التخييل والواقع في سرد محمد حياوي أو الوطن واقعا وتخييلا

محمد حياوي

 

ملخّص:

نهتمّ في هذه الورقة العلمية بالتخييل والواقع في روايتي محمد حياوي، “بيت السودان” “وخان الشابندر”، واخترنا أن ننزّل هذا المبحث من زاوية تناول حياوي لموضوع الوطن.

تشترك الروايتان في اختيار العراق أثناء بعد الغزو الأمريكي وبعده مسرحا لأحداثه، ولا يمكن اعتبار العملين وثيقة تاريخية وإنما هما عمل تخييلي يجعل من الواقع المادي أساسا له دون أن يكرّره. واخترنا أن نقارب مسألة التخييل والواقع مقاربة لغوية تداوليّة تبحث في دلالات القول وفي العلاقة بين الواقع والتخييل في بناء العالم الروائي.

الكلمات المفاتيح: التخييل، الواقع، السرد، الوطن، العالم الروائي.

Abstract:

We are interested, in This scientific paper, by imagination and reality in Muhammad Hayaw’s novels “bayt Al-sudan” and “Khan Al-Shabander”. We chose to look at this duet from the perspective of homeland issue, whose presence in the two novels seems remarkable.

Both narratives share the choice of Iraq during the US-led invasion and after that, as Theatre of events. The two works cannot be considered as historical documents, they are a fictional works that make the material reality a foundation for them, without repeating them. We chose to approach the issue of imagination and reality with linguistic- pragmatic approach that look in the meaning of the saying, and the relationship between reality and imagination in building fictional world.

Key words: imagination, reality, narration, homeland, fictional world.


1- تمهيد:

نتطرّق في هذه الورقة العلمية إلى التخييل والواقع في روايات “محمّد حيّاوي”، وقد اكتفينا في هذا العرض بروايتين هما “بيت السودان”، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت 2018، ورواية “خان الشابندر” الصادرة في طبعتها الأولى، عن دار الآداب أيضا سنة 2015.

اخترنا روايتي “محمد حياوي” نظرا للحضور الملفت للوطن، في تفصيلات العملين، حضورا باعتباره واقعا ماديّا وباعتباره واقعا متخيّلا. وتشترك الروايتان في جريانهما زمن غزو العراق، أثناءه أو في أعقابه، وبناء عليه فسنجد في الروايتين حضورا للحرب طاغ. حرب لها تداعياتها في تخيّر موضوع السّرد وفي بناء الأحداث وتخيّر الشخصيّات ومآلاتها، وفي اختيار الأمكنة ومكوناتها وفي تصوّر الحبكة الرّوائية. في عالم الحرب يتكثف حضور الوطن في تفصيلاته المادية والعاطفية.

 لماذا اخترنا التخييل والواقع؟

اخترنا الحديث عن الوطن في الرواية من بوابة العلاقة بين الواقع والتخييل، وانطلقنا في ذلك من تصور للأدب يراه رهين هذه الثنائية، فنحن منشدون دائما إلى علاقة بيّنة بين الممكن والكائن. ونعتقد أن هذه الثنائية هي بمثابة الوجه والقفا في العمل الأدبي.

فأمّا الواقع فنقصد به ما يوجد في العالم الخارجي من حوادث ووقائع اتفقت في شأنها المجموعة. وهي معاينة ومدركة حسيا وذهنيّا. الواقع هو المرجع “الثابت” وهو مصدر من مصادر المعرفة التي يعيد بها الإنسان تمثل العالم الذي ينتمي إليه. والواقع أيضا يمكن أن يكون افتراضيا نصيّا، فلكلّ نصّ واقعه المادّي الذي يمثل مرجعيته الدّاخليّة وهو واقع يرتبط بصلات مع الواقع الإحالي في العالم الخارجي دون أن يتطابق معه. 

وأمّا التخييل فهو قدرة ذهنية تحوّل تمثّلات الإنسان وأفكاره إلى إنجاز يستند إلى واقع ما دون أن يكرّره وينشئ عالما جديدا ممكنا له نظامه الخاصّ وعلاقته المنطقية الدّاخلية وإحالاته المحدّدة وغير ذلك، النصيّة وغير النصيّة، أداته في ذلك لغة مخصوصة تعبُر بالواقع إلى مجالات أخرى شعارها الجمال وإن كانت تنقل لنا القبح.

والتخييل لغة، مصدر مشتقّ من خيّل، “خيّلت السّحابة إذا أغامت ولم تمطر”، فإذا أمطرت لم يعد تخييلا، وقد توقفنا عند هذا التعريف المعجمي، لما فيه من إيحاء بالكون، فالتخييل متى انقلب واقعا فقد صفته، إنه حقيقة تهمّ أن تكون وتعد بحياة ممكنة، وهو ما يحيلنا على الأدب باعتباره واقعا ممكنا، أو هو واقع وَهْمٌ ترتبك فيه حواس المتلقّي فيخيّل إليه من سحر القول أنّه واقع وقد جاء في القرآن” يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى”، إنّ التخييل في الرواية فعل قصديّ، يتوسّل إليه المبدع بأدوات فنيّة، وهو قبل ذلك انعكاس لإدراك ما للكون والواقع وإعادة تشكيل لهما ضمن رؤية فكرية وفنية. يقول جيري هوبز: “يمكن نمذجة الخيال باعتباره مجموعة من التعابير المنطقية تشبه إلى حدّ بعيد المعتقدات/ الوقائع ولكن بفوارق ثلاث واضحة، أوّلها لابدّ أن يكون التخييل واعيا (conscious) في حين يمكن للمعتقد أن لا يكون كذلك. ثانيها لا يمكننا تقبّل أن نعبّر، بالطريقة ذاتها، عن القضايا المتخيّلة مثلما نعبّر عن سببية الحكاية في الما-صدق.  ويلعب الإدراك الحسي والاستدلال دورا في أصل التخييل، ولكن تلك الروابط الدقيقة المطلوبة التي يحتاجها المعتقد/الواقع لا توجد في المتخيل، وفي الحقيقة فإنها إذا توفرت جاز لنا أن نسم القضية بأنها حقيقيّة وليست متخيلة. ثالثا على المتلقي ألاّ يعتقد في صدقيّة القضايا المتخيّلة”[1]

يقيم هوبز مسافة بين الأحداث باعتبارها حقيقة تدور في العالم الخارجي والوقائع المتخيّلة ويعتبر أنّ التمييز بين المجالين لابدّ أن يكون واضحا لأنّ لكلّ منهما وظائف يختصّ بها وهو يضع للمتخيّل وظيفتين أساسيتين أولاهما أنّ التخييل يمكن أن يوجد حلولا لمشاكل يعيشها الإنسان في الواقع اليومي وذلك بعقد مقايسات بين الواقع والمتخيل، وثانيهما أنّ التخييل يوفر المتعة للإنسان ويحفز عواطفه خاصّة وأنّ العلوم العرفانية لا تملك معرفة دقيقة بما يتعلق بالعاطفة[2].

إنّ إدراك الكون، هو إدراك حسيّ يترتّب عليه تصوّر يتحصّن بالذهن في شكل تمثلات، وبهذه التمثّلات يفهم الإنسان ما يحدث في العالم الخارجي ويأخذ مواقف وأحكاما ليست أحكاما عقلانية بحتة وإنما هي محكومة بمدى مصداقية الإدراك الحسي. ولعلّ نسبيّة الإدراك الحسّي هو العامل المحدّد في ثراء التجربة الإنسانية في كليتها، فتنوّع الزّوايا التي يقارب بها الواقع، كلّ باعتبار تصوّره تجعل الواقع أوسع وأثرى. فإذا سحبنا ذلك عن الأدب جاز لنا القول إنّ للإدراك الحسّي دورا في تنوع التجارب الأدبية لخصوصية العلاقة بين الإدراك وتمثل الواقع وخلق واقع شبيه يعاد فيه بناء الكون وتحديد المضامين والرسائل التي يريد الأديب تبليغها.

 ونعتمد في هذا التصور للأدب، تصورا قريبا للغة، يعتبر أنّ العلاقة بين اللغة والواقع واللغة والذهن علاقة تفاعليّة، فالإنسان في التصور الوضعي للغة، يدرك العالم والكون الخارجي فيمنحه أسماء يتواضع عليها مع المجموعة البشرية التي يشاركها الحياة، ثمّ في مرحلة ثانية يعيد تشكيل تصوراته للكون بناء على اللغة التي تصبح وسيلته للتعرف على الكون من ناحية ولتعريف الكون ومنحه مرجعياته المشتركة مع المجموعة اللغوية التي ينتمي إليها من ناحية اخرى. فالإنسان يدرك الكون حوله فينشئ لغة ويكثفها ويوسع دلالاتها باعتماد المجاز وبتلك اللغة وتلك المجازات يعيد بناء تصوراته، وبتلك التصورات يعبر عن الواقع وعن المواقف من ذلك الواقع، ويقع الأدب في تلك المرحلة الثالثة، إنّه إعادة لتصورات الإنسان للكون وللعلاقات الممكنة داخله، بلغة إحالية في بعضها مجازية في أغلبها.

 ويعنينا في هذه الورقة النظر في الوطن واقعا وتخييلا في روايتي محمّد حيّاوي، الوطن الذي يتسلّل إلى الروايتين ويستوطن، الوطن باعتباره أرضا لها حدود معلومة وهويّة عامّة، وهي في هذين العملين العراق، والوطن باعتباره عمقا إنسانيا يجرّ في أذياله حضارة عريقة وحاضرا مربكا ويطلّ على مستقبل يرسم الحاضرُ والتاريخُ ملامحَه، والوطن باعتباره مزاجا جماعيّا وشعورا بالانتماء إلى ثقافة مشتركة تمنح أفرادها شعورا بالأمان والتوازن.

الواقع بما هو إحالة على عالم مرجعيّ له وجود ماديّ معاين، والتخييل بما هو عالم ممكن إحالاته نصيّة جمالية، توهم في أحيان كثيرة بالعالم الخارجي ولا تكون.

2- التخيبل إنجاز قصديّ باللغة:

نقصد باللغة هنا ذلك الإنجاز الفردي للأديب لا اللغة باعتبارها جهازا مشتركا بين عموم البشر، أي الكلام بعبارة دي سوسير. وهي ذلك البيان الذي يخرج ويكشف قناع المعنى ويشي بنوايا صاحبه، فباللغة “يتحيّل” السارد ويمنح الحياة لمن لا حياة لهم، ولعلّ هذا ما تكشف عنه مفتتح رواية “بيت السودان” إذا يقول السارد:

“لو أصغيت جيّدا فستسمع نقر الدفوف

وإذا كان الليل رائقا والقمر متواريا

فسيكون في إمكانك رؤية أعمدة النور تنبعث من الرماد

وترقص فوق الحطام رقصتها الأدبية”[3].

 فلو التي تتفتح بها الرواية حرف شرط يفيد امتناع، فلا مجال والحال اللغوية هذه، أن يصل نقر الدفوف إلى مسامع المخاطَب، لأنّ الإصغاء نفسه ممتنع، يردف حرف الامتناع “لو” بإذا، وهو اسم مزدوج الدلالة “ظرف” يحيل على الزمان، وهو اسم شرط يفيد الإمكان، وهو قابل للقراءة على وجهين في هذا الحيّز النصّي، فمن جهة الشرط تشترط رؤية أعمدة النور بأن يكون الليل رائقا والقمر متواريا، وهو أمر ممكن التحقق وعليه فإنّ رؤية الأعمدة ممكنة أيضا، وإذا أخذنا الأمر مأخذ الظرف الدال على الزمان، وهو الأنسب فإنّ الدلالة تفصح عن افتراض ممتنع ينشئ صورة مركبة توهم بالكون أو هي تكسر قانون اللغة لتبني واقعا مخالفا فسماع نقر الدفوف المشترط سلفا بإصغاء ممتنع لوجود حرف الشرط “لو”، سيردف برؤية أعمدة النور الراقصة إذا كان الوقت ليلا، فإذا لم يكن الوقت ليلا، فالرؤية بدورها ممتنعة مثل امتناع الإصغاء والسماع، وبين الإصغاء والسماع فرق في قصد القيام بالفعل. فإذا افترضنا أن السّرد الروائي يقوم على التخييل لا على الحقيقة، يقوم على افتراض قد يحدث إذا توفرت الشروط الضرورية والكافية، ولا يحدث، على أرض الواقع، إذا لم تتوفر، غير أنّ ذلك لا يمنع الخيال أن يستحدث عالما مكتملا غير قابل للتحقّق، في العالم الخارجي، ولكنّه ممكن في الخيال ويمكن للمتقبل تمثله وتصديقه دون أن يتحول إلى حقيقة، وعليه، فإنّ الممتنع لغة قادر على الكون دلالة. وما لا يسمح به المنطق اللغوي قادر على الكون في منطق الخيال. وهو ما كان.

تحوّل ذاك الامتناع اللغوي إلى كون سرديّ متجاوز، ومثّل ذلك التقديم بنية دلالية كبرى مفترضة، عمل السارد على تفكيكها إلى عناصر دلالية أصغر هي القضايا الواردة متن رواية “بيت السودان”. ففي منطق اللغة تصبح الرواية برمتها افتراض ممتنع، وفي منطق الخيال هي واقع قائم في الذّهن، ذهن منشئ الخطاب الروائي وذهن المتلقّي الذي يقرأ.

  يحفّز حيّاوي في تقديمه الحواسّ للاستمتاع بالفرح (نقر الدفوف، أعمدة النور والرّقص) وهي متعة تُبعث من الركام والحطام الظاهر، فالمعجم المستعمل ينتمي إلى سجّلين متعارضين: سجلّ الفرح والاحتفال، وسجلّ الحزن والدّمار.  من ناحية: نقر الدفوف، أعمدة النور، الرقص الأبدي، ومن ناحية ثانية: الليل، الرماد، والحطام) وفي الحقيقة فقد اختزل حيّاوي في هذا التقديم، روايتَه ومسار الأحداث فيها.

تعيش، في بيت السودان، مجموعة من الفتيات ذوات البشرة السوداء تحت إشراف “ياقوت”، يقِمن الحفلات ليالي الجمعات في بيتهنّ ويتوافد الناس للاستمتاع برقصهن ونقرهنّ للدّفوف وغنائهنّ، تقول ياقوت دفاعا عن نفسها وفتياتها أمام سيّد محسن الذي استأسد بعد قمع الانتفاضة: “وما أنا سوى امرأة أجبرتني الظروف على امتهان الرقص والغناء لأسرّي عن الناس البسطاء والكسبة الفقراء الذين يكدحون بشرف طوال النهار من أجل لقمة الخبز المغمّسة بالكرامة وعرق الجبين. وقد آليت على نفسي ألاّ يدخل الدّنس بيتي مهما حدث وأن أصون شرف الفتيات وأحمي أعراضهنّ من نذالة أمثالك”[4]

ويعيش معهنّ “علي” أو “علاّوي” مثلما تناديه الفتيات الطالب بالسنة الأولى، وهو ابن ياقوت بالتبنّي، تربي في بيت السودان ونشأ تحت رعاية ياقوت والجدّة عجيبة، ومازالت ياقوت تأخذه بين ذراعيها لينام ومازالت تهشّ عنه الفتيات فلا يفقد براءته وطهره ومازال الخوف يأكلها وهي ترسله ليلتحق بالجامعة في بغداد.

 تتعلّق الأحداث في أغليها بعلاّوي الذي تفعل ياقوت ما وسعها لتحافظ عليه وتحميه، وتبعده عن شرور العالم الخارجي، خاصّة والأحوال تتغير بسرعة بقدوم الغزاة الأمريكان وبالتحوّلات السريعة التي شهدها المجتمع العراقي.

 في بيت السودان، اختار حيّاوي أن تتوزع الأحداث بين المقبرة، وطرف المدينة القصيّ فبيت السودان هو “آخر البيوت عند تخوم بستان عبود الكبير حيث المساحات الشاسعة من غابات النخيل”[5]، وموقع أور الأثري بزقورته وسراديبه التي تحتضن رقمه ورفات ملوكه وكهنته. وفي الموقع الأثري تفوح روائح أخرى للوطن: “رائحة الكانون الطينيّ والقهوة العربيّة وإبراق الشاي.” رائحة حليب الماعز الطازج تأتي به الطّفلة درّة إلى ضُمد، وهي التي تخيّم عائلتها قريبا من موقع أور شتاء آتية من عمق الصحراء.

 ولئن كان المكان في بيت السودان أكثر حميمية، وحرارة إنسانية، فإنّه في الخان أكثر خرابا إذ تدور أغلب الأحداث في رواية “خان الشابندر” بين خرائب الحرب وفي “الخان” الذي يتخفى عن الأعين في متاهة من الأزقّة الضيّقة المتهالكة وتحت رحمة عصابات الحرب والمتطرّفين الآتين من كلّ صوب وحدب، في تلك الخرائب تتناسل الحكايات وتتالى كاشفة عن معاناة الفتيات داخل “الخان” وفي العالم الخارجي، ذلك العالم الذي دفعهنّ إلى الخان دفعا، ثمّ أقام عليهنّ الحدّ بدعوى أنهنّ باغيات يبعن اللذّة لطالبيها. وتأتي الشخصيّة المركزية (علي) ليخرج تلك الحكايات من بين الخرائب ويبعث فيها حياة ما كانت الفتيات يعتقدنها[6].

  وكلّما اشتدّ الخطر الخارجي[7]، في العالم الروائي الذي يقدّمه راويا العملين، كان التجذّر أكثر في المكان وفي الانتماء إلى حضارة تخبر عن الحاضر وتتنبأ بما سيحدث فيه، يقول الراوي في “بيت السودان”: “صحبني ضمد إلى ذلك السلّم الحجري الذي يغور في الأرض.. ورحنا ننزل الدّرجات المثلّمة بحذر حتى وصلنا إلى ما يشبه البيت القديم المدفون تحت الأرض وفيه مجموعة من الحجرات الصّغيرة تملأها الهياكل العظميّة وبعض الآنية الفخارية وقف ضُمَدُ وسلّط الضوء على أحد الهياكل الصغيرة: -هذه أنخيدوانا… إنها كاهنة أور الكبرى وشاعرتها العظيمة. كانت شابة عندما مات محبوبها ومعشوقها وابن أخيها الملك نرام سين فقررت ترك المعبد والموت معه مصطحبة معها جميع خادماتها.. ورحن يعزفن له ليالي طويلة كي لا يشعر بالوحشة في رحلته إلى العالم السفلي.. إلى الآن أسمع صوت الموسيقى في الليالي تنبعث من القبر”[8].

 يمنح الوطن، بما هو تاريخ وحضارة أمانا للائذين به، ويعيد التذكير بعظمته وجماله، وكأنّ “حيّاوي” بالعودة إلى الماضي المندس تحت الرمال يتزوّد للحاضر ويستمدّ قوّة للمجابهة، وهي قوّة روحيّة تمنحها أنخيدوانا الكاهنة الملهمة وقوة ثقافية جمالية تمحو بشاعة الحاضر وتتحدّاه، فمازال ضمد يسمع الموسيقى تنبعث من أعماق الرمال كلّما هدأت الحركة وتجملت الصحراء. ليصل الماضي بالحاضر، والتاريخ بما هو واقع ماديّ تعبّر عنه الآثار المادية بالخيال بما هو إدراك حسّي تلتقط فيه حاسّة السمع صوت الموسيقى التي من المفترض أنها عزفت من آلاف السنين وانتهت بموت عازفيها.

بين التاريخ والتخييل يتشكّل السّرد وينتظم واصلا الماضي بالحاضر، بل جاعلا من الماضي قاعدة لثبات الحاضر وفهم المستقبل والتنبؤ بأحداثه وكأنّ التاريخ حارس للآن والمستقبل. متوسلا بضمد، حارس الموقع منذ ستين سنة أو يزيد، يقول الراوي: ” وبعد أن أنهى ضمد قراءته الغريبة وردم تلك الألواح بالتراب الذي ساواه بالأرض ووضع فوقه حجارة كبيرة وغادرنا القبر.. وفي الليل راح يقصّ لي ما أطلعته عليه الألواح..

انظر جيّدا إلى السماء هل ترى حركة أو مركبات غريبة…. الألواح تتحدّث عن عماليق سيهبطون في القاعدة من الفضاء قريبا”[9].

 أهي دعوة إلى التجذّر في الماضي لمواجهة الغد؟ أهو إقرار بفشل الحاضر وسياساته؟ أيّا كانت الرسائل التي أراد الكاتب تبليغها، فإنّ الوطن باعتباره شعورا بالانتماء، تمثّل في أوجه مختلفة، الوطن التاريخ القديم الممثل للحكمة والجمال والعظمة، والوطن التاريخ الحديث المثقل بالظلم والخيبة والوطن الحاضر غير الآمن الذي كان نتيجة للسياسات الخاطئة، وهذا الحاضر ينقسم بدوره إلى أكثر من واقع: واقع مرجعيّ تاريخي وواقع مرجعي نصي (متخيّل) وواقع متخيّل درجة ثانية، أو هو واقع -وهم. 

  اختار حيّاوي، أن يكون زمن الأحداث بعد غزو العراق، ففي رواية “خان الشابندر”، يعود البطل (الصحفي علي) إلى وطنه وهو الذي غادره قبل سنوات طوال هربا من النظام، يعود وقد احتلّ العراق، وأبيحت ساحاته للتفجير ومبانيه للتهديم وأهاليه للقتل العشوائي، هكذا يبدو الوطن في رواية الخان، يعاني أفراده من ماض ظالم وحاضر أكثر ظلما، يعرّف الرّاوي شخصيّة سالم على سبيل المثال فيقول: “نعم.. تذكّرت… كان لي صديق حميم اسمه سالم محمّد حسين، لكنّه أعدم قبل أكثر من خمس وعشرين سنة… تمرّد على الخدمة العسكرية وظلّ هاربا ومتخفّيا سنوات طويلة، حتّى القيَ القبضُ عليه ذات ليلة، وسيق إلى سجن أبي غريب.. وهناك أعدموه رميا بالرّصاص…”[10]. وتقول زينب، الطفلة بائعة الكعك لإعالة إخوتها: “أبي لم أره… وعيت على الدّنيا وأنا مع إخوتي فقط. أمّي قالت إنّه قتل في الانتفاضة.. وفي العام الماضي مرضت أمّي وماتت…”[11].

 ولا تقلّ حكاية حسنين وجعا، حسنين الذي جاء العراق معمّرا لتقسيم خالص الذي منح للفلاحين المصريين لزراعته وأصبح عراقيا بعد أن تزوج عراقية، ولكن، قسا عليه العراق حين أجبر ابنه الوحيد على التطوّع في صفوف الجيش لمحاربة إيران ثمّ تُرك مع رفاقه ليقتل في خندق. ثمّ توفيت والدته حزنا عليه فلم يشأ حسنين العودة إلى مصر وآثر البقاء حذو عائلته يزورها في المقبرة فلا أحد لها غيره.   

 واختار، التاريخ ذاته تقريبا، في بيت السودان، وذكر ذلك صريحا في الصفحة الخامسة والثلاثين إذ يقول: “مرّ الصيف الذي أعقب دخول القوات العراقية الكويت مقلقا ومنذرا بالشؤم، على الرغم من بحبوحة الاسترخاء الذي تمتّعتُ به..”  ثمّ تتالت السنوات والأحداث.

  لا يبدو الوطن في رواية “خان الشابندر” ولا في رواية بيت السودان، رحيما بأبنائه، فقد أثخنهم جراحا، وشرّد شملهم وأوغر قلوبهم، وجعل الحروب تتناوبهم حتى أدركهم الغزو فغيّر ملامح المدينة العريقة لتصبح خرابا وغيّر الناس ليصبحوا أشباحا أو يكادون. فالمدينة خطرة، والوطن أشلاء وطن، يقول الراوي: “كان الظلام قد أطبق أو يكاد… وصار المشي في الأزقة الضيّقة والمتداخلة مخاطرة كبيرة… مررنا بعديد الخرائب الموحشة وتناهت إلى سمعنا أصوات نباح كلاب وأنين… كان الوضع مفزعا بحقّ..”[12]، ويقول: “سقطت قذيفة هاون في المقبرة، فارتفع عمود هائل من التراب والحجارة التي تساقطت مثل المطر فوق رؤوسنا، وحلّقت الفواخت جافلة تضرب بأجنحتها الكبيرة، ولمحت زينب من بعيد تغسل قبر أمّها بالماء الملوّن الذي ابتعته لها، بينهما بدا إخوتها الصغار يلهون بلعبهم غير عابئين بالتراب الذي غطّى كلّ شيء..”[13].

ونقرأ في بيت السودان: “كانت الأوضاع في الخارج تتدهور بسرعة والأحداث تتفاقم بعد أن اختفى جال الشرطة وراحت المجاميع المسلّحة تجوب الشوارع بالسواطير والعصيّ وبعض البنادق التي غنمتها من مركز الأمن”[14].

 صور تتواتر في الروايتين تكشف عن واقع ممكن التحقّق في العالم الخارجي، بل هي صور أقرب إلى تقرير صحفيّ يرصد مشاهدات كثيرا ما تواتر عرضها على شاشات التلفزيون ومواقع الأخبار. هي تخييل ممكن يمكن أن نصطلح عليه بالتخييل من الدرجة الأولى، هو أشبه بالمعنى الأول المستفاد من اللفظ في نظرية عبد القاهر الجرجاني في النظم، ونعتقد أنّ للتخييل أكثر من درجة.

3- التخييل والخروج عن النّسق اللغوي:

الإنسان كائن لغوي، تعريف من ضمن تعريفات أخرى تجعل القدرة اللغوية محدّدا من محدّدات هوية الإنسان، وحين نتحدّث عن اللغة فإنما نتحدّث عن جهاز ينتج المعنى ويحقق التواصل بين مجموعة لغوية ويخضع لأنساق[15] متنوعة هي على سبيل المثال النسق الصوتي والنسق والصرفي والنسق التركيبي والنسق المعجمي والنسق الدلالي[16]، تشترك هذه الأنساق المختلفة في كشفها عن المعنى وجعله واضحا في أذهان أطراف الخطاب.

 والمعنى صنفان، معنى عام، هو ذاك الذي تفصح عنه الألفاظ في معناها التواضعيّ الأوّل وصنف خاص وهو المعنى المخصوص للفظ في سياق معيّن. فالسياق محدّد أساسيّ في إنتاج الدلالة وهو أحد أركان النسق ولا يمكن عزله عنه، فـ”النسق اللغوي بمكوناته الصوتية والتركيبية والدلالية [يحتوي] الأنساق الأخرى التي لها صلة بالإنسان (النسق الاجتماعي والثقافي) ويختزلها في نسق سيميائي دال (نسق من العلامات)، تلك العلامات التي تصبح بدائل عن الواقع الطبيعي، والاجتماعي والثقافي”[17]

 نلاحظ في هذا التعريف التأكيد على العلاقة الرابطة بين النظام اللغوي والنظام الاجتماعي والثقافي، ونذهب إلى أنّ النظام الاجتماعي والثقافي السائد محدّد من محدّدات انتظام اللغة بطريقة دون أخرى، وبالتالي محدّد في دلالاتها، فالعلاقة بين الواقع الاجتماعي والنسق اللغوي علاقة تفاعلية، فالواقع الاجتماعي يؤثّر في اختيار نسق ما لانتظام اللغة واللغة تعبّر عن الواقع في مستوى أوّل وتعيد اكتشافه وتنظيمه في مستوى ثان. وفي هذا الإطار نقرأ العمل الأدبي لمحمّد حيّاوي، وسنكتفي بنماذج من النسق المعجمي وعلاقته بالنسق الروائي.

نلاحظ في النسق المعجمي المعتمد، والذي هو على علاقة عضوية مع النسق الدلالي، العمل على اضطراب الحواس والخروج عن المألوف الحسّي وحتميات العالم الخارجي، في ضرب من التخييل إذ يعتمد السّاردُ الإيهامَ منهجا في السّرد، فيربك المتلقّي ويزرع الشكّ في نفسه بما يخلقه من علاقات بين الملفوظات وما تحدثه تلك العلاقات من دلالة. وتبدو لعبة الإرباك ركنا أساسيّا في الأحداث وفي الشخصيات، فحين يفاتح الراوي “نيفين” في أمر لقائه بسالم محمّد حسين، تفزع سائلة: ” هل تتحدّث بجدّ؟ … ما بك؟ … هل جُنِنت؟ سالم مات منذ أكثر من خمس وعشرين سنة… ألم يعدموه بالرّصاص وقتها؟

نعم أعرف ذلك… لكنّني رغم ذلك التقيته وعانقته… لم يتغيّر كثيرا في الواقع؟”[18].

فبين أن ترى “الشخصيّةُ الرئيسيةُ” “شخصيةَ سالم”، وتعانقها، بل وتنزل ضيفة عليها، فتقضي الليلة عندها وبين أن تذكّر “نيفين” بأنّ سالم قد أُعدم منذ ربع قرن، يبدو الأمر غير منطقيّ ومربك. ويتضاعف هذا الإرباك حين تصادق “الشخصيّة الرئيسيّة” على كلام “نيفين” “نعم أعرف ذلك”، فكيف التقتها؟ وكيف تقرّ بموتها؟، ثمّ يتضاعف عدم المطابقة بين القضايا المضمنة في القول حين يقول “الأستاذ علي” بأنه رغم ذلك التقاه وعانقه وأنه لم يتغير كثيرا في الواقع” ورغم وجود المؤشرات الحجاجيّة التي تعمل على تخفيف وقع التعارض بين القضايا في العالم المنطقي الممكن، “لكنّ، رغم ذلك..” فإنّ العالم الذي يترتب عن الحوار بين نيفين و”علي” يبدو غريبا يفتقر إلى المنطقية المفترضة بين القضايا. 

ومن مظاهر الخروج عن النّسق اللغوي نذكر ما قاله سالم لعلي وقد سأله عن غدير زميلة الدراسة: “- لو كانت ميّتة لصادفتها…”[19]، فجملة الشرط القائمة على الافتراض الممتنع تؤكّد أنّ غدير مازالت على قيد الحياة، فكيف يقول الحيّ عن الحيّ “لو كان ميتا لصادفته”…؟ هل يصادف الحيّ الميّت أم أنّ المتحدّث شبح عالمه الحقيقي هو عالم الأموات؟  يكشف النسق اللغوي عن عدم صدقية وعدم انسجام بين الوحدات الدلالية للجريان العادي للغة، والسؤال الذي يطرح في هذا المستوى، هل يمثل التعارض بين القضايا المضمنة في المخاطبات وع=فقدان النسق للصدقيّة خروجا حقيقيّا عن النسق اللغوي أم هو خروج مشروط؟

 إذا اعتبرنا أنّ النسق اللغوي هو علاقة بين الواقع الاجتماعي واللغة المعتمدة والسياق الذي أنشئت فيه أمكننا إعادة النظر في منطقيّة العلاقات بين المخاطبات في علاقة بالعالم السردي الذي ينشئه الروائي والذي تنشئه الشخصيات، فالواقع الاجتماعي المعتمد هو الواقع النصّي الذي تدور فيه الأحداث، والغرابة البادية في العلاقة بين القضايا هي في ذاتها نسق مختار من الروائي، وتأسيسا على هذا  التصور للنسق، فإنّ التغييرات والتحولات التي أن تظهر داخل كيان النسق نفسه ليست اعتباطية، بل هي معطى من معطيات الآلية التنظيمية للنسق أي قوانينه الداخلية، فمكونات النسق تعيد تنظيم نفسها باستمرار حفاظا على وحدة النسق واستمرارية سيرورته. “فالنسق نظام ينطوي على استقلال ذاتيّ، يشكل كلاّ موحّدا وتقترن كليته بآنية علاقاته التي لا قيمة للأجزاء خارجها، فالوحدات التي يتكوّن منها النسق ليست مجرّد تراكمات عرضية تلتقي مصادفة، بل تتمتع بتنظيم ذاتي يحفظ كيانها في سيرورة بناء النسق”[20].

 إنّ المقاطع النصيّة، التي أوردنا بعضها وغيرها، تدفع إلى البحث عن منطقيّة ما للعلاقات بين القضايا وبحثا عن النظام الذي يمكن وراء النسق اللغوي المعتمد. وهي تدفع إلى تبيّن الحقيقة من الوهم، في مستوى النصّ الروائي من ناحية وفي علاقة ذلك البناء بالعالم الخارجي من ناحية أخرى. 

4- العلاقة بين العالم الروائي والعالم الخارجي:

 تقوم العلاقة بين العالم الخارجي والعالم الروائي، عند محمد حيّاوي، على المخاتلة، فالعالم الخارجي يمنح العالم الروائي، أمكنته، الكرّادة، بالنسبة إلى الخان، وشارع المتنبي الشهير وشارع ابي نواس وشارع الجمهورية والكرخ ويمنح العالم الروائي تاريخه وأحداثه: الحرب العراقية الإيرانية، الغزو الأمريكي للعراق، الانتفاضات وقمعها، يمنحها العلاقات المتشنّجة بين السلطة القائمة والمواطنين ويعيد العالم الروائي تأثيث العالم الخارجي بمعالم جديدة، معالم قوامها الخراب، ولكنه خراب مخصوص، بين أزقته وجدرانه الخربة تنتعش حيوات هي على خلاف ما اعتدنا في العالم الخارجي في عالم مشابه، حيوات رغم غرابتها تبدو دافئة ومؤنسة ونابضة بحكايات فتيات الخان اللاتي جارت عليهنّ الحياة فالتجأن إلى خان أمّ صبيح يهبن أجسادهنّ لطالبي اللذّة مقابل الإقامة والغذاء. ويتآزرن لتأمين الحياة، ينتقي السّارد شخصيات تشبه أخرى وجدت في العالم الخارجي، لا تختلف عنها في شكلها ولا في تجاربها ولا في مآسيها، ينتقي من بين تلك الشخصيات المرجعية ممثلين لها، (شخصية هند على سبيل المثال) أو إمكانية تمثيل وينطقها فتسرد كلّ منها حكاية تتكرّر يوميا في عالم فقد ثوابته وقيمه، عالم أخلّت الحرب باتزانه وجعلت نساءه، خاصّة، حكايات مؤلمة متكرّرة. 

يلتبس العالم المرجعي بالعالم الروائي فلا يكون هو على الحقيقة، ولكنّه يمكن أن يوجد، هو إمكان تحقّق منه بعض ويمكن أن يتحقّق منه البعض الآخر، أو لعلّه هو ذاته وقد تكثّف في لحظة ما وعوض تلك الأحداث الممتدّة على الزمن نسبيّا، تتسارع الأحداث وتتكثف لتخلق عالما موازيا ممكن الكيان.

اعتمد محمّد حيّاوي في بنائه الروائي على خلق عالمين، عالم الراوي “الرئيسي” وعالم للشخصيات، فكانت لشخصياته الرئيسية عوالمها المختلفة جذريّا عن عوالم راويهم، ففي “خان الشابندر”، خاض “الأستاذ علي” تجربة خاصّة مع فتيات الخان، عاش بينهنّ وسمع حكاياتهنّ وساعدهنّ بما استطاع وهو الذي رافق ضويّة، إحدى الفتيات، لتستحمّ في النهر رغم خطر الحرب، والتقى في طريقه إلى شارع المتنبي عددا كبيرا من الأشخاص الذين كانوا يضجون حياة ثمّ يختفون بين الشقوق.  

إنّه أشبه بعالم مواز، قد لا يكون له وجود في العالم المرجعي الروائي، ولا في العالم المرجعي الخارجي. اعتقدت نيفين أنّ صديقها الصحفي قد جنّ، فما يرويه عن فتيات الخان ولقائه ببعضهن يبدو غريبا وحين رافقته إلى الخان بحثا عن الحقيقة تاها ولم يجدا غير خراب، وحين سألت مجر: أخبرها أنّ الفتيات اللاتي تسأل عنهن قتلهنّ المسلحون منذ عشر سنوات على الأقل وقطعوا رؤوسهنّ، فلا وجود لهن ولا للخان الذي كان بعد أن دكته قذيفة هاون، فما الأحداث التي عاشها الراوي ونقل تفصيلاتها ومرح صاحباتها، بل إن زينب نفسها تلك الفتاة التي تعمل لإعالة إخوتها كانت قد قتلت وإياهم في قصف عشوائيّ… بل إنّ نيفين نفسها التي تأخذ بيده لتعيده إلى الواقع وتطرد عنه الوهم تبدو أيضا وهما أو هكذا يوهمنا السّارد إذ يقول  في آخر الخان: “كنت حائرا وساقاي لا تكادان تحملاني، وقلبي يخفق بشدّة مثل حمامة محبوسة وسط أضلاعي المضطرمة، وما فتئ نظري يغيّم ويشوّش… شعرت بتيار غامض يسري بجسدي كله عبر يد نيفين الصغيرة القابضة على يدي برحمة… وقبل أن يغشى بصري لمحت وجهها يضيء بغموض.. وقدماها الصغيرتان لا تكادان تلامسان الأرض.. ولم أعد أتذكّر شيئا”.

 ما تعيشه الشخصيّة كان وهما، هذا ما أوهم به الرّاوي، بل لعلّه أبعد من الوهم، فنيفين التي كانت الثبات الوحيد في عالم من الأوهام تتحول في لحظة إلى روح خفيفة قدماها لا تلامسان الأرض، ما يجعلنا نتساءل: هل شخصية الصحفي هذه شخصية ممكنة الوجود في العالم السردي (شخصية حيّة في العالم الذي اختراه الراوي) أم هي في لحظة بين الحياة والموت تتواصل مع أرواح الموتى قبل الالتحاق بهم؟ أم هي بدورها شبح؟

هو وهم، يطوّع له الراوي الأنساق اللغوية، لينقل حال الوطن الذي تحوّل إلى وطن للأشباح وملاذ للخراب، هو مجموعة من الأشباح التي انتُزعت أرواحُها غيلة، إمّا من قتلة الدّاخل أو قتلة الخارج الوافدين. وهو خراب ووهم وطن، أدمت الأحداث تفصيلاته المهيمنة على مفاصله كلّها. تداخلت الأحداث في الخان وارتبطت بأزمنة دامية، الحرب العراقية الإيرانية وما رافقها من دمار ثمّ ما أعقب الغزو الأمريكي للعراق وما رافقه من انتشار للمجاميع الإرهابية وعبثها بالبلاد. فهذا زمان مرجعيّ اختاره الراوي لشخصياته، ثمّ كان اختيار الشخصيّات لزمنها الخاصّ ولشخصياتها القريبة من نفسها، فكان أن خلق “الأستاذ علي”، إن كان حقيقة روائية فعلا، عالمه الذي يخالف عالم الرّاوي المرجعي. وهو عالم قد يكون ممكنا في بعض تفصيلاته ولا يكون إلاّ وهما في تفصيلاته الأخرى. ولقد حافظ الراوي على أسراره إلى آخر العمل تقريبا، رغم بعض الإشارات غير الصريحة في ثنايا النصّ، ليكشف أنّ ما نقلته الشخصيّة- السّاردة كانت أحداثا وهميّة لا وجود لها في عالم الرواية نفسها، وهو تصريح بـ “حقيقة” اختارها الراوي، ترد على لسان شبحين، شبح مُجر وشبح نيفين، وكأنّنا في هذا الحيّز أمام تخييل مركّب لا تخييل من مستوى واحد تخييل باعتماد عوالم مركبة ومتراكبة. 

ويقول في آخر بيت السودان: ” لكن يا عفاف، لا يمكن أن يكون كلّ ذلك وهما. أنا أرى هؤلاء النسوة يوميا وأتحدّث معهنّ. كل يوم يلوّحن لي من عمق ذلك الخسف ويدعينني لأنضمّ إليهنّ..”[21].

يحملنا حياوي في روايتيه إلى رحلة يتداخل فيها الممكن باللاممكن، والحقيقة بالوهم، يجعل من الواقع مطية للسرد، ويستحثّ اللغة للإيهام.  

يُمَكِّنُنا تفكيك النصّ من تبيّن ثلاثة عوالم متداخلة، أوّلها العالم الخارجي أو الحقيقي مثلما ترسّخ في المخيال الجمعي للعراق بلد الحضارة والتاريخ العريق وعراق ما بعد الحرب، العراق البلد الذي نعرف وهو مرجع أوّل، ثمّ عالم ممكن من منظور الرّاوي الذي يتخفّى وراءه الكاتب يأخذ من ذلك العالم المرجعي بعض مكوناته ويعيد ترتيبها ويخلق فواعل لها، ثمّ عالم ممكن في مستوى ثان مرجعه عالم الراوي الممكن لا العالم المرجعي الخارجي وهو عالم خاصّ بشخصيات دون غيرها، عالم، موسوم بالوهم وبالتعارض بينه والعالم الممكن الذي ابتدعه الراوي ليكون محملا لأفكاره ورؤاه. 

5- الخاتمة:

تشترك الروايتان في تجذّرهما في المكان، تجذّرا يظهر في الحرص على ذكر الأمكنة، وعلى وصفها، وعقد علاقات حميمية معها، فالمكان ليس حاملا للحدث فقط، بل المكان في ذاته شخصيّة نابضة بالحياة، رغم الواقع القاتل الذي يُفرض عليه ورغم الأحداث الدامية التي تجري فوقه. فكان حضور الوطن طاغيا، في أبعاده المختلفة، وزاد التخييل من حضور الوطن. فكانت الحكايات نابعة من تفاصيله، وكان خلق العوالم المركبة إمعانا في بيان الكارثة الحاضرة. فكان الوطن واقعا وكان الوطن تخييلا.

قائمة المصادر والمراجع:

  • الحساني، أحمد، سلطة النسق اللغوي في اللغة العالمة واللغة المؤسسية، مجلة جامعة الوصل، 2021.
  • ريبول، آن وموشلار، جاك، تداولية تحليل الخطاب، من تأويل الملفوظ إلى تأويل الخطاب، ترجمة، بوتكلاي لحسن، كنوز المعرفة، عمّان- الأردن 2020.
  • عبشون، خيرة، الأنساق اللغوية وتجلياتها الدلالية، مجلّة إشكالات في اللغة والأدب، المجلّد9، عدد5، سنة 2020.
  • -محمد حياوي، خان الشابندر، دار الآداب للنشر والتوزيع- بيروت، ط1، 2015.
  • محمد حياوي، بيت السودان، دار الآداب للنشر والتوزيع- بيروت، ط1، 2018.
  • Arnauld, Antoine et Nicole, Pierre, La logique ou l’art de penser, Editions Gallimard, 1992.
  • Auroux, Sylvain, La raison, la Langage et les normes, presses Universitaire de France, 1998.
  • Hobbs, Jerry R, Literature and Cognition, CSLI, Lecture Notes Number 21, 1990.
  • Lovito, Giuseppe, La fiction narrative comme une « nouvelle frontiere » de la recherche théorique selon Umberto Eco. https://cielam.univ-amu.fr/malice/articles/fiction-narrative-nouvelle-frontiere-recherche-theorique-selon-umberto-eco.
  • Murzilli, Nancy, De l’usage des mondes possibles en théorie de la fiction, Klesis- Revue philosophique-2012 : 24- La philosophie de Davia Lewis.

[1]– Hobbs, Jerry R, Literature and Cognition, CSLI, Lecture Notes Number 21, 1990, pp34-35

[2]– يمكن التوسّع في هذه النقطة بالعودة إلى المصدر السابق، ص35.

[3]– محمد حياوي، بيت السودان، دار الآداب بيروت، 2018، ص5.

[4]– محمد حياوي، بيت السودان، مصدر سابق، ص61.  

[5]– المصدر نفسه، ص29.

[6]– تدور أحداث خان الشابندر في العاصمة بغداد بعد الغزو الأمريكي للعراق، وتنقل حكاية الصحفي “علي” الذي عاد بعد هجرة قسريّة استمرّت سنوات، يكتشف في إحدى جولاته في أحياء المدينة الخلفية للخان الذي يمثل بيتا لطالبي اللذّة تديره أمّ صبيح ويضمّ مجموعة من الفتيات. يقترب “علي” من الفتيات وهو القادم إليهم بغرض الاكتشاف والكتابة عنهم، فيروين له حكاياتهن التي دفعتهن إلى الخان يبحثن فيه عن الأمن بعد أن قست الحياة عليهنّ. ثمّ تتوالى الأحداث.

[7]– يظهر الخطر الخارجي في رواية بيت السودان في القوات الأمريكية التي غزت البلاد واستباحتها وفي المجاميع المسلّحة التي تمثل توجّهات مختلفة متناحرة إلى حدّ يهدّد بسلب الحياة، وكلّما اشتدّ ذلك الخطر أرسلت ياقوت “علي” أو “علي وعفاف” ابنة الحوذي التي اختفى والدها فآوتها ياقوت، إلى الموقع الأثري أور وكأنّها تحميهما من هول الواقع، وهو اختيار في سياق روائي تقوم به إحدى الشخصيات الرئيسية، وهو اختيار من الكاتب ورؤية تبحث عن الأمان في التاريخ.

[8]– محمد حياوي، بيت السودان،مصدر سابق، ص52.

[9]– محمد حياوي، بيت السودان، مصدر سابق، ص55.

[10]– محمد حياوي، خان الشابندر، ص43-44.

[11]– المصدر نفسه، ص60.

[12]– حمد حياوي، خان الشابندر، ص41.

[13]– المصدر نفسه، ص162.

[14]– محمد حياوي، بيت السودان، ص44.

[15]– نقصد بالنسق النظام الذي تخضع له اللغة في مستوياتها المتعدّدة، ولقد عجّت المعاجم والكتب المختصة بتعريفات للنسق تحدّه من جوانبه المختلفة وتنتهي إلى أنه مجموعة من الوحدات المنتظمة وفق تصور ما، ولم نثبت في هذا المقال التعريف المعجمي للنسق لإدراكنا لسهولة المأخذ لمن يريد العودة إليه، ولتركيزنا في هذا العمل على الجانب المفاهيمي العملي الذي يساعدنا على تبيّن العلاقة بين التخييل والواقع وهو مدار هذا المقال، لذلك كان اختيارنا لما نثبت انتقائيا. 

[16]– يمكن العودة في تبيّن خصائص هذه الأنساق إلى خيرة عيشون في مقالها، الأنساق اللغوية وتجلياتها الدلالية، الوارد في مجلّة إشكالات في اللغة والأدب، المجلّد9، عدد5، سنة 2020، ص251-268.

[17]– أحمد الحساني، سلطة النسق اللغوي في اللغة العالمة واللغة المؤسسية، مجلة جامعة الوصل، 2021، ص284.

[18]– محمد حياوي، خان الشابندر، مصدر سابق، ص54.

[19]– المصدر نفسه، ص47.

[20]– أحمد الحساني، سلطة النسق اللغوي في اللغة العالمة واللغة المؤسسية، ص284.

[21]– محمد حياوي، خان الشابندر، مصدر سابق، 166.

مقالات أخرى

المعنى و اللاّ-معنى في التّراكيب اللّغويّة

النّسيج اللّغوي

الشّعر الشّعبيّ التّونسيّ

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد