العنف والتمييز الاجتماعي ضد الأساتذة

العنف ضد الأساتذة

الملخّص:

إن اختزال ظاهرة العنف الممارس ضد الأساتذة، سوسيولوجيا، في حدود ما هو فيزيقي خالص، أو ردها إلى التفاعل الميكرو-مدرسي، على نحو العلاقة (تلميذ/أستاذ)، فحسب، من شأنه أن يحرمنا من فهمها في أبعادها الموضوعية والسياقية، وأن ينأى بنا عن دلالاتها الخفية والصامتة. لذلك، فإننا سنروم، من خلال هذه الدراسة الميدانية، استكشاف الظاهرة انطلاقا من السؤال التالي: ما طبيعة العنف الذي يتعرض له الأساتذة بالوسط المدرسي المغربي؟ متوسلين في ذلك بمقاربة نظرية ومنهجية مندمجة، تراعي التكامل بين النظريتين؛ البنيوية التكوينية والتفاعلية الرمزية، من جهة، وبين أدوات التحليل الكمي والكيفي (ملاحظة/ استمارة/ مقابلة)، من جهة أخرى.  ولعل من أبرز نتائج هذا البحث، الكشف عن أن العنف ضد المدرسين، هو انعكاس لتطبيق التمييز الاجتماعي كميكانزيم إداري لتدبير الشؤون التربوية، من أجل الاستجابة للإكراهات المالية، والاقتصادية، والاجتماعية. وأن من تجليات ذلك التطبيق: تحول مهنة التدريس إلى عمل منفّر بعد ضياع جوهرها الرمزي والتربوي. وتمزق هيئة الأساتذة، إثر انشطار وحدتها المهنية، وتعدد ولاءاتها وتطلعاتها النقابية والسياسية، كذلك.

الكلمات المفاتيح: العنف- التمييز الاجتماعي- الأستاذ- الوضع.

Abstract:

We aim in this study to explore the phenomenon of violence against the teaching body in its semantic and contextual dimension, and to interpret it in its hidden and silent figures from the following question: what is the nature of the violence suffered by teachers in the Moroccan school environment? To better understand this phenomenon, we followed an integrative approach combining, on the theoretical level, between structuralist constructivism and symbolic interactionism, and between the quantitative approach and the qualitative approach on the methodological level.  Among the conclusions of This research; the violence against teachers, is the result of applying social differentiation as a political mechanism for managing educational affairs, in order to respond to the economic, Financial, and social constraints.

Key words: violence- social differentiation- teachers- situation.


1- تقديم: العنف ضد الأستاذ(ة) من الأحادية والاختزال إلى تعددية المعاني والأبعاد:

لعل من أشد الظواهر الاجتماعية نشازا في مجتمعنا المعاصر اليوم، ظاهرة العنف بوجه عام، والعنف الممارس ضد هيئة الأساتذة في الوسط المدرسي بوجه خاص. فبخلاف الاعتقاد السائد بكون العنف المدرسي ظاهرة تلاميذية وطلابية فحسب، أثبتت دراسات عديدة كونه معاناة تشمل الأساتذة بدورهم في صمت. فعلى المستوى الدولي مثلا، كشفت دراسة حديثة، أجرتها وزارة التعليم الأمريكية على عينة شملت 3403 مستبينا ومستبينة بأمريكا ما بين سنتي 2015 و2016، عن تعرض الأساتذة للعنف أثناء مزاولتهم لعملهم؛ حيث أفاد 10% من معلمي المدارس العمومية من رياض الأطفال وسلك الابتدائي، بأنهم كانوا عرضة للتهديد بالإصابة من قبل تلميذ واحد على الأقل خلال عام واحد من التدريس. وأقر 6% منهم بوقوعهم ضحايا لاعتداء جسدي، بينما بلغت نسبة الذين استشاروا أخصائيا نفسيا بعدما واجهوا حادثا عنيفا في وسط عملهم حوالي12%، فضلا عن تصريح أستاذ 1من كل 5 أساتذة بعدم تبليغه عن العنف الذي يتعرض له[1].

أما على الصعيد الوطني، فقد كشفت وزارة التربية الوطنية، من خلال تقرير ميداني أعدته عن موسم 2013/2014 حول ظواهر العنف المدرسي بكافة جهات المغرب، عن بلوغ ضحايا العنف المدرسي مستوى غير مسبوق، تمثل في 24000حالة، شكل منها العنف الممارس ضد الأستاذ(ة) 1679 حالة، بنسبة 7% من توزيع العنف حسب الأطراف المستهدَفة[2]. من ناحية أخرى، أبرز تقرير ميداني آخر حول العنف بالمنظومة التربوية بالمغرب سنة2017[3]، أن العنف المدرسي يبتدئ بمحاذاة المؤسسات التعليمية حيث ينتشر بيع المخدرات وتعاطيها، قبل أن يمتد إلى داخلها وسط أجواء الفوضى والاكتظاظ، سواء بالفصول الدراسية أو بالساحات والممرات. فيتخذ أشكالا شتى (عنف جسدي، لفظي، تحرش، تهديد، تمييز جنسي، اِلخ)، تهدد سلامة العاملين بالمؤسسة -أساتذة وإداريين- وتزيد من صعوبات ممارستهم لمهامهم. وجاء في التقرير أن من الممكن مطالعة معاناة الأساتذة من العنف انطلاقا من تدهور وضعهم الاجتماعي وتدني مستواهم المعيشي والاقتصادي.

علاوة على ذلك، يبدو أن أخبار العنف ضد الأساتذة باتت مادة دسمة للقصاصات الإخبارية، وللجرائد الورقية والإلكترونية، الوطنية منها والدولية، في كل موسم دراسي تقريبا؛ ففي الموسم الدراسي الماضي (2020/2021)، أنبأتنا الصحف والمجلات الإخبارية بوقوع العديد من حالات العنف المثيرة للجدل بحق مديرين وأساتذة كثر عبر التراب الوطني، كالعنف الجسدي الذي طال 03 أساتذة ومديرة تربوية بمدن كل من سلا وبرشيد واشتوكة أيت باها،[4] والاقتطاعات الجزافية من أجور الأساتذة المضربين عن العمل[5]، والعقوبات التأديبية التي تعرض لها بعض عناصر الإدارة التربوية، إما لأنهم أبدوا مواقف تضامنية، أو لأنهم عبروا عن آراء خاصة في شكل تغريدات فايسبوكية تحمل طابع الاعتراض أو النقد لسياسة الوزارة الوصية. علاوة على تكرار العقوبات القاسية التي مازالت تطال الأساتذة بحكم مواقفهم الإيديولوجية، والتي بلغت حد الحكم بالفصل النهائي عن العمل في حق أستاذ للفلسفة[6]، اِلخ. فما معنى كل ذلك العنف؟

العنف ضدّ الأستاذ بما هو نتاج لسيرورة التفكيك التي تطال رموز المجتمع الحديث، وتمظهر لحالة مجتمع الخصاء التي تجسدها مجتمعات ما بعد الحداثة التي لا تريد أفرادا فاعلينacteurs، بل مجرد أشياء وأعوان agents- بلا ذات. ليس شيئا اعتياديا يمكن التعايش معه، ولا شيئا عابرا يمكن تجاهله، بل هو ظاهرة اجتماعية وبدلالة رمزية تحمل في أحشائها نوعا من القلب القيمي في قناعات المجتمع وفي سلم أولوياته، كما قد تكشف عن اتجاه خفي لتفكيك مؤسسة المدرسة وتبخيس دور المدرس، ضدا على جُماع مكانته الاجتماعية ووظيفته التربوية بتجلياتهما؛ الرمزية، والقيمية، والمعرفية والأخلاقية.

ولئن شملت موجة العنف، بداية، المؤسسات باعتبارها تجسيدا لسلطة الدولة، فإنها فيما بعد باتت تستهدفها كنوع من المحاسبة والتوبيخ على تقصيرها في المهام الموكلة إليها من قبل الدولة كذلك. وإذا كان الاعتقاد السائد من قبل يربط العنف الذي تتعرض له المؤسسة ورموزها بمصدر خارجي فقط، فإن تقدم البحث في هذا المجال كشف عن انبثاق العنف من الداخل أيضا، بحيث غدت مؤسسة المدرسة في نظر الباحثين ملغومة بالعنف وحاملة في أحشائها لبذوره[7]، وليس ذلك بحكم توسعها وانفتاحها على شرائح مجتمعية أكبر، ولا بحكم فشلها في تحقيق الدمقرطة وفي تعميم الحق في التعليم فقط، بل ولفوضاها، ثم لعجزها عن حل مشكلاتها الخاصة أيضا( التدبير ، والتنظيم، والتمويل، والنقص في المعدات اللوجيستيكية وفي الموارد البشرية، وتحقيق الاستقرار التربوي والاجتماعي…).

فإذا بدا لبعض الدارسين أن العنف الممارس ضد الأستاذ يمكن نعته بسوء المعاملة أو بقلة الأدب incivilité[8]، أو أن من الممكن اختزاله في حدود الشكل المادي لتمظهره، أو عزوه للوضعية الميكرو-مدرسية لوقوعه فحسب[9]، فإن طبيعته المتعددة؛ الرمزية، والتراكمية، والشاملة، تجعله يتموقع بدلالة موسعة خارج الزمان والمكان المباشرين لممارسته، وما وراء المعاني السطحية والألفاظ الدارجة الدالة عليه. إنه ينفتح على السياق المؤسسي ويمتد إلى مستوى البنيات والشروط الموجدة له من سياسات تربوية، وتخطيطات اقتصادية وتوجهات إدارية كذلك[10].

يتعلق الأمر، إذن، بتأثيرات تعزل الإنسان في نوع من القفصية اللاإنسانية والبسيكوباتية psychopathique [11]، فتبتره من أبعاده الكونية والإنسانية المنفتحة، ومن امتداداته الرمزية،[12] والشبكية المتعددة[13]. كما يتعلق الأمر بممارسات تمييزية واختزالية قاصرة عن تمثل الإنسان من حيث هو: ” ذات حاملة لحقوق كونية، يتعين تعريفها خارج كل خاصية اجتماعية، والتي يجب أن يُنظر إليها باعتبارها تتجسد في عامل، أو مواطن، أو فرد مؤمن، الخ”.[14] فقد غدا العنف بوجه عام، والعنف ضد الأستاذ بوجه خاص مضاعفا باعتباره نوعا من التمييز الاجتماعي، ثم بوصفه “ميتا-عنف”méta-violence – كذلك؛ إذ يقترن بمشاعر الغبن وبأحاسيس التهديد والانزعاج واللاأمن من جهة، وحيث يكتسي نوعا من الديمومة والاستمرارية التي تصل الماضي الأسود للفرد بحاضره، من جهة أخرى[15].

إن العنف الممارس ضد الأستاذ(ة) ظاهرة اجتماعية مثيرة للانتباه. لا سيما في الوسط المدرسي المدروس بمؤسساته العمومية والخصوصية المتمايزة، حيث ينتصب كمشكلة حقيقية ومؤثرة. وهو لا ينسحب على شروط الممارسة الوظيفية للأستاذ(ة) أو على ظروف وجوده الاجتماعية والاقتصادية فقط، بل يستهدف أيضا شخصه(ها) كذات. فالوضع الاجتماعي والمهني الذي يوجد عليه، يعاكس في الغالب طموحاته واختياراته، لكونه يتعلق بما ترسمه له مسبقا الثقافة الاجتماعية، والإرادة السياسية والقرارات البيروقراطية، من منطلق خلفيات تحكمية وتدبيرية معينة.

2- إشكالية البحث ومفاهيمه:

انطلاقا من هذه الأبعاد المتعددة والعميقة لظاهرة العنف الممارس في مجتمعاتنا المعاصرة بوجه عام، ينحصر هدفنا في هذه الدراسة، في الكشف عن طبيعة العنف الذي يتعرض له “الأستاذ(ة)”، وفي تحديد مظاهره الواقعية وأبعاده الثقافية والرمزية التي تجعله يتخذ شكل تمييز اجتماعي كذلك. حيث سنتخذ مفهوم التمييز الاجتماعي كآلية تحليل سوسيولوجي لفهم أشكال التفريق والتفكيك المختلفة التي يتعرض لها الجسم الأستاذي، باعتباره بناء اجتماعيا يكتسي نوعا من القهر. متوسلين في ذلك على المستوى النظري بالمقاربتين البنيوية- التكوينية ثم الفينومينولوجية، وعلى المستوى المنهجي بتقنيات المناهج الكمية والكيفية مجسدة في تقنيات الملاحظة والمقابلة والاستمارة على حد سواء.

تبعا لذلك، تنحصر إشكالية هذا البحث في التساؤلات الآتية: ما طبيعة العنف الذي تتعرض له هيئة الأساتذة بالوسط المدرسي المغربي؟ وما علاقته بالتمييز الاجتماعي والمؤسساتي؟ كيف يدرك الأساتذة والأستاذات وضعهم ذاك؟ وما سبل مواجهتها له؟

لمقاربة هذا الإشكال، سننطلق من الفرضيتين التاليتين:

الفرضية الأولى: إن العنف الذي يتعرض له الأستاذ(ة) بالوسط المدرسي المغربي هو بمثابة تمييز اجتماعي يطال مكانته الاجتماعية؛

الفرضية الثانية: إن الوعي بالعنف الناجم عن ممارسة مهنة التدريس في الآونة الأخيرة بات يحمل الأساتذة والأستاذات على النظر إلى المهنة باعتبارها مجرد خطوة مؤقتة في مسارهم المهني والاجتماعي.

مما سبق تقديمه من تساؤلات إشكالية وفرضيات، يتضح أننا بإزاء مفاهيم محددة تختزل كثافة الظاهرة وتعكس على نحو تقريبي مضمونها الواقعي والتجريبي كما يعيشه الفاعلون ضمن سياقات وجودهم الخاصة. ويتعلق الأمر بمفاهيم: العنف، والأستاذ ـ والوضع، والتمييز الاجتماعي، فما القصد بهذه المفاهيم؟

3- في مفهوم العنف:

بعد انسحاب دولة الرعاية، وبتقلص الخدمات العمومية، أصبحت أوضاع العمالة والموظفين المتواجدين بالصفوف الأمامية (صحة، تربية، مساعدة اجتماعية…)، ضمن الوضع الجديد للنيوليبرالية، أسوأ مما كانت عليه. فالنظام الجديد متوحش ولاإنساني، إذ يجمع بين القوة والسلطة، ويقارب الحاجات الإنسانية بمنظور تقني، وبتدبير متشدد[16]. لذلك فقد صرنا أمام عنف بخصائص جديدة وغير متعودة. وقد عرفه هنري ستيوارت- Henry Stuart بأنه: (استعمال للسلطة من أجل الإضرار بالآخرين[17])، حيث يتموقع في إطار السيرورات الاجتماعية والمؤسساتية، ويرتبط بعلاقات الهيمنة وبالتراتبية. فهو على صلة بالقرارات الفوقية الخاطئة إذ يروم إعجاز الفرد ومنعه من تحقيق إنسانيته الكاملة، ويحد من قدرته على التعبير عن إنسانيته المختلفة، ويقترن بشروط العمل المفتعلة لزيادة شقاء الفرد وللحد من حريته ومن قدراته الإبداعية. إنه عنف لاإنساني يغتصب الحقوق ولا يعترف بها، وتنتج عنه آفات عديدة كالإقصاء والقهقرة والعنصرية وأشكال التمييز على أساس الجنس والنوع والانتماء والكفاءة والذكاء…كنوع من الداروينية الاجتماعية التي تترتب عنها أضرار مختلفة بأبعاد نفسية وعاطفية، اجتماعية واقتصادية، مادية ورمزية…الخ.

4- في مفهوم الأستاذ:

يقترن مفهوم “الأستاذ” في الدلالة السوسيولوجية بمفهوم الوظيفة، أي بالدور الاجتماعي الذي يحدده جي روشيه كما يلي: “مجموع المعايير التي يخضع لها فعل الأشخاص الذين يشغلون منصبا أو وظيفة معينة في مجموعة أو في مجتمع ما”[18].

تبعا لذلك، يتحدد دور “الأستاذ” بما هو معياري أولا، وبموقعه وسط الأدوار والانتظارات المختلفة للشركاء ثانيا. فهو دور قائم في جوهره الاجتماعي على التفاعل المتبادل تبعا لمستويات ثلاث: مؤسساتية، فردية، ثم تفاعلية. من الناحية المؤسساتية يتحدد “الأستاذ” كدور بمعايير محددة يضعها المجتمع لأي فرد مرشح للقيام بهذا الدور. ويحيل من الناحية الفردية على مستوى التقاطع القائم بين “الأستاذ” كدور يحدده المجتمع من جهة وشخصية الفاعل من جهة أخرى؛ فقد يكونان متباينين بحيث لا يتطابق الأنا الداخلي للشخص مع الدور الاجتماعي للأستاذ إلا جزئيا، كما قد يكونان متطابقين عندما يستطيع الشخص الفاعل تركيب جِماع الدور مع محتوى شخصيته. أما من الناحية التفاعلية فيتعلق الدور بما هو ملموس وعملي، أي بما ينتظره منه الشركاء المختلفون (تلاميذ وآباء، إدارة ونقابة ومراقبون تربويون…)[19].

من ناحية أخرى، يتخذ مفهوم “الأستاذ” في سوسيولوجيا بيير بورديو دلالة رمزية تجعله متمايزا عن أي دور اجتماعي آخر. إذ لا يمكن للأستاذ أن يمارس وظيفته بشكل مجرد من العنف الرمزي الذي يعد شرطا لازما لكل فعل بيداغوجي. فعلى نقيض تمثل الحس المشترك الذي يختزل الفعل البيداغوجي في حدود ما هو تقني فقط، يعطي بورديو لمهمة الأستاذ بعدا مركبا تتقاطع فيه مستويات متعددة. بنيوية، ثقافية، مادية، ذاتية، موضوعية ورمزية.

إن دور “الأستاذ” في البنيوية التكوينية لبيير بورديو يتحدد كموظف، أي عون دولةagent d’état-، وكعنصر من عناصر الهيمنة التي توظفها الطبقة المسيطرة لصالحها. فهو بمثابة برجوازي صغير، ومثقف، يحترف اللغة المدرسية وينتج الأحكام، يمتلك تكوينا أساسيا وينتمي لحقل خاص هو حقل التربية والتعليم.[20]

5- في مفهوم “الوضع”/ “الوضعية”/ “تعريف الوضعية” :

 لم يكن ممكنا تعريف “الوضعيةsituation-” من الناحية السوسيولوجية دون اقتفاء أثر استعمالها في السوسيولوجيا الأمريكية، وذلك بحكم التصور المنهجي التفاعلي المتبع لديهم في البحث الاجتماعي، والذي يملي عليهم الانطلاق من حالات الأفراد داخل وضعياتهم الخاصة، وفي إطار السياقات التي يمرون بها. ويعود تداول مفهوم “الوضعيةsituation-” إلى الكتابات الأولى لباركPark- وبورغيسBurgess- وطوماس إسحاقThomas Isaac- وزنانيكيZnaniecki- وأندرسونAnderson-…الذين اهتموا أكثر بالمميزات الخاصة للأفراد في وضعيات سياقية، أكثر من اهتمامهم بالمجتمع في كليته، فهو من جملة المفاهيم الجديدة والتي تشكل قطيعة مع ما هو متداول في الاتجاهات السوسيولوجية الكلاسيكية. لقد شكل فهم سلوكات الأفراد في وضعياتهم الخاصة هاجسا جديدا للبحث، حيث تم استبدال المنظور البيولوجي التطوري للظواهر الاجتماعية، بالمنظور الأنثروبولوجي الذي سيدفع في اتجاه الوضعيات الخاصة والسير الذاتية والمذكرات الحميمية …اِلخ. ويعتبر رواد هذا الاتجاه ان أي موضوع أو ظاهرة هو في الأصل تركيب بين موضوع وموقف. ومعنى ذلك ان الظاهرة الاجتماعية لا تقبل الاختزال الى موقف فردي فقط، ولا الى موضوع اجتماعي فحسب. وعلى أساس ذلك يتعين استحضار تأويل الوضعية من طرف الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم.

 لا يتعلق الأمر، تبعا لذلك، بـ “الوضعية ” بل بــــ “تعريف الوضعية”، ومعنى ذلك أن وضعية ما لا يمكن تعريفها بمعزل عن تمثل الأفراد لها، فهي ليست وجودا موضوعيا خالصا، بل هي تجميع مواقف الأفراد وظروف وجودهم.

 أما “الوضعية” فيمكن اعتبارها سابقة عن حلول الفرد فيها، فهي من وضع المجتمع ومن تنظيمه، حيث تتشكل من قواعد معيارية وتستجيب لانتظارات اجتماعية محددة، تفترض مسبقا في من يَشغلها أن يتحلى بقيم معينة ويبدي سلوكات محددة كالانضباط ومراعاة المصلحة العامة…ولكنها لا تحافظ على محدداتها تلك بعد حلول الفرد فيها، لأنه يشرع بمجرد حلوله بها في تعريفها تبعا لرغباته وأهوائه ومصلحته.

 وأما “تعريف الوضعية“، فيحدده وليام إسحاق طوماس في كتابه (الفتاة غير المعدلة-The Unadjusted girl «1923»)، كما يلي: ((إن كل سلوك ذاتي التحديد يكون مسبوقا بحالة من التفحص والتداول، وهي الحالة التي يمكن أن نطلق عليها “تعريف الوضعية”. وحقيقة الأمر هي أنه ليست الأفعال الواقعية وحدها هي التي تستدعي تعريفا للوضعية. إن مسيرة الحياة كلها، وكل الشخصية ينبثقان فعليا وتدريجيا من سلسلة التعاريف المماثلة))[21].

6- في مفهوم التمييز الاجتماعيdifférenciation sociale:

يحمل مفهوم التمييز دلالة مزدوجة، فهو الفعل الذي يقوم به الفاعل اتجاه نفسه لتحقيق تميزه الخاص من جهة، وهو الفعل الذي يمارسه فاعل مهيمن على أفراد آخرين بغرض “تفييئهم” وفصلهم عن بعضهم البعض من جهة أخرى، لذا فهو يكتسي نوعا من العنف باعتباره صادرا عن علاقة سلطة بين طرف مهيمن وطرف مهيمن عليه. كما قد يتخذ التمييز شكل سلوك جماعي يصدر عن مجموعة من الافراد الميالين لزيادة التشابهات فيما بين العناصر الممثلة لمجموعتهم الخاصة بغرض إذكاء الفروقات مقارنة بأعضاء المجموعات الأخرى[22].

من الناحية السوسيولوجية يقترن مفهوم التمييز الاجتماعي حسب ما تؤكده دانييل جيتوDanielle Juteau-[23] باهتمام نظريات سوسيولوجية عديدة، لا سيما تلك النظريات التي تعتمد التحليل غير الماركسي للتغير الاجتماعي كالوظيفية مع دوركايم وبارسونز…والوظيفية الجديدة مع نيكلاس لوهمانNiklas luhmann- وجيفري شارلز ألكسندرJeffrey Charles Alexander-.[24]وتتفق تحليلات هؤلاء على أن مفهوم التمييز الاجتماعي يتضمن نوعا من التخصص البنيوي المتزايد، وقدرا من الاستقلالية المتنامية بين الميادين الاجتماعية المختلفة، على نحو تمايز العمليات الاقتصادية والسياسية عن المؤسسات العائلية والدينية. فيتعلق الأمر بعمليات كبرى؛’ اقتصادية وسياسية، ثقافية ومعيارية، ترمي لتشكيل فئات اجتماعية على أسس مختلفة، كالجنس أو السن، العرق أو الأصل، الانتماء أو الدور…اِلخ.

وإذا كان الوظيفيون قد تناولوا التمييز الاجتماعي بوصفه آلية لتقسيم العمل الاجتماعي ولزيادة مستوى التعقيد الذي يوجد عليه المجتمع، لا سيما بين المؤسسات والميادين الاجتماعية المختلفة، فإن الوظيفيين الجدد تناولوه من جهة العلاقات القائمة بين المجموعات الاجتماعية المختلفة على صعيد المجتمع الواحد، متطرقين بشأن ذلك لما ترتكز عليه هذه العلاقات من أشكال غير قانونية، ومن عناصر غير شرعية، كالجنس والعرق والأصل الإثني.

من ناحية أخرى، يتداخل مدلول التمييز الاجتماعي باعتباره نوعا من التفريق مع مفاهيم سوسيولوجية أخرى كمفهومي التمايز الاجتماعي-distinction social، والفصل أو الميز الاجتماعي-ségrégation social، رغم ما يعتري هذه المفاهيم من فروقات تستدعي المزيد من الإيضاح.

لقد حدد بيير بورديو مفهوم التمايز الاجتماعي ضمن مؤلفه “التمايز الصادر سنة1979-” كممارسة ذات طابع عمودي على صلة بعلاقات الهيمنة السائدة في المجتمع. حيث تمارسه نخبة اجتماعية مهيمنة لتجسيد تمايزها الثقافي والرمزي تجاه باقي الفئات الاجتماعية الأخرى من خلال عاداتها الخاصة في الذوق والاستهلاك…الخ، وذلك حيث يقول بورديو مثلا: ” إن امتلاك تحفة فنية معناه؛ توكيد الذات كمالك حصري للموضوع وللذوق الحقيقي الخاص بهذه التحفة-الموضوع. بحيث يتحول الأمر إلى نفي شامل لكل أولئك الذين لا يستحقون حيازتها.”[25] وليس التمايز فعلا متعلقا بقصدية الأفراد، بقدر ما هو ممارسة موضوعية على علاقة بالمواقع الاجتماعية التي يحتلونها في المجتمع. وتبعا لذلك يبدو أن مفهوم التمايز يتعلق ببنية موضوعية شارطة، وبسلوك يمارسه الافراد المنتمون إليها بأساليب قد تكون واعية أو لاواعية، بينما يتعلق مفهوم التمييز الاجتماعي في المقابل ب ” توزيع أفراد مجتمع ما إلى فئات محددة أو غير محددة، وحسب خصائص معينة قد تشمل السن أو الدور، الجنس أو المكانة، أو الأجر… وتُظْهِرُ المسافات الكبيرة بين تلك الفئات فيما بعد.”[26] على نحو ما يرى بذلك جون كلود باسرون- Jean Claude Passeron.

أما فيما يخص مفهوم الإبعاد والفصل-ségrégation، فيتخذ لغويا دلالة الفعل القصدي الذي يراد به فصل شخص ما عن الآخرين.[27] ومن الناحية السوسيولوجية فهو الميز والتفرقة بين الأفراد والمجموعات المختلفة على أساس مجموعة من الاعتبارات، قد تكون إثنية أو دينية، جهوية أو وطنية، الخ. مما يخلق نوعا من الفصل والعزل. ونحو ذلك سياسات التركيز أو التشتيت التي تنهجها الدول الغربية مع المهاجرين الأفارقة دون غيرهم مثلا، أو سياسة الإبعاد التي تطال مجموعة عرقية ما اجتماعيا كسياسة “الآبر تايد” في جنوب أفريقيا حتى حدود 1990، أو الغيتوهاتghettos- الدينية والعرقية بأوروبا، وأي تجميع مجالي يضم ساكنة هامشية داخل تراب ما،[28]اِلخ.

لكن، وعلى الرغم مما أسلفنا من فروقات صريحة أو مضمرة بين هاته المفاهيم، فإنّ التمييز الاجتماعي، باعتباره آلية تنظيمية، يسقط، عندما يتعدى حدود الاستجابة الموضوعية للتطور الاجتماعي بما يستدعيه الوضع من تقسيم للعمل ومن تفريع للتخصصات وللوظائف في حدود التلاؤم مع جديد الحاجيات، وعندما يستند بشكل مقصود لمعايير ثقافية ورمزية للتوظيف والإسناد، في مساحات دلالية مشتركة مع مفهوم الإبعاد والميز، إذ يسوغ استعمال عناصر أخرى للتمييز من قبيل الجنس والنوع والدور والانتماء والتخصص…وبتبريرات (سياسية، وتدبيرية واقتصادية ) تبدو موضوعية، بينما هي ثقافية ورمزية بامتياز.

7- الإطار المنهجي للدراسة:

نظرا للطابع المركب للموضوع، ولما يقتضيه من تدقيق في التفاصيل من أجل فهم أعمق لظاهرة العنف الممارس ضد الأستاذ(ة) في وسطنا المدرسي بمؤسساته التعليمية المتنوعة (عمومية وخصوصية)، ارتأينا العمل باتجاهين نظريين هما: البنيوية التكوينية والتفاعلية الرمزية. فعلى الرغم مما تبدوان عليه من تعارض، إلا أنهما متكاملتان في منظورنا. حيث نعتقد جازمين بوجود تأثير للبنيات على الأفراد، لكن بأسلوب غير ميكانيكي، حيث يستطيع أولئك الأفراد، بمحض تفاعلاتهم مع بعضهم البعض، ومع تلك البنيات، التأثير في وضعهم (الوضع هنا هو جُماع البنية والفرد) الخاص بما يناسب مصالحهم داخل البنيات نفسها. فليست البنيات في نظرنا صامتة، بل هي حاملة لعلامات دالة يمكن رصد تحولاتها الرمزية والدلالية في السياق الاجتماعي لتداولها، وليست بوضعيات نهائية لأن حتميتها تنتهي بمجرد حلول الأفراد بمواقفهم وبمصالحهم فيها، مثلما أن الافراد ليسوا في تقديرنا مجرد أعوان فقط، بقدر ما هم فاعلون منتجون لمعاني ولتصورات تحاكي وتعبر عن ظروف وجودهم الاجتماعية والمهنية كذلك.

على هذا الأساس إذن، صار من الممكن لنا الانطلاق من الأفراد أو من الوضعيات السياقية التي يمارسون فيها، وليس انطلاقا من البنيات المؤسسية وحدها. فالبنيوية التكوينية تجعلنا نستحضر المؤسسات والبنيات كسلطة تدبيرية أو سياسية وكمرجع معياري، والتفاعلية الرمزية تُموقعنا في إطار الوضعيات السياقية وجها لوجه مع التعبيرات الخاصة ومع السير الذاتية للفاعلين، بينما تسمح لنا المقاربة السيميائية بفحص العلاقة والمسافة القائمة بين أفعال الأفراد والعلامات الدلالية للبنيات. وتكمن الغاية وراء هذا الدمج المنهجي في حاجتنا لتطعيم المعطيات الكمية بمضامين وبتفسيرات كيفية تصدر عن الافراد وسط ظروف ممارستهم الحقيقية، لا انطلاقا من نظريات مسبقة الوجود.

8- مجال الدراسة:

جدول رقم (1) حول المعطيات الخاصة بمجال الدراسة

الوسط

حضري

قروي

القطاع

عمومي

خصوصي

عمومي

خصوصي

عدد المؤسسات الممثلة للقطاع

 

02

 

04

 

02

 

00

 

ملاحظة: لا توجد تمثيلية للتعليم الخصوصي بالوسط القروي، لذا اقتصرنا في هذا الوسط على تمثيلية التعليم العمومي بـ(2) مؤسستين فقط. أما بخصوص الوسط الحضري فيتعلق الأمر بـ(6) مؤسسات إضافية (2 منها عمومية: تتواجد1 منها بحي شعبي، وأخرى بحي متوسط) و(4 خصوصية: 2 منها بأحياء شعبية، و2 أخرى بأحياء متوسطة).

تم إجراء البحث سنة 2019، وذلك عبر مراحل، أولها المرحلة الاستطلاعية: حيث ثم التعرف على الميدان المحتمل لإجراء البحث وعلى بعض مواصفات ظاهرة العنف الذي يتعرض له الأساتذة، وذلك من خلال زيارات دورية للمؤسسات وعبر لقاءات مقتضبة مع بعض المدرسين على عين المكان. وثانيها المرحلة النظرية: وقد تم التعرف على الدراسات السابقة وتحديد الإطار النظري للبحث، وثالثها المرحلة الإجرائية: حيث ثم تحديد عينة البحث وأدوات جمع المعطيات، ثم النزول إلى الميدان، أولا لاختبار التقنيات المنهجية المختارة، وثانيا لجمع المعطيات. ثم رابعا المرحلة النهائية: حيث جرى تفريغ البيانات وتحليلها، ثم صياغة التقرير النهائي.

أما عن الفئة المستهدفة بالبحث، فتتمثل في فئة الأساتذة بما تمثله من تجانس على المستوى النظامي والمؤسسي، وبما تعكسه من عناصر التباين على المستويات المهنية والاجتماعية، والاقتصادية، والجنسية، والعمرية…، وبما تحمله من عناصر الاختلافات الفكرية، والإيديولوجية والثقافية كذلك.

9- عينة الدراسة:

اعتمدنا في هذه الدراسة على العينة الحصصية، مع حرصنا على استحضار الواقع المبحوث فيه بمراعاة نسب متغيرات العينة الأم كما هي ممثلة في الواقع من خلال المعطيات التي توفرها الإحصائيات الرسمية لوزارة التربية الوطنية للدولة المغربية. وتتألف عينة الدراسة من 195 أستاذا وأستاذة ممثلة بذلك حوالي8%، يختلفون من حيث خصائص الجنس والسن والوسط ونوع التعليم، ويتوزعون على 8 مؤسسات تعليمية، 4منها عمومية، و4 أخرى خصوصية، ويمكن بيان تقديرات نسب المتغيرات الممثلة في العينة من خلال الجداول الآتية:

جدول(2): توزيع هيأة التدريس حسب الوسط والجنس ونوع التعليم بمديرية مكناس[29]

التعليم الخصوصي

التعليم العمومي

القروي منه

الحضري منه

إناث

مجموع (ذكور وإناث)

إناث

مجموع (ذكور وإناث)

إناث

مجموع (ذكور وإناث)

1262

1455

440

890

1567

2459

جدول (3): توزيع هيئة التدريس حسب السن في مديرية مكناس[30]

المجموع الكلي

فئة 56 سنة فأكثر

من 50 سنة إلى55

من 40 سنة إلى 49

من 30 سنة إلى 39

أقل من 30 سنة

2459

58

65

512

436

140

                     

بناء على تلك المعطيات المرجعية، وبعد تحديد معدل المسح في 0،05، قمنا باختيار مدقق لحجم العينة في حدود 195مفردة إحصائية تستوفي جميع المتغيرات الموجودة في المصدر، وبنسب جد متقاربة كما يلي:

جدول (4): تمثيلية هيئة التدريس في عينة البحث حسب نوع التعليم

نوع التعليم

حجم الساكنة الفعلية

نسبة الحصص السكانية

حجم العينة

عمومي

2459

62.83%

122

خصوصي

1455

37.17%

73

المجموع

N 3914

100%

n 195

 

جدول (5): تمثيلية هيئة التدريس في عينة البحث حسب الجنس

الوسط ونوع التعليم

 

الساكنة الفعلية

 

نسبة الحصص السكانية

حجم العينة

تمثيلية الإناث من التعليم العمومي بالوسطين القروي والحضري

1567

40%

78

تمثيلية الذكور من التعليم العمومي بالوسطين القروي والحضري

892

23%

44

تمثيلية الإناث من التعليم الخصوصي بالوسط الحضري

1262

32%

63

تمثيلية الذكور من التعليم الخصوصي بالوسط الحضري

193

05%

10

المجموع

3914

100%

195

 

جدول (6): تمثيلية هيئة التدريس بالتعليم العمومي حسب السن

توزيع الفئات السنية

الساكنة الفعلية

نسبة الحصص السكانية

حجم العينة

أقل من 30سنة

140

6%

07

من 31 إلى 39 سنة

436

17%

22

من40 إلى 49 سنة

512

21%

25

50 سنة فما فوق

1371

56%

68

المجموع

2559

100%

122

ملاحظة: لا تتوافر معطيات حول توزيع أساتذة التعليم الخصوصي حسب متغيري الوسط والسن من المصدر.

10- الإطار النظري للدراسة:

نرصد ظاهرة العنف تجاه الأستاذ(ة) ضمن إطار نظريّ، قوامه النظر إلى التمييز الاجتماعي بوصفه أداة تحليل سوسيولوجي، وشكلا من أشكال العنف في آن معا، وذلك على النحو الآتي:

10- 1- التمييز الاجتماعيّ كأداة تحليل سوسيولوجيّ لظاهرة العنف:

اقترن استعمال مفهوم التمييز بمجال البيولوجيا أولا، ثم انتقل إلى الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا لاحقا. وقد تم توظيفه في الدراسات البيولوجية لتحديد الظواهر الفوق جينية، أي المرئية على المستوى الميكروسكوبي، فحمل دلالة مزدوجة، وظيفية وبنيوية في الآن ذاته، وذلك بحكم علاقته بتقسيم العمل الوظيفي، واعتبارا إلى أن تطور الكائن الحي في علاقته بالبيئة المحيطة يستدعي نوعا من التفريق والتمييز والتخصص؛ أي تقسيما للعمل على المستوى الفيزيولوجي، بما يستدعيه ذلك من إكراه تفرضه البيئة على الكائن فتحمله إما على التلاؤم بالمزيد من التخصص الوظيفي أو بالهلاك والانقراض متى عجز عن ذلك. يمنح هذا المفهوم، إذن، إمكانية التحليل السوسيولوجي لظواهر العنف المرتبطة بالسلطة في المجتمع؛ حيث بإمكان أي مجتمع أن ينشيء نظاما للتمييز الخاص به مثلما يرى نيكلاس لوهمان[31](Niklas Luhmann)-، ويتعلق الأمر بالتمييز المرتبط بهاجس النظام وبالتلاؤم مع متغيرات البيئة المحيطة. فلا يخص التمييز الاجتماعي هنا نظام التفاعلات الداخلية، ولا بأي تطور منبعث من أسفل، بل بما يترتب عن التطور الآتي من أعلى، والذي يخلق فوارق جديدة على صلة بالتطور الحاصل بين النسق والبنية من داخل المجتمع.

تبعا لذلك، يبدو أن من شأن مفهوم التمييز الاجتماعي أن يساعدنا في تحليل العنف الذي يتعرض له الأستاذ في مجتمعنا المغربي في ضوء السياسات المتعاقبة والإصلاحات المتعددة التي عرفتها منظومتنا التربوية إلى حدود إجراء هذه الدراسة سنة 2019. كما بوسع هذا المفهوم مساعدتنا في الكشف عن الفئات المتنوعة التي تم إحداثها عنوة في صفوف الأساتذة ما بين الذكور والإناث، المرسمين وغير المرسمين، القدامى والمبتدئين، النظاميين وغير النظاميين، الخاضعين لتكوين أساسي وغير الخاضعين له، العاملين بالتعليم العمومي وأولئك الموظفين بالتعليم الخصوصي، اِلخ. كما من شأن هذا النبش رفع اللثام عن المعاناة الصامتة اللصيقة بوضع الأساتذة المُفرقين وإبراز ما يصاحب أوضاعهم من شعور بالتمييز والحيف.

إن من شأن مفهوم التمييز الاجتماعي بوصفه أداة منهجية للتحليل السوسيولوجي، أن يجعلنا ننفتح على التعارضات الجوهرية التي تتخلل منظومتنا التربوية، وخاصة منها التمييز بين التربية والتعليم في وظيفة التدريس، وبين المرامي التربوية المتمثلة في تضمين البرامج التعليمية قيما حقوقية بمرجعية كونية وإنسانية من جهة، وما يتخلل منظومتنا التعليمية من ممارسات تعسفية وتوجهات تدبيرية وسياسية لا تتورع عن التفريق وعن إذكاء التمييز بمستوياته الاجتماعية المتعددة وبصنوفه المختلفة.

10- 2- التمييز الاجتماعي باعتباره شكلا من أشكال العنف:

إن الاهتمام بدراسة التمييز الاجتماعي من الناحية السوسيولوجية قد ارتبط بدراسات الرواد أولا، حيث تم تناوله من قبل هربرت سبنسر كمبدأ رئيسي مصاحب للتطور الاجتماعي الذي يعتبر في حاجة دائمة لزيادة الترابط بين عناصره، لذا فبواسطته تعمل المجتمعات على توسيع أحجامها، وعلى مضاعفة تعقيدها حتى تتلاءم مع البيئة المحيطة بها[32]. أما إميل دوركايم فقد تصور التمييز الاجتماعي في علاقته بتقسيم العمل الاجتماعي، جاعلا منه قانونا كونيا وطبيعيا يستدعيه تطور المجتمع من خلال النمو السكاني المتزايد، ويفرضه اتساع نطاق الاتصالات البين- شخصية وما بين المجموعات الاجتماعية المختلفة كذلك، يقول دوركايم في هذا الصدد: “في الواقع، إن الخدمات ا التي بوسع تقسيم العمل الاجتماعي أن يقدمها، أقل شأنا من الأثر الأخلاقي الذي ينتجه. فوظيفته الحقيقية تكمن فيما يخلقه من شعور بالتضامن بين شخصين أو أكثر.”[33] ولئن اعتبر ماكس فيبر التمييز الاجتماعي نتاجا لعملية العقلنة التي تعرفها القيم والمعايير والعلاقات بين الأفراد في المجتمع. فإن تالكوت بارسونز يعتبر التمييز خاصية مميزة للبنية الاجتماعية، وواقعة عملية تؤدي إلى بروز الأشكال المتعددة للنشاط، والأدوار، والجماعات المتخصصة لكي تستكمل الوظائف الضرورية للمحافظة على النسق الاجتماعي[34].

لكن، وعلى الرغم من أهمية التناول الوظيفي والبنيوي لمفهوم التمييز الاجتماعي، فإنه يظلّ تناولا مجردا يخفي تناقض البنيات وعنف الصراع الطبقي، ويضمر التمييز الأساسي الذي يحول المجتمع إلى طبقات متعارضة، وذلك على نحو ما ذهب إليه رواد التحليل الماركسي- اللينيني الذين يقرنون التمييز الاجتماعي بتطور قوى الإنتاج وبتعقد بنية المجتمع الأساسية. فلا يتعلق التمييز في نظر هؤلاء بتوازنات ولا بوظائف مجردة للتكيف، ولا بعلاقات خارجة عن وعي الافراد أو مستقلة عن رغباتهم، بل بعمليات ملموسة وواقعية تشمل المجتمع ككل (تشكل الطبقات، الفئات الاجتماعية، فصل وتمييز الميادين الاجتماعية كالفصل بين ميدان العلم وميدان الإنتاج…الخ)، وتتخلل طبقاته وميادينه الاجتماعية كذلك. وبهذا النقد الصريح يستنتج رواد التحليل الماركسي- اللينيني أن التمييز الاجتماعي يمثل وضعا مفارقا، إذ يؤدي في المجتمع الرأسمالي إلى نمو الفوارق الاجتماعية، بينما يقود في قلب المجتمعات الإشتراكية نحو المزيد من التناغم والإنسجام لتجاوز الفوارق الطبقية[35].

ومن بين الدراسات السوسيولوجية المتأخرة التي اعتمدت مفهوم التمييز الاجتماعي كأداة تحليل لموضوعة العنف، نورد الدراسة الرائدة لدانييل جيتو ومن معها، والموسومة ب: التمايز الاجتماعي: نماذج وسيرورات (، la différenciation sociale: modèles et processus، presse de l’université de Montréal، 2003). وهي دراسة تعالج موضوعات متعددة؛ كالتمييز الجنسي في سوق الشغل، والشغل الطبيعي (الشامل لكافة الحقوق) وغير الطبيعي (المفتقر للحقوق)، ثم موضوع التمييز على أساس السن لدى فئة السكان النشطين، وموضوع السكان الأصليين والسياسات الاجتماعية. وترمي هذه الدراسة إلى الإحاطة بمختلف العوامل الاجتماعية المولدة للعنف كتمييز اجتماعي وآثار ذلك على الحياة اليومية للأفراد وعلى مستقبل الجماعات الاجتماعية.

في إطار ذلك، تتناول دانييل جيتو نماذج التمييز الاجتماعي غير الشرعية وغير المتكافئة، مبرزة أهمية دراسة ألكسندر جيفري شارلز: التضامن الأساسي المجموعات العرقية والتمايز الاجتماعي،core solidarity ethnic out groups and social differenciation))، التي ارتكزت بالأساس على ظاهرة احتواء المجموعات الهامشية بالولايات المتحدة، حيث اعتبرت أن التباينات التي تجري بين الجماعات على مستوى المجتمع تتوقف بالأساس على عاملين؛ خارجي يتجسد في بنية المجتمع المحيطة بمجموعة المركز، أي في تلك الأنظمة الفرعية، الاقتصادية والسياسية، الإدماجية والدينية. وداخلي يتمثل في العلاقة بين الخصائص الأساسية لجماعة المركز المحسوبة أصلية والخصائص المحددة لجماعات الهامش. ومن أبرز خلاصات هذه الدراسة استنتاجها أن مستوى الإدماج والاحتواء يرتفع أكثر بالمجتمعات المتمايزة (عامل خارجي)، وبشكل خاص عندما يقع هناك تكامل أساسي (عامل داخلي) بين الجماعات المركزية والمجموعات الهامشية. ومعنى ذلك أن التكامل المنشود قد يؤدي إلى الإدماج إن توفرت شروطه، وقد يؤدي إلى الإقصاء في غياب تلك الشروط، فجماعة الأفراد البيض تميل للاندماج مع بيض آخرين بينما تميل لإقصاء الملونين بالمقابل. ويترتب عن ذلك أن الفئة الاجتماعية ليست معطى جاهزا بقدر ما هي بناء اجتماعي. وأن الفوارق الاجتماعية لا تؤدي بالضرورة إلى انفجار الوضع، بل قد تؤدي للإدماج أو الإقصاء[36].

تتركّز الانتقادات التي وجهتها دانييل جيتو للاستعمالات السوسيولوجية لمفهوم التمييز الاجتماعي في أن توظيفه في السوسيولوجيا الكلاسيكية يرتقي به إلى مستوى العامل الشارط لوجود المجموعات الاجتماعية، وذلك معناه أن ما يميز جماعة ما عن غيرها من المجموعات الأخرى هو فروق أصلية وجوهرية في حد ذاتها. وتبعا لذلك يصبح تحصيل فرص أوفر في النجاح أو في العمل أو حتى في الذكاء، قرينا للانتساب إلى سلالة ما، أو الانتماء الأصلي لجماعة ما أو لفئة معينة دون سواها. ويبدو هذا الطرح متجاوزا لكون التمييز الاجتماعي في حقيقته الواقعية ليس شيئا جاهزا أو مكتسبا، بقدر ما هو شيء يبنى اجتماعيا.

في نفس السياق نفسه انتهت دراسة كوليت كيومين (C-Guillaumin)- الرامية لفهم الفئات العنصرية إلى التأكيد بأن هاته الأخيرة ليست موجودة في ذاتها، بقدر ما هي بناءات تاريخية وخاصة يُحشر فيها الأفراد. كما أوضحت بان العنصرية إيديولوجية تُصَور العرق كأنه معطى بيولوجي حقيقي يمكن تصنيف الأفراد اجتماعيا على أساسه، فتتبدى الجماعات، العرقية وكأنها في جوهرها وفي حقيقتها الأصلية غير متكافئة، ويتوقف بعضها على بعض، مما يجعل قوة البعض ولون جلدته ملكا طبيعيا للبعض الآخر.[37]

لكن، إذا كانت مقاربة كيومين تستند إلى تفسيرات رمزية وثقافية للتمييز الاجتماعي، فإن دانييل جيتو ترجع الأمر إلى أساس مادي يكمن في الأبعاد الاقتصادية والسياسية ثم المعيارية المحددة للفئات الاجتماعية. فالتمييز الاجتماعي في نظرها له علاقة بالتراتبية الاجتماعية، لكن من دون اختزاله في حدود المقاربة الماركسية التي تعتبره عنصرا من عناصر البنية الفوقية وانعكاسا للأساس الاقتصادي للبنية التحتية. إن التمييز الاجتماعي يخترق الطبقات الاجتماعية المحسوبة ماركسيا متجانسة، ويطالها بتصنيفات شتى كتلك القائمة على الجنس أو العرق، السن أو النوع، التخصص أو نوع التكوين، اِلخ.

11- الإطار الميداني للدراسة:

تتأطّر دراستنا للعنف والتمييز ضدّ الأستاذ(ة) بمنظومة التربية التعليم في المغرب من جهة، وبالعلاقة بين العنف والتمييز في عيّنة محدّدة هي: فالوسط المدرسي لمديرية إقليم مكناس، على النّحو الآتي:

11- 1- سياق العلاقة بين العنف والتمييز الاجتماعي في منظومة التربية والتعليم بالمغرب:

ارتبطت جذور العنف بقطاع التربية والتعليم بالمغرب بالحقبة الكولونيالية، وألقت بظلالها على مخططات الإصلاح التي توالت على المدرسة الوطنية طيلة حقبة ما بعد الاستقلال الوطني لسنة 1956 إلى اليوم. فقد عمل المستعمر على إخفاء عنفه الكولونيالي تجاه المغاربة بسياسة تعليمية قائمة على التمييز والتفريق بناء على أسس مجالية ولغوية، إثنية وتعليمية. فأرست تعليما فئويا، منه ما هو موجه للجالية المستوطنة، وما هو موجه للفئة اليهودية، وما هو خاص بالمناطق الأمازيغية، وما هو خاص بباقي فئات الشعب المغربي العربي المسلم. كما ميزت بين الشهادات المحصلة بين صنوف التعليم المختلفة، بحيث أن شهادات نظام التعليم الموجه للشعب المغربي غير معترف بها من قبل نظام التعليم الفرنسي مثلا. ولعل ذلك ما دفع الوطنيين المغاربة إلى التمرد على هذا النظام التمييزي من قبل الحركة الوطنية الناشئة كرد فعل على ذلك، فنتج عن ذلك تأسيس المدارس الحرة التي كانت تخول للوطنيين الحفاظ على مبادئ هويتهم المغربية ممثلة في اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي[38].

ولئن شكلت لحظة الحصول على الاستقلال فرصة تاريخية واستثنائية أمام المغاربة للقطع مع أساليب التمييز السلبي في التعليم، ولإرساء أسس مدرسة وطنية متمايزة عن نموذج المدرسة الكولونيالية بمبادئ خاصة تعكس الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية على قطاع التربية والتعليم. فإن عدم اقتناع جميع مكونات المجتمع المغربي آنذاك (أنصار التعليم الحر/ أنصار التعليم الأصيل/ أنصار التعليم الرسمي) بجدوى مدرسة وطنية مغربية موحدة، وعدم توفر الوسائل اللوجيستيكية والإمكانات البشرية الضرورية والملائمة للانطلاق، أعاق إمكانية التجسيد الفعلي لروح الإرادة السياسية لتلك المرحلة، وحال دون التنفيذ المحكم لمبادئها المؤسسة(توحيد/مغربة/تعريب/تعميم). وقد شكل تدبير الموارد البشرية عقبة حقيقية أمام هذا الإصلاح، فلم تستطع الدولة مغربة الأطر دفعة واحدة منذ البداية، واضطرت لتنويع أطر التربية والتكوين، سيما مع تذبذبها بين التعريب الشامل والجزئي لسائر المواد التعليمية.

لقد كان السعي العام لسياسة الدولة ينحو نحو تحقيق قدر من التمييز الإيجابي لقطاع التعليم ولموظفيه من أساتذة وأطر إدارية؛ بحيث راهن الوطنيون إبان هذه المرحلة بشكل أساسي على مخرجات هذا القطاع الحيوي لبناء تنمية حقيقية ومستدامة. وفي هذا الصدد نذكر مثلا أن من بين أهم أولويات إصلاح التعليم لسنة 1958 إعادة الاعتبار لوظيفة التعليم، حيث تعتقد اللجنة المشرفة على إعداد مخطط الإصلاح (1960-1964) مثلا ما يلي: “إن الرفع من الأجور في قطاع التعليم ضروري لوقف حركة النزوح منه إلى قطاعات الوظيفة العمومية الأخرى”[39]. لكن هذا التعزيز الإيجابي سرعان ما سينهار بفعل العوامل الاقتصادية وظروف التبعية المحددة للمرحلة، فلم تستطع الدولة المضي في نهجها السياسي الذي اختارته لقطاع التعليم، واضطرت لاتباع سياسة التقويم الهيكلي المملاة من قبل صندوق النقد الدولي منذ بداية الثمانينات.

ولا يخفى ما في التقشف وضرورة التحرر من متطلبات الإنفاق العمومي عامة، وفي قطاع التعليم بوجه خاص من غايات سياسية تتعلّق بالتقويم الهيكلي؛ بحيث شمل ذلك الموارد البشرية وكتلة الأجور عبر التقليص من التوظيف العمومي في مهام التربية والتعليم، وتشجيع التعليم الخصوصي للتخفيف من أعباء الدولة، والتقليص من سنوات التكوين الأساسي للمدرسين، وتجميد الأجور، والحد من الترقي بالشهادات الدراسية، ثم المنع من الترخيص بمتابعة الدراسة الجامعية…الخ. ويعود المبرر الأساسي لهذه التراجعات لأحكام التقويم الهيكلي ذات الخلفية الاقتصادوية، والتي بخست هذا القطاع الحيوي ووسمته بسمات؛ اللاإنتاجية وضعف المردودية[40]. لذا، لا غرابة أن تعطى الأولوية في هذا القطاع بعدئذ للتدبير الإداري والمادي والأمني.

على مستوى التدبير الإداري: شكل التحكم بالموارد البشرية والحد من الهدر في صفوفها أولوية قصوى، إذ بالإضافة إلى ضعف نسبة التوظيف مقارنة بأعداد المتقاعدين، تم الحرص على تنويع أوضاع المدرسين الجدد[41] لأجل المزيد من التخلص من كتلة الموظفين الرسميين والنظاميين. وقد تم ذلك بطرق متعددة؛ إما بالتشجيع على المغادرة من قطاع التربية والتعليم بشكل طوعي (المغادرة الطوعية) أو بشكل قانوني (التقاعد النسبي)، أو بإفراز فئات عديدة بأوضاع متمايزة بين رجال ونساء التعليم، بحيث تظل كل فئة جديدة متميزة سلبا عن الفئة القديمة وفاقدة لما لديها من امتيازات وحوافز (فئة الأساتذة العرضيين، فئة الأساتذة المعينين بمباراة وبعد تكوين، فئة أساتذة التعيين المباشر، الأساتذة ضحايا النظامين، فئة الأساتذة الذين كانوا معلمين، فئة الأساتذة المتعاقدين..). زيادة على كل ذلك، تم الحرص على تحويل هيئة التدريس إلى قاعدة خلفية لإفراز التخصصات التي تحتاجها الدولة في التدبير والتسيير، وذلك بمنحهم فرصا لتغيير الإطار الأصلي عبر مباريات وتكوينات تخول للراغبين نوعا من الترقي الاجتماعي والوظيفي كذلك. وقد شكل هذا المخرج معطى تنافسيا جديدا ونوعا من التمييز السلبي ضد مهنة التدريس التي تعرضت لنزيف طويل فقدت على إثره أطرها المؤهلة وجاذبيتها الخاصة مقارنة بالوظائف العمومية الأخرى. وبهذا الوضع غدت مهنة التدريس بمرور الزمن نقطة عبور مهني ووظيفي لا غير.

أما على مستوى التدبير الأمني: فقد شكل الانخراط الواعي للأساتذة في الأحزاب الوطنية المعارضة، وتواجدهم في طليعة النضال خلال المواجهات الكبرى، تبريرا لسياسة التمييز والتفريق التي انتهجتها الدولة تجاه الأساتذة منذ ستينيات وسبعينات القرن الماضي. ولاسيما من الناحية الإيديولوجية والنقابية. فقد تم اتهامهم في خطاب رسمي للملك الراحل الحسن الثاني يومه 29/03/1965، باعتبارهم أشباه مثقفين يشكلون خطرا كبيرا على الأمة. كما تم اتهام مادة الفلسفة وأساتذتها على الخصوص بتأطير الوعي الطلابي والتلمذي، وبتفريخ الفكر الثوري؛ فحُصر تدريسها مجاليا على مستوى بعض الجامعات فقط، بينما تم حذفها “بجميع تخصصاتها من الجامعات والكليات المغربية الجديدة التي أحدثت منذ بداية الثمانينيات، وتعويضها بشعبة الدراسات الإسلامية بالمقابل.”[42]

من ناحية أخرى تم تعزيز التعدد النقابي والسياسي لتفكيك الوحدة النقابية والسياسية التي كانت تؤرّق النظام القائم بما كانت تعبر عنه من وعي مواكب لتحولات المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوطني والإقليمي والدولي، وبما كانت تمثله من قدرة خارقة على التأطير، وعلى خوض المعارك النضالية القوية (إضرابات قطاعية أو شاملة) تنديدا بكل ما يحاك ضدها وضد مصالح عموم الفئات (مثال ذلك، إضرابات ما بين أبريل 1978 وشتاء 1979 وإضرابات بداية الثمانينات والتسعينات)[43]. وقد ترتب عن سياسة التفريق النقابي، والسياسي والإيديولوجي تلك، تحكم كبير بالوحدة التي يمثلها رجال والتعليم ونساؤه، وتفكيك لقوتها بتحويلها إلى فئات متعارضة في ولاءاتها وفي مطالبها وطموحاتها المهنية، والحقوقية والسياسية.

في غضون هذا التوجه العام إذن جرى إذكاء الفروقات الأفقية في صفوف هيئة التدريس والعمودية بين مهن التربية والتكوين، كما تم تضخيم الجهاز البيروقراطي على حساب هيئة التدريس. وقد تمخض عن ذلك اتساع الهوة بين المهام الخاصة بالتدريس وتلك الخاصة بالتسيير، واشتداد التباين في شروط الممارسة بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي، وبين المجال القروي والحضري…الخ.

11- 2- العنف الممارس ضد الأستاذ(ة) في الوسط المدرسي لمديرية إقليم مكناس باعتباره نوعا من التمييز الاجتماعي:

 ينصبّ الاهتمام، من أجل الكشف عن وجوه العنف المسلّط على الأستاذ(ة)، على أربع صور، هي: سياسة التمييز بين التعليمين العمومي والخصوصي، و2التمييز في مهنة “التدريس” بين التربية والتعليم، والتمييز على أساس الجنس، ومدى وعي الأستاذة بوضعهم وأساليب مقاومته.

11- 2- 1-  سياسة التمييز بين التعليمين العمومي والخصوصي، ودورها في إذكاء العنف السيميائي ضد الأستاذ(ة):

لقد قادتنا المقاربة الفينومينولوجية لظاهرة العنف بالوسط المدرسي إلى استطلاع البعد السيميولوجي للبنيات الموضوعية وما ينتج عنها من تفاعلات بين-فردية داخل المؤسسات التعليمية العمومية منها والخصوصية. مفترضين بإزاء ذلك، أن الفعل التربوي الناجح من شأنه أن يبدد العوامل المولدة للعنف ضد الأستاذ بالوسط المدرسي، وذلك بما يقتضيه الأمر من شروط موضوعية وتفاعلية لضمان حياة العلامات التربوية الدالة عليه على مستوى التداول اللفظي والتفاعل السلوكي المتبادل بين الأفراد. فكيف ينشأ العنف السيميائي ضد الأستاذ(ة) بالوسط المدرسي؟ وكيف يؤدي موت الدلالات والعلامات على مستوى البنيات المؤسسية والتقاليد التربوية إلى تزايد العنف ضد الأستاذ(ة)؟

وقد أدى بنا البحث الميداني من خلال تقنية الملاحظة المباشرة لشروط العمل التربوي ممثلة في البنيات المؤسسية وفي المعدات المادية والتفاعلات العلائقية، إلى اكتشاف المفارقة الكبيرة بين التعليم الخصوصي والعمومي، ومعاينة الفارق بين محمول ادعاءات المؤسسات التربوية ومضمون ممارساتها التربوية والتفاعلية، بين ما تحمله من شعارات تربوية رنانة، وما تعمل على إنتاجه بالفعل…الخ.

