في لقاء نظمته الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، مكتب العاصمة، بالتعاون مع مخبر الجماليات ومخبر الدراسات الفلسفية والأكسيولوجية ومخبر إشكاليات البحث العلمي بجامعة الجزائر2 في تأبينية خاصة بالمفكّر طيّب تيزيني.
قدم خلالها، أستاذ الفلسفة بن ازواو السعدي، أحد تلامذة طيب تيزيني، مداخلة موسومة حول أهمّ المحطّات الفكريّة في حياة طيب تيزيني، وجاء في مداخلته : « رحل المفكّر العربي السوري الكبير في صمت مهيب، تاركا وراءه وطنا ممزقا بل ومدمّرا بالكامل، لم يحظ بجنازة تليق بمقامه. إنّه قدر الرجال العظماء. كان حلمه بسيطا جدّا : وطن ديمقراطي حرّ، يعيش فيه الإنسان ويليق بآدميته، لكنّ الأقدار شاءت غير ذلك !
لم يعرف طيب تيزيني الراحة ولا العيش الرغيد. فلقد كان الرجل متواضعا في كلّ شيء (لباسه وأكله) ومتسامحا مع الجميع. إنه إنسان بسيط بساطة العلماء. لم يكن يوما يطمح في السلطة ولم يرغب في جاه ولا في جمع الثروة ولم تغره أمور الدنيا واضعا مسافة بينه وبين السلطة…لم يكن يعيش في برج عاجي معزولا عن هموم الناس وقضاياهم الحيويّة. كان يكتب بكثافة ويحاضر في كلّ مكان منتقلا من مدينة إلى أخرى دون كلل ولا ملل. كان يُشرف على مجموعة كبيرة من الطلبة السوريين وكذا العرب القادمين من المغرب العربي بالإضافة إلى وظيفته كأستاذ في جامعة دمشق التي كان يعيل بها أسرته. ما عدا ذلك، لم يكن يتعاطى أجرا على كل ما كان يقوم به نشاطات. إنّه مثال للمثقّف الذي جمع بين الفضيلة العلميّة والخلقيّة.
تُعدُّ فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات فترة تألّقه ثقافيا وفكريا حيث هيمن على المشهد الثقافي. عُرِف في هذه الفترة بانشغاله بمسألة التراث العربي الإسلامي وربّما يمكن اعتبار تيزيني من أهمّ الشخصيات الفكرية التي اهتمّت بالتراث العربي الإسلامي. لم تكن مسألة التراث جديدة على الساحة. بل كان الجديد هو التناول المنهجي الماركسي (المادّي التاريخي الجدلي) وتطبيقه على التراث. بدءا من تلك اللحظة، لم يظلّ التراث حكرا على أحد. فعلا، لقد أصبح التراث ملك للجميع، ملك للأمّة. هكذا، بات التراث واحدا ومتعدّدا، وأصبح له، مع تيزيني، جذورا تاريخية واقتصادية واجتماعية. فالثورة الإجتماعية والتحوّل الإجتماعي يتطلّبان قراءة جديدة للتراث تواكبها. لقد حاول طيب تيزيني صياغة نظريّة تراثية قوامها المنهج المادّي التاريخي الجدلي.
في بداية السبعينات، أصدر تيزيني كتابا موسوما من التراث إلى الثورة، وهو مقدّمة نظريّة مقترحة في قضيّة التراث العربي. يرى أنّه مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من العصر الجاهلي إلى المرحلة المعاصرة، وهو كتاب يتكوّن من 12 مجلّدا أصدر منه حوالي 6 أجزاء.
صرّح المحاضر بأنه لا يريد الولوج الى تفاصيل نظريّة تيزيني التراثية لأنّ المجال لا يسمح. ورغم ذلك وضّح الأستاذ بن أزواو كيف أنّ للتيزيني الفضل الكبير في إعطاء وجهة نظر مغايرة لِما كان سائدا في السابق حول التراث؛ وكيف استطاع أن يتحدّى السلفيّة والأصولية الدينية في ادّعاءاتها بامتلاكها الحقيقة المطلقة للتاريخ وللتراث. فمحاولة وضع نظريّة تراثية هي خطوة إيجابية بحدّ ذاتها كما بيّن بوعلي ياسين. لقد كان التحليل المادّي التاريخي الجدلي ثورة على القراءة التقليديّة للتراث. لكن في منتصف التسعينيات من القرن الماضي حدثت تحوّلات كبرى دولية ومحليّة. وتتمثل هذه التحوّلات في تفكّك الاتحاد السوفياتي؛ والكتلة الإشتراكية وسقوط جدار برلين. أمّا التحوّلات المحليّة فتتمثّل في إخفاق المشروع القومي الثوري العربي. لقد أدّى هذان الحدثان على الصعيد العالمي والمحلي بالطيب تيزيني إلى مراجعة مجمل ما كتبه من المنظور الماركسي. وعليه، فإنّ أوّل ما سقط من قاموس طيّب تيزيني هو مفهوم الثورة والذي لم يعد صالحا للإستعمال (من التراث إلى الثورة)، لأنّ مشروع الثورة بات يعيش اختناقا قاتلا ومحاصرا من الداخل والخارج، لهذا استبدل مفهوم الثورة ومشروعها بمفهوم النهضة (من التراث إلى النهضة).
ثمّ هناك مسألة في غاية الأهمية والحساسية يعتقد طيب تيزيني أنّه لم يوليها الفكر الماركسي العربي ولا الفكر القومي وحتى الليبرالية العربية أهميّة كبيرة، إنها المسألة الدينية التي عولجت بطريقة سطحيّة. من هنا يرى تيزيني أنّ العودة لهذه القضية هي مسألة جوهرية وحيويّة. فإذا كان أصحاب التغيير الإجتماعي والثورة الإجتماعيّة هم من المؤمنين المتديّنين فإنّ علينا أخذ التجربة الدينيّة الإيمانيّة بعين الإعتبار. لهذا، لا يمكن تجاوز الفكر الديني. فالعودة إلى الإصلاح الديني هو أمر ضروري.
يبقى طيب تيزيني مؤمنا بالماركسية ولكن ليس على الطريقة التقليدية وإنّما الماركسية التي تأخذ بالحسبان العوامل الدينية والأخلاقية وحتّى الرمزية وهذا لا يتعارض كما هو معروف مع فكر ماركس.
في الأخير، نقول كلمة في حق هذا الرجل العظيم الذي أفنى حياته في خدمة العلم والوطن : إنّه كان يحلم بوطن مبنيّ على أسس قويّة ومنيعة في الداخل وتحميه من عواصف الخارج. »
هكذا اختتم الأستاذ بن أزواو مداخلته فاسحا المجال للأستاذ مختار ديدوش محمّد المتخصص في فكر تيزيني لإلقاء مداخلة عنوانها : طيب تيزيني : الإنسان والمفكّر. جاء فيها:
« أولا/ تيزيني الإنسان
يعتبر طيب تيزيني واحد من أهم المفكرين العرب المعاصرين البارزين في مجال الدراسات التراثية وقضايا الهوية العربية الإسلامية والفكر السياسي العربي المعاصر. وهو صاحب مشروع فكري ضخم يتألف من اثنى عشر (12) جزء أطلق عليه اسم: “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من العصر الجاهلي حتى المرحلة المعاصرة”.
ولد طيب تيزيني بحمص في سوريا عام 1934م بقرية كانت تسمى “أم الفقير” في عائلة ميسورة الحال من الطبقة الوسطى. وجد في أسرته بيئة فكرية وعلمية وثقافية مكنته من تنمية فكره وتوسيع ثقافته واطلاعه. وذلك يرجع لوجود مكتبتين مختلفتين في منزله، واحدة دينية لاهوتية ترجع لوالده، وأخرى علمية علمانية تعود لأخيه الأكبر. هذا الاختلاف في التوجهات بين أبيه وأخيه سمح له بإدراك معاني الحرية الفكرية وثقافة الحوار وأيضا تعدد الثقافات والإيديولوجيات.
عُرف عن طيب تيزيني في مرحلة شبابه أنه كان مؤذنا وإماما للمصلين، وهذا بالطبع ناتج عن تأثره بوالده وتوجهه الديني. إلا أنه بعد قراءته لكتاب “ديكارت أبو الفلسفة الحديثة” تغير اهتمامه بعدها من مجال الدين واللاهوت نحو مجالات الفكر والفلسفة.
بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في سوريا شد الرحال إلى أوروبا ليواصل فيها تكوينه الجامعي. فكان أن سافر في البداية إلى تركيا لدراسة الفلسفة، ومنها انتقل إلى بريطانيا، ثم إلى ألمانيا لينهي دراسته للفلسفة هناك ويحصل منها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1967م، بأطروحة عنوانها: “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطية”. ثم نال درجة الأستاذية في العلوم الفلسفية سنة 1973. ليعود بعدها إلى أرض الوطن (سورية) ليتفرغ للتدريس الجامعي والكتابة والتأليف في مجال الفكر العربي المعاصر. إلى أن وافته المنية عن عمر 85 سنة في يوم السبت 13 من شهر رمضان 1440 الموافق 18 ماي 2019.
ثانيا/ تيزيني المفكر
المعروف عن طيب تيزيني أنه صاحب مشروعين فكريين: الأول حمل عنوان مشروع الثورة، أما الثاني فهو مشروع النهضة. في مشروعه الأول قام تيزيني بعرض ونقد جل القراءات أو كما يسميها هو النزعات التي تناولت موضوع التراث، والتي يحصرها في خمس نزعات: السلفوية، العصروية، التلفيقية، التحييدية، المركزية الأوروبية. لينتهي إلى أنها قراءات لا تاريخية ولا تراثية. مقدما في نفس الوقت البديل التراثي لها ممثلا في النظرية الجدلية التاريخية التراثية. التي عمل فيها على التوحيد المنهجي بين التاريخ (الماضي) والتراث (الماضي الممتد في الحاضر) باعتبارهما واقعا موضوعيا واحدا، أي مادة تاريخية وتراثية واحدة. وهذا يرجع لكون كلاهما يتضمن التأكيد على عنصر الماضي، ولكن ليس كلاهما يشترط قيام جسور بين لحظة الماضي ولحظة الحاضر.» فالتاريخ لا يستطيع أن يكون جزءا من الحاضر على عكس التراث الذي تربطه علاقة تداخل وتشابك معه.
لقد هدف تيزيني من خلال مشروعه هذا إلى إحداث ثورة في فهم التراث، بحيث يؤدي هذا الفهم إلى إحداث ثورة ثقافية تكون لازمة عنه، ومن أجل استكمال هذا الوضع يشترط إحداث ثورة اجتماعية تشكل القاع الاجتماعي لتينك الثورتين.
مع مطلع التسعينات وبداية الألفية الجديدة عرفت الساحة العربية والعالمية أحداث مهمة (سقوط المنظومة الاشتراكية، التطبيع العربي الإسرائلي، النظام العولمي الجديد…) دفعت إلى التراجع عن بعض أفكاره التي نادى بها سابقا، واطلاقه لمشروع جديد سماه مشروع النهضة والتنوير. هذا المشروع يقوم على ضرورة مشاركة المجتمع كله بجميع فئاته وطبقاته، على عكس ما كان الحديث فيه سابقا من صراع طبقي ومصالح متصارعة. فحامل المشروع الجديد، النهضوي، لا يمكن الآن إلا أن يكون تحالفا طبقيا أو سياسيا يضم كل فئات المجتمع. إنه مشروع أمة كاملة وليس مشروع طبقة معينة يأمل من خلاله إلى توحيد المجتمع وتعزيز روابطه للتصدي للمؤثرات الخارجية التي تهدد الوحدة الوطنية والهوية الإسلامية للعالم العربي الإسلامي.»
بعد مداخلة الأستاذ مختار ديدوش محمّد، أدلى بعض الأساتذة الذين كانوا طلبة لدى الراحل طيب تيزيني وغيرهم، شهادات حول هذا المفكّر. واختتم اللقاء بتناول بعض الضيوف والطلبة الكلمة ممّا زاد الندوة ثراء و توسّعا.
في النهاية نتمنّى لطلبتنا
– التوفيق والنجاح في بحوثهم الأكاديميّة ؛
– السير على خطى الفقيد طيب تيزيني بخصوص البحث الجادّ، والتفكير في آليات لإخراج مجتمعاتنا من حالة الضعف والهوان والتخلف ؛- التمسّك بالفضائل والخصال التي تجعل سلوكهم إنسانيا يتصف بالحبّ والتسامح والخير والعطاء …
الدكتورة نعيمة حاج عبد الرحمن