عندما نتحدث عن الغرب لا نقصد به الغرب بموقعه الجغرافي الحالي، حيث أوروبا الغربية والامتداد الجغرافي والسياسي لها في أمريكا فقط، بل هذا الكيان الفكري والثقافي والسياسي المتقدم والمتطور اقتصادياً وعلمياً وتقنياً والمنتشر في ثقافته وانتظاماته المعرفية ومحدداته السياسية وغير السياسية غرباً وشرقاً، والواصل إلى أعلى درجات الاشباع المادي لناسه ومجتمعاته في فكره ونظرته وسلوكياته وعلاقاته القائمة على النفعية والذرائعية والبراغماتية المصلحية.. ولعل من أكبر وأهم الأمثلة التي يمكن ضربها على الطبيعة الماهوية التأصيلية لتلك النظرة والعلاقة هي في علاقة هذا الغرب بالعرب والمسلمين، ليس اليوم بل منذ أزمان طويلة ممتدة في حركة التاريخ، حيث يلاحظ كيف أنها نظرة استعلائية فوقية وعلاقة وظيفية “ميكانيزمية” مرتبطة في العمق بسياق فكري ومعرفي غربي حضاري تاريخي عام، أُسّسَ له معرفياً وسياسياً بشكل مباشر -أو غير مباشر- في مديات زمنية طويلة متراكمة منذ قرون وقرون، نتيجة إصرار الغرب (ممثلاً بكثير من مواقعه ونخبه وسياسييه ورموزه الدينيين والعلمانيين) على التكريس المتواصل والتعبئة المستمرة والبناء التراكمي لهذه الصورة النمطية التاريخية السلبية الاتهامية والانحرافية عن الإسلام والمسلمين، والتي يقول مفادها الاستشراقي الحقيقي (مهما حاولنا تدوير الزوايا مع الغرب بشأنها) بأنّ هذا الإسلام -وجمهوره العام من المسلمين- هو دينٌ عدوٌ والعلاقة معه دوماً صراعية، وأتباعه أعداءٌ تاريخيون، همجيون وبربريون لا يؤمنون بالثقافة المدنية وقيمها التعايشية التسامحية، ويرفضون الحضارة والمدنية، وأن العقل الشرقي (الإسلامي) هو عقل سحري طوطمي أسطوري متكاسل ومتقاعس وطفيلي، غير منتج وغير فاعل، غارق في ماضويته، بل وغير قابل ليكون فاعلاً ومشاركاً ومنتجاً، وهو يعيش (يتعيّش) عالة على غيره، لا يحب الحياة بل يتمنى الموت وتفجير نفسه في الآخرين.
طبعاً هذا الغرب بأشكاله الدولتية السياسية المختلفة، خاصةً شكله الليبرالي الحديث (المستخدم لمطية حقوق الإنسان) -والذي حقق بلا أدنى شك فتوحات علمية واقتصادية وعملية كبرى لا مثيل لها قدمتها عقوله التنويرية والعلمية الجبارة على طبق من ذهب لمجتمعاتها وشعوبها بهدف إسعادها وتأمين حاجاتها ورفاهيتها حتى على حساب غيرها- هذا الغرب هو نفسه قام وتأسس على التطرف والمركزية والعداء للآخر واعتبر ثقافته عليا وباقي ثقافات وحضاارت العالم في مرتبة دنيا، هو المركز وغيره الأطراف.. يعني أسس للعنصرية والتمييز الفكري والسياسي، وللاستعباد العملي، مركزاً مفاهيم العنف والقوة في إدارة علاقاته مع الآخر، فاستخدم السطو العسكري وغير العسكري على حضارات ومقدرات الأمم والحضارات الأخرى، واشتغل فيها نهباً وسرقة لمواردها وخيرات الشعوب الفقيرة تحت مسمى وذريعة تحديثها وتمدين ناسها ومجتمعاتها المتخلة، ونقلهم للحضارة الجديدة، حضارة الآلة، والبارود، والطباعة (آنذاك طبعاً)… بينما كان هو (في واقع أمره) ينشد أسواقاً واسعة وممتدة، لفوائضه الإنتاجية الهائلة، ويبحث عن مواد خام جديدة تدير آلات مصانعه الكبيرة خدمةً للإنسان الغربي بالدرجة الأولى.. يعني نحن كنا –نحن العرب والمسلمين- مجرد “فرق عملة”.. ومجرّد أدوات صغيرة في آلته الجهنمية الكبيرة..
وفي سبيلِ تحقيق ذلك، استخدمَ الغربُ سلاحين مهمّين وكبيرين ونوعيين، سلاح نفسي فكري رمزي هو الاستشراقُ المعرفي القائم على دراسات علمية تفكيكية ميدانية سعى القائمونَ عليها –من علماء النّفس والتاريخ والأدب والإناسة البشرية والاجتماع البشري والسّياسة وغيرهم- سعوا وبقوة المعرفة العقلية، إلى فهم طبيعة ونفسية وتركيبة تلك الشعوب المهملة والمتخلفة التي كانت ما تزال ترتدي العباءة الدينية والتاريخية الرثة… وأما السلاح الثاني فكان سلاح العنف والعسكرة، السلاح العنفي الاحتلالي المباشر..
وقد نجح الغرب نجاحاً باهراً وفعالاً في استثمار واستغلال السلاحين الاثنين معاً.. فمن جهة استشرقنا فكرياً وبنيوياً، وعرفنا على حقيقتنا كما هي، أكثر بكثير ربما مما نعرف عن أنفسنا وذاتنا الحضارية (المتورمة والمتضخمة)، ومن جهة ثانية عنّفنا وأرهبنا في الآن معاً، وجعلنا دوماً محتاجين له في صناعته وقوانينه وآلياته العملية في الاقتصاد والعلوم ومختلف السلوكيات الناظمة لعمل الفرد والمجتمع… وأما قضية تحديثنا (كغطاء خارجي) فكانت مسألة شكليةً ثانوية، حيث عمل الغرب على تحديث نخب محددة من طبقات مدينية (التغريب الثقافي والسياسي)، أي من أبناء مدننا واجتماعنا العربي والإسلامي، ممن توفّرت فيهم شروطه المعيارية في الولاء والذيلية والاستلحاق والاستلاب.. وهذه النخب أصبحت كما أرادها الغرب مرتبطة به في الصميم، خاصة بعدما أعطاها وقدم لها الأموال والأراضي، فبات أفرادها لاحقاً من كبار الملاكين والتجار والأعيان وأعضاء مجالس البرلمانات وغيرها في زمن ما قبل نهاية مرحلة الاستعمار والانتداب… وزمن ما قبل نجاح ثورات التحرر من هذا الاستعمار الانتدابي الحديث.
نعم، كان العنف والإرهاب ديدن الغرب منذ زمن الثورة الفرنسية، ولا نريد العودة تاريخياً إلى ما قبل ذلك، لتقشعر الأبدان أكثر… وهذا العنف الدموي الصارخ لاحظناه مثلاً في فترة الثورة الفرنسية وحقبة “اليعاقبة” منها بالذات، حيث كان (الإقصاء الدموي والعنف البدائي الهمجي) سبيلاً لهم لتحقُّقِ غايات وأهداف الدولة الحديثة، ولاحقاً لاحظناه وعايناه خلال حقبتي النازية والفاشية، ثم خلال مرحلة الشيوعية في روسيا والدّول التي وصلت إليها الفكرة الشيوعية بالقسر والضغط والعنف وجحافل الدبابات.. وهذه الحقب خلّفت أكبر عدد ضحايا في تاريخ البشرية الحديث.
طبعاً، لا يجب أن نبرئ أنفسنا -نحن العرب والمسلمين- بطبيعة الحال، من وجود مناخ وفكر وسلوك الإقصاء والقتل والعنف الدموي الديني وغير الديني، فعندنا منه –ما شاء الله- فائض كبير، ولكن حديثنا هو أن تاريخ العالم البشري –بالتحديد العالم الغربي- ومنذ زمن طويل، هو تاريخ الاضطهاد والعنف والدم والإرهاب، ونادراً، نادراً ما كانت تشهد حياة البشرية فترات سلام ووئام ومحبة وهدوء إنساني وتفاعل بشري خلاق ومنتج.. ولكم أن تتخيّلوا مثلاً، أنه ومنذ عام 1978 وحتى اليوم، شهدت منطقتنا العربية فقط هنا في المشرق وفي هذه المنطقة بالذات الممتدة من: اليمن-الكويت-العراق-سوريا-لبنان-فلسطين، شهدت أكثر من 6-7 حروب كلاسيكية وحديثة، فضلاً عن الحروب الصغيرة الداخلية في كل بلد.. هو رقم مخيف ومفزع، والمفزع الأكثر والأكبر هو عدد الضحايا الذين سقطوا فيها، والخسائر المادية الهائلة التي نتجت ونجمت عنها من ثرواتنا ومقدراتنا ومواردنا الطبيعية والبشرية التي لا تقدر بثمن..!!.
ماذا فعلنا بأنفسنا؟ وماذا فعل العالم بنا؟.. ويقولون لك: عالم حر، وعالم إنساني، وشرعة أمم متحدة، ومبادئ حقوق إنسان، وكرامة إنسانية، وتنمية مستدامة، وووالخ..
للأسف هذا هو واقعنا القائم في راهننا المعاصر، وهذا العنف الهائل المتراكم في بيئاتنا يعود السبب الأكبر والأساسي في إشعاله أو جعْله على الدوام ناراً تحت الرماد إلى ما فعله هذا الغرب الاستعماري بنا، وليس فقط إلى وجود قابليات عنفية عندنا..
من هنا بات لزاماً على هذا العقل الغربي العميق -الذي سيطر واستحكم ونهب، وتغلغل ووضع كياناً عنصرياً (الكيان الصهيوني) مؤسساً لمقولة العنف الحديث في بلداننا- أن يعمل على تصحيح مسيرة الليبرالية السياسية القائمة نظرياً على الحريات والانفتاح وتقبُّل الآخر والتسامح الثقافي والمجتمعي، وأن يكون (هذا العقل الغربي) موضوعياً منتجاً ومسؤولاً ليس في مجاله الحضاري فحسب، بل في المجالات الحضارية للأمم والمجتمعات الأخرى، إذ ليسَ من المعقول والعدل أن تكون عقلانياً وموضوعياً وعادلاً في بيئتك، وعدوانياً ومؤيداً للظلم في بيئات أخرى فقط لأنّ لك مصالح وأجندات ومكاسب خاصة..!!. فالعدل عدل، والظلم ظلم، والعنف عنف، في أي بيئة نشأ وإلى أي موقع ثقافي وسياسي انتمى..!!.
وعلينا أنْ ندركَ أنَّ إشكاليات العنف عموماً وبخاصة منها الإرهابَ والتطرف لا دين لها، على الرغم من شعارات القداسة الدينية التي يرفعها أتباع العنف والإرهاب، وعلى الرغم من محاولات تبيئتها دينياً وقداسياً في مجتمعاتنا.. فالأديان عموماً –في جذرها التأسيسي- تدعو لقيم الحق والخير والجمال، وتعمل على تكريس معاني التسامح والمحبة والإخاء الإنساني، وتعميم ثقافة العيش المشترك والاعتراف بالآخر المختلف، وتأمر ببناء علاقات إنسانية بين المختلِفين من أبناء هذا العالم…
طبعاً، هذا التوصيف الإيجابي العقلاني، الناظر بعمق لمعنى الاختلاف والتعدد في الثقافة والدين بالذات، لا يعني –بأي حال- عدم وجود نقاط سلبية تخالفية وغير مشتركة، في عمق الفكر الديني لكل الأديان، سواء منها الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، فكل واحد منها فيه الجيد وفيه السيء، فيه الخيّر وفيه الشرير، وفيه من يستثمر في المقدس، ويستغل النصوص والقداسة لتحقيق منافع وأجندات خاصة..
والقضية هي قضية استغلال وتأجيج لمنطق الصراعات والهوس بعقائد إقصائية رافضة للآخر، وتحريك لعقول ناقصة لتنفيذ مخططات إجرامية، أقول دوماً أن لا علاقة للأديان بها، فهي سلوكيات بشرية تستمد قوتها وآليات تفجرها من أنانية الإنسان وجشعه ورغبته بتحقيق غرائزيته على حساب غيره من البشر والمجتمعات والحضارات..
والأمل بوصولنا لواقع تعايشي بعيد عن العنف والقوة والتسلط الذاتي والموضوعي بعيد جداً ما لم نتمكن من بناء ثقافة إنسانية جديدة نعزز فيها مشتركاتنا الإنسانية مع أنفسنا ومع الآخر، وقبل ذلك أن يتم بناء المجتمعات على منظومة الحقوق وقاعدة الاعتراف بالآخر..
نعم، إن الأوطانَ لا تُبنى ولا تتطوّر وتزدهرُ إلا بالوجود القانوني لمبدأ المواطنة، وتَعَمُّق ثقافة التّسامح والعيش المشترك، بعيداً عن العنصرية الثقافيّة والغلو المعرفي والانغلاق الهوياتي والسياسي..
4 تعليقات