 على مستوى البنيات المادية المتاحة، يمكن القول بإجمال أن أهم سمة تميز مؤسسات التعليم العمومي هي السعة والتنوع، في مقابل مؤسسات التعليم الخصوصي التي يميزها الضيق والمحدودية. ويترتب عن الأولى (مؤسسات عمومية) توفير إمكانيات شتى لتبليغ مضمون الفعل التربوي ليسعن طريق التدريس في الحجرات فقط، بل وبواسطة حركة الفاعلين التربويين بتدخلاتهم المختلفة، وعبر الأنشطة الفردية والجماعية التي تسمح بها أنشطة الحياة المدرسية، والتعبيرات الفنية التي توفرها الرسومات والكتابات الجدارية…الخ. أما بخصوص الثانية (مؤسسات خصوصية)، فالضيق ومحدودية المرافق تشعر بالاختناق النفسي ومن ثمّ ينشأ التوتّر في العلاقات بين الفاعلين المختلفين. فتلزم التلاميذ بالتلقي والتعلم كنشاط نمطي، والأساتذة بالتعليم والتلقين كإمكانية وحيدة للتعبير عن كفاءتهم. وقد تأكد لنا ذلك من خلال ملاحظتنا لنظام التفاعلات بين الموظفين الإداريين، وبين الأساتذة والتلاميذ، حيث يوفر ضيق المكان المناخ الملائم للتحكم ولفرض سلطة أحادية من قبل المدير (ة) على الجميع، فهناك دوما جلبة وبالتالي هناك دوما ضرورة ملحة للتدخل العاجل لفض المشكلات.

وعلى مستوى التفاعلات داخل البنيات المؤسسية، يلاحظ توزيع واضح للمهام في التعليم العام، بينما تتداخل الاختصاصات بين الموظفين في القطاع الخاص. فمؤسسات التعليم العمومي تظل وفية للتمييز بين هيئة الإدارة وهيئة التدريس، ومراعية للتخصص بين الموظفين (مدير/ ناظر/ حراس عامون/ معيدون/ أعوان/أساتذة.)، بينما تنزع مؤسسات التعليم الخاص نحو فوضى التخصصات، إذ لا يكتفي الموظف هناك بدور واحد، بل يقوم بعدة وظائف دفعة واحدة، كأن يؤدي الأستاذ مهمة تدريس مواد مختلفة (رياضيات ونشاط علمي مثلا)، أو أن يزاوج بين التدريس والإدارة (مدرس وحارس عام معا)، الخ. ومن جهة أخرى، يخضع الآباء على مستوى التعليم العام لوضع تنظيمي يجعلهم شركاء في إطار جمعية آباء وأولياء التلاميذ التي ينظم تدخلاتها واختصاصاتها القانون؛ بينما لا توجد جمعية بهذا المعنى التنظيمي في عرف المؤسسات التعليمية الخاصة. وهو ما يمكن أن نستنتج معه بأنه في غياب أي قانون منظم لعلاقة المؤسسة بالآباء، يتعرض الأساتذة للتضييق على مهامهم بشكل سافر من قبل الآباء، فيتدخلون في كل شيء باعتبارهم أصحاب حق أكثر من غيرهم.

من مخلفات هذا الوضع إذن، بروز عنف سيميائي، يتجلى في انتحال صفة الأستاذية من قبل أفراد دخلاء بدون مقومات ذاتية وموضوعية تؤهلهم لممارستها، ويكمن كذلك في ممارستهم لهذه المهنة دون امتلاكهم القدرة على التمثيل الواقعي لشخصية الأستاذ. ولعل ذلك ما يؤدي عمليا لاختفاء “الأستاذ” كعلامة رمزية في التداول الثقافي المدرسي والاجتماعي، كما ييسر التطاول على رمزيتها من قبل الدخلاء والمتطفلين كذلك. فلا يمكن لهاته العلامة أن تحيا دلاليا إلا ضمن وسط تداولي تربوي سليم، يكون فيه مدلولها ذا معنى ثابت وراسخ في الوعي وفي الممارسة الجماعيين. بيد أن افتقار المؤسسات التعليمية لموارد بشرية مؤهلة لمهامها التربوية، وافتقادها للآليات التربوية والبيداغوجية الضرورية في الحوار والتعامل، يجعلها عاجزة، عن قراءة الحاجيات التربوية، وعن توفير الأنشطة الملائمة لاستباق مشكلات العنف وعدم الاندماج…الخ. والنتيجة هي أن المشكلات تتراكم والتوترات تتزايد، الأمر الذي يوفر مناخا غير ملائم لإنجاز تربوي دال، وغير قادر على اجتثاث منابع العنف من السلوكات كما من التمثلات.

11- 2- 2-  التمييز في مهنة “التدريس” بين التربية والتعليم، ودوره في إضعاف السلطة الرمزية لـ “الأستاذ(ة)”:

لطالما شغل الأستاذ(ة) في منظومتنا التربوية دورا مزدوجا يتراوح بين التربية والتعليم، باعتباره نموذجا للتطابق المعياري مع القيم السائدة والمرغوبة في المجتمع. لذا كان “المعلم- الفقيه” قبل الحماية الفرنسية، و’ الأستاذ- الوطني” في غضونها، سباقا للذود عن الثقافة الوطنية باعتبارها شيئا مقدسا. فالتصقت به جراء ذلك صورة رمزية يحملها معه حيثما حل وارتحل. فعلى الرغم من سياسة المستعمر الفرنسي الرامية لتمييز التعليم الفرنسي اللائكي الموجه لغير المسلمين عن التعليم التقليدي الأصيل الذي تجسده جامعة القرويين، وبالرغم من فشل الوطنيين فجر الإستقلال في تجسيد مضمون الهوية الوطنية، بروافدها الدينية والثقافية المتعددة، على مستوى الإصلاح التربوي للمنظومة التعليمية، إلا أن الحاجة الاجتماعية لمهنة “الأستاذ-المعلم” بمضمونها الجامع للوطنية وللتربية والتعليم، ظل حاضرا. وعلى سبيل المثال في ذلك، قول الآباء للمعلم: “اذبح، وأنا سأسلخ”، أو المقطع الشعري، الأكثر تداولا بين الناس، للشاعر المصري أحمد شوقي: “قم للمعلم ووفه التبجيل= كاد المعلم أن يكون رسولا”.

وعلى الرغم من تطور الثقافة الوطنية وانفتاحها على قيم حقوق الإنسان الداعية إلى صون شخصية الطفل وكرامته من العقاب وسوء المعاملة، وتمكينه من حقوقه الأساسية التي تخول له التعبير الحر عن أفكاره وعن وجوده الخاص دون وصاية أو نيابة من أحد، إلا أن الحاجة المجتمعية لأستاذ(ة) ذوي قيمة رمزية وذوي سلطة تربوية فعلية، ظلت مطلبا قائما. فقد أكدت نسبة تُقدر بحوالى97% من المبحوثين على امتلاك الأستاذ رسالة تربوية عليه أن يؤديها بالموازاة مع دوره التعليمي، وهو ما فسره أحد المستجوبين، وهو أستاذ بسلك التعليم الابتدائي، يبلغ من العمر 59سنة، بقوله: ” علمتنا التجربة أن اكتساب الرقم واحد أو حرف (أ) يستدعي تناوبا وإنصاتا واحتراما للدور”، وهو قول فصل في تقاطع التعليم والتربية ضمن وضعية واحدة، حيث لا إمكانية للتعلم في غياب النظام والانتظام تحت سلطة المعلم الذي هو مربي بامتياز.

من ناحية أخرى، تتفق أجوبة المستجوبين على أن الواجب المنتظر من “الأستاذ(ة)” هو التربية والتعليم، لكنهم يختلفون حول مضمون الجانب التربوي هذا، بحيث يعتقد 66 % من المبحوثين بأن الأمر يتعلق على نحو فضفاض بالتربية على القيم، ويرى ما يتجاوز 7% أنه يتجلى في النصح وتقويم السلوك، بينما يرى حوالي 13،3% بأنه التربية على الحرية، والتزام من الاستاذ بعدم التدخل في خصوصيات الآخرين. وتعكس هذه الإجابات الثلاث اتجاهين مختلفين يخترقان مجتمع البحث، ويتراوحان بين الاعتقاد في التربية كتدخل غير مشروط لبناء الشخص من الخارج (الأغلبية)، وبين الاعتقاد بانها تدخل خارجي مشروط باحترام حرية تشكل الشخص من الداخل(أقلية).

وحتى نبحث عن مدى مساهمة الأستاذ(ة) في تراجع رمزيته وسلطته التربوية، تساءلنا بخصوص الدروس الخصوصية، واستفسرنا عن مدى تأثيرها على الصورة الرمزية للأستاذ(ة) في المجتمع. حيث يرى 51 % من الأساتذة المستجوبين أن إعطاء الدروس الخصوصية شيء مقبول ولا ضرر فيه على سلطة الأستاذ التربوية، لأن لذلك ما يبرره أولا من جهة الظروف الاقتصادية المتقلبة، حيث يغطي العائد من هاته الساعات ضعف قدرته الشرائية، وثانيا من جهة الظروف الاجتماعية حيت يتعين عليه تحمل تبعات تخلي الدولة عن مسؤولياتها في الصحة وفي التشغيل والتعليم، ثم ثالثا من الناحية الثقافية حيث تمنحه الساعات الخصوصية فرصة للتعويض المادي عن انهياره الرمزي بما بات يستهلكه ويقبل عليه من ماركات تجارية ومن أشياء مادية مقلّدة.

في مقابل ذلك يعتبر49 %من المبحوثين، أن مزاولة الساعات الخصوصية وضع شاذ ينبغي الحد منه نظرا لبليغ أثره على الصورة الرمزية للأستاذ في المجتمع. وفي هذا الصدد يدافع أحد المستجوبين، (وهو مدير ثانوية تأهيلية، يبلغ من العمر 55سنة وحاصل على الإجازة في الأدب العربي تخصص لسانيات)، عن رمزية الأستاذ(ة) خارج إطار ما هو مادي وسلعي قائلا: ” …ليس الأستاذ(ة) فقط من يعيش ظروف القهر حتى يُسلع مهنته، بل كل الناس يعيشون تحت عولمة القهر، لكنهم يواجهون وضعهم ذاك ويتحملونه بطرق خاصة جدا. لذا لا أرى مبررا للساعات الخصوصية، عدا وقوع الأستاذ ضحية الاستهلاك وانهياره أمام سلطة الشهوات. فتَحَول بمرور الوقت إما إلى خادم يصرف جهدا مضاعفا لفائدة المؤسسات الخصوصية، أو إلى مقترض يعمل لصالح المؤسسات البنكية.”

بهذا المعنى إذن غدا تفكيك السلطة الرمزية للأستاذ(ة) سواء تحت تأثير التمييز المقصود بين التربية والتعليم، أو بفعل الاتجاه الاضطراري أو العمدي نحو الساعات الخصوصية، أحد مولدات العنف ضد الأستاذ بتعبير فئة عريضة من المستجوبين. فالتمييز في دور الأستاذ بين التربية والتعليم، هو تهوين من متاعب الأستاذ وتفقير لمهمته النبيلة التي أضحت وضيعة وقابلة للانتحال خارج الشروط المهنية والمعيارية لممارستها.

11- 2- 3- التمييز الجنسي كمظهر من مظاهر العنف ضد الأستاذ(ة):

يعتبر التمييز الجنسي كما رسخته الممارسة الثقافية في الذاكرة الجماعية منطلقا لممارسة العنف في مجتمعنا المغربي المعاصر بأوساطه الاجتماعية والمؤسساتية المختلفة. ذلك أن للصور النمطية حول الجنسين وللتوزيع الثقافي للأدوار وللمواقع الخاصة بكل منهما على نحو مسبق، تأثير كبير على مستوى نوعية وحِدَّة العنف الذي يطالهما في المؤسسات الاجتماعية عامة، وبالمؤسسات التعليمية منها بوجه خاص.

على الصعيد المؤسساتي: تعد المدارس التعليمية مسرحا خصبا لهاته الممارسة التمييزية البائدة، حيث يبدو أنها تكتسب شرعيتها على الصعيد العملي تحت مبررات اقتصادوية وتدبيرية، كذرائع الجودة والإتقان والمردودية…الخ. وقد دلنا البحث الميداني لهذه الدراسة على بعض من تجلياتها كالتمييز الجنسي في التشغيل، وفي المهام والأجور، كما على مستوى إسناد مواقع المسؤولية الإدارية والتربوية…الخ. ولا سيما على مستوى المؤسسات التعليمية الخاصة التي يبدو فيها الأمر أكثر سفورا، رغم كل تجليات الحداثة الظاهرة.

ومن حيث حضور متغير الجنس في عينة البحث، نلاحظ –كما هو مبين في الجول أسفله- ارتفاعا ملحوظا في عدد الإناث المدرسات ب 69%، مقابل28% و2% للجنسين الآخرين (ذكور) و(جنس آخر) على التوالي. ينضاف إلى ذلك أن تمثيلية العنصر النسوي بقطاع التعليم الخاص تصل إلى نسبة 80% مقارنة بقطاع التعليم العام حيث تقترب فقط من النصف بــ 47%.

-جدول رقم (7) يبين توزيع الأساتذة حسب متغير الجنس:

 

Fréquence

Pourcentage

Pourcentage valide

Pourcentage cumulé

Valide

إناث

136

69.7

69.7

69.7

 

جنس آخر

4

2.1

2.1

71.8

 

ذكور

55

28.2

28.2

100.0

 

Total

195

100.0

100.0

 

 

قد تبدو هذه المعطيات موضوعية إذا ما احتكمنا إلى مؤشرات محددة كارتفاع نسبة الإناث في الهرم السكاني للمجتمع المغربي مقارنة بالذكور حسب الإحصاء الأخير للسكان والسكنى (2014)، أو نمو مستوى تمدرس الفتاة وتمكنها من اقتحام سوق الشغل، أو باعتبار تطور المجتمع المغربي وتقبل فئاته المختلفة خروج المرأة للعمل بمختلف المجالات على نحو متساوٍ مع الرجل في الحقوق والواجبات…الخ. غير أن بواطن الأمور قد لا تكون كذلك؛ إذ يظل وقع التبريرات الاقتصادية بخلفيتها الثقافية التقليدية حاضرا رغم ذلك.

على مستوى التوظيف: إذا كان ولوج الوظيفة العمومية يتم وفق مباريات مفتوحة للتنافس بين كافة الشرائح الاجتماعية دون تمييز، فإن التشغيل بالمؤسسات الخصوصية يخضع للعديد من الاعتبارات الخاصة: إنه يراعي أولا الربح، ويأخذ ثانيا بمنطق العرض والطلب تبعا لسوق الشغل، كما يلجأ، ثالثا، لمعايير انتقائية تهم كثيرا شخص المرشح من حيث خصائصه الذاتية والجنسية والثقافية والجهوية. وفي هذا الإطار أدهشنا كثيرا التواجد الكثيف لعنصر الإناث والذكور من مناطق جنوبية بمؤسسات التعليم الخاص، فالتمسنا لذلك توضيحا كيفيا من أحد المستجوبين (وهو أستاذ بالتعليم الخاص، مجاز في الفيزياء، أعزب، يبلغ من العمر32سنة، مقيم بشكل مؤقت بمكناس، وينحدر من مدينة أرفود في الجنوب الشرقي للمغرب) حيث قال: ” إن السر وراء تشغيل النساء أكثر من الرجال، يعود لتحملهن كثيرا الأعباء المضنية للشغل، ولعدم اعتراضهن على توجيهات المشغل، ثم لقبولهن بما يتلقينه من أجور دون مجادلة”. أما بخصوص السبب وراء الإقبال على تشغيل الذكور ذوي السحنة السمراء (صحراوة) أكثر من غيرهم؟ فيرجع الأمر بنظره إلى:” التمثل المسبق لدى المستثمرين الخواص بأخلاق (صحراوة) الذين يعملون بنِيَّة، فلا يؤذون مشغليهم، ولا يتآمرون ضدهم حتى في وجود خلاف معهم، إضافة إلى وفائهم بالوعد حتى ولو لم تعد هناك مبررات نفسية للاستمرار”. وأما عن المشترك بين (صحراوة) والعنصر النسوي، والذي يجعلهم مفضلين على غيرهم من لدن المشغلين الخواص، فيرتد بنظره إلى: ” اشتراكهم في الوعي بالمسؤولية وفي تحملهم لها”.

على مستوى إسناد المهام وتوزيع الأدوار: على الرغم من أن المهمة التي يشغلها الموظف(ة) في عمله قد تعبر عن اختيار شخصي، إلا أن ذلك الاختيار يقترن مع ذلك بالاستعدادات التي يستدمجها الفرد بشكل واع أو لا واع عبر سيرورة تنشئته الاجتماعية (الهابيتوس) للعب ذلك الدور، مثلما يقترن أيضا بالإسناد المؤسساتي. لذا فإن اختيار الأنثى لمهام أصبحت حكرا عليها في المؤسسات العمومية والخصوصية ك(التنظيف والحضانة/ مرافقة الأطفال عبر وسائل النقل/ التعليم الأولي/ ونسبيا التعليم الابتدائي…)، واقتران مهام الذكور ب (الإدارة والإشراف/ بتدريس المستويات العليا/ بمهام السياقة/ بمراقبة المداخل وتدقيق الهويات…) ليس تعبيرا البتة عن اختيار شخصي يعبر عنه الأفراد، بل هو عبارة عن تهييئ ثقافي وتمييز اجتماعي.

تبعا لذلك، فقد أدى تعقد المجتمع المغربي وتطور حاجته الاجتماعية لتخصصات جديدة تواكب احتياجاته المتعددة وتعكس تطلعات فئاته وتشكيلاته المختلفة لمرحلة ما بعد الاستقلال، إلى إفراز نوعين من التعليم (خصوصي وعمومي)، وإلى انبثاق تطور عقلاني ملموس في أشكال التسيير والتدبير كذلك. لكنه تطور وظيفي غير مكتمل، بما أنه يحافظ على استمرارية ملحوظة للثقافة السائدة كوعاء رمزي لبناء الهيكل الداخلي للمؤسسات التعليمية، عمومية كانت أو خصوصية. فتوظيف المرأة بكثافة في قطاع التعليم بالمغرب، يرجع إلى جذور ذكورية تتمثل في الاعتقاد بأن التعليم أنسب مهنة للمرأة كما يؤكد ذلك العلمي الخمار في أطروحته عن (المجال والحجاب، في سوسيولوجيا تأنيث التعليم بالمغرب).

إن التوجه الاقتصادي القائم على الاستغلال، والجشع والربح السريع في قطاع التعليم، يحرف التطور الطبيعي لتقسيم العمل الاجتماعي، إذ يعمل على إعادة إنتاج الأدوار وفق الصور النمطية الجاهزة، ويعمد إلى تبرير التمييز بين الجنسين تبعا للاستعمالات الثقافية السائدة، كما يُبخس المهام المرتبطة بالتعليم، إذ يحول التدريس إلى مهنة متدنية، بسيطة، وقابلة للانتحال بدون شروطها المعيارية، كما يقود تدبير المؤسسات التعليمية نحو مزيد من التقشف في الإنفاق على شروط العمل الرئيسية، وعلى مستوى الأجور والمستحقات كذلك. ولعل ذلك ما يخلف بوجه عام أوضاعا مزرية لدى العاملين بقطاع التعليم، ويكرس دونيتهم مقارنة بباقي الوظائف الأخرى للدولة.

في تواز مع هذا التوجه الاقتصادوي العام، تمثل إكراهات العيش (فقر، بطالة، تهميش..) وضيق سبل التحرر منها، عوامل إضافية تفرض على الفرد استعدادا خاصا للتنازل عن اختياراته الشخصية والقبول بشروط المؤسسة وبما تعرضه عليه من مواقع وأدوار. ومن ذلك أن العمل في وظيفة التعليم العمومي يستدعي القبول مسبقا بدونيتها في السلم الاجتماعي للوظائف، والتهيؤ للعمل بالأرياف وفي ظروف من القهر وعسر الحال، مثلما أن العمل بمؤسسات التعليم الخصوصي يستدعي القبول بأفضلية النساء، وبتوزيع جنسي للعمل، حيث تسند للنساء بنحو حصري مهاما منتقاة كالتعليمين الأولي والإبتدائي، الحضانة ومرافقة الأطفال على متن وسائل النقل المدرسي، إضافة إلى مهام التنظيف والسكرتارية، بينما توكل للذكور بشكل خاص مهام الإدارة والإشراف والسياقة والمراقبة…الخ.

على مستوى تراتبية المواقع والأدوار والمستحقات: يهمنا في هذا الصدد أن نتطرق لفئة التدريس دون سواها، لأن اللاتجانس الذي باتت عليه هاته الهيأة بعد سياسات التحكم والتفريق التي نهجتها الدولة، ثم القطاع الخاص فيما بعد، خلق أوضاعا هجينة ومثيرة للانتباه، لا سيما على مستوى القطاع الخاص حيث تخضع هذه الفئة لتراتبية مزاجية صارمة، و”لتفيييء” مستدام وبالغ الإحكام.

لمّا كانت مؤسسات التعليم الخصوصي وليدة بالصدفة في نظامنا التعليمي جراء وضع سياسي واقتصادي خاص أملته بحدة سياسة التقويم الهيكلي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، ولكونها خُلقت عنوة لتحمل قطاعا مُضْنيا جعلت له الدولة المتخلفة أدوارا اجتماعية ذات جاذبية مغرية بالاستثمار. فإنها تنتهز وضعها الاعتباري كمنقذ للدولة، لتستفيد من دعمها على العديد من المستويات. ومنه الدعم على مستوى الموارد البشرية بوجه خاص. فلأساتذة القطاع العام الحق في القيام بساعات خصوصية داخل هذه المؤسسات، كما للمؤسسة الخصوصية الحق في تغذية حاجتها للأطر التربوية من القطاع العام بما يناسب وضعها الخاص في المقابل. فكيف تدير المؤسسة الخصوصية مواردها البشرية؟

لقد خلق دعم الدولة لمؤسسات التعليم الخصوصي على مستوى الموارد البشرية وضعا جنيسا. ويتعلق الأمر بتنوع كبير يجري إخضاعه لتفيييء هرمي (أنظر الرسم التخطيطي) وتراتبي مغلق. حيث تعتليه فئة أساتذة التعليم العمومي المرخص لها بزيادة ساعات إضافية بمؤسسات التعليم الخصوصي، في مقابل فئة الأساتذة التابعين لقطاع التعليم الخصوصي المنغلقة على نفسها والمتراتبة فيما بينها.

أولا: هناك فئة (أساتذة التعليم العام)، وتحظى بمكانة أرفع وبمستحقات أفضل مقارنة بغيرها، بالنظر لجودة تكوينها ولخبراتها المشهود لها بها، مما يجعلها العماد الأساسي الذي تستلهم منه المؤسسة الخصوصية نموذجيتها وتحقق عبره جاذبيتها، فتعول عليها بشكل خاص في بناء سمعتها، وجودتها في تدريس المواد الإشهادية والأساسية.

ثانيا: هناك فئة (الأساتذة القارين)، وينعتون بــ “أبناء المؤسسة” ممن لديهم أقدمية تتعدى 5 أو 6 سنوات، حيث تعول عليهم إدارة المؤسسة في السراء والضراء وتقربهم منها أكثر من باقي الفئات الأخرى. كما أنها تعترف بهم قانونيا وتمنحهم بالتالي وضعا نظاميا يشملهم بحقوق معينة كالتعويض عن العطل وعن حوادث الشغل والمرض، غير أن عددهم قليل جدا.

ثالثا: هناك فئة الأساتذة ذوي الأقدمية المتوسطة (ما بين ثلاث وست سنوات)، أجورهم أقرب إلى المعدل المتوسط للأجور(السميك) بقليل، غير مصرح بهم قانونيا، ولكنهم يراهنون على سنوات الأقدمية لاكتساب وضع نظامي بالمؤسسة المشغلة، وكذا لضمان الترقي نحو فئة الأساتذة “أبناء المؤسسة”.

أما الفئة الرابعة، فتخص الأساتذة المتدربين الذين لم يحصلوا بعد على أقدمية تذكر بالمؤسسة، فهم فئة متحركة وغير قارة، لا يتعدى وجودها بالمؤسسة السنتين. يشكل أفراد هذه الفئة الأغلبية داخل المؤسسة، فيجري اختبارهم عبر توظيفهم لسد الخصاص في مهام متعددة وبأجور جد متدنية. يراهن أفراد هذه الفئة على مجهودهم الخاص حتى ينالوا رضى المشغل عنهم، ويضمنوا التحول نحو الفئة الموالية ذات “الأقدمية المتوسطة”.

رسم توضيحي لحركية ولتراتبية الأساتذة العاملين بالمؤسسات الخصوصية:

ملحوظة: يوضح الهرم انفصال القمة عن القاع، بحكم تباين أصول الفئتين من الأساتذة. فلا يمكن تعويض أساتذة التعليم العمومي داخل المؤسسات الخاصة، بينما يمكن تعويض أساتذة المؤسسة الخصوصية عبر حركية الأساتذة المتدربين الذين بوسعهم اكتساب بعض الأقدمية والخبرة ليتحولوا إلى الفئة الموالية (ذات الأقدمية المتوسطة)، ثم فيما بعد نحو الفئة التي تليها والمعروفة ب(أبناء المؤسسة). وفي إطار هذه الحركية المبنية على الأقدمية تلعب الأستاذات المتزوجات والأساتذة من الجنوب دورا كبيرا، فبتحملهم للأوضاع الخاصة ولشروط العمل بهذه المؤسسات، يضمنون حركية مستدامة ويؤمنون استقرارا في الموارد البشرية الخاصة بالمؤسسة، وكل ذلك في انتظار ما هم موعودون به من تعويضات وترقيات.

11- 2- 4- وعي الأساتذة بأوضاعهم، وأساليبهم الإستراتيجية في تجاوزها:

في خضم أشكال التمييز التي أرستها السياسات التعليمية المتعاقبة على مستوى منظومتنا التربوية بالمغرب (سواء بمقتضى اللغة أو المجال، المحتوى أو التخصص، نوع التكوين أو نوع التعليم…الخ)، وفي إطار ما تمخض عن كل ذلك من إصلاحات تربوية وبيداغوجية، مؤسساتية وقانونية، يعتبر الأستاذ(ة) العنصر الأكثر معاناة مما سواه، وذلك بعدما غدت مهنته من طينة (الأعمال القذرةsales boulots-) التي جرى التخلي عنها، بعدما تم تبخيسها وتجريدها من جاذبيتها ومن سائر ما يميزها عن باقي الوظائف والمهن الأخرى.

لقد غدت مهنة التدريس، بمحض ذلك، موضوعا لعنف رهيب، تعددت تجلياته ومستوياته بين ما هو سيميائي وما هو مؤسساتي، ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي، ما هو مادي وما هو رمزي…الخ. كما باتت صفة ” أستاذ(ة)” عبارة عن وصم لصيق بكل من يمتهنها، من بداية مشواره إلى نهايته، وسواء اختار ممارستها طواعية أو اضطرارا تحت تأثير ظروفه الاجتماعية من حاجة وبطالة وفقر …الخ.

إن الوعي بالوضع العام لممارسة مهنة التدريس بمؤسسات التعليم المدرسي على اختلاف أنواعها، قد أصبح شيئا مُدرَكاً من قبل الأساتذة الممارسين لها، لكنه وعي متفاوت، ومصحوب بمشاعر متباينة. وفي هذا الإطار يمكن توزيع فئات الأساتذة حسب درجة وعيهم ونوعية مشاعرهم ومواقفهم مما يجري إلى ثلاث فئات:

فئة أولى: وتخص الأساتذة الذين قضوا 30 سنة فما فوق من الأقدمية في التعليم، تقدر نسبتهم في عينة البحث بـــ 13%، واكبوا السياسات المتعاقبة على تدبير المنظومة التربوية منذ الستينيات إلى اليوم. هؤلاء يصفون الإصلاحات التعليمية التي تم تنفيذها بالتراجعية، لذا تنتابهم مشاعر خاصة سماتها الحسرة والحيف والمرارة والانكسار بالنظر لما آلت إليه أوضاع التعليم بالمغرب من فشل وتخلف لا يعكس البتة ما قدموه من مجهودات جسيمة في سبيل بناء المغرب الذي كانوا يطمحون إليه. تمثل هذه الفئة من الأساتذة ذاكرة التعليم المغربي وشاهد عيان حي على وقائعه وتمفصلاته الكبرى منذ فجر الاستقلال إلى اليوم.

فئة ثانية: تتراوح أقدميتها بين 20 و30 عاما، نسبتها في عينة البحث حوالي 4.% مستواهم الدراسي عال، يتميزون بقدرتهم على النقد. يصفون أوضاع التعليم و سياساته الإصلاحية بالسطحية والنخبوية والبرانية. أغلب هؤلاء في مواقع المسؤولية الإدارية بالمؤسسات العمومية، مترفعون عن كل ما يسيء لمهنة “الأستاذ”، إذ يعترضون على حياة “التبرجز “التي زجت برجال ونساء التعليم في آتون الساعات الخصوصية و القروض البنكية. ويتمسكون بالعمل النقابي كواجهة حقيقية للصراع من أجل الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية للمغاربة.

