مَنْ وأد النهضة العربية؟ بقلم : حسونة المصباحي

 
خلال العشرين سنة الماضية، وبسبب الانتكاسات والاخفاقات والاحباطات التي مني بها العالم العربي في مجالات متعددة وما آل إليه من تدهور على جميع الأصعدة، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، شرع عدد لا بأس به من المثقفين والمفكرين في التشكيك الواضح والصريح في النهضة العربية التي رأت النور في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والطعن في أفكارها وانجازاتها، بل في وجودها أصلا. ويزعم فريق من هؤلاء ان النهضة العربية كانت عرجاء إذ انها قامت على أفكار مسطحة، وعلى برامج باهتة، وعلى أسس هشة. وكان قادتها ورموزها محدودي النظرة والأفق والتفكير، لذا هي لم تقو على الصمود طويلا أمام الزمن وعواصفه وهزاته. وهكذا تلاشت آثارها بسرعة، وعاد العالم العربي إلى عتمة التخلف والانحطاط. أما الفريق الآخر فينسف النهضة من أساسها مدّعيا أنها كانت مجرد وهم وسراب.

وظني أن مثل هذه الأفكار وهذه الآراء ليست بالغريبة ولا بالمفاجئة، فمن سمات الأزمنة الصعبة، انها تدفع بالبعض إلى التشكيك في كل شيء، بل إلى العدمية المطلقة أحيانا، وتولّد التطرف في التفكير والسلوك والمواقف. والزمن العربي مطلع هذه الألفية الجديدة، يبدو قاتماً بأتمّ معنى الكلمة. فالأوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم، والشعوب تزداد فقرا وتشاؤما تجاه المستقبل، والقيادات السياسية العربية تبدو عاجزة عن مواجهة التحديات الراهنة والقادمة، والنخب الفكرية والثقافية ترزح تحت القنوط واليأس أو هي باعت الضمير، وبات دورها مقتصراً على خدمة الأنظمة القائمة وتبرير ودعم سياساتها الظالمة. فليس من الغريب إذن والوضع على هذا الحال أن نسمع ونقرأ أفكاراً وآراء تشكك في النهضة العربية، بل وتقوض دعائمها وأسسها وبكلمة واحدة أو بجرّة قلم هي تمحو جميع انجازاتها.

ولكن ألا يجدر بنا إذا ما نحن ارتأينا حقا الجدل المفيد والنافع أن نعود من جديد إلى النهضة وأن نحاول بهدوء ومن دون تطرف أو انفعال أو حماسة البحث فيها وفي ما قدمته أو لم تقدمه للعالم العربي؟. واعتقادي أن اثارة مثل هذا الجدل سوف تثري حياتنا الثقافية والفكرية الراكدة ركود المستنقعات الآسنة، وتبعث فيها شيئاً من النشاط والحيوية، وتسمح لنا نحن بمراجعة ماضينا القريب، فلعلّ ذلك يساعدنا على فهم بعض الجوانب من حاضرنا ومن مستقبلنا. وقد يعترض البعض ويقول بأن مراجعة النهضة تمت في أكثر من مناسبة من خلال العديد من الندوات واللقاءات، كما صدرت في شأنها مئات الدراسات في المجلات المختصة وغير المختصة. غير أني أرى أن ما قمنا به تجاه النهضة ظل حتى هذه الساعة اكاديمياً ونخبوياً وحبيس القاعات المغلقة في حين أن الجدل بشأنها لا بد أن يكون شاملا وعامّا. ويعني ذلك، أن يكون محوراً أساسياً في جامعاتنا ومراكز بحوثنا وعلى صفحات جرائدنا ومجلاتنا وألا يكون الهدف منه مراجعة الماضي، بل قراءة الحاضر واستشراف المستقبل.

لقد مضت على النهضة الأوروبية قرون عدة، مع ذلك هي لا تزال حاضرة في العقول وفي الجامعات ومراكز البحوث، وما زال الحديث بشأن مقوماتها محوراً أساسياً في الحياة الثقافية والفكرية. ويقول المؤرخ الفرنسي الكبير جاك لوجوف المختص في العصور الوسيطة: «لقد اكتشفت مع مرور الزمن، ومن خلال الأبحاث التي قمت وأقوم بها في مجال اختصاصي ـ أي التاريخ ـ أن القرون الوسطى والنهضة التي اعقبتها مرحلة اساسية في تكون مجتمعاتنا الأوروبية وثقافتها. بل اعتقد أنها المرحلة الأهم في تاريخنا». ويضيف جاك لوجوف قائلا: «نحن أبناء العصور الوسيطة والنهضة التي تولدت منها». ونحن أيضا مدينون بالكثير للنهضة ولإنجازاتها وأفكارها ومقوماتها ورجالاتها. ومثلما كانت النهضة الأوروبية فاصلة بين زمنين، كانت النهضة العربية على هذه الصورة أيضا. فقبلها كان العالم العربي صحراء يلفها الظلام، كل شيء هامد فيها، فلا حركة ولا نشاط ولا أفكار جديدة.. بل صمت شبيه بصمت المقابر. وشعوب مسلوبة الإرادة والعقل والذاكرة، وحكام شبه غائبين عن الوعي، يجهلون ما يدور في بلدانهم وخارجها. أما حال الثقافة والأدب واللغة، فكان على أسوأ وأقبح صورة، فالأمية كانت طاغية واللغة كانت جامدة لا تعكس الواقع في شيء، وما كان ينتج من أدب وشعر كان ضحلاً ومبتذلاً. وإجمالا، يمكن القول بأن العرب حكاماً ومحكومين كانوا يعيشون في شبه غيبوبة. وكان وعيهم بحاضرهم ومستقبلهم جدّ محدود، بل يكاد يكون منعدماً. أما ماضيهم فكان شبيهاً بخيمة منتصبة وسط الصحراء بها يلوذون للاحتماء من رمضاء واقعهم المرير، ولنسيان المظالم المسلطة عليهم من قبل أنظمة فاسدة وقوى أجنبية بدأت تحتلّ أراضيهم وتهدر كرامتهم، ولكن حتى ذلك الماضي الذي كانوا به يتبجحون ويتغنون لم يكن واضح المعالم، إذ ما كان باستطاعة العرب وهم على تلك الحالة من الركود ومن غياب الوعي أن يميزوا عناصر القوة والضعف فيه، ولا أن يتعرفوا على مميزاته وخصائصه ومكوناته في جميع المجالات. فلما هبت ريح النهضة، خصوصا بعد عودة النخب العربية من أوروبا ودرست في جامعاتها وتزودت باطلاع لا بأس به على مختلف أشكال المعرفة الحديثة، بدأت الأوضاع في العالم العربي بمشرقه ومغربه تتغير نحو الأفضل وعلى جميع الاصعدة. فعلى المستوى السياسي، تأسست أحزاب وظهرت حركات كان هدفها الأساسي إيقاظ العالم العربي من «سباته الطويل» والعمل على تحديثه وتعريفه بمقومات الحضارة الأوروبية وبسبل التقدم والتطور وايضا مقاومة القوى الاستعمارية التي كانت تهيمن عليه وتستغل ثرواته. وعلى المستوى الفكري والثقافي، اخذت النخب العربية تروّج عبر الجامعات والمدارس التي تأسست حديثاً، وأيضا عبر الصحف والمنابر الأدبية والفكرية، الأفكار التنويرية الجديدة التي جاءت بها من أوروبا، نافضة الغبار الذي تراكم على مدى قرون الانحطاط الطويلة حاجباً عن العرب أنصع ما في تراثهم القديم من أدب وشعر وفلسفة وعلوم وغير ذلك. وعلى المستوى الاجتماعي حدثت تحولات كثيرة، فقد تسبب انتشار التعليم في تنوير عقول فئات واسعة من الشعب، ورفع من شأن المرأة التي ظلت حتى ذلك الوقت مكبلة بقيود العادات والتقاليد البالية. وفي المشرق والمغرب، ارتفعت أصوات مثقفين من أمثال قاسم أمين في مصر والطاهر الحداد في تونس تطالب بتحرر المرأة وضمان حقها في التعليم والعمل.

ومع بدايات القرن العشرين، بدأت تبرز للعيان الإنجازات الهائلة التي حققتها حركة النهضة في ظرف زمني قصير، وقد تجلى ذلك في المجال السياسي، حيث تمكن العديد من الأحزاب التحررية من التغلغل في اوساط الجماهير، ومن تفجير العديد من الانتفاضات ضد الاستعمار وضد الانظمة الفاسدة. أما على المستوى الأدبي والفكري، فقد بدأ الأدب العربي يعرف تطوراً هائلا في جميع فروعه، خصوصا بعد أن أصبح يعكس هموم الناس وطموحاتهم وأحلامهم وأوجاعهم ايضا. ولم تعد اللغة العربية لغة انتحال ومحاكاة مثلما كان أمرها من قبل، بل غدت لغة تقول الواقع وتسميه. وفي المجال الفكري، اضحى التنوير الهدف الأساسي لجميع النخب. وقد برز ذلك واضحاً في كتابات طه حسين خصوصاً كتابه «في الشعر الجاهلي» وفي اطروحات علي عبد الرازق حول الفصل بين الدين والدولة وفي كتابات سلامة موسى وروايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم. ويمكن اعتبار الثورة الهائلة التي عرفها الشعر العربي أواخر الاربعينات واوائل الخمسينات، احدى ثمار حركة النهضة. وينسحب ذلك على أهمّ الأعمال والإنجازات التي عرفها العرب في مجال الموسيقى والمسرح والسينما والفنون التشكيلية. ولا اعتقد أن هناك شكاً أو اختلافاً في أن الاستقلالات التي حصلت عليها البلدان المستعمَرة (بفتح الميم) كانت هي أيضاً نتيجة فعلية ومباشرة لها.

وكانت النهضة العربية قد اضحت فتاة حسناء على أبواب النضج والاكتمال عندما وُئدت!! لكن من هم الذين ارتكبوا هذه الجريمة الشنيعة في حقها؟ لن يتردد لا لساني ولا قلبي في التأكيد على أن هؤلاء هم في المرتبة الأولى، الأنظمة العسكرية وأنظمة الحزب الواحد، التي حكمت وتحكم العالم العربي مشرقاً ومغرباً منذ خمسين عاما. ففي حين كانت حركة النهضة تمثل التنوع وحق الاختلاف في الرأي وفي التفكير، والرغبة في التحرر والتطور والتقدم، فإن هذه الانظمة الشمولية جاءت مضادة ومعادية لمثل هذه الطموحات والرغبات، وناسفة لمثل هذه التطلعات والأفكار والمشاريع. انها أنظمة تريد أن يكون التفكير واحداً أوحد والرأي كذلك، والبرلمان مجرد اداة لدعم سياساتها وتلميع صورتها القبيحة، والجامعات مراكز لتخرج انصارا طيّعين لها. أما الشعب، فهو مغيّب وملغى تماماً، فإن حضر فلكي يملأ الساحة العامة يوم يخطب «الزعيم الأوحد» أو يوم يحتفى بعيد ميلاده، أو بانتصاراته الوهمية في معارك خاسرة مسبقاً. وإذا ما كان زعماء حركة النهضة ورجالاتها من سياسيين ومفكرين ومثقفين، قد تعاملوا مع الغرب بذكاء وحكمة محاولين من خلال هذا التعامل البحث عن سبل التطور والتقدم للعالم العربي، فإن الأنظمة العسكرية وأنظمة الحزب الواحد قد تعاملت معه من زاوية واحدة تتمثل في أنه حليف لإسرائيل وبالتالي هو عدوّ للعرب ولا شيء غير ذلك.

ثم ان الأنظمة العسكرية وأنظمة الحزب الواحد أقامت حكمها على أسس آيديولوجية ومذهبية معادية للفكر الحر، وللبحث والخلق والابتكار والتعدد والاختلاف، واعتماداً على ذلك هي حاربت جميع المعارضين لها بدون استثناء، سياسيين كانوا أم مثقفين أم مفكرين، ملقية بهم في السجون، مجبرة اياهم على اختيار حياة المنفى، بل ومعدمة البعض منهم لأنهم، حسب رأيها، «خونة»، و«عملاء للغرب والصهيونية». أما الذين رضخوا لنفوذها، فقد تحولوا إلى وشاة ومخبرين وخدماً لها ولأجهزة مخابراتها. وفي مذكراته القيّمة الصادرة قبل عام، يتحدث د. عبد الرحمن بدوي عن الفساد الذي خرّب الجامعة في العهد الناصري ويقول إن الاساتذة كانوا يتنافسون في العمل في جهاز المخابرات، وكتابة التقارير لمكتب الأمن وللمخابرات العامة وللمخابرات العسكرية، وأصبحت المناصب تمنح لعملاء النظام وللموالين له. وهذا الذي حدث في مصر، القلب النابض لحركة النهضة، حدث ايضا، واحيانا بشكل أقبح وأفظع في جميع البلدان التي حكمتها وتحكمها الأنظمة المشار إليها آنفاً.

الشيوعيون العرب ساهموا هم ايضا وبقسط هام وكبير في تدمير وتخريب مقومات حركة النهضة وانجازاتها، خصوصاً في مجال الفكر والأدب واللغة. فقد كان العالم العربي لا يزال يعاني من مخلفات عصور الانحطاط والتخلف الطويلة، وكانت حركة النهضة لا تزال في طور التشكل والتبلور لمّا تسرّبت الشيوعية إلى النخب العربية. وكانت الاوضاع السياسية، هي السبب الاساسي في ذلك!. وإذا ما كان كارل ماركس، قد تحدث ذات يوم عن «بؤس الفلسفة وفلسفة البؤس»، فإنه بإمكاننا ان نتحدث نحن ايضا عن «شيوعية البؤس وبؤس الشيوعية» بالنسبة للعالم العربي، ذلك أن الشيوعية العربية كانت بالفعل شيوعية ضحلة وفقيرة إلى أبعد حدود الضحالة والفقر. إنها شيوعية شعارات وليست شيوعية أفكار. شيوعية تعتمد على المقولات الجاهزة وليس على التحليل الرصين والعميق والجاد للواقع العربي. وبسبب قراءتهم العمياء والمتسرعة للماركسية، ارتكب الشيوعيون العرب اخطاء فادحة. فقد راحوا مثلا يتحدثون عن الطبقة العاملة في حين أن هذه الطبقة كانت شبه منعدمة الوجود وبالتالي فإن تأثيرها على حركة التاريخ والمجتمع كان محدوداً، كما طفقوا يتحدثون عن طبقة الفلاحين في حين أن هذه الطبقة كانت تعيش الأمية المطلقة، والجهل التام بما يدور حولها. واما مقولة «الصراع الطبقي» فقد استعملت هي ايضا في غير محلها، إذ ان الطبقات الاجتماعية في مختلف أنحاء العالم العربي لم تكن تعيش هذا الصراع بصفة جادة وفعلية، مثلما كان الحال في أوروبا، وإنما كانت تعيش «وحدة وطنية» بحكم الهيمنة الاستعمارية. معنى هذا ان المجتمعات العربية كانت تعيش في واد والشيوعيون العرب الذين كانوا يزعمون انهم «ضميرها» يمرحون في واد آخر.

وبتقسيمهم العالم إلى «أبيض وأسود»، وإلى «تقدمي ورجعي»، هم لم يفعلوا شيئا آخر غير خنق ذلك الجدل الفكري والثقافي الجاد والحار والحماسي الذي فجرته حركة النهضة باثّين الخلافات والانقسامات في صفوف النخبة العربية، معمّقين الشقاق والفرقة بين افرادها، حتى اللغة لم تسلم منهم، فقد حولوها إلى قوالب جاهزة تماماً مثلما فعلت الأنظمة العسكرية وأنظمة الحزب الواحد.

ولكن هل ماتت النهضة العربية بعد أن دفنت حيّة؟، ما أظن ذلك. صحيح أن العالم العربي يبدو الآن بمشرقه ومغربه شبيهاً بصحراء قاحلة على المستوى الفكري والثقافي، أما على المستوى السياسي فهو يتبدّى كما لو أنه سجن رهيب خال من التسامح ومن الحق في الاختلاف ومن كل ما يمكن أن يتيح للإنسان العربي العيش في حرية والتمتع بالحرية وبحق المواطنة… مع ذلك، ثمة في هذه الصحراء القاحلة وهذا السجن الرهيب، بؤر من الضوء تلوح هنا وهناك، دالة على أن النهضة العربية لم تمت بعد، وإنما هي قادرة على أن تعود إلى الحياة شرط أن نساعدها وأن نزيح كتل التراب الثقيلة التي ترزح تحتها منذ ازيد من خمسين سنة. عندئذ سوف تصبح بؤر الضوء هذه.. ضوءاً ساطعاً ومنيراً يعيد للعالم العربي اشراقته وبهاءه وللشعوب العربية الأمل والتفاؤل والقدرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

1 تعليق

آمنه خالد المطيري 8 يونيو، 2021 - 11:12 ص
بالفعل طال انتظار النهضة العربية ، قرأت سابقً مقالة لأحد الكتاب عن النهضة العربية يقول بها أن السبب الذي جعل مسار النهضة يؤول إلى ثقافة التطابق أي إلى طريق مسدود ومشروع مغيب،إلى طبيعة النهضة مع الماضي .فقد كان الشغل الشاغل للنخب التي دفعت بالنهضة وانخرطت فيها متمثلا في الحرص على الندية مع الآخر.وكان هاجس الفاعلية في الحاضر هو الغالب مما جعل غاية النهضة تتحدد في تشكيل عناصر الأمة ضمن اختيارات الحضارة الجديدة ومتطلباتها كما يرى أن إشكالية النهضة ترجع إلى طبيعة صلتها مع الماضي، وهذا ما يدفعه إلى ضرورة التمييز بين غائية النهضة ومضمونها ،وما يقتضيه من الالتحام بالآخر وبين منابع النهضة وحسها التاريخي،أي مرتكزات قوتها الأساسية وهو الجانب المتعلق بالهوية والتراث .
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد