الملخص:
تعيش المناهج التعليمية تحدٍّ كبير بسبب غزارة المعارف وتزايد الابتكارات التقنية والعلمية في مختلف المجالات. وفي ظل حصول الوعي بمحدودية قدرة المتعلمين والمتعلمات في تحصيل كلِّ المعارف وتملكها، أصبح مطلب استدماج مهارات التفكير بما هي موضوعات للتعلم وأدوات لبناء المعارف في الآن نفسه، مطلبا ملحا لتنهض المدرسة بوظيفتها التربوية في توافق مع متطلبات العصر المتحول.
يحاول هذا المقال تسليط الضوء على قيمة وضرورة إيلاء مهارات التفكير واستراتيجياته العناية اللازمة في كل هندسة بيداغوجية للمناهج التربوية. كما يروم عرض بعض الصيغ والمداخل التي يمكن استثمارها لربح رهان التوازن بين مطلب تنمية مهارات التفكير ز المعرفة بما هي مادته.
المفاهيم المفاتيح: مهارات التفكير – الميتا-معرفية – استراتيجية التعلم – التفكير -السيرورة الذهنية
Abstract:
Curriculum and bet teaching and learning thinking skills the educational curricula face a great challenge due to the abundance of knowledge and the increase of technical and scientific innovations in various fields. Educational in accordance with the requirements of the changing age.
This article attempts to highlight the value and necessity of giving thought skills and strategies the necessary care in every pedagogical engineering of the curriculum. It also aims to present some formulas and approaches that can be invested to win the balance between the demand for the development of thinking’s kills and knowledge of what is its subject.
Concepts Keys: thinking skills – Meta-Cognitive -Learning Strategy – Thinking -The mental process.
1- مقدمة:
تعتبر المدرسة مؤسسة اجتماعية ناهضة بتنمية شخصية المتعلم وإعدادها للاندماج في المجتمع. إنها قناة لنقل المعارف والثقافة والعلوم من جيل لآخر. وما يعرفه عالم اليوم من دينامية في مختلف مناحي الحياة ووجوهها، يساهم بشكل وافر في غزارة المعارف وتزايد الابتكارات التقنية والعلمية.
إن هذا التطور الحاصل، يجعل المناهج الدراسية مطالبة بأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار أثناء تحديد اختياراتها البيداغوجية والديداكتيكية ومداخلها التربوية ومحتوياتها التعليمية. وليس بالأمر الهين أن تحصل القدرة للمناهج الدراسية للتعامل مع الزخم المعرفي والمهاري الذي بات يفرض نفسه كمطلب للتعليم والتعلم، في ظل حصول الوعي بمحدودية قدرة المتعلمين والمتعلمات في تحصيل كل المعارف وتملكها. لهذا، تجد المناهج الدراسية نفسها أمام تحد بَيِّنٍ، انتفاؤه رهين بالانتقال من نموذج تربوي متمركز على المعارف إلى نموذج بديل متمركز على إكساب المتعلم منهج توليد المعارف وبنائها بشكل واع اعتمادا على الفعالية الذاتية في التعلم. إن تحليل مستلزمات هذا الانتقال يفصح عن ضرورة توفر أمرين على الأقل، هما:
- إقدار المتعلم على التحكم في مهارات التفكير القادرة على تطوير وتنمية العمليات الذهنية الكفيلة ببناء المعارف.
- تبني نموذج بيداغوجي يسمح بتحقيق التكامل بين المضامين الدراسية وتعليم وتعلم مهارات التفكير.
2- مهارات التفكير مدخل لتجديد أدوار المدرسة
تبرز أهمية تعليم وتعلم مهارات التفكير من خلال تمتع هذه الأخيرة بالصلاحية الدائمة في الوقت الذي تصير فيه المعارف على أهميتها متقادمة وفي حاجة إلى التجديد. وعليه، تعتبر مهارات التفكير شرط بناء المعرفة وتجددها. وتعليمها للمتعلم يضمن له الوعي بأدوات بناء المعرفة وسبل توظيفها باستخدام العمليات وراء المعرفية[1].فالتفكير يستلزم حصوله عدة عمليات ومهارات معرفية هي في الأصل غير مترابطة وتستعمل مجتمعة أو جزء منها لتحقيق نتيجة أو هدف محدد. وهنا ينبغي التمييز بين تعليم وتعلم هذه المهارات وممارسة التفكير بما هي محصلة اشتغال هذه المهارات وفق ترابط يخدم الغاية من التفكير نفسها.
إن الاعتراف الذي باتت تتمتع به مهارات التفكير كموضوع للتعلم ووسيلته، يلزم المدرسة بتجديد وظيفتها التقليدية. فصلاحية المناهج الدراسية وطرائق التدريس تقاس اليوم بمدى قدرتها التحفيزية على التفكير وإكساب المتعلمين والمتعلمات مهارات التفكير التي يستوجبها حل المشكلات وأساليب التفكير الاستكشافي والتفكير النقدي وغيرها من أنماط التفكير التي تسهم في الارتقاء بعمليات التفكير العليا التي باتت تشكل موضوعا رئيسا لما بات يعرف بالميتا-معرفية[2] La métacognitionالتي تدل في معناها الواسع على السيرورة الذهنية التي تقود لتأمل طريقة التفكير، فتكون الذات المفكرة واعية بسيروراتها المعرفية التي يستدعيها النشاط التعليمي التعلمي كتتبع تطور الفهم الحاصل بخصوص موضوع ما أو مجموعة من المواضيع أو تنظيم وانتقاء الموارد التي تستدعيها وضعية ما، فضلا عن تحليل سيرورة تطور طريقة التفكير وكيفيات واستراتيجيات الاكتساب.
اعتبارا لقيمة تعليم وتعلم مهارات التفكير لتحقيق مطلب انعكاس الفكر على ذاته، وحتى لا يبقى المتعلم مسترجعا حافظا للمعارف ومرددا لها، بل منتجا وموظفا وناقدا لها حسب ما تفرضه السياقات التعليمية أو المعاشة، تبقى المناهج التعليمية مدعوة لإعادة النظر في أساليب التدريس ووضعياته وتصميم المقررات الدراسية وإعداد وتكوين الفاعلين التربويين
إن التربية التي تروم إعداد أفراد متمتعين بحس نقدي لا يمكنها أن تحقق مبتغاها إلا بتجديد أفكارها ومنهجيات اشتغالها في أفق تمكين الأجيال بمهارات عقل منهجي يضمن فهم وتحليل الواقع وتحديد القرارات الناجعة في التعامل معه. فمهارات التفكير هي بالأساس أدوات للتفكير بكفاءة، واستعمالها يمثل أساسا ومنطلقا لكل تفكير ناقد نتائجه وأحكامه معللة تعليلا عقلانيا.
تولي مهارات التفكير اهتماما كبيرا للإدراك والقدرة على الفهم والتحليل وتوجيه الانتباه. إذ يلزم تفعيل عمليات تعليم مهارات التفكير في المناهج الدراسية إعادة صياغة هيكلتها في صورة تسمح بتدريب المتعلمين والمتعلمات على استخدام مهارات التفكير والاستكشاف والاستقصاء والمناقشة والتحليل وتبرير المواقف والدفاع عن الآراء بشكل عقلاني. ولا يتحقق هذا الأمر إذا لم تصر الأنشطة التعليمية التعلمية ذاتها خادمة لهذه المهارات وفي الآن نفسه تتخذ منها شرطا لحصول التعلم الجديد.
وفي هذا الإطار يذكر لوران ريسنيك LAUREN B. RESNICK في كتابه تعليم وتعلم التفكير[3]أن ملامح التفكير الجيد لا يمكن رصدها إلا ضمن وضعيات تستلزم تفكيرا يقود لأفعال تعكس الخصائص الآتية:
- التفكير الجيد لا ينحصر في طرحه للحلول للحل الواحد؛
- التفكير الجيد يقود لحلول عدة، كل حل تكلفة خاصة به وله نقط قوة ونقط ضعف؛
- التفكير الجيد يفرز حكما دقيقا وتفسيرا مقنعا؛
- التفكير الجيد هو محصلة معايير متعددة.
إن الاهتمام بتنمية مستويات التفكير العليا لدى المتعلمين والمتعلمات يجعل من تعليم التفكير خيارا حيويا في إعادة بناء النموذج التعليمي الذي يأخذ في صياغته الموجهات الآتية:
- تنمية مهارات التفكير سبيل للوصول إلى التفكير الفعال.
- قيمة التعلمات تقاس بالقدرة على حل المشكلات.
- تعديل السلوكات مشروط بتعديل طرق التفكير.
- كل موقف تعليمي جديد يودي إلى تعلم جديد.
- المتعلم(ة) مشارك في اختيار محتويات التعلم.
- النشاط التعلمي محكوم بهدف حاصلة معرفته لدى المتعلم(ة).
- المتعلم(ة) منظم لأفكاره ومعدل لاستراتيجياته حسب تنوع المواقف.
- المتعلم(ة) واع بما يحدث في ذهنه.
- المتعلم(ة) قادر على استدماج تعلمه الجديد في خريطته المعرفية -الذهنية.
- المتعلم(ة) على وعي بمحدودية معرفته السابقة.
هكذا، يستلزم تعليم مهارات التفكير وتعلمها تمرينا ودربة على التعامل مع مواقف ووضعيات ومشكلات ذات معنى بالنسبة للمتعلمين والمتعلمات[4]. إن البحث عن الحلول أو تجاوز الصعوبات التي تصادفها عملية التعلم ضمن وضعيات تحفز المتعلم(ة) على تطوير قدرات محددة. وهو ما يجعل التعلم أكثر عمقا، وأقوى تأثيرا في كيفيات التفكير والمعالجة والسلوك والاتجاهات والمواقف القيمية. وعليه، ينبغي أن يركز تعليم مهارات التفكير على الفعالية الذاتية التي تكون موجهة باستراتيجيات صريحة وتمثيلات رمزية لحل المشاكل واتخاذ القرارات وتعلم المفاهيم الجديدة[5].
3- جدلية العلاقة بين مهارات التفكير ومحتويات التعليم:
من بين مهارات التفكير التي يمكن أن تكون موضوعا للتعلم، نذكر: مهارة حل المشكلات التي نستعملها هاهنا للدلالة على مجموع الأفعال والعمليات الفكرية التي يستخدمها المتعلم(ة) لأداء مهمة محددة ذات متطلبات عقلية ومعرفية. فهي بمثابة وضعية تعليمية تعلمية تسمح للمتعلم(ة) باستدعاء معارفه السابقة ومهاراته التي يستوجبها موقف لم يسبق له أن كان مألوفا لديه، وحله يحصل بحل التناقضات المترتبة عن غياب الترابط المنطقي بين مكونات الموقف أو عبر تجاوز غموض حاصل فيه.
إن تعلم مهارة حل المشكلات نافع لتنمية الخبرات الحياتية. فإذا ما تم اتخاذ الوضعية المشكلة إطارا ديداكتيكيا للتعلم وتم إخضاء المواقف التعليمية لها، ساهم ذلك في تفعيل دور المتعلم(ة) والرفع من درجات التدرب عليها في مختلف لحظات التعلم، لكون هذه المهارة تستهدف البنى العقلية والبنيات المعرفية، بما هي تعلمات ومكتسبات سابقة وتحقق التفاعل بينهما في سياق ذي معنى يستلزم التعامل معه تحقيق تعلم جديد.
في ضوء ما سبق، وفي ظل التحديات التي بات يفرضها الانفجار المعرفي والتقني، أصبحت المنظومات التربوية ملزمة بمسايرة هذا التحول من خلال استحضار العلاقة بين موضوع التعلم وأدواته. فإذا كانت المعرفة ضرورية لنمذجة الواقع وتمثيل المعلومات عقليا، فإن هذا العقل لن ينهض بمهمته إذا لم ينظر إلى مهاراته كموضوعات للتعليم والتعلم، وفي الآن نفسه أدوات تسمح للكائن البشري بالتعامل مع المعارف بما هي مادة للتفكير. وفي هذا السياق ستجد المناهج التربوية نفسها أمام متغيرين أساسيين يوجها هندستها البيداغوجية ويحددا اختياراتها التربوية: المعرفة ومهارات التفكير.
وفيما يلي نقدم بعض الاختيارات البيداغوجية التي يمكن أن تكون ناظمة لعملية تعليم وتعلم مهارات التفكير في علاقتها بالمحتويات الدراسية:
أولا: تعليم مهارات التفكير كمادة مستقلة بذاتها: يمكن تعليم التفكير كمادة مستقلة بذاتها، مثلها مثل باقي المواد الدراسية. وتعليمه بهذه الصورة يمكن من تحصيل نتائج أفضل، لأن المتعلم(ة) تتاح له فرصة التعرف على الاستراتيجيات التي يوظفها من خلال عملية تأمل للتفكير (تفكير في التفكير) ويحصل له الوعي بمصادر الأخطاء التي يرتكبها. كما يكون بإمكانه تعلم استراتيجيات جديدة بشكل صريح مع إمكانية تقويم أدائه لها ولنجاعتها.
ثانيا: تعليم مهارات التفكير من خلال محتوى دراسي: تدعم مهارات التفكير واستراتيجياته بشكل ضمني من داخل مادة دراسية قائمة بذاتها. ويكون الغرض من ذلك، تمكين المتعلم من المشاركة في بناء التعلمات دون أن تكون كيفيات التعلم وأدواته غاية في النموذج الديداكتيكي الناظم لتدريسية هذه المادة.
ثالثا: تعليم مهارات التفكير من خلال مدخل تكامل المواد: يتم تعلم التفكير ومهاراته واستراتيجياته بشكل صريح من خلال محتوى تعليمي خاص ومستقل عن باقي المواد الأخرى، ليتم ربطه بها فيما بعد، من خلال إعادة تنظيم عملية التعليم التي ستحث المتعلمين والمتعلمات على استخدام وتطبيق المهارات والاستراتيجيات التي تم اكتسابها على تعلمات باقي المواد الدراسية.
رابعا: تعليم مهارات التفكير من خلال المنهاج الدراسي: يتم تعلم مهارات التفكير من خلال المنهاج الدراسي كافة. فالمهارات العقلية التي يتم تعلمها في هذا السياق، يتم تعزيزها بشكل مشترك في جميع المواد الدراسية. وهذا الاختيار يستلزم دمج هذه المهارات كموضوعات للتعلم في مختلف المواد الدراسية. وتبقى مشاركة المتعلمين والمتعلمات في مختلف الأنشطة رامية إلى بناء المعارف من جهة، وإلى الوعي بالمهارات التي تطلبها البناء، وكيفية توظيفها.
4- خلاصة:
إن دمج مهارات التفكير كموضوعات تعلم في المنهاج الدراسي يعني إقامة بيئة تعليمية تشجع المتعلمين والمتعلمات على تنظيم عمليات التعلم الذي يكون حاصلا بفعل المراس والمشاركة وتوظيف المهارة داخل الفصل الدراسي بشكل واع. ولا يمكن أن يتحقق مطلب تعليم وتعلم التفكير ومهاراته إلا إذا عززته الممارسات الديداكتيكية ووعتهفي تعاملها مع المادة المعرفية دون إحداث أي شرخ بين المعرفة ومهارات التفكير التي يتم التعامل معها بشكل مقصود وصريح عبر التدريب والممارسة المخطط لها مع مراعاة التوازن بين مطلبي المعرفة والمهارة في الآن نفسه.
[1]-Robert. J. Sternberg and Karin Sternberg, Cognitive Psychology, 6éme Edition, Library of Congress,2011, p.17.
[2]– يقر ليفينكستون Livingston أن دراسة ماوراء المعرفة يقدم لعلماء النفس التربوي لمحة عامة عن العمليات المعرفية التي ينطوي عليها التعلم وما يميز الطلاب الناجحين عن أولئك الذين يعملون بشكل أقل. انظر:
Livingston, J. (1997). Metacogniton: An Overview. State University of New York at Buffalo.
[3]– Resnick Lauren, Education and Learning to Think, National Academy Press, Washington.1987, p.3.
[4]-Resnick Lauren, Education and Learning to Think, National Academy Press, Washington.1987, p.19.
[5]-Robert. J. Sternberg, Critical thinking : Its nature, measurement and improvement. In Essays on the intellect (p. 45-70). Alexandria, VA. Frances, R. Link. ASCD. 1985, P. 46.
المراجع:
- Livingston, J. (1997). Metacogniton : An Overview. State University of New York at Buffalo. Disponible à l’URL :
- http : // www.gse.buffalo.edu/fas/shuell/ cep564/metacog.htm.
- Resnick Lauren, Education and Learning to Think, National Academy Press, Washington.1987.
- J. Sternberg, Critical thinking : Its nature, measurement and improvement. In Essays on the intellect (p. 45-70). Alexandria, VA. Frances, R. Link. ASCD. 1985.
- Robert. J. Sternberg and Karin Sternberg, Cognitive Psychology, 6éme Edition, Library of Congress,2011.
9 تعليقات