فئة ثالثة: تتراوح أقدميتها في التعليم بين 10و 20سنة. وتصل نسبتها في عينة البحث إلى% 25. يتواجد أفراد هاته الفئة بحوالي90 % بقطاع التعليم العام. على المستوى النظامي، تعتبر آخر فئة ناجية من جحيم الإصلاحات التراجعية في الترسيم والتوظيف والتقاعد. أما عن استراتيجيتهم تجاه التحولات الجارية في منظومة التربية والتعليم فيمكن وصفها بالانتهازية، يحصن أغلب هؤلاء أنفسهم بالانتماءات النقابية المتعددة، حيث يتعاطون مثلا الساعات الإضافية بشكل مستمر، وخارج الحدود القانونية المسموح بها، لا سيما بمؤسسات التعليم الخصوصي التي يشكلون قاعدتها الصلبة، ويعتلون هرم أطرها التربوية. يعتبر أفراد هاته الفئة العمل النقابي والحزبي، ومتابعة التعليم الجامعي، أساليب استراتيجية للتحصن والدفاع، وللترقي وتحسين الأوضاع المادية كذلك.

مبيان رقم(1): يعرض لفئات توزيع الأساتذة المبحوثين حسب الأقدمية في العمل

فئة رابعة: تبلغ نسبتها في عينة البحث 58. % لا يتعدى أفرادها 10 سنوات من الأقدمية. حاصلون على الإجازة وأكثر، ويشتغل أغلبهم كأطر متعاقدة مع مؤسسات التعليم الخاص. يعون جيدا الهشاشة التي تحف وضعهم كمدرسين متعاقدين نظاميين كانوا أو عرضيين، لذا فإنهم غير راضون ويتخذون مهنة التدريس خطوة مؤقتة في أفق العثور على ما هو أفضل. ولحين عثورهم على ما يرضيهم، يطلقون على وضعهم ذاك توصيفات خاصة، مثل: “الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد”، “وضع الديباناج”، “عدي بالطباشير حتى يجيب الله التيسير”، “سْلَّكْ حتى تلقى ما أحسن”، ويعكس ذلك منطق ممارستهم لمهنتهم، حيث يقوم على السطحية واللامبالاة بالواقع، وعلى الترقب وانتهاز الفرص للخروج من هذا الواقع في نفس الوقت. ويترتب عن ذلك ضعف تمثلهم لما يمارسونه، مما يجعلهم مفصولين عنه من جهة الرغبة، ومتمسكين به بحكم الحاجة فقط.

12- خلاصات واستنتاجات:

من خلال ما تقدم عرضه، نخلص إلى أن العنف لا يمكن تعريفه خارج الشروط الاجتماعية والثقافية لإنتاجه، كما لا يمكن دراسته وفق أطر نظرية جاهزة أو برانية عن الواقع الذي يصدر عنه على الإطلاق. فبالإضافة إلى صلته بأشكال التفاعل العلائقي للأفراد في المجتمع، يرتد العنف كذلك إلى البنيات الاجتماعية الكبرى ولما يصدر عنها من سياسات تمييزية، وإلى التنظيمات وما يتمخض عنها من تقسيم وتراتبية، كما ترجع إلى سلطة الوكلاء وما يمارسونه من صلاحيات تنفيذية.

تبعا لذلك، يعبر العنف ضد الأستاذ(ة) في السياق الاجتماعي لمغربنا المعاصر، إذن، عن تطور غير طبيعي لمنظومتنا التربوية. فعوض أن يكون المنتهى هو تقدير الأستاذ(ة) وتكريمه، يبدو أن ما يتعرض له اليوم من تعنيف، دليل إثبات على وقوع انحراف شديد بالمنظومة جراء ما عرفته من تقسيم ممنهج لأركانها الأساسية (مجانية/ أداء، تربية/تعليم، تعميم/ تخصيص…) بفعل السياسات التعليمية المتعاقبة منذ عهد الاستعمار إلى اليوم، ولعلها السياسة القطاعية التي لا توجد مفصولة أبدا عما يجري على صعيد التدبير السياسي للمجتمع ككل من تقسيمات: جنسية، إثنية، ثقافية، ومجالية، اِلخ.

من هذا المنطلق، لا يمكن أن نستغرب التبجيل والتقدير الذين قد يحظى به معلم الدين في الأوساط الأصولية مقارنة بأستاذ العقلانية والتنوير. ولا أن نتعجب من أفضلية وضع الأستاذ في التعليم العام عن نظيره بالتعليم الخاص، أو من الشعور بحظوة العمل بالمناطق الحضرية مقارنة بالمناطق النائية، اِلخ. فالتقسيمات هنا ثقافية، اجتماعية وسياسية، وكان بالأحرى أن تنتفي على مستوى المنظومة التربوية عوض أن تلقي بتأثيراتها على مكانة المدرسة والأساتذة.

إن التمييز الاجتماعي بهذا المعنى من أبرز مظاهر العنف الممارس ضد الأستاذ(ة) في الوسط المدرسي المغربي إذن. حيث لا يتعلق الأمر بتمييز طبيعي، بل بتمييز اجتماعي مقصود، يأتي في شكل إصلاحات سياسية، تتمظهر كقرارات فوقية، وكتغييرات جزافية، يستدعي تنزيلها تمزيق الإنسان حتى يتلاءم حتميا مع التقطيع الهندسي للواقع. وقد جرى بمقتضى ذلك، خلخلة جسم التدريس بالصراعات الإيديولوجية والنقابية، قبل أن يتم فصل الأستاذ عن وضعيته الحقيقية بالتعاقد، ووضعه في عزلة اجتماعية وسيكولوجية إن بسبب مجال الاشتغال وظروفه (قروي/حضري) أو بنوع التعليم (عمومي/ خصوصي) وتباين شروطه المادية واللوجيستيكية…الخ.

فإذا كان التفريع الذي ينجم عن تطور الشجرة أو أي كائن حي آخر أمرا طبيعيا، فإن التمييز الذي اخترق المنظومة التربوية يعد شيئا تعسفيا. إنه ليس استجابة فعلية أو مواكبة حقيقية لتطور حاجات المجتمع، بقدر ما هو خطة ممنهجة للتنصل من المسؤوليات الاجتماعية التي في ذمة الدولة تجاه المجتمع والأفراد. وفي هذا الإطار يمثل استهداف رجال التربية والتعليم بالتنويع والتفريق أحد الخيارات الإستراتيجية للتحكم بقوتهم النقابية، وكذا للتملص من أعبائهم المادية والتنظيمية.

لقد ترتب عن ذلك التراجع فسح المجال لنظامين تعليميين متضاربين(خصوصي/عمومي)، ينمو أحدهما -بدعم من الدولة- على حساب الآخر المتخلى عنه. إذ مهما نَبلت الأهداف المسطرة للمنظومة التربوية المغربية، إلا أن نيلها يبقى متعذرا جدا بسبب هذه الإزدواجية التعليمية التي لا تحد من الفوارق الطبقية والاجتماعية بين شرائح المجتمع، بقدر ما أنها تستجيب لها فتوسعها أكثر وتُذكيها. بل إنه وفي خضم هذه الإزدواجية التعسفية (تعليم خاص/عام) غدا كل شيء أساسي في العمل التربوي اعتباطيا، حتى العلامات التربوية المألوفة؛ كسلطة الأستاذ ورمزيته المقدسة، حصانة المربي أو حرمة المدرسة.

لقد تبين بعدئذ أن المدرسة القادرة على محاكاة المقاولة هي التي تستطيع البقاء، وأن الأستاذ الذي يمتلك تطلعات ربحية وتسويقية لكفاءاته هو الأقدر على الصمود. حيث ارتبطت المردودية بالنتائج المُحَصلة والقابلة للتقييم العددي، لا بالسلوكات المؤدبة أو بالاقتناع الفكري، كما غدا احترام الأستاذ(ة) مشروطا بحيازته كفاءة وتخصصا ذا جدوى، لا بما يملكه من أفكار التنوير ونصوص التقوى.

لكن، إذا كان من الطبيعي، في ظل هذا التوجه التبضيعي – الاقتصادوي للمعرفة، أن ينتعش سهم التعليم الخاص على حساب التعليم العام، فإنه من غير الطبيعي بتاتا تحويل المؤسسات الخصوصية إلى جزر منغلقة عن محيطها الاجتماعي والثقافي، كما من غير المعقول القبول بهذا المسخ التربوي (المدرسة التربوية- المقاولة) الذي تنتهك فيه حقوق المتعلمين والأساتذة من قبل السماسرة ومرتزقي الاستثمار في التربية.

لقد كان من المفروض أن يقود التمييز بين قدسية المربي بمعناها التليد من جهة، والوجود المجرد لشخص الأستاذ من جهة أخرى، إلى ميلاد قدسية تربوية جديدة أساسها الحق والواجب. غير أن هذا لم يتحقق لأن الهدف من هذا التمييز كان هو وأد التربية ونزع أي مبرر يشرعن السلطة الرمزية للأستاذ. ومن نتائج ذلك: القتل الرمزي للأستاذ(ة)، ونشأة العنف ضده. ولو تم الحفاظ على قدسية التربية، وتشديد العقاب على من ينتهكها، ما تجرأ أحد على شخص الأستاذ(ة)، وما اقترب من مكتسباته المادية والرمزية، إن بالنكتة أو بالانتحال العشوائي لمهنة التربية والتعليم كممارسة، اِلخ.

فلم يكف الدولة تنويع التعليم (عمومي/خصوصي) كي تستجيب للحاجات الإيديولوجية والثقافية لشرائح المجتمع، بل عملت على تقسيم أطر التربية والتكوين إلى فئات غير متجانسة تمهيدا لعملية التخلص النهائي من الوظيفة العمومية، كما عمدت إلى تنويع منظومة الأجور وأشكال التعويضات المادية كذلك. بحيث أنه ما من تفييئ جديد إلا ويحمل تراجعا عن المكتسبات المتحصلة في فترة دولة الرعاية، وفرزا لوضع أدنى وأكثر قذارة من الوضع الذي انشطر عنه في المقابل. وهكذا إلى أن غدا العمل بالفصل الدراسي من الأعمال القذرة sales boulots التي لا يرضى بها أحد.

لقد قُبِرت مهنة “الأستاذ” بشكل مضاعف، أولا في علاقتها بالمهن وبالوظائف العمومية الخارجية الأخرى، وثانيا في علاقتها بالمهام الداخلية المرتبطة بالمنظومة التربوية نفسها كالتسيير والتدبير والمراقبة والتأطير. وهو تمييز سلبي لا يخلو من انعكاسات خطيرة على الأفراد والمجتمع. فالقتل الرمزي للمربي يمس مباشرة بالحق في التربية الذي لا ينشطر عن الحق في التعليم بحد ذاته. سيما وأن التربية هي السند البيداغوجي لتعليم أي طفل، والجوهر المحدد لمهنة “الأستاذ(ة)” منذ الأزل.

13- على سبيل الخاتمة:

بالرغم من الاعتداء الهمجي على الضرورة القصوى لدور الأستاذ(ة) في مغربنا المعاصر، وبالرغم من هذا النزوع الاجتماعي المفرط في التنكر لخصوصيته الوظيفية، فإن الحضارة المادية التي نتشدق بها لا تقوم على القطيعة الكاملة مع أهميته الرمزية والثقافية أبدا. فالأستاذ(ة) هو قبل كل شيء معلم الحضارة التي هي اقتلاع للشر من جوهر الإنسان.

فهل يمكن القبول بمجتمع بلا ثقافة؟ كيف سيكون حالنا إذن؟ سنكون بلا شك عبارة عن تشوهات خِلقية وخُلُقية لأشياء مادية لا خلاق لها ولا إنية، ومجتمعا ملؤه الاصطدامات غير المتوقعة والاضطرابات اللانهائية. فعند تأملنا لظواهر العنف المستشرية في مجتمعنا المغربي، نندهش من وقع أزمة القيم والسلوكات المدنية التي اعترت كل شيء بما في ذلك حرمة الأسرة والمدرسة، وروابط الأخوة والبنوة والتلمذة. ولعلها الأشياء الثمينة التي فقدناها تباعا بهوسنا الاستهلاكي لنماذج التعليم المعلب والسريع الهضم كما البضاعة.

إن نزوعنا المادي وولعنا الغريب بالنجاحات الاقتصادية قادنا اليوم نحو نمط عيش جديد ملؤه الرغبات المتناقضة والمتصادمة، ونحو سيل غامر من القرارات الهوجاء والمضطربة. فإلصاق وصم اللاإنتاجية بالمدرسة العمومية وبالأستاذ(ة)، ليس سوى محاولة اعتباطية وتبريرية لسياسات تدبيرية واقتصادوية.

فلا شك أن التقسيم والتمييز من مرتكزات الحداثة الفكرية والعملية، إذ عن طريقه نفهم أكثر كما علمنا ديكارت، وبواسطته ننتج أكثر كما أرشدنا إلى ذلك تايلور، وبمقتضاه نسود ونتحكم كما أوصانا ميكيافيلي[44]. غير أن توظيف الدولة المغربية لهذا المبدأ لم ينحصر في حدود الرغبة في التحديث، أو التجويد، أوالفهم، بل تعدى ذلك إلى مستوى تبرير أساليب التحكم في مختلف أشكال الإنفاق العمومي بإقرار العديد من الممارسات التدبيرية البديلة كالخوصصة والمناولة والتقشف والتعاقد…باعتبارها التجسيد الفعلي للروح الجديدة لرأسمالية العصر.[45]

 لقد تمّ تحويل قطاع التربية والتكوين إلى قطاع للربح والاستثمار بعدما جرى إخضاعه لقوانين السوق، حيث باتت المؤسسة المدرسية مسرحا لبلترة العمل الأستاذي بتعريض هيئة التدريس لشتى أنواع الاستلاب من تفييئ وتفريد وقابلية للتوظيف المتعدد[46]. وبتحويل علاقات العمل التربوي الخلاق إلى علاقات تعاقدية مجردة من أحاسيس الضمير الأخلاقي والمهني. ما أدى إلى قتل الدوافع التلقائية القائمة على الحب والإخلاص في العمل، وإلى انبثاق بواعث لا أخلاقية قوامها الانتهازية والاستغلال والجشع.

لقد كشف هذا البحث الميداني كلّ الأوهام المتعلقة بنموذجية المدرسة المغربية، فهي جحيم لا يطاق، وركح للعنف ضد الأستاذ(ة)، إذ تستبيح انتحال الأستاذية وتنتهك خصوصياتها في التعليم والتقييم، كما في التربية والتقويم، تحت ذرائع متعددة كـ “التراتبية الإدارية” أو ذريعة “التشغيل”. كما كشف هذا البحث عن تحول المدرسة المغربية عن مبادئها الوطنية النبيلة (توحيد/ مغربة/ تعميم/تعريب)، ما يجعلها في منأى عن الواقع الاجتماعي الذي تتموقع فيه.

إزاء ذلك، يمكن القول إنه لا سبيل للخروج من الأزمة التربوية والقيمية القائمة التي من مظاهرها العنف ضد الأستاذ(ة)، سوى بتوحيد المدرسة المغربية عبر هدم الهوة الفاصلة بين أنواع التعليم العمومي والخصوصي، وبمعيرة الأستاذية وشروط ممارستها التربوية داخل المؤسسات. ولا سبيل لبلوغ ذلك دون اندراج السياسة التعليمية ضمن سياسة مجتمعية أكبر لمحو الفوارق الاجتماعية تكون المدرسة العمومية الموحدة قاطرته. وعوض أن يكون مبتغانا هو ملاءمة التعليم مع متطلبات سوق الشغل فقط، علينا أيضا جعله يستجيب لحاجات المجتمع المتعددة من قيم ومن سلوكات مدنية كذلك. مما يقتضي العمل على تعزيز سلطة الأستاذ(ة) –المربي باعتباره الجسر الذي تمر عبره القيم كما المهارات. وإلا فكيف سيعمل نظام المجتمع في ظل التباعد السحيق بين المعرفة التقنية المقدمة بالمدارس، والحاجة للأخلاق؟


[1]-Winerman, Lea. (2018). By the numbers: violence against teachers, American psychological association, Vol 49, No. 8. Print version: p. 96. Consulté sur le site: www. apa. Org. Le 06/08/2021 à 12H30.

[2]-التقرير الوطني الثاني حول ظاهرة العنف بالوسط المدرسي، وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، السنة الدراسية 2013/2014.

[3]-UNESCO, Analyse de la situation de la violence en milieu scolaire au Maroc: risques d’extrémismes violents!, Etude réalisée et publiée par le Bureau de Rabat, 2017. p. 43.

[4]-عادل، نجدي. أساتذة المغرب ضحايا عنف التلاميذ وأهلهم، مجلة العربي الجديد، عدد 07 فبراير 2021. تم الإطلاع على المقال عبر الموقع الإلكتروني: www. Alaraby. co. uK ، يوم 08/08/2021 على الساعة 15:35.

[5] – نور الدين، إكجان. الأجر في مقابل العمل، الأساتذة المتعاقدون يشتكون من “فوضى اقتطاعات”، جريدة هسبريس، عدد الخميس 10 يونيو 2021، تم الاطلاع على المقال عبر الموقع الإلكتروني: www. Hespresse. Com، يوم 08/08/2021 على الساعة 16:00.

[6] – سعيدة، شريف. بقرار حكومي فصل المفكر المغربي سعيد ناشيد من وظيفته، جريدة سكاي نيوز عربية، الرباط، عدد 21 أبريل 2021، ثم الإطلاع على المقال عبر الموقع الإلكتروني: www.skynewsarabia.com، يوم 08/08/2021، على الساعة:16:20.

[7] -Michel, W. (1999). VIOLENCE EN France. Éditions du Seuil, Paris, p.34.

[8] -Eric, D. (2006). Violence à l’école : un défi mondial ? Armand Colin, Paris, p.14.

[9]-Catherine B. (2006). violences et maltraitances en milieu scolaire. Armand Colin, Paris, p.21.

[10] -Gille, A. Jean-Philippe, B. (2012). Entretien avec Vincent de Gaulejac: le sujet au cœur des paradoxes du management. Nouvelle revue de psychologie (13), 265-275. Article consulté sur le site: www.cairn.info.

2- أي الفرد كما عرفه ميشيل فوكو في كتابه:” المراقبة والعقاب”، حيث يتم فصله عن الآخرين والزج به في أماكن مغلقة داخل مؤسسات ذات طبيعة سجنية، بحيث يجري تجريده من إنسانيته تحت تأثير المراقبة الدائمة.

[12] -Denis, F. (2013). L’être humaine comme l’animal symbolique chez Ernest Cassirer. Revue philosophique de la France et de l’étranger (Tome138) , p-p. 59-70. Article consulté sur le site: www.cairn.info.

[13]– Callon, M. (2006). Sociologie de l’acteur réseau. Chapitre consulté le 22/6/2021 sur le site: www.openedition.orge.

5- تورين، آلان(2007)، التفكير على نحو مغاير، علم الإجتماع ونهاية الاجتماعي. ترجمة وتقديم: د عبد المالك ورد، (ط،2009،1)، مطبعة شمس برينت، الرباط، ص.139.

[15]– Saramo, S. (2017). the méta-violence of trumpism. European Journal of American Studies (online), 12-2-2017, document 3, consulté le 25/6/2021. URL: http://journals.openedition.org/ejas/12129; DOI.org/10 4000/ejas.12129.

[16] -Bourdieu, B. (1998). Contre feux, Edition Raisons D’agir, Paris, p.43.

[17] -Stuart, H. (2000). What Is School Violence?: an integrated definition, The Annals of the American Academy of Political and Social Science, volume (567), 2000, p-p. 16-29. Article consulté le 26-6-2021. Url : http://doi.org/10.1177/000271620056700102. sur le site: www.journals.sagepub.com.

[18]– Mouchot, C. (1986). Introduction aux sciences sociales et à leurs méthodes, Presse universitaires de Lyon, Les Editions Toubkal, Casablanca, p.42.

[19]– Mouchot, C. op. cit., p-p.122-123.

[20] -Sembel, N. (2015). Bourdieu et le travail enseignant : reconstruction d’un objet peu visible, transversal et intime, article consulté sur livre : Bourdieu et le travail, Editions : Presse Universitaires De Rennes, publié sur Openedition Books (2019), et consulté sur le site : www.books.Openedition.Org/pur/69641. Le 26/6/2021.

[21] – عبد الرحمن المالكي، (2016)، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص،104

[22]– Différenciation. (2020,22juin). Dans Wikipedia. http//fr. wikipedia. Org. Consulté le 21 /4/2021 à 23H.

[23]– Danielle, Juteau. (2003). La différenciation sociale : modèles et processus, Presse de l’université de Montréal, Montréal, p-p. 9-10.

[24]– Voir NiKlas, luhmann. (1990). “The Paradox of System Differentiation and the Evolution of Society”, dans J.C. Alexander et P. Colomy (dir.), Differentiation Theory and Social Change: Comparative and Historical Perspectives, Columbia University Presse, New York, p-p. 409-411.

[25] -Pierre, Bourdieu. (1979). la distinction critique sociale du jugement, Editions de Minuit, Paris. p-p. 318-319.

[26]-.Jean-Claude, Passeron. (1982). l’inflation des diplômes, remarques sur l’usage de quelques concepts analogiques en sociologie, article publié sur: revue française de sociologie (32/4), pp.551-584. DOI : 10.2307/3321659. Sur le site : www.persee.fr. le 20/6/2021.

[27]– Sens du mot consulté sur le site: www. Lexico.com. le 20/05/2021

[28]– Francis, Aubert. Jean-Pierre, Silvestre. (1998). écologie et société, Educagri Editions, CRDP, Dijon, p-147.

[29] : www .men.gov.ma /Ar /Documents/ Receuil2017-18.pdf

[30] : www .men.gov.ma /Ar /Documents/ Receuil2017-18.pdf

[31]-Emmanuel, d’Hombres. (2013). de la différenciation biologique à la différenciation sociale (XIXe-XXe siècles) : quelques jalons historiques, article DOI : http//doi.org/10.7202/1013922ar consulté sur le site : www.erudite.org/fr/ le 13/05/2021 à 1h45.

[32]– Herbert, Spencer.(1895). Le principe de l’évolution, article rediffusé le 23/8/2016 sur le site : www. Sniadecki. Wordpress.com. Consulté le 10/05/2021.

[33]– Emile Durkheim(1893), de la division du travail social, livre I, Paris, les presses universitaires de France, 8e édition, 1967, collection bibliothèque de philosophie contemporaine. P.61.

[34]-Claude, Mouchot. Op. cit. p-p. 193-194.

[35]– Alexander, Mikhailovich. (1973). the Great Soviet Encyclopedia, 13rd Edition, P-299. Consulté sur Google books, le 20/05/2021.

[36]– Danielle, Juteau. Op. cit, p-p. 10-11.

[37]– Ibid., p.12.

[38] – محمد، اليزيدي (2003). التنظير للتعليم الاستعماري بالمغرب، مجلة أمل، عدد مزدوج28-29، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2003

2- المكي، المروني (1996). الإصلاح التعليمي بالمغرب (1956-1994)، منشورا كلية الآداب، طبعة أولى، الرباط، ص-43.

[40] – عبد السلام، حيمر(1999). مسارات التحول السوسيولوجي في المغرب، منشورات الزمن، عدد رقم8، الدار البيضاء، ص-ص.63-64.

[41] – اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين (يناير 2000)، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، المملكة المغربية، ص.62

[42] – مصطفى، محسن (1993). المعرفة والمؤسسة، منشورات دار الطليعة، طبعة أولى، بيروت، ص- ص 42-50.

[43] – المكي المروني، مرجع سابق، ص-108.

[44]– Marcel, Bolle de Bal. (2003). Reliancce, déliance, liance : émergence de trois notions sociologiques. Dans Société, revue des sciences humaines et sociales, (N°80), p-p.99-131. Article consulté sur : www.cairn.info. Le27/6/2021.

[45]– Luc, Boltanski. Eve Chiapello. (1999). Le nouvel esprit du capitalisme, édition Gallimard (2011) , paris. p.45

[46]-Frédéric, Vandenberghe. (2006). Complexités du posthumanisme. Traduction française, les Editions L’Harmattan, Paris, p. 96.


المراجع:

العربية:

  • آلان، تورين (2007)، التفكير على نحو مغاير، علم الإجتماع ونهاية الاجتماعي. ترجمة وتقديم: د عبد المالك ورد، (ط،2009،1)، مطبعة شمس برينت، الرباط.
  • اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين (يناير 2000)، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، المملكة المغربية.
  • محمد، اليزيدي(2003). التنظير للتعليم الإستعماري بالمغرب، مجلة أمل، عدد مزدوج28-29 ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
  • مصطفى، محسن(1993). المعرفة والمؤسسة، منشورات دار الطليعة، طبعة أولى، بيروت.
  • المكي، المروني (1996). الإصلاح التعليمي بالمغرب(1956-1994)، منشورا كلية الآداب، طبعة أولى، الرباط.
  • عبد السلام، حيمر(1999). مسارات التحول السوسيولوجي في المغرب، منشورات الزمن، عدد رقم8، الدار البيضاء.
  • عبد الرحمن المالكي، (2016)، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء.

تقارير:

  • التقرير الوطني الثاني حول ظاهرة العنف بالوسط المدرسي، وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، السنة الدراسية 2013/2014.

الأجنبية:

  • Alexander, Mikhailovich. (1973). The Great Soviet Encyclopedia, 13° Edition, p.299. consulté sur Google books le 20/05/2021.
  • Bourdieu, P. (1979). la distinction critique sociale du jugement, Editions de Minuit, Paris.
  • Bourdieu, P. (1998). Contre feux, Edition Raisons D’agir, Paris.
  • Callon M. (2006). Sociologie de l’acteur réseau. Chapitre consulté le 22/6/2021 sur le site: www.openedition.org.
  • Catherine B. (2006).violences et maltraitances en milieu scolaire. Armand Colin, Paris.
  • Danielle, Juteau. (2003). La différenciation sociale : modèles et processus, Presse de l’université de Montréal, Montréal.
  • Denis, F. (2013). L’être humaine comme l’animal symbolique chez Ernest Cassirer. Revue philosophique de la France et de l’étranger(Tome138). Article consulté sur le site: cairn.info.
  • Différenciation. (2020,22juin). Dans Wikipedia. http//fr. wikipedia. Org. Consulté le 21 /4/2021 à 23H.
  • Emile Durkheim (1893), de la division du travail social, livre I, Paris, les presses universitaires de France, 8e édition 1967, collection bibliothèque de philosophie contemporaine.
  • Emile Durkheim(1893), de la division du travail social, livre I, Paris, les presses universitaires de France, 8e édition, 1967, collection bibliothèque de philosophie contemporaine.
  • Emmanuel, d’Hombres. (2013). de la différenciation biologique à la différenciation sociale (XIXe-XXe siècles) : quelques jalons historiques, article DOI : http//doi.org/10.7202/1013922ar consulté sur le site : erudite.org/fr/ le 13/05/2021 à 1h45.
  • ERIC, D. (2006). Violence à l’école : un défi mondiale ?. Armand Colin, Paris.
  • Francis, Aubert. Jean-Pierre, Silvestre. (1998). écologie et société, Educagri Editions, CRDP, Dijon.
  • Gille, A. Jean-Philippe, B. (2012). Entretien avec Vincent de Gaulejac : le sujet au cœur des paradoxes du management. Nouvelle revue de psychologie(13), 265-275. Article consulté sur le site : cairn.info.
  • Herbert, Spencer.(1895). le principe de l’évolution, article rediffusé le 23/8/2016 sur le site : www. Sniadecki. Wordpress.com. consulté le 10/05/2021.
  • Jean-Claude, Passeron. (1982). L’inflation des diplômes, remarques sur l’usage de quelques concepts analogiques en sociologie, article publié sur: revue française de sociologie (32/4). DOI : 10.2307/3321659. Sur le site : persee.fr. le 20/6/2021.
  • Luc, Boltanski. Eve Chiapello. (1999). Le nouvel esprit du capitalisme, édition Gallimard (2011), paris.
  • Marcel, Bolle de Bal. (2003). Reliancce, déliance, liance : émergence de trois notions sociologiques. Dans Société, revue des sciences humaines et sociales,(N°80),p-p.99-131. Article consulté sur : www.cairn.info. Le27/6/2021.
  • Michel, W. (1999). VIOLENCE EN France. Éditions du Seuil, Paris.
  • Mouchot, C. (1986). Introduction aux sciences sociales et à leurs méthodes, Presse universitaires de Lyon, Les Editions Toubkal, Casablanca.
  • NiKlas, luhmann. (1990). “The Paradox of System Differentiation and the Evolution of Society”, dans J.C.Alexander et P. Colomy (dir.), Differentiation Theory and Social Change: Comparative and Historical Perspectives, Columbia University Presse, New York.
  • Saramo, S. (2017). The méta-violence of trumpism. European Journal of American Studies (online), 12-2-2017, document 3, consulté le 25/6/2021. URL: http://journals.openedition.org/ejas/12129; DOI.org/10 4000/ejas.12129.
  • Sembel, N. (2015). Bourdieu et le travail enseignant : reconstruction d’un objet peu visible, transversal et intime, article consulté sur livre: Bourdieu et le travail, EDITIONS : PRESSE UNIVERSITAIRES DE Rennes, publié sur Openedition Books (2019), et consulté sur le site : books.Openedition.Org/pur/69641. Le 26/6/2021.
  • Stuart, H. (2000). What Is School Violence?: an integrated definition, The Annals of the American Academy of Political and Social Science, volume (567), 2000. Article consulté le 26-6-2021. Url : http://doi.org/10.1177/000271620056700102. Sur le site: journals.sagepub.com.

تقارير:

  • UNESCO, Analyse de la situation de la violence en milieu scolaire au Maroc : risques d’extrémismes violents!, Etude réalisée et publiée par le Bureau de Rabat, 2017.

مقالات أخرى

التّعليم عن بعد

إشكاليّة العدالة والدّيمقراطية

البيت

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد