال سياق “المثاقفة” مع الآخر جميع المتغيرات الخاصة بمجتمعنا التونسي، خاصة أنّ “المنظومة الأنوارية ارتبطت بنظام الحداثة الأوروبي، الذي أطّرته ثورات علمية وسياسية واجتماعية مازالت غائبة عن صيرورة الأحداث، في التاريخ العربي المعاصر، ولكيلا يكون مشروع هذا القانون “مجرّد حلقة جديدة في مساعي التّحديث الفوقي” التي انخرطت فيها تونس منذ الاستقلال.
لهذا، وفق مقاربة علم الاجتماع القانوني، ينبغي علينا أن ندرس الأسباب العملية والوجاهة الأخلاقية والرّاهنيّة التي تكمن وراء وضع منظوماتنا القانونية لكي نساهم في ترشيد السّياسة التشريعية وعقْلنَتها من ناحية، ولكي نمكّن القضاء من ضبط اتجاهاتها وتحقيق مقاصدها من ناحية ثانية. ونعتقد أنّه يجب على المشرّع أن يلتزم بقاعدة ابستيميّة ومنهجيّة أكثر تكاملية، وهي أن تكون القوانين ذات صلة وثيقة بالحقول المجتمعيّة الأخرى الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي تؤثّر فيها وتتأثّر بها، لكي تتلاءم مع خصوصية هذه الحقول ومستوى تطورها.
3- حقوق الإنسان في الفلسفة اللّيبرالية:
إنّ فهم الموقف الفلسفي اللّيبرالي لحقوق الإنسان، فكرًا وممارسة، يتطلّب التعرف على مكوّنين أساسيين لهذا الاتجاه، أحدهما قيمي وأخلاقي، وثانيهما سياسي وسلوكي في المجتمع. فعلى المستوى القيمي والأخلاقي تنطلق النظرية الليبرالية كما هو معلوم من مفهوم “الحق الطبيعي” باعتباره حق فردي وليس جماعي ضمن بنية المجتمع، وهو ما جعل هذه المنظومة تُعْلي من شأن مصلحة الفرد على حساب مصلحة المجموعة والمجتمع. أما في الجانب السّلوكي، فقد تجسّدت هذه المقاربة منذ قيام الثورات الغربية (السياسية والثقافية والاقتصادية)، وتدعّمت عمليا مع بداية وضع الدّساتير في القرن الثامن عشر، فأخذت مسألة حقوق الإنسان تتبلور شيئًا فشيئًا، وانتقلت من “فكرة فلسفيّة” إلى “نموذج سياسي” ثم إلى “برنامج نضالي” ضد الطغيان وسعيا إلى التحرّر والانعتاق من جميع أشكال ظلم الأنظمة السياسيّة واستبدادها.
3- 1- حقوق الإنسان بين العلمانية والفردانية
استهدفت فلسفة التّنوير و”الحداثة” في أوروبا تحرير الإنسان من النّظام الميتافيزيقي “المقدّس”، والتحرّر من أيّة سلطة تهيمن على المجتمع بـاسم الشرعية الدينية ونظرية “الحق الإلهي”. وقد تمكنت العقلانية الفلسفية والثورات العلمية من تفكيك أسس الشرعية الدينية “الكنسية” التي استغلت الإنسان والطبيعة على امتداد قرون كثيرة، هذه “العقلانية لا تؤمن إلا بديناميتها الذاتية التي هي عبارة عن صيرورة لا بداية ولا نهاية لها”. ولكن الدّعوة إلى التحرّر المطلق باسم “العلمانية” في الغرب، مثلما يذهب العديد من الكتاب العرب والغربيين، لم يقض على الدّين المسيحي وتعاليمه ومنطلقاته الإنسانية في مختلف أبعادها الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية وفي ضمائر النّاس ووجدانهم وعقولهم، بل مازالت قائمة وموجّهة لعديد الممارسات وضابطًا ووسيطا للرّوابط الاجتماعية وخاصة في الحياة الأسرية.
بيد أن العلمانية تحولت عند بعضنا في مجتمعاتنا العربية إلى حركة فكرية وأيديولوجية تعمل على استبعاد كل الاعتبارات والمحدّدات الأخلاقية والسلوكيّة ذات المرجعية الدينية في ضبط سلوكيات الأفراد وفي تنظيم حياتهم داخل المجتمع. إذ تحوّلت هذه العلمانية ذات “البعد الواحد” إلى شكل من أشكال “الوثنية الحديثة”، وإلى حركة معادية للدّين. فالعلمانية رؤية دنيوية منفصلة عن الرّوحي وليست لها أيّة علاقة بالنص الديني؛ فهي حركة فكرية ذات منزع إصلاحي في الفكر الديني عارضت توظيفات “الدّين المسيحي” في المجال السّياسي الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى. ومثلما يذهب بعضهم، لم تكن العلمانية وصفة أو صيغة جاهزة قد تختار جماعة تاريخية معينة تطبيقها أو رفضها، بل هي فلسفة ورؤية للحياة وجملة من المبادئ وظاهرة تاريخيّة أوروبية مخصوصة. ولم يكن فلاسفة الأنوار في أوروبا يعادون الدّين المسيحي أو هدفهم رفض الدّين، وإنمّا ترسيخ الحرية والعقلانية، وإخضاع كل شيء إلى النّقد بما في ذلك العقائد الدّينية وممارساتها الاجتماعية والثقافية والسّياسية.
إنّ منطلق الفلسفة “الفردانية”(L’individualisme) هو تحقيق استقلال الفرد وتحرّره من جميع الارتباطات الاجتماعية والدينية التي تقيّد إرادته الشّخصية، ومن جميع الضغوطات التي تحدّ من التّعبير عن ذاتيته. لذلك، فإنّ معظم معاني الحرية في الفلسفة الليبرالية تركز على أبعادها الفرديّة السلبية مثل: الحرية الجنسيّة والمثليّة والتحرّر الاقتصادي والمنافسة الحرة دون خضوع آليات هذه الممارسات إلى أيّة ضوابط قانونيّة وأخلاقية. وباسم “الحداثة” و”العلمانية” و “التحرّر” و”حقوق الإنسان”، ت حوّلت القوانين إلى أداة تبشير وتنميط سلعي لروحية الإنسان وذاتيّته وباتت “مجرّد وهم جميل” ينعم بها المجتمع افتراضيا؛ حيث فقد الفرد في ظلّها عالمه الاجتماعي والإنساني الواقعي الذي أصبح بلا معنى وفاقدا لكل مرجعياته القيميّة اللاّحمة لروابطه الاجتماعية والثقافية مع الآخرين.
منذ أن تصاعدت وتيرة “النزعة الفردانية” في عالمنا المعاصر، وانتشرت قيمها وثقافتها، وتطبّع معها الأفراد في تدبير حياتهم العامة والخاصة، تحوّلت المجتمعات البشريّة إلى ذرّات غير متجانسة ولا مترابطة، وأصبحنا نعيش واقعا اجتماعيا ونفسيا متوترا و “تنازعيا متوحّشا لا يحتكم لأيّة قيمة إنسانيّة”، وبلغت درجة هذه الحالة لدى دعاتها مثلما يشير بعضهم إلى حد الوهم بحريّة الفرد في اختيار هويته واستبدالها، أو صنع هويته وتدميرها كيفما يشاء، أو هكذا يبدو الأمر من مقاصد الفلسفة الليبرالية. فمنطق السوق وقيم الفردانية في هذه الفلسفة تعمل على تحييدا لعقيدة الدينية والمرجعيات الأخلاقية والحضارية في تأسيس منظومة حقوق الإنسان واستبدالها بمرجعيات العقيدة الليبرالية الجديدة المذلّة لكرامة الإنسان.
3- 2- تعدّد المداخل والمقصد واحد: تهميش دور الدّين في التّشريع القانوني التونسي:
تعتمد الفلسفة اللّيبرالية مثلما هو معلوم ــ كتيار فكري وسياسي ــ في دراستها لقضية الحريات والحقوق والمساواة في المجتمع على المقاربة الثقافية، أي تعزي أسباب الاضطهاد والظلم والتّمييز في المجتمع إلى العوامل الثقافية فقط (الدين والعادات..). صحيح أنّه لا يمكن لأيّ مجتمع أن يعتمد منظومة قانونية جامدة وثابتة، وينبغي أن تكون هذه القواعد دائمة التغير والانفتاح والتأثر بمتغيرات الزّمان والمكان، ولكن عندما تكون النّزعة التغييريّة في منظومة حقوق الإنسان أحادية الرؤية وارتجالية وغير مدروسة فسوف تكون لها تبعات سلبية، لأنّ “الرّؤية الإصلاحية” التي انخرطت فيها تونس، منذ الاستقلال، كانت “اصطناعيّة تحرّكها عقلية المواجهة لنسج حداثة واجهة؛ حداثة مغشوشة تعمل على سطح المجتمع”.
ومن أبرز الأسئلة التي يثيرها هذا التقرير هو: هل أنّ مشروع هذا القانون يمثلّ حلاًّ لمشكل قائم فعلاً وعاجلاً، أم أنّه مجرّد محاولة وعملية “ولادة قيصرية” للمجتمع التونسي ” الجديد” وإعادة تشكيل هندسته الاجتماعية وفق المقاربة الليبرالية والمنظومة القانونية والأخلاقية للتجربة اللائكيّة الفرنسيّة؟
اعتمد التقرير تمشيا قانونيا يستند فيه على تقسيم رباعي للعناصر أو محددات الهندسة المنهجية للقانون وهي: النصوص المرجعية الوطنية والدولية والإقليمية، ثم عنصر الحجج ذات مرجعيات دينية وقانونية، والقسم الثالث المكوّن له يتمثل في الملاحظات ثم أخيرا نجد قسم المقترحات.
حدّد التقرير في المقدّمة ما سمّاها بـ “المقاربة الاجتماعية والدينيّة” التي اعتمدها في قراءته لمسألة الحقوق والحريات الفردية في تونس. وأوّل جملة استهلّ بها النص “يُولد الإنسان حرًا”. ثم ربط هذه العبارة الحقوقية التي أخذت من المادة الأولى من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” بشكل مباشر بمسألة دينية وفقهية وهي “حرية المعتقد”، واستشهد بجزء من الآية 29 من “سورة الكهف” “مَنْ شَاءَ فليُؤْمِن ومَنْ شَاءَ فلْيَكْفُرْ”، معلّلا ذلك الرّبط بالقول:” إنّ هذه الحقيقة أكّدها الإسلام بوضوح عندما رسّخ حريّة المعتقد”.
كما أشار إلى أنّ الإسلام قد تضمّن “بعض الإشارات والأحكام الفقهية توفّر مادة تسمح بتأصيل عدد من الحريات الفردية والجماعية. ويستدل في ذلك بوجود ” عديد العوامل التي عطّلت تفعيل هذه المبادئ استوجب اليوم “مراجعة ما تسمى بالحريات في الفكر الإسلامي، وإعادة النظر في عدد من المفاهيم والعبارات الرائجة مثل: الكفر” و “الردّة” والخروج عن الإسلام. ويدعم هذا الموقف بالإشارة إلى أن الحرية مقصد أصلي من مقاصد الفكر الإسلامي.. وبأنّه يمكن أن تعتبر حرية المعتقد مدخلا في غاية الأهمية وذلك في مجتمع عقائدي مثل المجتمع الإسلامي.. وإنّ القاعدة الشرعية كانت ولا تزال تعتبر أنّ الأصل في الأشياء الإباحة”.
أما في مسألة “حرية المعتقد” فقد اعتمد التقرير على الفصل6 من الدستور الذي ينص على أنّ الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشّعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي… ثم يؤكد على أهميّة هذا الحق مثلما ورد في المادة 18 من “العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية”.
لقد تم إقحام موضوع “إخضاع صحة الالتزامات إلى اعتبارات دينية” دون أية وجاهة منطقية أو موجب معرفي، حتى يصل في الفقرة الثانية من قسم “المقترحات” إلى الدّعوة صراحة إلى حذف الشّروط الدينية الواردة في “مجلة الالتزامات والعقود”، وكذلك الأمر الصادر في 15 ماي 1941 المتعلق بتحجير بيع الكحول للتونسيين المسلمين، بدعوى أنه يتعارض مع قانون 18 فيفري 1998 المتعلق بتنظيم تعاطي تجارة المشروبات الكحولية المعدّة للحمل. ثم يواصل في نفس السّياق، إلى الدّعوة الصّريحة، في قسم المقترحات، إلى “إلغاء المنشور المتعلّق بغلق المقاهي خلال شهر رمضان”.
يمكن أن نقف في حدود هذا المستوى من الدّراسة على مسألتين مهمّتين:
1ــ المسألة الأولى، تندرج ضمن المغالطات المنهجية التي وردت في هذا التقرير، وهي محاولة المقارنة والتأكيد على وجود توافق بين “الاعلان العالمي لحقوق الإنسان” وبين الحقوق والحريات التي جاء بها الدّين الإسلامي، وهي مغالطة مقصودة وردت في بداية التّقرير لإخفاء المقصد الحقيقي لهذا المشروع. إنّ المبادئ الفكرية والفلسفية الحقوقية التي وردت في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” لها خلفية حضارية أوروبية تحتاج إلى المراجعة والمناقشة المستقلة خاصة في أبعادها الإنسانية. كما إنّ منظومة حقوق الإنسان في الإسلام ذات خاصية جماعية، وجاءت لنفي العبثيّة والفوضى التي كانت مهيمنة على العلاقات الاجتماعية بين الناس. فقد دعا الإسلام إلى تأسيس منظومة حقوقية تُعلي من قيمة الذات الإنسانية (فردًا أو مجموعة) في إطار الحفاظ على وحدة الجماعة انطلاقا من العائلة مرورا بالمجتمع وصولا إلى وحدة الإنسانية كلّها.
2 ــ المسألة الثانية، فهي ذات صبغة جوهرية ومعرفية. هناك خلط وعدم تمييز بين الحريات والحقوق من ناحية، وبين الحريات والحقوق الفردية والجماعية من ناحية ثانية، مع الانتقائية في اختيارها وعدم ربطها بسياقاتها التاريخية. وقد أشار بعضهم” إلى “الطابع الانتقائي للمرجعيات التي اعتمدها التقرير، وإلى النزعة التعميمية في قراءة الواقع التونسي، وإلى ما أسماها بـ “جدلية الإظهار والاضمار أو الخفاء والتجلي” في متون هذا المشروع، خاصة في تصوير التحولات السوسيوــ ثقافية على أنّها حقائق ثابتة تستوجب تغييرًا تشريعيًا وقانونيًا جذريًا، على الرّغم من كونها كغيرها من الظواهر الاجتماعية والثقافية تتميّز بالتغيّر الدّائم وفق القانون الذي يحكم الإنسان في أي مكان.
من المهمّ أن نرصد الدّلالات اللغوية للمصطلحات ولأبعادها التعريفية والمقاصديّة، وكذلك أن نعرف خلفياتها الأيديولوجية والسّياسية، خاصّة وأنّ منظومة حقوق الإنسان اتّخذت، منذ ظهورها بعد الحرب العالمية الثانية، أبعادّا أيديولوجية سواء في مستوى التأويل أو عند التفعيل. لهذا، ينبغي علينا أن نبحث في الخلفيات الابستيمية للمنظومة الحقوقية في مجتمعاتنا الراهنة، وأن ننظر في معطياتها الواقعية وظروفها التاريخية والفكرية التي أسهمت في انتشارها وتطورها في مجتمعات دون غيرها، باعتبار أن القوانين الوضعيّة في أيّة دولة في العالم تختلف بالضرورة عن بقية دول العالم، لأنّ أغلب هذه القوانين تتأثر بالضرورة بثقافة المجتمع وعاداته وموروثاته، بل إنّ الديمقراطية في العالم لم تقم دائما على تفعيل الحقوق والحريات الإنسانية المعترف بها لكلّ إنسان مثلما أكّدت عليها المواثيق الدولية في مستواها المجرّد، وإنّما كانت “أقرب إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية”. إذاً، فقضية العالمية لبعض المفاهيم، مثل حقوق الإنسان، غير ممكنة إلا إذا كانت محلّ إجماع بين الثّقافات، لا تجربة مستوردة من السّياق الأوروبي ــ الأمريكي”.
من المؤكّد، أنّ ربط حقوق الإنسان وقضية الحريات والمساواة بين المرأة والرّجل في مجتمعنا وحصرها في الفلسفة “العلمانيّة” لا تمثّل سوى أحكام معيارية وانطباعية تعكس لنا رؤية أحاديّة “متطرّفة” من ظاهرة لم يقوموا بتعريف حدودها”، وهم يعرفون أنّه لم ولن يقتنع بها النّاس تصوراً وواقعاً، وستبقى محتفظة بأسسها الفكريّة ومضامينها الدّينية وظروفها التاريخيّة الخاصة بالتّراث الغربي المسيحي، لأنّ للعلمانية نظامها الاجتماعي، وللإسلام نظامه أيضا، وهما لا يتّفقان في أكثر من مبدأ. ولمّا كان مصدر مشروعية أي نظام اجتماعي أو أخلاقي هو قبوله من قبل الرأي العام، وباعتبار أن أغلبية الشّعب في تونس مسلمين، فانّ قبولهم بنظام “العلمانية” لن يتحقّق في أكثر من وجه.
لا نعتقد أن العامل العقائدي الدّيني يشكّل العائق الحقيقي والوحيد أمام حقوق المرأة في تونس، بل إنّ العوامل السّياسية والاقتصادية والاجتماعية ما زالت تمثّل أهم معيقات تحرّرها من الظلم والتّهميش مثلها مثل الرّجل. وقيمة المساواة بين الرّجل والمرأة هي من صميم الدّين الإسلامي، مثلما ورد في عديد الآيات القرآنية التي تؤكّد على وجود مساواة وجودية وجوهرية بين الجنسين. وتدعم الأحاديث النبوية هذه القيمة الخالدة وغير القابلة للتّشكيك فيها، مثل قول الرسول(ص) “النّساء شقائق الرّجال”. ومن ثمّ، فإنّ الواجب اليوم، هو السعي نحو تكريس جوهر المساواة والتعبير عنها بشكل يتناغم مع السّياق المعاصر مثلما أسس القرآن لذلك في سياق نزوله وظروفه” بحسب ما ورد في التقرير.
لهذا، ينبغي علينا أن ننظر اليه باعتباره منتوجا فلسفيا غربيا لكي “نتجاوز الانتقائية والتبعية الحاصلة في دائرة الفكر العربي، ويمكننا من محاورة إشكالات هذا الفكر، بتوسيعها وتعميق النظر فيها، في ضوء الخصوصيات السّياسية والفكرية ذات الطابع المحلي”. فالعلمانية في الإصلاح الديني ليست قاعدة فلسفية ثابتة أو مخطط عقلاني إنساني عالمي مطلق، بل هي ظاهرة تاريخية أوروبية ليس لها مثيل خارج واقعها الاجتماعي والثقافي الأوروبي المميّز بخصوصيته الثقافية والدينيّة والحضارية، بينما تقتضي عالمية حقوق الإنسان وتحقيق فاعليتها واقعيا أن يتم تبيئتها في تكامل مع نسق القيم المجتمعية الأخرى.
لقد ترك الإسلام للإنسانية حق الاختيار بين الإيمان والكفر. ومن ثمّ، يحق لكلّ واحد في أن يعتقد في ما يشاء، وحسابه عند ربّه يوم الدّين. ولكن، ليس لأحد الحق، تحت أية تسميات أو مبرّرات، أن يدعو إلى تفكيك هوية المجتمع وهدم عقيدته الدينيّة، التي تمثّل رابطته الجامعة والمانعة من أية انهيارات نفسية وأخلاقية واجتماعية وقيمية. فدعاة العلمانية ذات المرجعية الفلسفية الليبراليّة لا يهدّدون الدين الإسلامي فحسب، بل يستهدفون عقيدة الإيمان بالّله ذاته، إسلامية كانت أم مسيحيّة أم يهوديّة، بينما يمثّل الدّين مُقوِّمًا أساسيا من مقوّمات هوّية الشّعوب وسيظلّ مؤثّرا فيها مهما اختلفت الأزمان والأمصار. ولئن قلّ حضور الدين في مجال العموم المجتمعي الأوروبي، وبات محصورا في مجال الخصوصية الفردية ـــ العبادية والاعتقادية ــ الذي لا نتائج اجتماعية أو سياسية فعلية له إلا في ما اندرج من الطقوس الدينية في الممارسات والتقاليد الاجتماعية مثل: الزواج والأعياد والعبادات والدفن والختان. الخ، فإنّ ثقافة العلمانية كمنظومة اجتماعية وسلوكية مجتمعية لم تكن محاربة للدّين ومؤسّساته إلا في فرنسا وفي بعض “الدول الشيوعية” سابقا.
إنّ التّمايز المؤسّسي بين المجال الدنيوي والمجال الديني ليس بجديد عن حضارتنا العربية والإسلامية، إذ ورد في أحد الأحاديث النبوية قول الرسول (ص) “أنْتُم أعْلَم بأُمورِ دُنْياكُمْ”، أي أنّ المسلمين أحرار في اختيار أنظمتهم السياسية والاجتماعية. ومع انتشار الإسلام، شرقا وغربا في ظل الفتوحات، تزايد منطق التمايز بين المؤسستين الدينية والسياسية في ظل التجربة الإسلامية الأولى، وتزايد الفصل بينها منذ هجرة الرّسول إلى المدينة ووضع ما باتت تعرف بـ “الصحيفة”. وهذه الأمثلة وغيرها تبين أن الفصل بين المؤسّسة الدينية عن مؤسّسات الدّولة والمؤسسات المدنية الأخرى ليست عملية ناتجة عن الحداثة الغربية، “وإنّما هي عملية موجودة في معظم المجتمعات المركّبة بشكل من الأشكال”. لهذا، يشكك أغلب المنظرون والمهتمون بـ “الدراسات النّسوية” في نوايا الخطاب الحقوقي للفلسفة الليبرالية التي استعملت القانون ذريعة للسّطو على المجتمع، وكان خطابها كونيا غير متجذّر في سياقاته الثقافية والتاريخية.
4- كرونولوجيا حقوق المرأة وراهنيّتها:
إنّ جذور مفهوم حقوق الإنسان عامّة، وحقوق المرأة خاصة، ذات مداخل وعوامل متعدّدة بتعدّد سياقاتها: الفقهية والتاريخية والسّياسية. لذلك، تقتضي عملية البحث والتقصّي فيها، في كل الأحوال، العودة إلى الجذور التاريخية لظهور منظومة حقوق الإنسان، والتي يتفق أغلب الباحثين أن “بذرتها الأولى” نجدها في الأديان السماوية التي جاءت جميعها مُكرّمة للإنسان، ومفضّلة إيّاه عن غيره من المخلوقات الأخرى. فنجد في القرآن مثلاً، قوله تعالى: “وقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَم وحَملْناهُمْ في البرِّ والبَحْرِ ورزَقْنَاهُم مِنَ الطّيِبَات وفَضَّلْناهُم عَلى كَثيرِ مِمَّنْ خَلقْنا تَفْضِيلاً”.
منذ بداية التّسعينيات من القرن الماضي، تكثّفت الدراسات الأكاديمية والمؤتمرات الدولية الخاصة بالمسألة “النّسوية” و “الجنْدر” (Le genre) واهتمّت أساسًا بالقضايا المتعلقة بتقسيم العمل بين الجنسين، والمساواة في الأجر، والعنف الجنسي وغيرها من المشاكل ضمن السّياقات السياسيّة والتاريخية المعاصرة التي أثّرت في تطوير منظومة حقوق المرأة. وظهرت عديد الحركات النّسوية في أغلب الدّول، وعقدت عديد المؤتمرات الدولية حول موضوع “الجِنُوسة” (الجنْدر) التي عملت على تطوير المنظومة الحقوقية للمرأة في علاقة بالممارسات اليومية وبالأنظمة السياسية والاجتماعية وبالموروثات الثقافية والدينية في العالم. ونتيجة تطور الحراك النسوي في العالم، تعدّدت تعبيراته القانونية: إعلانات ومواثيق ومبادئ بالدّساتير، إمّا في التوطئات أو في الأحكام”، وأصبح “للنظرية النّسوية تاريخ متعدّد الأوجه من الاستمرارية والتغيير. ولعلّ من أبرز المحطات الدولية الرّسمية التي تعدّ اللّبنة الأولى في دمج النّساء في التنمية هو “مؤتمر الأمم المتحدة العالمي للمرأة” عام 1995 الذي عقد في الصين (بكين)، والذي حاول وضع مشروع عالمي مشترك لتغيير وضعية حياة المرأة في الأسرة والمجتمع.
إذًا، من أهداف المقاربة النّسوية العالميّة هو العمل على إزالة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية بين الرجل والمرأة باعتبارها شرطا مسبقا للنهوض بالأسرة خاصة، ولتحقيق التنمية المجتمعيّة الشاملة عامة. وأصبحت الدّولة، وفق هذه المقاربة، ونظرا إلى مصادقتها والتزامها بالاتفاقيات الدولية، ملزمة بالعمل على تغيير علاقات القوة المكرسة للتّمييز واللامساواة بين الجنسين في المجتمع. ويستوجب من الدّولة، لتحقيق هذا الهدف، أن تعمل على توفير بيئة ملائمة من التّشريعات المُنصفة للمرأة التي تجعلها فاعلا في المجتمع شأنها في ذلك شأن الرّجل.
كما وضعت هذه المقاربة التي تعرف بسوسيولوجيا “النّوع الاجتماعي”(Genre) قضية المرأة في نطاق العلاقات الاجتماعية التي تحكم المرأة والرّجل على المستوى الحياة الخاصة والعامة. وقد جاء هذا المدخل بمجموعة من المفاهيم مثل: “المشاركة” و”التمكين” و”الاستحقاقية” وغيرها، وذلك على قاعدة المساواة بين المرأة والرجل في السّياسات والبرامج والمشاريع التنموية ككل. وبات مفهوم “المساواة” بين المرأة والرجل يعني تمتع الجنسين في مختلف مراحل حياتهما بنفس المكانة داخل المجتمع، وبنفس الحظوظ في التمتّع بجميع الحقوق الإنسانية، ويحضون بنفس درجات التقدير الاجتماعي، ويستفيدون من نفس الفرص المتاحة لتحديد الخيارات المتعلقة بحياتهم الخاصّة.
أما في تونس، فقد تأسّست عدة تشريعات خاصة بحقوق الإنسان منذ أواسط القرن التاسع عشر (عهد الأمان1857 ودستور1861)، ثم تواصلت هذه المكتسبات القانونية والحقوقية بعد الاستقلال. فكانت “مجلة الأحوال الشخصية” (1956) أوّل قانون يصدر في تونس من أجل تنظيم الأسرة وضمان حقوق المرأة، ثم تدعمت هذه الحقوق بعد إجراء عديد التنقيحات على هذه المجلة كان أهمّها عام 1993، الذي تم بمقتضاه تأسيس مبدأ “الشراكة الزوجية”. وتراكمت هذه المنظومة الحقوقية لصالح المرأة من خلال تنقيح “مجلة الجنسية”، وتنقيح “المجلة الجنائية”، وتعديل “مجلة الشغل” وغيرها من الاجراءات والسّياسات التي تميّزت بها المنظومة التشريعية في تونس. كما تمّ رفد هذه المكتسبات التشريعية المتعلّقة بحقوق المرأة عبر تأسيس عدد من الهياكل والمؤسّسات والمنظّمات الوطنية التي تهتمّ بشكل خاص بالمرأة وتعمل على تفعيل مشاركتها في الحياة العامة في تونس.
لقد أدّت كل هذه الإصلاحات التشريعية والمؤسّسية إلى دعم مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع، وإلى تفعيل دورها في مختلف المجالات (التّعليم والصحّة والتّشغيل..)، بل ساهمت في تغيّر ملحوظ في حافزيّتها للمشاركة في الحياة السياسية، وفي زيادة نسب حضورها اللافت في مختلف هياكل السّلط الثّلاث في الدّولة.
لكن منذ عام 2011، خضعت مسألة حقوق المرأة إلى تجاذبات سياسية وأيديولوجية حادّة بين النّخبة الفكريّة والسياسية في تونس، ومازالت تثار من حين لآخر هذه الاختلافات بين التيارات السياسية نتيجة الاختلاف بين مرجعياتها السياسية والثقافيّة. وهذا الجدل القديم المتجدّد حول المرأة لم يكن الهدف منه حماية الدّفاع عن حقوق المرأة وتحقيق مساواتها مع الرّجل مثلما يدّعي بعضهم، وإنمّا هو محاولة في إعادة الحفر في “مسألة الهويّة” من أجل خلق مشكلة فقهية والقضاء على مقولتي الاجماع الفقهي والثّابت الديني في مجتمعنا التونسي، والبقاء في حالة من الجدل البيزنطي والصراع الدّائم ضمن دائرة مغلقة لا تاريخانية. فالخطاب الليبرالي الدّعائي المصاحب لنشر هذا التقرير يكاد يرادف بين مفهوم “العلمانيّة” ومفهوم “اللائكيّة” من ناحية، ويساوي بين اللائكيّة وبين مفاهيم الحرية والعدل والمساواة والسّعادة للمرأة من ناحية أخرى، فجعل من كلّ ناقد لها عدوًا للتحرّر، وداعيًا إلى الاستبداد، بينما هناك من التونسيين، بحسب بعض الدّراسات، “من يريد المساواة، ليس لأنّه مفتون بالغرب، ولكن لأنّه مقتنع تام بفضيلة المساواة، وبالفلسفة العلمانية المؤسّسة لحقوق الإنسان غير المعادية للنص الدّيني.
لقد نشأت “الحركة النّسوية” في تونس وتأثّرت بالنّموذج الأوروبي منذ الاحتلال الفرنسي، وبدت آثار هذا التّأثير وجرعاته في تقليد “النّزعة النّسوية” تتزايد، وأصبح حديث بعضهم يدور حول “التحرّر من كل المنظومات الدينية والقيمية الإيمانية والحضارية والفلسفية والاجتماعية ــ بما في ذلك التحرّر من الأسرة بشكلها الشّرعي والتاريخي ــ سبيلاً “لتحرير” النّساء؟”، بل إنّ الدّعوات الصّريحة من قبل بعض الفاعلين الأفراد أو المنظّمات، الداعية إلى شرْعنة “الإباحية الجنسية” والزّواج خارج الأطر القانونية والشرعية الدينية قد وصلت إلى مستوى غير مسبوق في تونس بعد 2011. وفي السياق ذاته، يقترح التقرير أن يتم تنقيح جميع هذه الأحكام “التمييزية” التي أصبحت مخالفة لدستور الجمهورية التونسية، وخاصّة للفصلين السّادس (6) والواحد والعشرين (21). ويدعو إلى العودة إلى توصيات “اللّجنة الأممية المعنية بتأويل العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” في تعليقها العام عدد22 حول المادة18(1993)، باعتبار أنّ هذه المادّة “تحمي العقائد” التوحيدية وغير التوحيدية والإلحادية، وكذلك الحق في عدم اعتناق أي دين أو عقيدة..”، وانتهت إلى “إمكانية إفراغ المعتقد من جوهره في حالة وجود ديانة مُهيمنة”. فهذا النص يحمل بشكل واضح وصريح بصمات “اللائكية” الفرنسية التي اتّخذت شكلاً حادًّا وقاطعًا و “متطرّفا” مع مختلف العقائد الدّينيّة السّماويّة.
نعتقد أنّ أخطر مجالات التّمييز الذي تعيشه المرأة اليوم، هو ما تتعرّض له من حالات عنف رمزي وثقافي؛ فهو عنف هادئ وغير مرئي وغير محسوس حتى بالنّسبة إلى ضحاياه، حيث تشترك فيه الضحية وجلادها في التصوّرات نفسها عن العالم والمقولات التصنيفية نفسها، ويعتبران معًا أنّ “الهيمنة الذكوريّة” باتت من المسلمات والثّوابت القيميّة التي لا يمكن تغييرها. ولهذا، ينبغي علينا أن ننظر إلى “المسألة النسويّة” وفق مقاربة إنسانية، أي أن نركّز على حقوق المرأة باعتبارها إنسان، وليس على أنّها جنس(جندر)له فروق بيولوجية عن الرّجل، فليس الجنس هو سبب اللامساواة، بل توجد بنى اجتماعية وممارسات ثقافية هي المسؤولة عن عدم المساواة. ومن ثمّ، فإنّ الاستنجاد بالقانون وحده لتحقيق المساواة بين الجنسين لن تكون ذات فاعلية في تغيير وضعية المرأة، بل قد تؤدّي إلى خلق مساواة وهمية غير قابلة للتطبيق في ظلّ إقصاء العوامل السّياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرات “النّظام الأبوي” في هذه المنظومة الحقوقية والموروثات الثقافيّة الحاضنة لها.
لا يمكن توفير الحماية للنّساء و”تحريرهنّ” من خلال التّشريعات القانونية وحدها في ظل الأنظمة السياسية الاستبدادية وغير العادلة، أو التي تفتقد فيها الدّولة لأبسط مقوّمات السّيادة الوطنية؛ ففي ظل هذا النظام لن يكون القانون سوى أداة لتبييض “عدم المساواة” والسّمسرة بحقوق المرآة لمصالح ذوي النفوذ الثقافي والسّياسي والاقتصادي في المجتمع ضد مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية وليس ضد المرأة وحدها. ومهما تحسّنت مكانة المرأة على المستوى الحقوقي في مستواها التشريعي المجرّد، فإنّ ذلك لن يتطابق بالضرورة مع إحداث التغيير المماثل في مقامها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والرّمزي في واقعها المجتمعي الذي يتعارض مع هذه الحقوق.
5- قانون المساواة بين المُعلن والمسْكوت عنه:
من أهمّ مبّررات وضع مشروع هذا القانون المتعلق بمجلتي “الحريات الفردية والمساواة”، بحسب ما جاء في مقدمة التقرير، أنّه يندرج ضمن مواصلة مسيرة الإصلاح التي عرفتها تونس منذ عهد البايات، وأنّ هناك “مدة طويلة من السّكوت التشريعي على مقاومة التمييز ضد المرأة”. ثم يضيف في نفس السياق على أنّه بالرّغم من الاعتراف بمكانة الحرية الفردية في التشريعات التونسية خاصة التي وردت بـ “مجلة الإجراءات الجزائية”، والتي تدعّمت بالتنقيحات الجديدة التي أحدثت عليها خلال السّنوات (1987، 1999، 2016)، فإنّ وضع هذه المجلة التي رأتها اللجنة وجيهة هي وجود بعض النّقائص.. وأنّ حقوقًا أخرى، على غرار الحق في حماية الحياة الخاصّة، ظلّت منسيّة، لا تغطّيها مظلّة تشريعيّة.
واستنادا على المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 17 من “العهد الدّولي للحقوق المدنية والسياسية”، تذهب اللّجنة إلى “وجود العديد من المقتضيات التشريعية التي تناقض حماية الحياة الخاصة للفرد. ولعلّ أهمها ما وجد في “المجلة الجزائية” من عقوبات سالبة للحرية دون تحديد واضح لأركان الأفعال المجرّمة. ويستدلّ التقرير بمثالين إثنين: الأول يتعلق بـ “التجاهر بفحش” مثلما ينص عليها الفصل 226 من هذه المجلة، وهي بحسب ما ورد في التقرير، ” هي جريمة غير محدّدة الأركان، مما سمح بعديد التجاوزات والخروقات”. أما المثال الثاني، فيتعلق بمسألة “الأخلاق الحميدة”، واستنادا على الفصل 226 مكرّر من نفس المجلة، الذي يقرّر عقوبة سالبة للحرية لكل ” من يعتدي علنا على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة بالإشارة أو القول أو يعمد علنا إلى مضايقة الغير بوجه يخل بالحياء”.
وتعتبر اللجنة أن بعض القوانين مازالت تشكل اعتداء على “حرمة الحياة الخاصة للأفراد”، بما فيها علاقاتهم الجنسية، وهو ما ينص عليه الفصل 230 من “المجلة الجزائية”، الذي حرّم اللواط والمساحقة، إذ لا دخل للدولة والمجتمع في الحياة الجنسية بين الرّشد. وقد سبق لفقه القضاء الدستوري المقارن أن وضّح بأنّ الخيارات والتوجهات الجنسية للأفراد هي من صميم الحياة الخاصة، بما تعنيه من حميمية وسرية (Le secret et l’intimité de la vie priveé)”. ويذكر التقرير أنّ “الأخلاق الحميدة” مفهوم متعدّد المعاني، وأن المجتمعات الديمقراطية تقوم على التعدّدية في كل المجالات، بما فيها التعدّدية الأخلاقية، فإنّها انطلقت من نفس التمشي السّابق، وهو تجنب كل الجرائم التي لا يمكن تعريفها وتحديد أركانها بدقة، لأنها مخالفة لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات”.
لذلك، دعا التقرير إلى إلغاء الفصل 230 من “المجلة الجزائية” نظرا إلى مخالفته البديهية للحياة الخاصة، ولما جلبه للجمهورية التونسية من انتقاد من قبل الهياكل الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وعلى رأسها “لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة”، التي عبّرت عن انشغالها لكون العلاقات الرضائية بين شخصين من نفس الجنس معاقبا عليها في الدولة الطرف، وذلك في التقرير الدوري الثالث، والتقرير التكميلي عدد 19 ــ 21 لسنة 2016”.
لقد عمل هذا التقرير على دعم المقاربة “الجندرية” لحقوق المرأة تحت المظلّة الدستورية، وباسم حماية الحياة الخاصة للأفراد من قبل الدّولة، وفي إطار مبدأ “الانتقائية” الذي تميّز في اختيار النصوص القانونية، وضمن المقارنات والتأويلات الخاطئة لأحكام الدّستور، حيث يستدلّ بالفصل 24 في غير سياقه ضمن مقارنته بالتشريع القانوني الجزائي (الفصل 226 من “المجلة الجزائية”) الذي ينص على أن يعاقب بالسّجن مدة ستة أشهر وبخطية قدرها ثمانية وأربعون دينارا كل من يتجاهر عمدا بفحش”، ليصل إلى المقصد الحقيقي من وراء هذه الترسانة من المؤيدات إلى المطالبة بتنقيح الفصل 231 من “المجلة الجزائية” المتعلق بـ” النّساء اللاّتي في غير الصور المنصوص عليها بالتراتيب الجاري بها العمل يعرضن أنفسهن بالإشارة او بالقول أو يتعاطين الخناء ولو “صدفة”. وتضمّن قسم المقترحات البديل عن النص القديم، وهو “إعادة النّظر في هذا الفصل بتحديد أركان تعاطي الخناء، والتخلي عن عبارة “صدفة”، واستبدال العقوبة السجنية بخطية مالية.
أما فيما يتعلق بمسألة “الموانع الدينية للزّواج والميراث”، فقد دعا إلى تنقيح الفصل 5 من “مجلة الأحوال الشخصية”، واستبدال عبارة “الموانع الشرعية” بعبارة “الموانع المنصوص عليها بهذه المجلة”. فهذا المقترح يكشف بكل وضوح المقاصد الحقيقية من التعديلات التي اقترحتها اللجنة، والأهداف المسكوت عنها في هذا المشروع. ومثلما سبق في عديد المواقع من هذا التقرير، يستدل بالقانون الفرنسي، الذي تم بمقتضاه تعريف البغاء.
وفي قسم “الملاحظات” من الجدول المصاحب لهذا القانون، يقتدي التقرير، بشكل صريح، بالتجربة الفرنسية كيف أنها “تخلّت عن جريمة التّجاهر بما ينافي الحياء منذ سنة 1994. وقياسا على ما ورد في القانون الفرنسي وكذلك التجربة السويسرية، يدعو التقرير في قسم “المقترحات” إلى تنقيح الفصل 226 من “المجلة الجزائية”، وتعويضه بالنص التّالي”: يعاقب بخطية قدرها 1000 دينار كل من يأتي على مرأى الغير عملا جنسيا أو يعمد إلى كشف المواطن الحميمة من بدنه بقصد “إيذاء الغير”. أو “تعتبر أفعالا مُخلّة بالأخلاق والآداب العامّة التعرّي وكشف العورة عمدًا وعلنًا”. ويدعو صراحة إلى حذف “جريمة اللّواط” التي يؤكّد عليها الفصل 230 من المجلة الجزائية، وتعويض عقوبة السّجن بخطية مالية.
على الرّغم من حرص مهندسو هذا التقرير في خطابهم التسويقي لتمريره على أنه يندرج ضمن سياق “الثورة العربية” ومجرياتها التي تقتضي مراجعة جذرية للتشريعات الوطنيّة غير المنسجمة مع السّياق الجديد، فإنّه كشف لنا مدى تأثير التشريعات الأوروبية وخاصة الفرنسية في صياغة أبوابه العامة واختيار مفرداته من القوانين الفرنسية. ومن ثمة، لا يمكن فصل مضامين هذا المشروع ورسائله عن أيديولوجية حامليه ومهندسيه. وتتجلى مقاصده الحقيقية من خلال خاصيّته “الانتقائية” في اختيار بعص النّصوص دون غيرها، كما تتجلّى في عدم وجاهة بعض المرجعيات القانونية التي استنجد إليها باعتبارها تتعارض مع قيمنا الثقافية ومنظومتنا الأخلاقية، أي مع خصوصية هويتنا العربية والإسلامية.
يهدف هذا المشروع الذي يبدو في ظاهره قانون في المساواة ” في الإرث” بين الذّكر والأنثى، ويهدف إلى تحرير المرأة التونسية من “الهيمنة الذكوريّة” إلى نشر ثقافة فردانية ترفيهية و “إباحية “وفق نمط ثقافي دنيوي وسلعي تختزل فيه قيمة الإنسان في بعده المُتْعوِي الجنسي والجسدي. إضافة إلى ما يشهده المجتمع بحسب ما ذهب إليه “عبد الوهاب المسيري” من “العلمنة البنيوية الكامنة تقوم بها مؤسسات الدولة (الأمنية والتربوية وغيرها) و”قطاع اللذّة”(تغيير نظام حياة الإنسان الخاصة والعامة) والمؤسسات الإعلامية؛ فهي تسعى عبر إعلاناتها التلفيزيونية والإشهارية، إلى نزع القداسة عن الإنسان وتحوله إلى إنسان اقتصادي وجسماني ذي بعد واحد”. وهذا البعد المادي والسّلعي لحقوق الإنسان وتوظيفاتها الراهنة انتشر ضمن مجموعة من السّمات “المعولمة” التي لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أو أخلاقية أو إنسانية. وبدأت تجليات هذه السّياسة ظاهرة في أشكال الخرائب والهدر للطاقة البشرية وخاصة لفئة الشّباب (الانتحار والمخدرات والعنف..)، وفي مختلف صنوف العذابات الإنسانية الفردية والجماعية غير المحدودة التي أصبح يعيشها المجتمع التونسي خاصّة بعد 2011. ومن المؤكّد أنّ “المتخصّص الموضوعي لمقترحات التقرير لا يسعه إلا أن يعاين تحوّل المقاربة “العلمانيّة “عندنا من الرّؤية المقاصديّة المجدّدة المعلن عنها، إلى رؤية حداثويّة مسطّحة ومفقّرة لا مكان فيها للدّين، ولا للتقاليد والموروث الثقافي الذي يتم نبذه بكليّته”.
لقد بدَا “النّقاش حول الميراث نقاش معقّد إلى حد بعيد، وينبغي أن يقرأ على هذا النحو، وله أبعاد دينية وقانونية واجتماعية تتشابك جميعها في تشكيل التقييم النّهائي لتحديد قانون الميراث في تونس، وتحديد افضل طريقة لتنظيم المجتمع التونسي”. بينما المقاربة الفكرية التي استند إليها هذا التقرير يمكننا نعتها بـ “اللائكيّة المتطرّفة” التي يهيمن عليها منطق التجريد الدّلالي لمضامين الحريات الفردية: الحرية الجنسية والعقيدة والأخلاق…الخ. ومن خلال الرجوع إلى النّصوص والقيم المجرّدة، سواء كانت ديانية أو علمانيّة، يعزّز الميل إلى الاستبداد”، وسوف تجعل المجتمع يتحرّك بلا اتجاه باعتباره يتكوّن من أفراد متناثرين مثلهم مثل الذرّات يعيشون في عزلة اجتماعية تامة، ويستبطنون في سلوكياتهم اليومية وعلاقاتهم البينيّة ضوابط “الفردانية المقدّسة” الفاقدة للمرجعيات الثقافية والدينيّة التي توحّدهم وتجمع بينهم. فمشروع هذا القانون إذا تمّ التّصديق عليه وتفعيله سوف يؤدي بالضرورة إلى تهديم نفسية الفرد وفقدان توازنه أولاً، وإلى تفكيك روح الجمْعنة والتماسك الاجتماعي في المجتمع ثانيا، لأنّه يستهدف تذويب المرجعيات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية اللاّحمة للعلاقات الإنسانية والملطّفة لها.
يعمل أصحاب هذا المشروع عبر التسويق للمفاهيم الجذابة مثل: “الحقوق والحريات” و”المساواة” و”العلمانية” و”التنوير” و”الحداثة”.. الخ، على نزع نظام الأخلاقيات وروح القداسة عن الدّين الإسلامي ودوره في توجيه الضمير الإنساني وضبط الأخلاق العامة في مجتمعنا التونسي، وتفكيك التكوينات المعنوية والرمزيّة من المخيال الاجتماعي للأفراد وتبخيسها (تحقيرها)، حتى تتّخذ قيم الفرْدنة في مستوياتها الطبيعية والمادية المجرّدة عن الرّوح الإنسانية مفهوما مقدّسًا، وتصبح المرجعيّة الوحيدة المنتجة للقيم والمحدّدة لرؤية العالم والضّابطة لأخلاقيات الناس. لهذا، ينبغي علينا ” التبصّر في معالجة هذه الإشكاليات المُؤدْلَجة، وتنسيب المفاهيم بربطها بسياقات إنتاجها”، باعتبار ليس هناك أيّة وجاهة في القول بأنّ اللائكيّة تشكّل المسار الوحيد أو “النّموذج المُنفرد” للتّحديث أو لتحقيق التّطور للمجتمعات. فاللائكيّة، كما يقرّ بذلك عدد من علماء الاجتماع الفرنسيين، هي استثناء فرنسي اقترن بإيديولوجية مكافحة ضد الدّين ورجاله، وكانت وراء قانون الفصل بين الكنسية والدّولة في فرنسا، وطرد الدّين من المجال العام بدءاً بالمدرسة وانتهاء بالسّياسة، مما لا نجد له مثيلا في أي مجتمع بروتستانتي”. أما العلمانيّة فهي “حركة فكرية وفلسفية تدعو إلى المساواة في الممارسات الاجتماعية وإلى اعتماد العقلانية في وضع القوانين لا يكون للمرجعية الدينية فيه أثر يذكر”.
إنّ الانطلاق من معرفة علاقة هذا القانون بالسياقات المجتمعية الملوثة بالتدخل الخارجي تمكننا من فهم أبعاده وأهدافه من خلال روابطه المخفية التي نسج فيها تحت شعار الدفاع عن حقوق المرأة وحرياتها لكي تكون سيدة نفسها وغيرها من المصطلحات التي تم اقحامها في النص دون أي مبرّر، حتى بدت كلها تشبه الحلي المزيفة الخالية من أية وجاهة علمية. لقد منح الإسلام المرأة جميع حقوقها بما فيها السياسية والوصول إلى أعلى المراتب في الدولة، ولكن يجب تهيئة الظروف الاجتماعية والثقافية والاجتماعية والسياسية وتطويعها حتى تتمكن من ممارسة هذه الحقوق من دون أن تصطدم بالمبادئ الإسلامية مثلما هو معمول به في كافة الدول الإسلامية. فلا يوجد تعارض بين أن تتمتع المرأة بحقوقها وتمارس حرياتها مثل الرّجل مع الالتزام بالقيم والمبادئ التي شرعها القرآن الكريم.
يتنزل هذا المشروع في إطار افتعال معارك فكرية وفقهية وخلق حالة من الصدام بين مقاصد الشريعة الإسلامية السّمحة ومنظومة حقوق الإنسان بين التونسيين من أجل تحقيق أهداف سياسية استعمارية لا علاقة لها بمبادئ العدالة والإنصاف بين الجنسين، وإنّ الوعي بالشروط التاريخية والحضارية التي ظهر فيها هذا المشروع، تؤكد أنه نشر من أجل فتح جبهة جديدة لمعارك مصطنعة تتعلق بهوية المجتمع وعناصر تماسكه وقوته التي ما فتئ الأعداء يستخدمون جميع ذخائرهم ــ الخشنة والناعمة ــ منذ القرن التاسع عشر على تفكيكها وإضعافها من أجل بلوغ أهدافهم في السيطرة على أمتنا العربية من جديد.
6- الخاتمة:
كشفت تجاربنا التاريخية السّابقة أنّه تحت مظلّة مفردات “الحقوق والتحرّيات” و”المساواة” يغفل المشرعون والسياسيون عن معالجة قضيّة التّمييز البنيوي في المجتمع إلى درجة تصل إلى حالة التّواطؤ مع ” براديغم الظّلم” الذي لا تعود أسبابه إلى مصدريّة دينية، وإنما إلى مصادر خارج هذا الحقل؛ حيث تنتشر العديد من الحالات والظواهر التمييزية وانتهاكات حقوق المرأة والرّجل معا في مجتمعنا، والتي تحدُث يوميًا دون أن يتم منعها أو الحدّ منها على الرّغم من وجود التشريعات الضامنة لها. لذلك، فنحن في حاجة أكيدة إلى الدّفاع عن حقوق الإنسان عامة والاهتمام بأخْلقتها في سلوكياتنا اليومية قبل الاهتمام بسن القوانين في صيغتها المجرّدة ومعالجاتها الارتجالية التي لا تتوافق مع السياقات الوطنية.
لقد اتّخذ هذا التقرير من موضوع “الحرية الفردية” و”المساواة في الميراث ” بين المرأة والرجّل موضوعاته المحورية في محاولة منه لتفكيك أحد أهم أعمدة وقوّة نظامنا الاجتماعي وهويتنا الوطنيّة. ورغم كثافة أبوابه ومداخله القانونية والاجتماعية والفقهية، فإنّ مضامينه اتّسمت بعديد التّأويلات غير الوجيهة والخاطئة حول تاريخية تشكل “منظومة حقوق الإنسان” في علاقتها بالمرجعية الدينية في تونس. ولا تنحصر هذه النّزعة التأويلية المعياريّة والمقارنة غير الوجيهة مع الإسلام في مستوى بعدها البسيط في الفصل بين الدّين والسّياسة، أو في مستوى التحرّر من إسار المنظور الدّيني في أنظمتنا القانونيّة، بل أيضا في فصل الدّين عن الحقول الاجتماعية والثّقافية الأخرى وتمييع دوره في الضّبط القيمي والأخلاقي والرمزي للعلاقات الأسرية والاجتماعية في المجتمع التونسي.
إنّ الحرية الفرديّة وفق الفلسفة الليبرالية الموجهة لهذا التقرير، كانت دعوة أيديولوجية وسياسة لخلاص الفرد من كل مرجعيات الضّبط الاجتماعي والأخلاقي والإنساني، لتتحوّل إلى حرية عابثة وسببًا مباشرا في خلق عديد المظاهر من “الأنوميا” الاجتماعية والأزمات النفسية والانهيارات الأخلاقية، ولا تستهدف في كل الأحوال تحقيق تحرّره من سياسات القهر والاستغلال الاقتصادي، والإذلال المادي والمعنوي والتهميش الاجتماعي والاستبداد السياسي.. الخ التي لا تميّز بين ضحاياها على أساس “الجَنْدر”(Genre).
المراجع:
العربيّة:
- تقرير لجنة “الحريات الفردية والمساواة” الصادر في 1جوان 2018، الذي تم إحداث اللجنة التي أعدته بمقتضى الأمر الرئاسي عدد111 لسنة 2017 المؤرخ في 13 أوت 2017.
- سورة الإسراء، الآية70.
- أبو الغار، ابراهيم، علم الاجتماع القانوني والضّبط الاجتماعي، مكتبة نهضة الشرق، جامعة القاهرة، 1984
- المسيري، عبد الوهاب والعظمة عزيز، العلمانية تحت المجهر، دار الفكر بيروت، لبنان/دمشق، الطبعة الأولى، 2000.
- العقاد محمود عباس، الديمقراطية في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة.
- العزيزي، خديجة، الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2005. وفاطمة الزهراء أزرويل، المسألة النسائية في الخطاب العربي الحديث: من التحرير إلى التحرر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
- الغابري، عبد الباسط، “تقرير لجنة الحريات وسياسة عولمة الوصاية”، مركز نهوض للدّراسات والنشر، 2018، نسخة ألكترونية.
- الهرماسي، عبد اللطيف، “الأحزاب السياسيّة ذات المرجعية غير الدينية والدّين”، من الحالة الدينية في تونس 2011 ــ2015. دراسة تحليلية ميدانية، المجلد الثاني، الرباط/ بيروت، 2018.
- الهرماسي عبد اللطيف، ” مسار الفرديّة في تونس: بين الديناميات المجتمعية ومشروع النّخبة الحداثويّة”، مجلة عمران، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، العدد32، المجلد الثامن، ربيع 2020.
- المبروك الشيباني، المنصوري، الدين والحداثة والهوية والقيم: دراسة في الفكر الديني الياباني الفلسفي الشرقي، الدار المتوسطية للنشر، تونس 2017.
- باومان، زيجمونت، الحداثة السّائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشّبكة العربية للأبحاث والنّشر، بيروت، الطبعة الأولى 2016.
- بوجنال، محمد، الفلسفة السياسية للحداثة وما بعد الحداثة: شروط فهم صراعات الألفية الثالثة، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2010.
- بوعزّة الطيّب، نقد الليبراليّة، تنوير للنّشر والإعلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 2012.
- خلف، التميمي عبد الملك، الحداثة والتحديث في دول الخليج العربي منذ منتصف القرن العشرين، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، عدد467، ديسمبر 2018.
- عمارة، محمد، التحرير الإسلامي للمرأة: الرد على شبهات الغلاة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2002.
- عبد اللطيف، كمال، التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007.
- خماخم، رضا، “حقوق الإنسان والمجتمع المدني: جذور المفهومين والأنموذج التونسي”، مجلة القضاء والتشريع، وزارة العدل، الجمهورية التونسية، العدد 10، السنة الأربعون، ديسمبر 1998.
- ساري، حنفي، “قراءة في كتاب الحالة الدينية في تونس 2011 ــ2015: دراسة تحليلية ميدانيّة”، مجلة إضافات، الجمعية العربية لعلم الاجتماع ومركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، العدد 46، ربيع 2019
- ساري، حنفي وطعمة، عزام، “ما وراء الديانة والعلمانيّة: نقاش الميراث والمساواة بين الجنسين في تونس وتشكل التفكير غير الاستبدادي”، مجلة عمران، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدوحة، قطر، العدد 32، المجلّد الثامن، ربيع 2020.
- ويندي كيه. كولمار وفرانسيس، بارتكوفيسكي، النظرية النسوية: مقتطفات مختارة، ترجمة عماد ابراهيم وعماد عمر، دار الأهلية للنشر والتوزيع، 2010.
الفرنسية:
- Bourdieu (Pierre), La domination masculine, Paris, Editions du Seuil, 1998.
- Domenach (Jean-Marie), Approches de la modernité, Paris, Eds Ellips, 1986.
- Gay (Peter), Freud : une vie, Paris, Fayard,1989.