المسؤوليّة الإيتيقيّة عند إيمانويل ليفيناس

إيمانويل ليفيناس

 

ملخّص:

يعتبر ليفيناس مرجعا فلسفيّا لمن يطرح أسئلة حول الإيتيقا والمسؤولية، إذ يرى أنّ المسؤوليّة هي البنية الأساسيّة للذّاتيّة، وذلك باعتبارها العلاقة الأولى بين النّاس بعيدا عن الاعتبارات القانونيّة أو المنطقيّة. كما يرى أنّ المسؤوليّة ليست سؤالا يطرح؛ ذلك أنّ الأنا هو المسؤول -بشكل قبليّ- ليس فقط عن ذواته و أفعاله، بل إنّه مسؤول -في المقام الأوّل- عن الآخر وعمّا يصيبه ومسؤول حتّى عن مسؤوليّة الآخر، غير أنّ المسؤوليّة الإيتيقيّة ليست متماثلة أو تبادليّة عند ليفيناس. يحاول هذا المقال فحص دلالة مفهوم المسؤوليّة الإيتيقيّة واستجلاءها عند ليفيناس باعتبارها من المفاهيم الأساسيّة في فلسفته.

الكلمات المفاتيح: الإيتيقا، المسؤوليّة، الآخر، الذّاتيّة، الاستبدال.

Abstract:

Levinas’s name has become a reference point for those who question ethics and responsibility. For Levinas, responsibility is the essential structure of subjectivity: it is the primary relationship between human beings. Far from legal or logical considerations, for Levinas responsibility is not a question that arises: we are in fact responsible not only for ourselves or our own actions, but also for others, for what happens to them, for their responsibility. This does not mean, however, that we should expect the same attention from others: ethical responsibility is non-symmetrical, non-reciprocal, and obviously completely disinterested. This article attempts to examine and clarify one of the fundamental concepts of Levinas’s thought, namely the concept of ethical responsibility.

Key words: ethics, responsibility, other, subjectivity, substitution.


1- مقدّمة:

يرتبط مفهوم المسؤوليّة في فلسفة ليفيناس بكونها تشير إلى جسامة عوالمه وجسامة إيتيقاه، والدّليل على ذلك هو أنّه قد خصّص الجزء الكبير من كتابه “آخر الكينونة أو في ما وراء الماهية” لموضوع المسؤوليّة لأجل الآخر، حيث قدّم قراءة فينومينولوجيّة لمختلف أبعاد المسؤوليّة لأجل الآخر وتجلّيّاتها والّتي جعلها بمثابة المبدأ الموجّه لإيتيقاه. وإذا كانت إيتيقا ليفيناس لا تقول لنا ما ينبغي فعله فإنّنا نفهم بفضلها أنّه ينبغي البدء انطلاقا من المسؤوليّة لأجل الآخر.

سنحاول في هذا المقال استجلاء دلالة المسؤوليّة عند ليفيناس وكيفيّة تأويله لها، ذلك أنّ المسؤوليّة اللّامتناهية تجاه الآخر تطرح عدّة إشكالات؛ سواء كانت مرتبطة بطبيعة الآخر، أو مرتبطة بمفهوم المسؤوليّة نفسه. لهذا يمكن التّساؤل: ماذا يقصد ليفيناس بالمسؤوليّة الإيتيقيّة؟ وما هي مسوّغاتها؟ وهل المسؤوليّة موضوع ميتافيزيقيّ أم هي موضوع أخلاقيّ؟ وهل هناك حدود لمسؤوليّة الأنا؟

2- في دلالة المسؤوليّة الإيتيقيّة:

ينبّهنا ليفيناس في كتابه “إنسانويّة الإنسان الآخر” إلى أنّه “ينبغي التّفكير في الإنسان انطلاقا من المسؤوليّة”[1]، لهذا يتمّ غالبا الحديث عن إيتيقا ليفيناس من خلال ربطها أوّلا بمفهوم المسؤوليّة تجاه الآخر. كما أنّ الطّابع الجديد والمثير للدّهشة في تناوله لمفهوم المسؤوليّة يفرض علينا محاولة فهمها كما جدّدها ، وجعلها مفتوحة إلى درجة اعطائها دلالة (ما وراء كلّ معنى) لفلسفة مغايرة.

أن تكون مسؤولا هذا يعني في لغتنا المعتادة أن تكون إنسانا ناضجا وواعيا يأخذ بالحسبان كلّ عناصر وضعيّة ما، من ثمّة يتصرّف ويقرّر وفق عقل حسابيّ. غير أنّ المسؤوليّة لأجل الآخر عند ليفيناس لم تعد تنتمي إلى الوعي ولم يعد معناها القيام بتفكير فاعل ولم تعد حتّى واجبا يتمّ فرضه من الخارج ومن الدّاخل، ذلك أنّ مسؤوليّة الأنا لأجل الآخر هي بمثابة انعطاف يقتضي تغييرا لوضعيّة “الأنا” وتغييرا للزّمن، وحتّى تغييرا للّغة وذلك بعدم الاقتصار فقط على اللّغة الفلسفيّة للغرب -الّتي يسمّيها ليفيناس باللّغة الإغريقيّة- وذلك بالاستعارة من منابع أخرى للحكمة.

لقد بيّن دريدا أنّ المهمّة الأكثر جوهريّة لفلسفة ليفيناس تكمن في طرح إشكاليّة المسؤوليّة، والجديد في معالجة ليفيناس لهذا الإشكال هو النّأي به عن سياقاته التّاريخيّة بدءا من أفلاطون وصولا إلى هوسرل وسارتر، فالمسؤوليّة عند ليفيناس نشاط انفعاليّ محض وسلبيّ لا يشكّل في بنيته الأوّليّة والأصليّة والأساسيّة سوى استجابة لأمر إيتيقيّ مأتاه الحضور اللّامتناهي لله الماثل في وجه الآخر[2]. إنّها مسؤوليّة تسحب الأنا من كلّ نظام وتبعده عن نفسه، ذلك أنّها مسؤوليّة بلا حساب، ولكونها مبنيّة بهذه الكيفيّة فإنّ المسؤوليّة تبتعد وتقصي نفسها من التّعاريف الّتي قدّمتها الفلسفات السّابقة.

يرى ليفيناس أنّ المسؤوليّة الإيتيقيّة هي بنية أساسيّة وأوّليّة لوجود “الهو هو le même“، وتتوجّه هذه المسؤوليّة نحو الآخر أو القريب ونحو من لا علاقة للأنا به، إذ ليس لهذه المسؤوليّة حدود، بمعنى أنّ هذا الّذي لا علاقة للأنا به يهمّه رغم ذلك ويعنيه في المقام الأوّل. ذلك أنّ ما يهمّ الأنا هو وجه الآخر دون سواه، وفي هذا الصّدد يقول ليفيناس: “منذ اللّحظة الّتي ينظر إليّ فيها الآخر، أكون مسؤولا عنه، وحتّى دون أن أتحمّل المسؤوليّة تجاهه، فإنّ مسؤوليّته تقع على عاتقي. إنّها مسؤوليّة تذهب أبعد ممّا أفعل”[3].

وإذا كنّا -في الحياة العاديّة- مسؤولين عن أفعالنا وأقوالنا، فإنّ المسؤوليّة الإيتيقيّة هي -بشكل أصليّ- مسؤوليّة من أجل الآخر. كما أنّها ليست مشروطة بقبولنا أو برفضنا لهذه المسؤوليّة، ولكنّها مشروطة بقدرتنا على فعل شيء ملموس من أجل الآخر. كما تسعى هذه المسؤوليّة إلى أن تكون شاملة بالشّكل الّذي يكون فيه الأنا مسؤولا عن الآخرين، وعن كلّ شيء عند الآخرين، إذ يستحيل وضع حدود أو قياس للحاجة القصوى الّتي تكتسيها المسؤوليّة من أجل الآخر. من ثمّة فإنّ الأنا مسؤول حتّى عن مسؤوليّة الآخر لأنّ مسؤوليّته هي دائما أكبر من مسؤوليّة الجميع، وهو ما تعبّر عنه الجملة الّتي استعارها ليفيناس من ديستويفسكي والواردة في روايته ” الإخوة كارامازوف”: “كلّنا مذنبون في كلّ شيء وفي حقّ الكلّ أمام الكلّ، وأنا مذنب أكثر من الآخرين”[4]، وهذا يعني كما لو أنّ الأنا يوجد في وضعيّة المذنب بسبب مسؤوليّته تجاه الآخرين على الرّغم من أنّ موقف الآخر لا يتدخّل بأيّ شكل من الأشكال في مسؤوليّة الأنا القبليّة تجاهه. ويمكن القول إنّ ذاتيّة الذّات تتحقّق بوصفها “كينونة -ذات- للكلّ” وبوصفه مسؤوليّة لامتناهية إزاء الآخر.

لا يتحدّث ليفيناس عن أبطال الرّواية الّذين ينطقون بالعبارة الواردة أعلاه، كما لا يتكلّم عن منبع المبدأ الأخلاقيّ الّذي يفهم منها إذ يبدو أنّ هذه العبارة هي بمثابة “أكسيوم” لا يتطلّب شرحا كما لو أنّ دلالتها بادية من تلقاء نفسها. وينبّهنا ليفيناس إلى أنّه لا يتكلّم عن الذّنب، بل إنّه يريد استبعاد هذا المفهوم من خطابه الأخلاقيّ، لهذا نجده يقول في كتابه “الإيتيقا واللّامتناهي”: “إنّ الأنا هو من يتحمّل كلّ شيء. تعرفون جملة دوستويفسكي هذه: “كلّنا مذنبون في كلّ شيء وفي حقّ الكلّ أمام الكلّ، وأنا أكثر من الآخرين”. ليس ذلك بسبب أخطاء قد أكون ارتكبتها، ولكن لأنّني مسؤول مسؤوليّة مطلقة، أي مسؤوليّة عن كلّ الآخرين وعن كلّ شيء عند الآخرين، وحتّى عن مسؤوليّتهم. إنّ للأنا دائما مسؤوليّة أكثر من كلّ الآخرين”[5].

يظلّ الرّبط، رغم ما تقدّم، بين الذّنب والمسؤوليّة محلّ إشكال عند ليفيناس، ذلك أنّه، وإن كان يستشهد بعبارة دوستويفسكي الّتي فيها ربط بين الذّنب والمسؤوليّة، فإنّه يقول لنا في موضع آخر من كتابه “آخر الكينونة أو ما وراء الماهية”: “بأنّ المسؤوليّة لأجل الآخر لا يمكن تأويلها لا بوصفها عقدة ذنب، ولا بوصفها إحسانا طبيعيّا، أو بوصفها فطرة إلهيّة أو حبا”[6]. ومن جهة أخرى يشدّد ليفيناس على أنّ المسؤوليّة تجاه الآخر ملزمة إلى درجة أنّها تجبرنا على تحمل حرّيّة الآخر والجواب نيابة عنه، ومعنى ذلك أنّ الإنسان ملزم في العلاقة البينذاتيّة بأن يكون مسؤولا عن مسؤوليّة الآخر.

من زاوية النّظر التّقليديّة تمارس المسؤوليّة ضمن حركتين: في الأوّل تقوم الذّات بقول أو بفعل شيء ما، ثمّ تبحث عن أسباب للتّبرير أمام محكمة الطّرف الآخر المحايد (في السّياق القضائيّ) الّذي يخضع تبريرات الأنا لمعايير كونيّة، إذ عادة ما يتمّ فهم المسؤوليّة أمام القانون بوصفها شأنا يخصّ الذّات لذلك نقول: “نحن مسؤولون عن أفعالنا وعن أقوالنا، كما أنّ جميع النّاس سواسية أمام هذا القانون، ويتمّ استثناء الطّفل والمجنون فقط من المسؤوليّة لكن لا شيء في هذا القانون، وضمن عدالة النّاس هذه ما يؤكّد على المسؤوليّة من أجل الآخر، وعلى أنّ الإنسان مسؤول عن المعاناة الّتي يتحمّلها الآخر، وحتّى عن تلك الّتي يكون سببا فيها”[7].

في المقابل ومن خلال زاوية نظر ليفيناس الّتى ترى المسؤوليّة بوصفها جوابا على نداء الآخر فإنّ كلّ أقوال الأنا وأفعاله إنّما تجيب على نداء الآخر، ومنه فإنّ المسؤوليّة بوصفها ماهية الإيتيقا لا ترتكز في المقام الأوّل على إرادة مستقلّة، ولكنّها ترتكز على نداء الآخر الّذي يعطي المعنى لذاتيّة الأنا بما هي التزام بالمسؤوليّة. ويمكن لبعض الظّروف والإكراهات أن تقلّل من القدرة على ممارسة المسؤوليّة (مثلا في الحرب، الدّيكتاتوريّة…)، غير أنّه لا يمكن لهذه الإكراهات أن تمنع الذّات من الجواب على نداء الآخر الّذي يجعل الذّات ذاتا. وينبغي الإشارة إلى أنّ المسؤولية لأجل الآخر لامتناهية، إذ لا يمكن لأيّ شخص أن يجيب على نداء الآخر مكان الأنا[8]، لهذا لا يمكن الخلط بين المسؤوليّة الإيتيقيّة والمسؤوليّة الباردة أو الإكراه القانونيّ، “إنّ المسؤوليّة من أجل القريب هي -على وجهة التّدقيق- ما يذهب أبعد ممّا هو قانونيّ، وهي إلزام ما وراء التّعاقد، فهي تأتيني ممّا هو أدنى (d’en-deçà) من حرّيّتي، ومن ما ليس حاضرا، ومن ماضيّ لا يمكن تذكّره”[9].

وتحيلنا المسؤوليّة الإيتيقيّة عند ليفيناس على ثقل محبّة القريب (prochain) وعلى الحبّ بدون شهوة، فالمسؤوليّة الإيتيقيّة هي مسؤوليّة دون إحساس بالذّنب، ومن ثمّ فهي تذهب إلى ما وراء أخطاء الأنا وأبعد ممّا كان بإمكانه اقترافه في حقّ الآخر أو عدم اقترافه: ذلك أنّ الأنا مسؤول حتّى عمّا لا يستطيع القيام به من أجل الآخر، ويكون الأنا في المسؤوليّة الإيتيقيّة اللّامتناهية منذورا للآخر قبل أن يكون منذورا لنفسه، لهذا يقول: “إنّ لا تناهي المسؤوليّة لا يترجم جسامتها الحالية، لأنّ تنامي المسؤوليّة يكون حسب تحمّلها،حيث تتّسع الواجبات حسب درجة القيام بها. فكلّما أكملت واجبي، كانت لي واجبات أكثر؛ وكلّما كنت عادلا كنت مذنبا أكثر”[10].

ويعتبر ليفيناس المسؤوليّة نحو الآخر علاقة استثنائيّة لأنّ “الهو هوLe même ” ليس حرّا في رفض هذه المسؤوليّة. وعلى العكس من ذلك يمكن للآخر أن يتحمّل عبء هذه المسؤوليّة في الاتّجاه الّذي يتمنّاه وبالشّكل الّذي تسمح به طبيعته غير أنّه يمكننا التّساؤل: في ظلّ هذه المسؤوليّة اللّامتناهية واللّا-تبادليّة، ألا يكون الأنا في وضعيّة عبوديّة للآخر؟ وما هو موضوع المسؤوليّة إذا لم يبق للأنا حرّيّة الاختيار؟

3- الحرّيّة والمسؤوليّة:

يرى سارتر أنّ الحرّيّة من حيث كونها قيمة القيم، فهي تؤسّس المسؤوليّة: مسؤوليّة الأنا عن ذاته وعن الإنسانيّة قاطبة، وذلك بموجب ما يتمتّع به هذا الأنا من قدرة لامتناهية على الاختيار والفعل[11]. وهذا يعني أنّ الحرّيّة سابقة للمسؤوليّة، غير أنّ ليفيناس يرى عكس ذلك، فالمسؤوليّة تجاه الآخر تسبق حرّيّة الأنا بل هي من تجعل هذه الحرّيّة ممكنة. من ثمّ لا يمكن للمسؤوليّة لأجل الآخر أن تبدأ تبعا لقرار الأنا أو اختياره، ذلك أنّ المسؤوليّة اللّامحدودة الّتي يوجد فيها الأنا تأتي ممّا يتعالى على حرّيّة الأنا وممّا هو سابق لها، أي من ما وراء الماهية باعتباره المكان الّذي يتموضع فيه نداء المسؤوليّة لأجل الآخر. وهو ما يفرض على الأنا أن يجيب وأن يتحمّل المسؤوليّة تجاه الآخر قبل كلّ وعي وفهم وقبل كلّ حرّيّة وقبل كلّ حاضر[12]؛ إنّها مسؤوليّة ما وراء الوجود، وهي قول سابق على كلّ ما قيل.

وينتقد ليفيناس بعض المفكّرين مثل”فنكFink ” أو “دلوم JeanneDelhomme” اللّذان يناديان بحرّيّة دون مسؤوليّة في العالم بوصفها من بين شروطه، ذلك أنّ المسؤوليّة لا تستند -في نظره- على أيّ التزام حرّ كما لا يكون وجودها ممكنا إلّا لكونها غير اختياريّة. ويرى ليفيناس أنّه لا يمكن وصف عدم إمكانيّة الاختيار هذه بأنّها عنف إلّا في تفكير متعسّف وعدائيّ أو غير حذر، ذلك أنّ المسؤوليّة لأجل الآخر تسبق ثنائيّة الحرّيّة واللّا-حرّيّة[13]. ومنه تبرز الحاجة إلى بناء كينونة لا تكون لأجل ذاتها بل هي من أجل الجميع باعتبارها مسؤوليّة لأجل الآخرين، يقول: “إنّ هذه الطّريقة في الجواب دون التزام مسبق -أي مسؤوليّة لأجل الآخرين- هي الأخوّة الإنسانيّة عينها السّابقة للحرّيّة”[14]، ويرى ليفيناس أنّ الكينونة الحرّة مسؤولة وحدها، بمعنى أنّها ليست حرّة بشكل قبليّ وإنّما تصير كذلك حينما تكون مسؤولة.

أن يكون الأنا مسؤولا ما وراء حرّيّته هو -في نظر ليفيناس- أفضل حالا من أن يكون خاضعا للأخطاء وللعقوبات النّاجمة عن حرّيّة الاختيار، وإذا كان هناك ظهور للاصطلاحات الإيتيقيّة في خطابنا قبل تلك المتعلّقة بالحرّيّة واللّا-حرّيّة، فذلك لأنّه قبل ثنائيّة الخير والشّرّ الّتي تكون موضع اختيار تجد الذّات نفسها متعاونة مع الخير ضمن سلبيّة التّحمّل نفسها. ومن ثمّ لن يكون التّمييز بين الحرّيّة واللّاحرّيّة -في نظر ليفيناس- هو التّمييز النّهائيّ بين الإنسانيّة واللّا-إنسانيّة[15].

ويرى ليفيناس أنّ هذه الأسبقيّة للمسؤوليّة على الحرّيّة، إنّما تعني طيبة الخير: أي حاجة الخير إلى اصطفاء الأنا أوّلا قبل أن يكون قادرا على اختياره[16]، وتبعا لذلك لن تكون هناك حاجة للقول بأنّ الكائن الحرّ وحده بإمكانه أن يحسّ بثقل العالم الّذي يرزح تحته، ومن ثمّة يكون قادرا على تقرير التّضامن مع الآخرين فالمسؤوليّة هي شرط للحرّيّة عند ليفيناس لكن، ألا يمكن اعتبار عدم القدرة على الانسحاب من المسؤوليّة عبوديّة؟ يجيبنا ليفيناس أنّ المسؤوليّة بوصفها سلبيّة تضع الذّات ما وراء “ثنائيّة الحرّيّة واللّا-حرية”[17]. كما أنّ المسؤوليّة تجاه الآخر لا تعني حدّا من حرّيّة الأنا وعبوديّة الآخر، بل إنّ المسؤوليّة لأجل الآخر هي من يمنح الأنا حرّيّته وهويّته، فهو عين ذاته لأنّه يتحمّل مسؤوليّة الآخرين.

هكذا فإن المسؤوليّة لأجل الآخر لا متناهية ولا يمكن أجرأتها من خلال أيّ التزام حرّ. إنّنا لا نختار المسؤوليّة بل هي من تختارنا كنداء قادم من وجه الآخر ومن اللّامتناهي، ومن حيث هي كذلك فإنّها سابقة للحرّيّة بل هي من يجعلها ممكنة. إنّ المسؤوليّة هي السّلبيّة الخالصة الّتي تسبق الحرّيّة، “غير أنّ المسؤوليّة لا تدين بشيء لحرّيّة الأنا، إنّها مسؤوليّة لأجل حرّيّة الآخرين فهناك حيث كان بإمكان الأنا أن يبقى متفرّجا يكون مسؤولا”[18]، ويمكن القول إنّ سلبيّة (La passivité) الذّات هذه هي ما يؤسّس خاصّيّتها الإيتيقيّة للمسؤوليّة.

4- السّلبيّة الأصليّة:

 يظهر وجه الآخر في عريه الأقصى وفي استقامته وفي هشاشته، وتظهر هذه الهشاشة في الذّات كسلبيّة. ويمكن القول بصيغة مغايرة: إنّ الذّات في العلاقة الإيتيقيّة تسلب من مادّيّتها ومن صلابتها الشّخصيّة. وتقتضي السّلبيّة عند ليفيناس الانعطاء الكامل وكذلك الخضوع وتحمّل المعاناة من أجل الآخر أو بسببه، ذلك أنّ الإنسان يتحرّر في العلاقة الإيتيقيّة من ذاته ومن كلّ مغاير حتّى يكون بمستطاعه تكريس نفسه حصريّا للآخر. وتعني سلبيّة الإنسان المسؤول وهبه لذاته لصالح الآخر، وهذا هو معنى ما هو إنسانيّ في الإنسان. ويصف ليفيناس هذه السّلبيّة الأكثر سلبيّة من كلّ سلبيّة باعتبارها ما كان للذّات وتمّ منحه دون أن يحتفظ بشيء منه. ويؤدّي تعريف السّلبيّة بهذه الكيفيّة إلى التّفكير في الذّات كما لو أنّها مسكونة سلفا بالغيريّة ومنذورة لها وليس لها إمكانيّة الهروب منها أو نفيها، وبجعلها علاقة المسؤوليّة ممكنة تضع السّلبيّة الأنا في منزلة لا يمكن له أن ينفلت منها ودون أن يرتكب خطأ أو أمرا محرّما. كما تتوجّه حساسيّة الذّات المسؤولة نحو العاطفة الّتي تكنّها للآخر.

ويعرّف ليفيناس السّلبيّة بوصفهما الكرم والعطاء، المعبّر عنهما رغما عن الذّات، من خلال ضمير المتكلّم المسؤول (le Je) الّذي يمنح نفسه للآخر حتّى يكون حارسه. وتقتضي السّلبيّة أيضا “أن تعطي، وأن توجد من أجل الآخر، بالرّغم عن ذاتك، وذلك بترك كلّ ما للذّات، وأن تنزع الخبز من فمك، وأن تطعم جوع الآخر من صومك”[19]، ذلك هو ما يسمّى بتحمّل المسؤوليّة، ولا يتردّد ليفيناس في تناول السّلبيّة كلمسة جنون وعدم اتّزان أو كهذيان[20]، حيث يفقد الأنا في المسؤوليّة اللّامحدودة مركزيّته بشكل دائم لأنّه لم يعد مبدأ وأصلا لأفكاره وأفعاله، وإنّما يصير الآخر أساسا لوجود الأنا، بمعنى أساسا لأفكاره وأفعاله، وفي هذا الصّدد ينبغي فهم قول ليفيناس: “أنا أوجد من أجل الآخر”[21].

ويذهب ليفيناس إلى أنّ الذّات المسؤولة تكتسب هويّتها من الآخر ومن البرانية الجذريّة و/أو غير القابلة للاختزال، وكخلاصة لذلك يمكن القول إنّ سلبيّة الذّات الأصليّة والأوّليّة هي الّتي تسمح بالتّعبير عن الغيريّة المطلقة للآخر، ويتمّ التّعبير عن السّلبيّة في الخطاب اللّيفيناسيّ من خلال أفعال من قبيل: الانعطاء، النّفي، التّكريس… إلخ، -ولأنّها تجعل الذّات مؤهّلة للمسؤوليّة- تسمح السّلبيّة بالتّعبير عن هذه المسؤوليّة تحت عدّة أشكال، وهو ما سنتطرق له فيما يلي.

5- فوضى المسؤوليّة:

تعدّ “الفوضى” أو “اللّا-أصل” (L’an-archie) شكلا من أشكال بروز المسؤوليّة اللّامتناهية من أجل الآخر. وتعني الفوضى/اللّا-أصل كما يصفها ليفيناس؛ ما يسبق كلّ شهوة (conatus)، فهي توجد قبل كلّ بداية وقبل كلّ مبدأ لأنّها تسبق كلّ نشاط مؤسّس للوعي، يقول: “إنّ الفوضى/اللّا-أصل هي ما يدفعني إلى القول “ها أنا ذا” أو “أرسلني” نحو الآخر، إنّها مسؤوليّة لم يتمّ تبرئتها أبدا، ولها دائما مستقبل جديد، وليس على هذا الأخير أن يأتي، لكن أن يحدث”[22].

وتعني المسؤوليّة عند ليفيناس؛ أنّها مسؤوليّة بدون بداية وغير مرتبطة بالحاضر. وبهذا المعنى فإنّ المسؤوليّة الإيتيقيّة تتجاوز الحرّيّة لأنّ هذه المسؤوليّة القبليّة ليست مبادرة، ويمكن القول بصيغة أخرى: إنّ المسؤوليّة الّتي يحملها الأنا على عاتقه لا يسبقها أيّ اتّفاق مسبق ولا أيّ تعاقد أو موافقة حرّة. هكذا فإنّ المسؤوليّة من أجل الآخر لا تنبع من إرادة “الهو هو” ولا من اختياره، ويعبّر ليفيناس بوضوح عن هذه الفكرة بقوله: “لا يمكن للمسؤوليّة من أجل الآخر أن تبدأ من التزامي أو من قراري. إنّ المسؤوليّة اللّا-محدودة حيث أوجد تأتي ممّا هو أدنى من حرّيّتي ومن “ما هو سابق على كلّ ذكرى”، وممّا يتبع كلّ اكتمال “ومن اللّاحاضر، ممّا ليس أصيلا بامتياز، ممّا هو فوضوي، ممّا هو أدنى، أو ما وراء الماهية”[23].

من الممكن أنّ ليفيناس من خلال إحالته على رواية “الإخوة كارمازوف” لدوستويفسكي بوصفها تجسّد هذه المسؤوليّة “الفوضويّة /الّتي لا أصل لها، إنّما يريد أن يبيّن استحالة صياغة الحجّة أو الدّافع من أجل مسؤوليّة كهذه. ذلك أنّ هذه المسؤوليّة الّتي لا أصل لها لليفيناس، إنّما توجد في الإنسان سلفا (في وجهه على الخصوص) لكنّ الآخر يدفعها إلى مستوى آخر بجعلها واقعيّة وحقيقيّة وفعّالة. وفي هذا المعنى فإنّ الآخر يكون محدّدا للأنا كما تكون نظرة الآخر شرطا لفعل الأنا.

ويرى ليفيناس أنّ اللّا-أصل يحدث اضطرابا بالكينونة ويوقف اللّعب الأنطولوجيّ بوصفه وعيا، كما أنّ مفهوم “اللّا-أصل” ( anarchie) عنده سابق للمعنى السّياسيّ أو المعادي للسّياسة والّذي تمنحه الثّقافة الشّعبيّة لهذا المفهوم[24]. وبناء على ذلك يمكن القول إنّه لا يمكن تبرير المسؤوليّة من أجل الآخر من خلال أيّ التزام قبليّ لأنّها لا تنبع من أيّ حاضر، وإنّما تنتمي إلى زمان بلا بداية أو إلى ما يوجد قبل وبعد كلّ بداية إذ لا أصل لها ولا نظام. كما لا تبدأ المسؤوليّة من التّاريخ الشّخصيّ للذّات المسؤولة، ومنه يمكن القول إنّ مفهوم “الفوضى” أو “اللّا-أصل” يقصد به أيضا -عند ليفيناس- لا زمانيّة المسؤوليّة، وهي التزام غير مشروط نحو الآخر الّذي يستحيل رسم زمن تشكّله.

 ويعتقد ليفيناس أنّ المسؤوليّة توجد ما وراء صيغة النّظام واللّا-نظام لأنّ البديل في هذه الثّنائيّة يبقى بديلا أنطولوجيّا، وباعتبار “الفوضى/اللّا-أصل” غيابا لخطّة مشتركة أو لمبدأ، وبوصفها خللا في التّنظيم وغيابا لقوانين ولقواعد موجّهة فهي تمنح بذلك إمكانيّة التّعدّد ومقاومة كلّ أشكال الشّموليّة. وترتيبا على ذلك يمكن القول إنّ “الفوضى/اللّا-أصل” هي مظهر لتعدّديّة المجتمع.

6- العلاقة الإيتيقيّة: اللّا-تماثل الأساسيّ:

 إذا كانت غالبيّة العلاقات تنزع نحو التّناظر والتّجاذب مثل المغناطيس فإنّ مسؤوليّة الأنا لأجل الآخر غير متماثلة ولا متناظرة عند ليفيناس، لهذا نجده يقول: “إنّني مسؤول على الآخر دون أن أنتظر منه معاملة بالمثل، وحتّى لو كلّفني ذلك حياتي فالتّناظريّة/ التّبادليّة (La réciprocité) أمر يخصّ الآخر. وحيث أنّ العلاقة بين الأنا والآخر هي غير تناظريّة/ لا تبادليّة، فذلك ما يجعلني خاضعا للآخر؛ وبهذا المعنى أكون ذاتا.”[25]

 من ثمّة لا ينبغي على الذّات المسؤولة أن تفرض أو تنتظر من الآخر المعاملة بالمثل بل عليها إلزام نفسها بالمسؤوليّة من دون مقابل، ولعلّ الشّرط الأساسيّ للمسؤوليّة الإيتيقيّة هو كونها غير تبادليّة لذلك يقول ليفيناس: “ينبغي أن أجيب مكان الآخر، من دون أن أهتمّ بمسؤوليّته تجاهي”[26]. هكذا فإنّ مسؤوليّة الذّات هي مسؤوليّة شاملة لأنّ الذّات مسؤولة حتّى على مسؤوليّة الآخر. ويرى ليفيناس أنّ القاعدة في كلّ علاقة إيتيقيّة هي اللّا-تماثل، فالآخر يعنيني مهما كانت الظّروف: وسواء تجاهلني أو نظر إليّ بلا مبالاة فإنّه يعنيني. ولا يمكن للأنا أن يفرض على الآخر أن يضحّي مثله أو أن يلزم الآخر بما ارتضاه لنفسه، فمسؤوليّة الآخر تجاه الأنا هو شأن يهمّ الآخر حسب ليفيناس ويمكن القول إنّ اللّا-تماثل الإيتيقيّ هو الّذي يحافظ على ما هو إنسانيّ في الإنسان خارج كلّ حسابات نفعيّة في عالم تسود فيه الكراهية والعنف.

ويسمح هذا النّفي للمساواة بين الأنا والآخر ببناء إيتيقا مؤسّسة انطلاقا من الآخر وليس انطلاقا من الذّات لأنّ الإيتيقا الّتي يتمّ التّفكير فيها من خلال الذّات تجعل من الأنانيّة مقياسا لها في كلّ فعل. إنّ إيتيقا ليفيناس تنبع انطلاقا من تجلّي وجه الآخر، وينبغي على الفرد أن يعطي من ذاته وحتّى بالرّغم عنها إذ يساهم هذا البعد من السّلبيّة في تكوين الذّات المسؤولة. إنّ الآخر هو الّذي يجعل الأنا ملتزما بالمسؤوليّة منذ اللّحظة الّتي تكون فيها للأنا حساسيّة نحو الهشاشة المتجلّية في وجه الآخر لأنّ ما يجعل الإحساس بهشاشة الآخر ممكنا هو المرور بتجربة الهشاشة الشّخصيّة، ذلك لأنّ اللّا-تماثل الإيتيقيّ هو تعبير عن الهوس بالمسؤوليّة الّذي يسكن الإنسان.

 يذهب ليفيناس إلى القول بأنّ “العلاقة مع الآخر هي دائما غير تناظريّة/ لا تبادليّة؛ فالحبّ يوجد بشكل مستقلّ عن رغبة المرء في أن يكون محبوبا. ومن هنا ينبع تصوّري للّا-تماثل”[27]. إنّ المسؤوليّة تجاه الآخر هي دائما غير محدودة عند ليفيناس، كما أنّ سؤال قياس واجبات الأنا تجاه الآخر غير مطروح، ولا يتعلّق الأمر هنا بإلزام وإنّما ببداهة، إذ لا يمكن أن يكون هناك تناظر بين حقوقنا وواجباتنا لأنّه منذ البدء هناك زيادة للواجبات على الحقوق لهذا ينتقد ليفيناس انتظار المعاملة بالمثل في المسؤوليّة من أجل الآخر، ومنه قوله: “أنا مسؤول على الآخر، دون أن أنتظر المعاملة بالمثل، حتّى لو كلّفني ذلك حياتي. أمّا المعاملة بالمثل فذلك شأن يخصّ الآخر”[28]، وهو يؤكّد أنّه على الإنسان أن يلزم نفسه بالتّضحية من أجل الآخر حتّى لو اقتضى ذلك الموت من أجله، غير أنّه لا يمكن للأنا أن يلزم الآخر بنفس الشّيء، لأنّ ما يحدث للآخر هو دائما أهمّ ممّا يحدث للأنا، كما لو أنّ الأنا يوجد في وضعيّة المذنب في التزامه تجاه الآخرين، ولا يتدخّل موقف الآخر بأيّ شكل في مسؤوليّة الأنا المسبقة وفي مسؤوليّته الأوّليّة تجاه الآخر الّذي ينظر إليه، لذلك لا ينبغي إلزام الآخر بأيّ عرفان تجاه الأنا نظير ما فعل من أجله، لأنّه مهما فعل الأنا، فإنّ ذلك يبقى غير كاف، ولهذا لا ينبغي أن تكون الغاية من وراء حسن التّصرّف، هي أن يقال عن الأنا أنّه إنسان خيّر لأنّ ذلك ينمّ عن عقلانيّة حاسبة ونفعيّة وهو ما تنتقده إيتيقا ليفيناس.

ويرجع جاك دريدا عدم تحمّس ليفيناس للعلاقة (أنا-أنت) “je-tu” عند مارتن بوبر: أوّلا، لأنّ هذه العلاقة تناظريّة وتماثليّة. وثانيا، لأنّ هذه العلاقة صوريّة ويمكن أن توحّد الإنسان مع الأشياء أكثر من أن توحّده مع الإنسان. وثالثا، لأنّ هذه العلاقة مبنيّة على التّفاضل وعلى كونها علاقة ثنائيّة وخاصّة، وذلك راجع إلى كون فلسفة ليفيناس رغم انتقادها للحياد إلّا أنّها تبحث عن طرف ثالث وعن الشّاهد الكونيّ على وجه العالم الّذي يحرسنا ضدّ “الرّوحانيّة المتغطرسة” لـ”je-tu. [29]

وترى “كاترين شاليي Catherine Chalier” أنّ اللّاتماثل بين الأنا و الآخر، يعبّر عنه من خلال اليقين بأنّ الأنا مسؤول عن الآخر دائما، حتّى ولو أشاح بوجهه عنه. ولا يؤسّس ليفيناس إيتيقاه انطلاقا من الأنطولوجيا لكنّه يبحث عن إيتيقا تخضع لقانون ما هو خير، ولا تصيبها عدوى القلق الوجوديّ. ويوجد ما هو خير حسب ليفيناس في ما وراء الكينونة، ويسمّي ليفيناس هذا الخير بـ”اللّامتناهي” وهو ما يجعل الإنسان منخرطا في المسؤوليّة تجاه الآخر.

ويمكن القول إنّ عدم تماثل المسؤوليّة بين الأنا والآخر هو بمثابة قبول لشرطنا الإنسانيّ، وهو أمر يتجاوز ما هو عقلانيّ إذ أنّ لا تبادليّة المسؤوليّة هي إحدى الخصائص الأساسيّة لعدم تماثلها الّذي يقود إلى التّعبير عن اللّامتناهي، لهذا فإنّ الأنا دائما في علاقة غير تناظريّة مع الآخر وهو دائما لأجله وبقربه.

7- القرب من الآخر والهوس به:

يمكن تعريف المسؤوليّة من أجل الآخر؛ بوصفها الطّريقة الّتي يكون فيها الأنا قريبا من الآخر، ويعتقد ليفيناس أنّ هذا القرب هو تعبير عن قلق الإنسان بوصفه حارسا لأخيه الإنسان.

يحيل مفهوم القرب عند ليفيناس على الارتباط بالمكان، حيث تظهر علاقة القرب في العلاقة وجها لوجه، وهي العلاقة الّتي تجمع بين الأنا والآخر. ويعتبر ليفيناس أنّ علاقة القرب هي مرادفة للجوار (voisinage) وللاتّصال، كما تحيل هذه العلاقة على الاحتكاك والاتّصال الّذي يحدث في المكان وعلى حركة الاقتراب من الآخر الّتي لا تتوقّف. وينتقل ليفيناس من فكرة القرب الّتي تحدث في المكان إلى فكرة المسؤوليّة تجاه الآخر، يقول: “لا يمكن إرجاع علاقة القرب إلى شكل ما من المسافة، أو من الاتّصال الهندسيّ، ولا إلى التّمثّل البسيط للقريب، إنّها دعوة مستعجلة، وإلزام”[30]، إذ يرى أنّ القرب سابق لكلّ شيء من حيث أنّه اتّصال مباشر مع الآخر، فهو لمسة الحنان وهو القول الّذي يفرض على الأنا قبل أيّ فعل واع. غير أنّ هذا القرب يخلق اضطرابا بالذّات لأنّه يفرض عليها الخضوع للغيريّة، ومن ثمّة فهو بمثابة صدمة أصليّة. إنّ القرب من الآخر معناه أن تكون مرغما على أن تجيبه قبل كلّ تفكير حيث يكفي أن يحضر وجهه حتّى تكون مسؤولا عنه بشكل لا متناه.

ويشير القرب إلى المسؤوليّة الحصريّة للذّات نحو الآخر، وإلى مسؤوليّة فوضويّة تسبق الإرادة والحرّيّة: فهي مسؤوليّة دون مبدأ أو أصل أو رابط مع الزّمن الكرونولوجيّ. ويعتبر ليفيناس أنّ القرب بعيد عن كلّ خلط مع الآخر، وبعيد عن كونه حالة راحة أو قلق، فهو خارج كلّ مكان للرّاحة لأنّه يكسر هدوء الذّات المسؤولة وسكينتها. إنّ القرب اضطراب واتّصال بالآخر واستحالة البعد عنه، غير أنّه لا يشتقّ من العلاقة القصديّة الّتي توجّهنا نحو موضوع ما لأنّه يوجد ما وراء كلّ صورة وكلّ تمثّل يقوم به الأنا للقريب، ويؤكّد ليفيناس هذا التّحليل عندما يقول: “إنّ القرب من الآخر هو دلالة الوجه، وهو دلالة قبليّة توجد ما وراء كلّ الأشكال المادّيّة؛ الّتي لا تنفكّ تغطّي الوجه كقناع عند حضوره في الإدراك”[31].

إنّ القرب علاقة إيتيقيّة وهو تعبير عن حضور الآخر في الذّات أو ارتباطها به، ويستحيل على المستوى الأخلاقيّ رفض مسؤوليّة الأنا تجاه الآخر حيث أنّ القرب منه يذهب إلى درجة الهوس به والسّقوط رهينة له. ويرى ليفيناس أنّ الهوس بالآخر هو الانفتاح الأكثر سلبيّة عليه لأنّه يقدّم نفسه بوصفه انعداما للاتّزان و بوصفه هذيانا وجنونا مقدّسا، إنّه بالضّرورة تفكير في الآخر، وهو ما دفع ليفيناس إلى تذكيرنا بالواقع الحزين للآخر ذلك أنّ وجه الآخر يجعل الأنا مهووسا ببؤسه وبمحنته من خلال حثّ الأنا على المسؤوليّة لأنّ وجه الآخر يأمره بخدمته ولا يمكن “للهو هو” أو الأنا رفض هذا الطّلب القاهر، لأنّ هذا الأمر يأتي من ماض سحيق. هكذا فأن تكون مهووسا بالآخر، أي مهووسا بالضّعيف والفقير والغريب وبالأرملة واليتيم، معناه أن تكون منذورا لتحمّل مسؤوليتك تجاهه قبل كلّ تفكير لأنّ كلّ وعي إنّما ينبع من حضور وجه الآخر لوحده.

ويساهم هذا الهوس (l’obsession) بالآخر في تشكّل هويّة الأنا، لهذا يقول ليفيناس: “لا يمكن لوحدة الأنا المسؤول أن تتحقّق، إلّا من خلال الهوس بالآخر، ومن خلال الصّدمة الّتي تمّ التّعرّض لها قبل كلّ تحديد ذاتيّ للهويّة”[32]، وتبرز غيريّة الآخر -دائما- في علاقة القرب هذه، كما لو أنّ الأنا والآخر ليس لهما ما يجمعهما.

في سلبيّة الهوس بالآخر، يجيب الأنا قبل أن يسمع نداء الآخر، وبالرّغم من جوابه يكون الأنا دائما متأخّرا عن الموعد. ويرى ليفيناس أنّ هذا الهوس بأمر الانعطاء، ومن دون سماع الأمر، هذا الهوس السّابق للتّمثّل وهذه المسؤوليّة القبليّة واللّا-محدودة هي -على وجه التّحقيق- الآخر ضمن الذّات وهي إلهام ونبوّة ومرور إلى اللّامتناهي[33].

ويرى ليفيناس أنّ الوعي في العلاقة الإيتيقيّة للمسؤوليّة، ليس بنية نفسيّة تتوسّط بين الأنا والقريب لتأمر بل يأتي الوعي خلف هذه العلاقة. كما أنّ القرب المثير للهوس ليس حقيقة للوعي، ولقد وصف ليفيناس هذه العلاقة بالهوس لأنّها غير قابلة للاختزال في الوعي. إنّ الهوس حركة فوضويّة مفروضة على الوعي، بلا مبدأ، وليس لها ما يربطها بالزّمان الحاضر لأنّها توجد في زمان بدون بداية. ويرى ليفيناس أنّه لا يجب اعتبار الهوس خللا أو نقصا في الوعي، بل هو تذكير بمسؤوليّة الأنا اللّامتناهية تجاه الآخر وتذكير بواجب الأنا في أن يكون حارسا للآخر. ومن ثمّة فإنّ هذه الدّعوة المستعجلة إلى المسؤوليّة تجاه الآخر تجعل الأنا يقدّم نفسه كبديل للآخر، بمعنى أنّه يضع نفسه مكان الآخر ليكون مذنبا حتّى على ما لم يقترفه أي أنّه يحلّ مكان الآخرين وأمام الآخرين.

8- الاستبدال كارتهان للأنا:

في إطار تفكيره حول إيتيقا المسؤوليّة، يقحم ليفيناس في المجال الفلسفيّ وضمن الفنومينولوجيا الخاصّة به مصطلحات لها أصل دينيّ من قبيل: الاستبدال، الرّهينة، القرب… ولعلّ الهدف من وراء ذلك هو إظهار أنّ الانفتاح الّذي يبني الذّاتيّة بشكل أصليّ ليس هو فهم الكينونة وإنّما هو المسؤوليّة لأجل الآخر أيّا كان منبعها، فمثلا، يرى ليفيناس أنّ الذّاتيّة تظهر من خلال الفكرة الّتي تأمر”الهو هو” بأن يكون مسؤولا عن الآخر وحتّى تعويضه والحلول بديلا عنه. من ثمّة تكون الذّاتيّة قطيعة مع الأنانية بشكل أساسيّ لكن كيف تكون المسؤوليّة أساسا لهويّة الذّات؟

9- المسؤوليّة وهويّة الذّات:

يكتب ليفيناس في “الكلّيّة واللّامتناهي” بأنّ الهدف من هذا الكتاب هو “الدّفاع عن الذّاتيّة”[34]، ويتحدّث عن المسؤوليّة بوصفها البنية الأساسيّة والأوّليّة والأصليّة للذّاتيّة، كما يقول في “غير الكينونة أو في ما وراء الماهية”: “يؤوّل هذا الكتاب الذّات بوصفها رهينة، ويؤوّل ذاتيّة الذّات بوصفها تعويضا يقطع مع ماهية الكينونة”[35]، وتكمن ماهية الذّاتيّة الّتي دافع عنها ليفيناس في تعاليها، ويتمّ فهم هذا التّعالي بوصفه رابطا للاجتماع يسبق كلّ إمكانيّة للوجود، إنّه علاقة مع وجه الآخر ومع فكرة اللّامتناهي وعلاقة بين الأنا والآخر غير أنّ هذا الرّابط ليس رابطا أنطولوجيّا ولا فينومينولوجيّا بل هو رابط ميتافزيقيّ. ويدافع ليفيناس عن الذّاتيّة بإعطائها صفة إيتيقيّة تتجلّى في المسؤوليّة عن الآخر[36]، ذلك أنّ هويّة الذّات إنّما تستند -في نظر ليفيناس- على استحالة التّنصّل والهروب من المسؤوليّة لأجل الآخر، إذ “ستكون الذّات عينها -خارج كلّ استعارات الماهية- مسؤوليّة لأجل حرّيّة الآخرين”[37]، لذا فإنّ المسؤوليّة من أجل الآخرين ليست أبدا دليل إيثار أو إحسان طبيعيّ وإنّما هي ما يشكّل ذاتيّة الأنا، فأن يكون الأنا ذاته، فهذا يعني أن لا تكون له القدرة على الإفلات من المسؤوليّة، كما لو أنّ كلّ ثقل الخلق يستند على كتفيه ذلك أنّ المسؤوليّة تجاه الآخر تزيل عن الأنا “إمبرياليّته” وأنانيّته وتؤكّد وحدته ولا تحوّله إلى لحظة من النّظام الكونيّ، يقول: “إنّ وحدة الأنا معناها أن لا أحد يمكنه أن يتحمّل المسؤوليّة بدلا عنه”[38]، وتبعا لذلك يمكن القول إنّ الآخر يحدّد الأنا ويشكّل ذاتيّته كما تكون نظرة الآخر شرطا لكلّ أفعال الأنا وكلّما كان الأنا مسؤولا عن الآخرين كان ذاته.

يرى ليفيناس أنّ “الذّاتيّة هي مسؤوليّة لأجل الآخرين، وهي الهشاشة القصوى”[39]، وإذا كانت المسؤوليّة هي ما يشكّل الذّاتيّة، فهذا يفسّر لماذا تكون المسؤوليّة من دون شروط عند ليفيناس، إذ أنّها هي من يعطي الأنا تعريفه ويحدّد هويّته وهو بذلك يقف على النّقيض من مفهوم الذّات لدى هوسرل كأنا مفكّرة، ولدى هايدغر كمقذوفيّة وحرّيّة ومشروع[40].

تعبّر الذّاتيّة عند ليفيناس عن فرادة الذّات المسؤولة وعدم قابليّتها للاختزال، وتحتلّ هذه الأخيرة مكانة متميّزة من حيث المسؤوليّة الملقاة على عاتقها ولا يمكن لأيّ شخص أن يعوّضها في ذلك. كما أنّ ذاتيّة الأنا هي ذاتيّة من أجل الآخر وليست مستغرقة في كينونتها، لأنّها ليست سوى سلبيّة لا حدود لها ومسؤوليّة لا متناهية تجاه الآخرين. ويعتبر ليفيناس الذّاتيّة ترجمة للحساسيّة القصوى وللهشاشة الّتي تبرز من خلال الوجه، لذلك يصفها بـكونها “أوّليّة، وفوضويّة، وسابقة للوعي”[41]، فهي ليست من شأن نظام التّفكير أو التّحليل أو حرّيّة الاختيار قبل الفعل: “انطلاقا من الحساسيّة (sensibilité)، تكون الذّات لأجل الآخر”[42]، ويرى ليفيناس أنّ الأنا مدعوّ بطريقة “قبل أصليّة” للإجابة مكان الآخر دون أن يرغب في ذلك أو يختاره، إذ تقتضي الذّاتيّة أن يكون الآخر ضمن الهو هو من حيث أنّها مساءلة لكلّ نزعة فردانيّة أو أنانيّة لـ”أنّ ما يمنح الذّات وحدتها هو تحمّل خطأ الآخر”[43]، كما لا يمكن للمسؤوليّة أن تكون إلّا بتحقّق وحدة الذّات.

إنّ قيام ذاتيّة من أجل الآخر يمرّ بالضّرورة عبر الاهتمام ببؤس الآخر وضعفه، ويشترط في الذّاتيّة أن تكون سلبيّة ولا محدودة، لهذا فهي تسمح بالانمحاء أمام الآخر حتّى يثبت وجوده، وكذلك التّضحية بحرّيّة الأنا حتّى تجيب على نداء الآخر المتكرّر والملحّ. ويمكن القول إنّ المسؤوليّة خاصّية أوّليّة وأساسيّة للذّاتيّة، وعلى هذا الأساس تولد ذاتيّة الأنا من المسؤوليّة اللّا محدودة تجاه الآخر، ذلك أنّ الآخر ليس موضوعا للوعي بل إنّه شرط للذّاتيّة نفسها لأنّ الذّات لا تتكوّن إلّا عبر نداء المسؤوليّة. هكذا فإنّ الذّات المسؤولة لا توجد إلّا انطلاقا من الآخر، كما أنّها لا تشعر بأنّها ذات حقيقيّة إلّا بجوار القريب، وهنا تكمن ذاتيّتها كتفاعل مع الآخر وشعور بهشاشته واستجابة لندائه. ويرى دريدا أنّه حتّى يكون النّداء نداء على أحد ما من أجل شيء ما، عليه أن يستبق الجواب الّذي سيستقبله، ومن زاوية النّظر هذه، فإنّ النّداء بوصفه الكلمة الأولى الّتي يوجّهها الآخر إلى الأنا، سيكون بشكل عكسيّ وقبليّ جوابا وعلى الخصوص جوابا على الجواب الّذي تمّ التماسه واستباقه من خلال النّداء نفسه[44].

وإذا كانت ذاتيّة الذّات عند ليفيناس، تكمن في المسؤوليّة عن الجميع، فإنّها تذهب -عند ليفيناس- إلى درجة تقديم الذّات لنفسها كبديل، ذلك أنّ الاستبدال هو المعنى النّهائيّ للمسؤوليّة من حيث كونه إمكانيّة لحلول الذّات مكان الآخر. ويحيل الإستبدال عند ليفيناس “على هذا الانتقال من “بواسطة الآخر” إلى “من أجل الآخر””[45]، ولا تكتفي الذّات بالاعتراف بمعاناة الآخر وألمه فقط بل إنّها تجيب مكانه وذلك هو شرط الارتهان(otage)، ويمكن القول إنّ تعريف ليفيناس للمسؤوليّة، في “آخر الكينونة أو في ما وراء الماهية” بوصفها أساسا لذاتيّة الأنا كرهينة، هو تطوير لتعريف المسؤوليّة في “الكلّيّة واللّا متناهي” بوصفها بنية ذات مضيفة[46].

وبعد أن رأينا سابقا بعض أوجه فوضى المسؤوليّة ولا تماثلها الّذي يقصي كلّ تبادل/ تناظر، والّذي يعبّر عن اللّا-عدل الظّاهر تجاه الذّات عينها أو على الأقلّ سلبا لإنصاف معين، ها نحن أمام لا-تناهي المسؤوليّة اللّيفيناسيّة، ذلك أن ما هو مطلوب من الأنا تجاه القريب يذهب إلى درجة تعويضه والحلول مكانه. يمكننا ملاحظة تطوّر معيّن للمسؤوليّة، إنّها تكبر وتتوسّع بحسب مسار ما وقاعدة مفادها: “لا يترجم لا-تناهي المسؤوليّة كبر حجمها الحاليّ، ولكن يترجم تعاظم المسؤوليّة، بقدر تحمّلها، إذ تزداد الواجبات بقدر القيام بها. فكلّما أتممت واجباتي كلما نقصت حقوقي، وكلّما كنت عادلا أكون مذنبا أكثر”[47].

وقد يجعل تعاظم المسؤوليّة ولا تناهيها من الأنا رهينة للآخر، لكن ما معنى أن يكون الأنا رهينة للآخر؟ يجيب ليفيناس: “إنّ الرّهينة هو ذلك الّذي يكون مسؤولا عمّا لم يفعله. وهو الّذي يكون مسؤولا على خطأ الآخر. فأنا مبدئيّا مسؤول (…) قبل إجراءات العدالة”[48]، وهو ما يعني أنّ حياة الرّهينة منذورة للآخر، لهذا يرى لفيناس أنّ “الذّات هي رهينة في عمق اكتمالها”[49]، كما يكون وجودها في مرتبة ثانية مقارنة مع وجود الآخر.

ويذهب ليفيناس إلى القول إنّ “الأنا رهينة للآخرين”[50]، ولا يمكنه الهروب من هذا الأمر لأنّ شرط الارتهان هو أنّك لم تختر ذلك، فلو كان هناك مجال للاختيار لاختار الإنسان الاحتفاظ بمكتسباته في الحياة، أمّا في وضعيّة الرّهينة فإنّ ذاتيّته تصبح مقصورة على الآخر كما أنّ استقلاليّته تكمن في تحمّل الآخر، غير أنّ لا أحد يمكنه تعويض الأنا الّذي يكون بديلا للجميع.

ينبغي الإشارة إلى أنّ ليفيناس يقحم مصطلح “الاستبدال” (substitution) في الفصل الرّابع من “آخر الكينونة أو في ما وراء الماهية” متسائلا عمّا ينبغي أن تكون عليه طبيعة الإنسان لكي تكون الإيتيقا ممكنة؟. إنّ الجواب على هذا السّؤال -وهو في العمق جواب على العمل كلّه- قد منحه لنا ليفيناس بشكل ضمنيّ في آخر هذا الفصل عندما شرح لنا بأنّ “المرور من المماثل إلى الآخر في الاستبدال (…) هو ما يجعل التّضحية ممكنة”[51]، وقد تمّ التّأكيد على نفس الفكرة في الصّفحات التّالية من نفس الكتاب: “من خلال شرط الرّهينة يمكن أن تكون هناك شفقة، ومواساة وصفح وقرب في العالم. ويمكن أن يكون حتّى ذلك القليل الّذي نجده، وحتّى تلك الجملة البسيطة “من بعدك سيّدي””[52]، هكذا سيكون الاستبدال شرط كلّ إيتيقا ممكنة وسابقا للأنطولوجيا نفسها.

تقوم الإستراتيجيّة الّتي اعتمدها ليفيناس في كتابه “آخر الكينونة أو في ما وراء الماهية” على رسم بنية الذّاتية الّتي يسمّيها بـ”الاستبدال” وذلك من خلال الانطلاق من معاينة: أنّ وضعيّة الإنسان هي مسبقا إيتيقا، ذلك أنّ الإنسان يوجد دائما في وضعيّة إيتيقيّة ملموسة ووجوده اليوميّ مطبوع بأفعال وسلوكات إيتيقيّة عديدة، وإذا كانت الفلسفة تهتمّ بصدق بسؤال الإنسان ينبغي عليها أن تشرح هذا الأمر ولعلّ ذلك هو ما جعل ليفيناس يضع الغيريّة في صلب الذّاتيّة، ويعرّف الذّاتيّة بواسطة هذه الغيريّة نفسها بوصفها منبع المعنى الإيتيقيّ.

 ويرى ليفيناس أنّ العلاقة بين الأنا والآخر هي الّتي تبني الأنا، كما أنّ عبارة “الواحد من أجل الآخر” تشير إلى المزيد من المسؤوليّة إلى درجة الحلول مكانه وتحمّل حتّى مسؤوليّة أخطائه، ذلك أنّ هذه المسؤوليّة من أجل الآخر هي الّتي تبني الذّاتيّة ومنه اسم “الاستبدال” الّذي يعطيه ليفيناس لهذه البنية. وهكذا يمكن القول إنّ الاستبدال ليس سوى مرادف للمسؤوليّة إذ “تذهب المسؤوليّة لأجل الجميع إلى حدّ الاستبدال، وتصير الذّات رهينة”[53]، وبهذا يبيّن أنّ “استقبال الأنا للآخر، معناه أن يسائل الأنا حرّيّته، ذلك أنّ هذا التّجرّد من الحرّيّة مع ما يستتبعه من تجرّد من الهويّة هو تحديدا ما يؤسّس لمعنى الرّهينة الّتي عمل على ترسيخها[54].

إنّ الاستبدال -في نظر ليفيناس- هو ما يمنح الأنا فردانيّته ووحدته حيث تشتقّ هذه الأخيرة من تحمّل الذّات لثقل الآخر ومن كونها مدعوّة أو مصطفاة لتكون بديلا عن الآخر. وفي مقابل ذلك لا يمكن للآخر تعويض الأنا لأنّ الاستبدال حكر على الأنا، ويؤكّد ليفيناس على الفكرة الّتي تفيد بأنّ الأنا يمكنه أن يكون بديلا للجميع، غير أن لا أحد بإمكانه أن يكون بديلا عنه، لهذا يقول: “بواسطة هذا الاستبدال لا أكون آخرا، بل أنا”[55].

 إنّ علاقة الاستبدال هي الإيتيقا عينها عند ليفيناس، فحينما نضع أنفسنا مكان الآخر يولد واجب المسؤوليّة اللّا متناهية تجاه الآخر كما لا يمكن تعويض الذّات المسؤولة في علاقة الاستبدال، وهو يرى أنّ الاستبدال حيف في حقّ الذّات وتخلّ عن امتلاكها، فإذا كان الاستبدال يمنح إمكانيّة تعويض الآخر والحلول مكانه فهو يسمح للأنا بجعل حياة الآخر غاية له قبل حياته، وهو ما يكشف عن الجانب الإنسانيّ في الإنسان “بواسطة شرط الرّهينة يمكن أن يكون في العالم: الرّحمة والعفو والقرب والجوار… وحتّى تلك العبارة البسيطة “من بعدك سيّدي”، غير أنّ غياب شرط الرّهينة ليس حدّا نهائيّا للتّضامن لكنّه شرط كلّ تضامن”[56]، هكذا يخلق الاستبدال شروط التّعاون والتّضامن.

وتعتبر تجربة الأمومة مثالا للاستبدال، فمن خلالها يسهر جسد هشّ، أي جسد الأم على حياة مولودها، كما تكون رهينة له في نفس الوقت لذلك فإنّ الأمومة هي رمز المسؤوليّة بامتياز من حيث أنّ حياتها منذورة للآخر بالكامل، فهي مجبرة أن تعطي من ذاتها ومن جلدها للآخر. لكن لا يقتصر هذا النّمط من الحياة على الأمّ فقط لأنّ خاصّيّة كلّ إنسان هو الجواب على نداء الآخر وسماعه لفعل ما هو خير، وهنا تسكن صفة الاصطفاء من أجل المسؤوليّة.

يعطي ليفيناس للكلمات صدى جديدا، حيث يقول في أحد حواراته: “أن تكون بديلا للآخر ليس معناه أن تحلّ مكانه، بل أن تكون أبا للأب، و أن تكون مسؤولا عن القاتل كما القتيل. أن تكون بديلا معناه أن تضحّي بدون مجد ولا بطولة. أن تكون بديلا معناه أن توجد حقيقة من أجل الآخر. وهو أيضا إمكانيّة لتجاوز التّصنيفات الأنطولوجيّة للوجود والموت، ولبروز الأخلاق على قاعدة الطّيبة الأولى، وعلى قاعدة الأخوّة”[57].

10- الاصطفاء (L’élection):

يعتقد ليفيناس أنّ الأنا مهووس بالآخر بشكل مسبق لأنّ هذا الأنا الفريد (unique) الّذي لا يمكن تغييره أو الحلول مكانه مجبول على المسؤوليّة اللّامحدودة، وعلى المسؤوليّة الّتي تذهب ما وراء الاختيار : “إنّ هويّة الهو هو ” في “Je le” (ضمير المتكلّم) تأتيه من الخارج رغما عنه، كاصطفاء أو كإلهام”[58]، وهذا يعني أنّ هويّة الذّات تتأسّس بوصفها اصطفاء من أجل المسؤوليّة، ويتمّ اصطفاء الأنا المسؤول دون غيره أي يتمّ اختياره -بشكل أصيل- لمسؤوليّة تهمّه هو وحده. ويرى ليفيناس أنّ الاصطفاء يقتضي الالتزام الأكثر جذريّة أو الإيثار الكلّيّ، كما يزكّي الاصطفاء -في نظره- فرادة الأنا ووحدته.

إنّ الاصطفاء التزام إضافيّ “للهو هو”، وهو ما يسمح بالتّمييز بينه وبين الآخرين حيث أنّ “الأنا هو دائما مسؤول، أكثر من كلّ الآخرين”[59]، ذلك أنّ التّخلّي عن المسؤوليّة اللّا-محدودة واللّا-متناهية معناه التّخلّي عن صفة الذّات الأخلاقيّة لأنّ هذه الأخيرة منذورة للآخر بشكل دائم.

ويمكن القول إنّ إيتيقا المسؤوليّة عند ليفيناس هي إيتيقا الاصطفاء من حيث أنّها ترتكز حصريّا وبشكل كامل على فرادة الذّات غير القابلة للاختزال، ولا ينبع اصطفاء الأنا من اختيار حرّ، فوحده الجواب على نداء وجه الآخر من يقوم بالاصطفاء، كما تكتسب الذّات الإيتيقيّة حرّيّتها بسبب هذا الاصطفاء. ويصف ليفيناس التّصرّف المسؤول بالمقدّس لأنّ الاصطفاء ينبع من القداسة، وتعوّض كلمة القداسة عنده كلمة الإيتيقا باعتبار أنّ القداسة ليست سوى التّفرّغ الدّائم للاستجابة لضعف الآخر. ويمكن القول بصيغة أخرى إنّ القداسة هي الّتي تجعل الانهمام بالآخر يسبق كلّ الانهمام بالذّات فـ”تصبح هذه القداسة الّتي تجعل الآخر يمرّ قبل الذّات ممكنة ضمن ما هو إنسانيّ. فهناك ما هو إلهيّ في ظهور الإنسان، من حيث أنّ الإنسان قادر على التّفكير في الآخر قبل التّفكير في نفسه”[60]، وتتأكّد صفة القداسة أيضا من خلال لا-تماثل العلاقة الإيتيقيّة.

ويرى ليفيناس أنّ ما يجعل الأنا فريدا هو عبء اصطفاءه ليكون مسؤولا عن الآخر، ويسبق الاصطفاء نداء الآخر وانتظاره حين يجيب الأنا مكان الآخر دون أن يطلب منه أو يجبره على ذلك، وتعبّر كلمة “ها أنا ذا” عن الطّيبة والمسؤوليّة لأنّها تنطق في “سلبيّة أكثر سلبيّة من السّلبيّة”، وليس الاصطفاء عند ليفيناس وليد قرار شخصيّ لكنّه ينبع من أمر يشهد على اللّامتناهي فهو يرى أنّ محبّة الآخر هي شهادة على اللّامتناهي وانكشاف له وشهادة على قول يسبق المقول وعلى أمر يولد خارج الذّات ويتحكّم فيها بجعلها مسؤولة على الآخر، إنّها حضور للّامتناهي ولصوت الإله في وجه الآخر.

 هكذا يمنح الاصطفاء للذّاتيّة معناها من خلال جعل الأنا يعاني من أجل الآخر وبسببه، ومن خلال جعل الأنا بديلا للآخر ومستعدّا للموت مكانه إن اقتضى الأمر وذلك ضمن سلبيّة سابقة للحرّيّة وضمن سلبيّة حيث يوجد ما هو خير، وحيث يتمّ الاستماع إلى الإله حين يأتي إلى البال، لهذا يرى ليفيناس أنّ السّلبيّة الخالصة الّتي تسبق الحرّيّة هي المسؤولية لكنّها مسؤوليّة لا تدين بشيء للحرّيّة وإنّما هي مسؤوليّة الأنا من أجل حرية الآخرين، هناك حيث كان بإمكان الأنا أن يبقى متفرّجا، يكون مسؤولا، لكن أليس ثمّة حدود لمسؤوليّة الأنا تجاه الآخر؟

11- حدود المسؤوليّة:

يترك ليفيناس في كتابه “آخر الكينونة أو في ما وراء الماهية” التباسا لدى القارئ بتأكيده على أنّ “مسؤوليّة الأنا تجاه الجميع ينبغي أن تتجلّى أيضا من خلال وضع حدود لها، ويمكن للأنا باسم هذه المسؤوليّة اللّامحدودة أن يكون مدعوّا الانهمام بالذّات أيضا”[61]، ويقول في شأن ذلك: “يمكن لمسؤوليّة الأنا لأجل الآخرين بل ينبغي عليها أن تظهر أيضا من خلال وضع حدود لها”[62]، ويرى أنّ لمصير الأنا أهمّيّة بالرّغم من أن خلاصه يكون له معنى دائما انطلاقا من المسؤوليّة تجاه الآخر وهو ما قد يتعارض مع قوله بالمسؤوليّة اللّامحدودة وبالسّلبيّة الجذريّة تجاه الآخر.

ويصل ليفيناس في نهاية مساره الفلسفيّ إلى خلاصة مفادها أنّ المسؤوليّة الّتي تربط الأنا بالإنسان الآخر، لا يمكن أن تكون في اتّجاه وحيد لكنّها تستلزم أيضا القياس والمقارنة والتّبادل، وهنا سيظهر مفهوم العدالة مع ظهور الطّرف الثّالث إذ “تضطرب المسؤوليّة وتغدو مشكلة بدءا من دخول الشّخص الثّالث”[63].

وقد كان هذا الانعطاف ضروريّا لأنّ المسؤوليّة من أجل الآخر هي أيضا نداء من أجل العدالة لـ “أنّ الآخر الّذي يكون الأنا مهووسا به، هو مسبقا وجه يصير مرئيّا ضمن الانهمام بالعدالة”[64].

12- على سبيل الختم:

 نخلص ممّا سبق إلى أنّ الإدراك المباشر للآخر يفترض المسؤوليّة، ويربط ليفيناس المسؤوليّة بالسّلبيّة الجذريّة ذلك أنّ المسؤوليّة تسبق كلّ اختيار، حيث يتمّ التّفكير في الحركة الأولى نحو الآخر بوصفها ألما وجرحا ينبذان كلّ متعة وانتشاء. وتبعا لذلك يعتقد ليفيناس بأنّ مسؤوليّة الأنا عن الآخر تقتضي أن يتخلّى عن نفسه وأن يقدّمها بديلا للآخر، هكذا فإنّ الهوس بالآخر يعيدنا إلى الطّابع غير الحرّ للعلاقة بالآخر لهذا يقول: “لا يمكن للمسؤوليّة تجاه الآخرين أن تعني أبدا إيثارا طوعيّا، أو غريزة إحسان طبيعيّ، أو حبّ.”[65]

وبسبب إرغامها على المسؤوليّة، تطالب الذّات اللّيفيناسيّة بحرّيّتها واضطهادها لـ “أنّ الذّات معنيّة دائما بأن تتحمّل ذنبها دون أن تكون مذنبة. لم أفعل شيئا وكنت دائما السّبب في ذلك: فأنا مضطهد”[66]، هكذا فإنّ الأنا لا يختار المسؤوليّة وإنّما يقع رهينة لها.

وإذا كانت الحرب مجرّد خبرة بالوجود المحض فإنّ السّلام المحض لا يحصل-في نظر ليفيناس- إلّا عبر الهروب من الكينونة من خلال العلاقة مع الآخر ومن خلال ذاتيّة مضيافة للآخر وتقوم على القاعدة التّالية: ما أطلبه من نفسي لا يمكن أن أقيسه مع ما قد أطلبه من الآخر.

قائمة المصادر والمراجع:

مراجع باللّغة العربيّة:

  • الضّاوي (مصطفى): من العلم إلى الإيتيقا: لفيناس قارئا لهوسرل، دار كنوز المعرفة للنّشر والتّوزيع، 2020.
  • بوطيب (رشيد): نقد الحرّيّة. مدخل إلى فلسفة إمانويل ليفيناس، دار الاختلاف، 2018.

مصادر أجنبية:

  • Levinas, E., De Dieu qui vient à l’idée, Paris, J. Vrin, 1998.
  • Levinas, E., Altérité et transcendance, Fata Morgana, paris, 1995.
  • Levinas, E., Éthique et infini (dialogues d’Emmanuel Levinas et Philippe Nemo), Fayard, Le livre de Poche, Paris, 1982.
  • Levinas, E., Autrement qu’être ou- au-delà de l’essence, Martinus Nijhoff, 1978.
  • Levinas )Emmanuel): Humanisme de l’autre homme, Fata Morgana, Paris, 1972.
  • Levinas, E., Totalité et infini, essai sur l’extériorité, livre de poche, Martinus Nijhoff, Paris, 1971.

مراجع أجنبية:

  • Derrida (Jacques): Adieu à Emmanuel Levinas, Galilée: Paris, 1997.
  • Poiré (François): Emmanuel Levinas, Qui êtes-vous?, Edition La Manufacture, Lyon, 1987.
  • Wolff (Ernst): De l’éthique à la justice, langage e politique dans la philosophie de Levinas, Springer, the Noether lands, 2007.
  • Entretien d’Emmanuel Levinas avec Roger-Pol Droit, in Les imprévus de l’histoire, Montpellier, Fata Morgana, 1994.
  • Entretien d’Emmanuel Levinas avec Christoph Von Wolzogen, in revue Philosophie, N°93, Printemps 2007.

[1] -Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, Fata Morgana, paris, 1972, p110..

[2]– انظر، مصطفى الضّاوي: من العلم إلى الإيتيقا: لفيناس قارئا لهوسرل، دار كنوز المعرفة للنّشر والتّوزيع، 2020، ص451.

[3]– Emmanuel Levinas, Éthique et infini (dialogues d’Emmanuel Levinas et Philippe Nemo), Fayard, Le livre de Poche, Paris, 1982, p.92.

[4]-Dostoïevski, Les Frères Karamazov, La Pléiade, p310. In Autrement qu’être, p186..

[5]-Emmanuel Levinas, Éthique et infini, p. 95.

[6]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au -delà de l’essence, Martinus Nijhoff, 1978, p.160.

[7]-François Poiré, Emmanuel Levinas: Qui êtes-vous?, Edition La Manufacture , Lyon,1987, p.36.

[8]-Ernst Wolff, de l’éthique à la justice, langage e politique dans la philosophie de Levinas, springer, the Noether lands, 2007, p.117.

[9]-Emmanuel Levinas, De Dieu qui vient à l’idée, Paris, J. Varin, 1998, p.117.

[10]-Emmanuel Levinas, Totalité et infini, essai sur l’extériorité, livre de poche, Martinus Nijhoff, Paris, 1971, p.274.

[11] – انظر مصطفى الضاوي، من العلم إلى الإيتيقا، ص352.

[12]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence. P.14.

[13]-Cf. Ibid. p..148

[14]– Ibid. p..148

[15]– Cf. Ibid. p.159.

[16]-Ibidem.

[17] – Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence. p..148

[18]-Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, p.87.

[19]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.94.

[20]– Cf. Ibid. p.159.

[21]-Ibid. p.144.

[22]-Emmanuel Levinas, Altérité et transcendance, Fata Morgana, Paris, 1995, Pp114-115.

[23]-Ibid. p. 24.

[24]– Cf. Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.128.

[25]– Emmanuel Levinas, Ethique et infini, Pp 94-95.

[26]-Emmanuel Levinas, De dieu qui vient à l’idée, p.13.

[27]-Entretien d’Emmanuel Levinas avec Christoph Von Wolzogen, in revu Philosophie, N°93, printemps 2007, p.15.

[28]-François Poirié, Emmanuel Levinas Qui êtes-vous?, p37.

[29]-Cf. Ibid. p38.

[30]-François Poirié, Emmanuel Levinas Qui êtes-vous?, p159.

[31]-Emmanuel Levinas, Altérité et transcendance, p44.

[32]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.196.

[33]-Ibid. p.196.

[34]-Emmanuel Levinas, Totalité et infini, p.11.

[35]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p232..

[36]-Ernst Wolff, de l’éthique à la justice, p.116.

[37]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.139.

[38]-Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, p.54.

[39]-Ibid. p.109.

[40]– انظر رشيد بوطيب: نقد الحرّيّة؛ مدخل إلى فلسفة إمانويل ليفيناس، دار الاختلاف، 2018، ص33.

[41]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.132.

[42]-Emmanuel Levinas, humanisme de l’autre homme, p94..

[43]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.177.

[44] Cf. Jacques Derrida, Adieu à Emmanuel Levinas, Galilée: Paris, 1997, Pp 53–54.

[45]-Ibid. p.187.

[46]– انظر مصطفى الضّاوي: من العلم إلى الإيتيقا…، ص365.

[47]-Emmanuel Levinas, Totalité et infini, p.274.

[48]-Emmanuel Levinas, Altérité et transcendance, p.115.

[49]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.186.

[50]-Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, p91..

[51]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.182.

[52]-Ibid, p.186.

[53]-Ibid. p.142.

[54]– انظر مصطفى الضّاوي: من العلم إلى الإيتيقا…، ص365.

[55]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p201..

[56]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.186.

[57]-Cf. François Poirié, Emmanuel Levinas Qui êtes-vous?, p.31.

[58]– Ibid. p.88.

[59]-Emmanuel Levinas, Ethique et infini, p.95.

[60]-Entretien d’Emmanuel Levinas avec Roger-Pol Droit, in Les imprévus de l’histoire, Montpellier, Fata Morgana, 1994, P.204.

[61]-Emmanuel Levinas, Autrement qu’être ou au-delà de l’essence, p.204.

[62]-Ibid. p.165.

[63]-Ibid. p200..

[64]-Ibid. p246..

[65]-Ibid, p.142.

[66]-Ibid. p.145.

مقالات أخرى

قراءات المعاصرين للنقد القديم

تفكيك فينومينولوجيا التّأسيس القصديّ للمعنى

الشّخصانيّة الواقعيّة عند محمّد عزيز الحبّابيّ

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد