نوال السعداوي .. رائدة النسوية الليبرالية وداعاً

    توفيت الكاتبة المصرية نوال السعداوي الأحد الماضي، الموافق في  الثاني والعشرين من شهر مارس 2021، عن عمر يناهز التسعين عاما ، بعد صراع مع المرض ، وقد شكلت وفاتها صدمة للكثيرين من النساء اللواتي تحررن من ظلم أزواجهن ، وآبائهن بفضل كتاباتها وتنويرها لهن ، وقد نشرت صحيفة “الأهرام” المصرية على موقعها الالكتروني: “رحلت الدكتورة نوال السعداوي منذ قليل بعد صراع مع المرض”.

   وتعد نوال السعداوي من المؤسسين الأوائل للحركة النسوية بالعالم العربي، فمن خلال عملها كطبيبة نفسية منذ الستينات، شاهدت عن كثب معاناة النساء الريفيات، وانخرطت مبكرًا في الدفاع عن حريات المرأة وحقوقهن ضاربة ثقافة مجتمعها المحافظ عرض الحائط، وألفت في ذلك كتبًا تدين فيها تسلط الرجل الشرقي على المرأة العربية، وتظل الكثير من أفكار نوال السعداوي ذات أهمية كبيرة تتحقق من حيث كونها محاولة تثوير فكري للمجتمع، في اتجاه العقلانية، من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل عام، ذلك  لأنها تؤمن  بأن ” قضية تحرير المرأة قضية سياسية بالدرجة الأولى لأنها لا تمس حياة نصف المجتمع فحسب، ولكنها تمس حياة المجتمع  كله، إن تخلف المرأة وتكبيلها لا يؤخر النساء فحسب، ولكنه ينعكس على الرجال وعلى الأطفال ، ومن ثم يقود إلى تخلف المجتمع كله (1).

   ولدت الكاتبة نوال السعداوي في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 1931م بمحافظة القليوبية وتخرجت من كلية الطب بجامعة القاهرة. بدأت رحلتها مع الكتابة في مرحلة الشباب وأصدرت عشرات الكتب التي تُرجم بعضها للغات أجنبية، كما تم منع بعض مؤلفاتها من التداول في مصر وبعض الدول العربية.

       شغلت “نوال السعداوي” العديد من المناصب، مثل منصب المدير العام لإدارة التثقيف الصحي في وزارة الصحة بالقاهرة، والأمين العام لنقابة الأطباء بالقاهرة، غير عملها كطبيبة في المستشفى الجامعي؛ كما نالت عضوية المجلس الأعلى للفنون والعلوم الاجتماعية بالقاهرة. وأسست جمعية التربية الصحية وجمعية الكاتبات المصريات. وعملت فترة كرئيس تحرير مجلة الصحة بالقاهرة، ومحرره في مجلة الجمعية الطبية.

    وأثارت مواقف “نوال السعداوي”، وهي طبيبة أمراض صدرية ونفسية، جدلا كبيرا خصوصا بسبب مجاهرتها في تحدي المحظورات المتصلة بثلاثية الدين والجنس والسياسة. فقد كافحت خلال مسيرتها ضد الحجاب وتعدد الزوجات وعدم المساواة بين حقوق الرجل والمرأة في الميراث. كما نالت شهرة كبيرة لانتقادها الصريح لظاهرة ختان الإناث الذي تعرضت له حين كان عمرها ست سنوات فقط.

  وعلي مدى  نصف قرن ونيف ، لم تتوقف “نوال السعداوي” عن إثارة الجدل ، ما بين قلة تناصر مواقفها ، وأكثرية ترى أن ما تدعو إليه هو محض جنون ، وفساد وإفساد للمجتمع ، مفكرة من طراز نادر ، حياتها سلسلة متصلة من المعارك ، كتبت في الصحف ، ألفت الكتب، حاضرت في جامعات العالم ، وأثارت الصخب في مختلف المؤتمرات والندوات التي مرت بها .. تعرضت للسجن ، للنفي ، أُهدر مها ، اتهمت أمام المحكمة بازدراء الأديان ، ورفع عليها أحد الإسلاميين قضية الحسبة للتفريق بينها وربين زوجها ، كل الأسلحة الدينية ، والاجتماعية ، والسياسية، أُشهرت بوجهها ، لكنها لم تستسلم ولم تنهزم حتى الآن ، ولم ينفد الحبر من قلمها رغم تجاوزها سن الثمانين (2) .

  إلا أن “نوال السعداوي” ، على شهرتها التي شرقت وغربت ، قد ظلت عند كثير من الناس مجهولة أو كالمجهولة ، لا يعرفون عنها إلا النزر اليسير ، إما استصغاراً لأمرها ، وإما ترفعاً عما تخوض فيه من ضروب القول ، أو لأسباب أخرى ليس هذا بيان مجال  بيانها (في هذا المقال) على كل حال .

  وهي إلى ذلك لم تفز من عناية الدراسين إلا بخط ضئيل يفيئ من القول ، أو نصيب من الدرس مختلفون في شأنها اختلافاً كبيراً ، فمنهم من ذهب في التحامل مذهباً بعيداً ، فعرض بشخصها ، وقبح رأيها ، وشهر بدعوتها شر تشهير ، ومنهم من مال إلى خلاف ذلك ، فنوه بفضلها ، وبارك عملها ، وانتصر لدعوتها. أما الذين حرصوا على الجد فيما يقولون وسلكوا سبيل التأني والموضوعية فيما يعلنون من آراء، فهم قليل من قليل ، ولكنهم إلى ذلك لم يسلموا من التقصير ، لأنهم اعتمدوا على أثر واحد ، أو طائفة محدودة من آثار السعداوي ، فظلت نظرتهم جزئية (3).

    تركت “نوال السعداوي” إرثاً كبيراً خلفها من كتب وأعمال ما تزال إلى اليوم تمتلك صدى واسع، وحملت في كتاباتها قضايا مهمة، وأهمها وضع المرأة فى الإسلام، وكانت تشتهر بمحاربتها لختان الإناث في مصر؛ وقد صدر لها “أربعون” كتابا، وأعيد نشر وترجمة كتاباتها لأكثر من “عشرين” لغة، وتدور الفكرة الأساسية لكتابات نوال السعداوي حول الربط بين تحرير المرأة والإنسان من ناحية، وتحرير الوطن من ناحية أخرى في نواحي ثقافية واجتماعية وسياسية ؛ وكانت نوال السعداوي قد بدأت الكتابة مبكرا، فكان أول أعمالها عبارة عن قصص قصيرة بعنوان “تعلمت الحب” في عام 1957، وأول رواياتها “مذكرات طبيبة” عام 1958. ويعتبر كتاب “مذكرات في سجن النساء” (1986) من أشهر أعمالها. ومن إصداراتها الشهيرة كتابا “المرأة والجنس” و”امرأة عند نقطة الصفر” اللذان أثارا ضجة كبيرة بسبب حساسية الموضوعات المطروحة فيهما.

     وهي في كل هذه الأعمال تعكس موقفاً خاصاً من المجتمع وقضايا المرأة بشكل عام ، وترسم صورة للرجل تعبر من خلالها ، بوجه خاص، عن وجهة النظر المتطرفة لحركة التحرر النسائي العربية التي تستمد معظم أهدافها من حركة التحرر النسائي العالمي التي تقوم على أساس الاعتقاد بإمكان تغيير العادات والتقاليد الموروثة ، والوصول إلي نوع من التقريب والالتقاء بين الرجل والمرأة ، أو حتي قلب الأوضاع السائدة ، والدعوة إلي استخدام العلم الحديث لإيجاد جنس ثالث من المرأة والرجل ، وذلك باستخدام علم الوراثة وما أحدثه من تقدم (4).

     ومنذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، كنت قد شرفت بقراءة روايات “نوال السعداوي” ، حيث ألفت حرارة كلماتها ، وحماسة حروفها على الورق ، وصدق مشاعرها ، وشبابها المبكر في روايتي “تعلمت الحب”  و ” مذكرات طبيبة” ، صورها القلمية للنساء المقهورات والثائرات على حد سواء ، ذلك المزيج الواقع والخيال ، والحلم والحقيقة، والشقاء والمتعة، لحظات الضعف، حتي اليأس والموت، ولحظات الأمل والانطلاق إلي حياة أكثر جمالاً وعدلاً .

  بيد أن أكثر الذين عرفوا نوال السعداوي ، أو كتبوا عنها شيئاً ، لا يذكرون إلا كتابها المشهور ” المرأة والجنس” ، وما جاء بعده من دراسات علمية ، في قضية الجنس والمرأة ، وفيها تقول السعداوي :” إن نظرتي للجنس نظرة علمية مخالفة تماما لقصص الجنس المبتذلة ، والأفلام التجارية التي تعتمد الإثارة واستغلال جسم المرأة” (5)  ؛ وهذه الدراسات هي على التوالي : الأنثى  هي الأصل (1974م) والرجل والجنس (1975م) ، والوجه العاري للمرأة العربية ( 1977م) .

     ونوال السعداوي من كاتبات اللغة العربية القليلات اللاتي يجمعن بين الفن والعلم ، أو بين الأدب والطب ، حيث تقول عنها الأديبة (مني حلمي) :” حينما أقرأ روايتها ” امرأة تحت الصفر” ، أو امرأتان في امرأة ، أو سقوط الأمام ، أو براءة إبليس أو الأغنية الدائرية ، فإنني أحس كأنما أصعد فوق جبل من الأحاسيس ، هذه الكاتبة الحرة مثل الجبل الوعر ، من الصعب صعوده ، كلما زادت حرية المرأة ارتفعت قامتها وقمتها ، هذا العقل القادر على تجاوز الخيال المبتور الأنثوي والذكوري على حد سواء ، أي أن العقل والجسد لدي ” نوال السعداوي” مادة واحدة للإبداع الأدبي ، ومنهج يخضع للتحليل العلمي ، إنها محاولة مفتوحة على الأفق للكشف عن المخبوء وراء المكبوت ، هذه الكتابة غير القابلة للكتابة باللغة المألوفة ، أو بالحجاب المسدل على العقل والجسد (6).     

    ومن هذ المنطلق  وقفت “نوال السعداوي” مع كل الضعفاء والمستضعفين ، ودافعت عن حقوقهم  ، وهذا منطلق يصعب على أي إنسان منصف ، متديناً ، أو ملحداً ، أو متشككاً، – أن يرفضه ، فالمهمش ، والمستبعد، يستحق مقومات حياة كريمة ، وتركيز نوال السعداوي في نظر كثير من الباحثين يركز على أن ” نوال السعداوي ” نابعة من خبرتها – كطبيبة وباحثة – بالمعاناة المركبة بالمرأة الفقيرة ، فهي تعاني لأنها من عالم ثالث مستغل ، وتعاني من كونها تنتمي إلي طبقة مستغلة ، وأخيرا لنجس مستغل ، فهي ضحية استغلال مضاعف (7).

    لم تفضل “نوال السعداوي” بين قضية المرأة وقضية المجتمع ، بل رأت فيهما تلازماً ، ولم تعاد الرجل ، وإنما أرادته زميلاً ، ورفيقاً، لا سيداً وأميراً للمرأة .. وهي تتذكر فضل أمها عليها ، كما تذكر فضل أبيها ، فمن غير المعقول أن نتهمها بأنها ضد العائلة كوحدة اجتماعية (8).

     ومن الكلام المرسل عن “نوال السعداوي” أنها متغربنة تأخذ بما يقوله التيار النسوي في الغرب ، وهذا غير صحيح على الإطلاق ، فنوال السعداوي تفكر أولاً وأخيراً بالعربية ، ومن منطلق وطني ؛ فلا أنس أن هناك موقفا مشرفاً من حرب تدمير العراق وحضارته ، حيث كتب العديد من المقالات بالعربية والإنجليزية ، ومنه مقالة باللغة الإنجليزية،  بعنوان ” أثر حرب الخليج على النساء والأطفال” ، نشرت في كتاب أعده وأشرف عليه وزير العدل الأمريكي السابق المناهض لسياسة الولايات المتحدة ” رامزي كلارك” في كتاب بعنوان ” تقرير عن جرائم الحرب الأمريكية ضد العراق ” ، وقد نشر هذا الكتاب في عام 1992م .

  وفي نهاية هذا المقال لا أملك إلا أن أقول :” نوال السعداوي شكلت دوراً كبيراً في ثقافتنا الأدبية المعاصرة بعملها المتواصل والدؤوب في حقل المرأة .. لقد أوجدت نوال السعداوي فضاءً أصبحت فيه حقوق المرأة أمراً مسلماً به ، وأصبحت قضية المرأة أمراً مطروحاً يقترب منه الجميع أفراداً ومؤسسات ، حكومة وشعباً، ومن عباءة “نوال السعداوي” خرجت تيارات متعددة ، وروافد مختلفة .. لقد فتحت نوال السعداوي باب حقل معرفي على مصراعيه بهمتها ، ودأبها ، وتفانيها ، وجعلت من هذا الحقل المعرفي قضية متناغمة مع تحرير الوطن وداخله في نسيج بنيانه .

    تحية للدكتورة “نوال السعداوي” والتي أضحت الآن في دار الحق؛ وأقول .. فأنت يا سيدتي كمثل المرجان الذي لا يخفي بداخله إلا اللآلئ الصافية النقية .. فقد أنجبتي (رحمك الله) روائع جميعنا نعتز بها .. مرموقة تحمل الرقي بكل معناه .. متميزة بروحك وإخلاصك….. فذكراك  ومن تركتهم يحملون أفكارك وسيبينون للعالم بأسره أن ذكراك لن تدفن معك تحت الرمال.. فمن أنجبت مثلك لم تمت.. رحمك الله يا سيدتي فأرقدي بسلام .

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

الهوامش

1- ريمة لعواس : انعكاسات النظرية النسوية الغربية في كتابات ” نوال السعداوي ” أنموذجاً ، دراسات معاصرة ، المركز الجامعي الونشريسي تيسمسيلت – مخبر الدراسات النقدية والأدبية المعاصرة ، مجلد 4 ، عدد خاص ، 2020م،  ص 138.

2- نفس المرجع، ص 138.

3- فرح بن رمضان: قد قرأت روايات نوال السعداوي، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة التونسية، 1982، ص12.

4-صلاح منصور خاطر : صورة الرجل في الأعمال القصصية لنوال السعداوي ، فكر وإبداع ، رابطة الأدب الحديث ، المجلد 50 ، 2009م ، ص 118.

5- مني حلمي : نوال السعداوي كما أراها، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي،  المجلد 17، العدد 192، 2001م، ص 26.

6- نوال السعداوي : المرأة والجنس ، دار الشعب ، القاهرة، 1973، ص 9.

7- فريال غزول : نوال السعداوى : الحب ، الابداع ، التمرد، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي،  المجلد 17، العدد 192، 2001م، ص 14..

8-نفس المرجع، ص 14-15.

 

  

 

مقالات أخرى

النّشاط الجمعياتي في تونس بين الميوعة التشريعيّة والضبابيّة التنظيميّة

في نقد بنية التدين الشعبي

ومايزال علماؤنا وفلاسفتنا تحت مقصلة الجهل !!

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد