المعارضة الأبدية في شعر “أحمد فؤاد نجم” الساخر: قراءة فلسفية.

ترتبط السخرية بالسياسة ارتباطاً وثيقاً يمتد لتوغل في عمق التاريخ الأدبي ، والسخرية السياسية تختلف عن التهكم السياسي. وقد عرفنا في الفلسفة عند اليونان أن “التهكم عند سقراط هو اصطناع الجهل على أمل أن يراجع الطرف الآخر في الحوار آراءه، ولكن السخرية، بعيداً عن الحوار، هي” أسلوب في الكتابة يؤدى لانفجار الضحك وبيان تهافت رأى كان محاطاً بهالة من التقدير والقداسة “(1) ؛ كما عُد أرِسْطُفان أو أرِسْطُفانِس ( ت 385 ق. م )” سيد المسرحية الهزلية التي تبطن النقد السياسي والاجتماعي ، وفي العصور الوسطى الإسلامي وجدنا ملامح السخرية السياسية تظهر بوضوح مع بداية العصر العباسي، فكان من أشد الساخرين وقعاً الشاعر “بشار بن برد”، إذ سخر من كبار رجال الدولة ، وكذلك عُرف هذا اللون عند المتنبي الذي سخر من السلطة والمجتمع في عصره ، وقيل عنه إنه ” كان يغالي في احتقاره للحكام والخانعين اللذين رضوا بحكم الظالمين “؛ وفي العصر الحديث في فرنسا عُد الفيلسوف “فولتير” ( تــ 1778م ) بأنه من المقدمين للثورة الفرنسية، ومن الأدمغة المتحررة التي ساهمت في تفجير الثورة الفرنسية. وجرته عقلانيته إلي التصادم مع السلطات التي زجت به في سجن الباستيل لردح قصير من الزمن. لقد كان من المعجبين به الوصي على العرش الذي سعى للإفراج عنه. وبعد إطلاق سراحه ذهب ليشكره على حسن صنيعه فنصحه الوصي بالتعقل ليمكن مساعدته، فأجابه فولتير: “شكراً لك. ولكن لدي رجاء واحد. وهو أن تكفوا من الاهتمام بإقامتي”” (2).

  وهؤلاء جميعاً قد كشفوا عن عمق العلاقة بين السخرية والسياسة ومدى ارتباط السخرية بالسياسة ، فأين ما كان الظلم تكون السخرية وسيلة موضوعية وفنية للقضاء عليه، ومن ثم ينتج عن التناقض بين الفنان والبيئة ذلك الفن الراقي الذي يتصف بالديمومة والاستمرارية .

    وقد قسم الأدباء السخرية بحسب المقاييس والمعايير التي تخنلف باختلاف آرائهم ورؤاهم في السخرية ؛ فإنه قُسم من حيث الموضوع إلى ثلاثة أقسام الاجتماعية والسياسية والترفيهية ، ويعد الشاعر السياسي “أحمد فؤاد نجم” من أبرز شعراء السخرية في مصر، حيث اكتسبت سخريته ثوبا سياسيا واجتماعيا ، حيث وظفها كبوق أعلن من خلاله عن مواقفه الصارمة والصلبة، حيال الأنظمة العربية بنبرة صارخة، حتي اشتهر في الأوساط الأدبية بشاعر السياسة ، وتمتاز سخرية أحمد فؤاد نجم اللاذعة بميزتين أساسيتين: أولاً من حيث الدلالة أنها تحمل في طياتها معاني ثورية تندد بالأنظمة السياسية والاجتماعية في العالم العربي . وثانياً من حيث الصياغة فإنها صيغت بلغة نارية ولهجة شديدة عارمة تنقض علي الأنظمة التي خانت الشعوب العربية كالصاعقة . إن الموضوعات التي تناولتها سخرية” أحمد فؤاد نجم” هي : نقد الأوضاع الاجتماعية والحكومات العربية وعمالها ورجال الحكم والسياسة وذم التدخل الأجنبي في الشؤون العربية ونقد الظروف السياسية والاقتصادية المتردية والحث علي مقارعة الظلم ومكافحة الظالمين (3),

  انتقد “أحمد فؤاد نجم” الحكومة المصرية في أشعاره مراراً وتكراراً مما أدى إلى وقوعه في السجن ، والانتقادات اللاذعة التي وجهها أحمد فؤاد نجم جعلت منه بطلاً شعبياً حتى أضحي يمثل صوت الطبقات الكادحة ،  يقول الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم (1929-2013) والملقب بالفاجومي في إحدي قصائده : الاسم : صابر.. التهمه : مصري.. السن : اجهل اهل عصري.. لرغم انسدال الشيب ضفاير.. من شوشتى.. لما لتحت خضري.. المهنه : وارث.. عن جدودي.. والزمان.. صنع الحضاره.. والنضاره.. والامان.. البشره : قمحى.. القد : رمحى.. الشعر : اخشن م الدريس.. لون العيون : اسود غطيس.. الانف : نافر كا لحصان.. الفم : ثابت في المكان.. واما جيت ازحزحه.. عن مطرحه (4).

    إنها كلمات شاعر العامية المصري “أحمد فؤاد نجم” ، والذي ارتبط اسمه بالمنع والمصادرة والسجن والاعتقال،  وربما هو الشاعر المصري الوحيد الذي مثل للمحاكمة أكثر من مرة بسبب قصائده السياسية، والتي طالما أغضبت النظام المصري بداية من “عبد الناصر” حتي نهاية حكم “حسني مبارك” وأزعجت رجاله ، والتهمة كانت دوما هي ” تكدير السلم العام” ، وبسب ذلك سجن ثمانية عشر عاما، حتي قيل عنه بأنه الشاعر المصري الذي لم تمنعه السجون من هجاء الحكام.

  ولهذا يعد “أحمد فؤاد نجم” نموذج لشخصية ” المعارض الأبد “، الذي يبدو وكأنه غير قادر على غير المعارضة، فهو غاضب على الجميع، وكأن لا شيء يعجبه، ولا شيء يمكن أن يرضيه. وهو طراز أقل شيوعاً بالضرورة لأن مغانمه الشخصية، المادية علي الأقل معدومة  ، ومن ثم تأتي “معاضته الأبدية للسلطة من أنبل الدوافع وأرفعها شأناً ، ذلك أنه يتميز أولا باعتزاز شديد بالنفس، وبرغبة حقيقية في تحقيق مصلحة الوطن، ثم إن لديه من الذكاء ما يمكنهم من تمييز الخط الفاصل بين الحق والباطل في أكبر الأمور وأصغرها علي السواء، ومن الشجاعة ما يجعله يصر على الجهل بالحق ومعارضة الباطل ” (5).

   هذا النوع من الشعراء من أمثال أحمد فؤاد نجم  تجده لا يكاد يقترب من السلطة حتى يبتعد عنها، إذ إنه حتى في أكثر العهود صلاحاً وإخلاصاً، يزعج السلطان بذلك الاعتداد الغريب بالنفس، وتلك الجرأة الغريبة على الجهر بالحق . فالسلطان، أياً كانت قوة ميله إلى جانب الحق، لم يظفر بالسلطان، في أغلب الأحوال، إلا بسبب ميل طبيعي لديه في الوقت نفسه إلى الاستبداد بالرأي، ولم ينجح في الاحتفاظ بالسلطان، إلا بدرجة أو بأخرى من القهر؛ والسلطان حتى إذا كان يحمل تقديراً دفيناً لهذا الطراز الفريد من الناس، طراز ” المعارض الأبدي”، ولا يجد من الحكمة أن يعترف بالخطأ، وعلى الأخص على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن للسلطان مصلحة محققة في أن يُظهر هذا الشاعر بمظهر المحق دائماً، الذي لا يخطئ أبداً، ولا يجد من الحكمة دائما أن ينصر المجاهر بالحق على أهل الباطل، إذ إن في ذلك تشجيعاً غير مرغوب فيه على انتشار الشعراء المعارضين، لهذا نجد أن العلاقة بين هذا الشاعر المعارض الأبدي والسلطان، حتى فى أزهى العهود وأقربها إلى قلبه، قصيرة العمر ، إن لم تفُتر بسبب زهد الشاعر “المعارض الأبدي نفسه فى علاقة تطلب منه السكوت أكثر مما تطلب منه الكلام والتعبير عن موقف، فإنها تَفْتُر  لضيق صدر صاحب السلطان به ؛ لما يسببه له من متاعب مستمرة بسبب كونه دائماً على حق” (6).

      وأحمد فؤاد نجم نموذج واضح للشاعر الذي يجسد فكرة المعارض الأبدي ، وذلك لكونه أثار الجدل بأشعاره، وملأ الدنيا ضجيجًا لرفضه كل القيم والأعراف السائدة؛ كما أنه حارب الجميع فتم حبسه لأكثر من مرة لعدة سنوات، فوصف نفسه بأن :”روحي حرة في كل مكان، ولم يكن ضد الدين كجانب روحي مهم في حياة الإنسان، بقدر ما هي ضد أفكار من يعتقدون أنهم هم من يُمَثِّل الدين وَيَتَحَدَّثُونَ باسم الله ، ولذلك وجدناه شرساً ضد جماعة الإخوان المسلمين، وشرسا في ضد نظام كل من جمال عبد الناصر ، وأنور السادات ، وحسني مبارك، كما دخل “نجم” في مشكلات عِدة مع السلطات بسبب هجومه المتحمس على الحكومة المصرية باستمرار ، كما هاجم بعض الأساليب الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر.. وهلم جرا (7).

   وقد ولد أحمد فؤاد نجم في قرية كفر أبو نجم، التابعة لمحافظة الشرقية في 23 مايو عام 1929 ، وهو أحد أهم شعراء العامية في مصر، وأحد ثوار الكلمة، واسم بارز في الفن والشعر العربي.. تنقل نجم في أعمال يدوية مختلفة، واشترك في المظاهرات التي اجتاحت مصر سنة 1946 وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال. في الفترة ما بين 1951 إلي 1956 اشتغل “نجم” كعامل في السكك الحديدية. ثم بدأ في نشر دواوينه .. والتقي الشيخ إمام في الستينيات. وهو ملحن ومغن كفيف البصر، وراجت أغانيهما بعد هزيمة مصر أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967، وعاشا في منطقة شعبية تدعى “حوش قدم” ورغم انفصالهما فنيا ووفاة الشيخ إمام فإن نجاحهما معا كان ظاهرة استقبلت جيدا في مصر والعالم العربي (8).

  في كتابه “الفاجومي” الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، يتحدث عن “نجم” عن كواليس من حياته منذ الطفولة، وتجربة الملجأ ومقابلة عبدالحليم حافظ، وعلاقته بأمه وبالمرأة، وكواليس قصائده التي عرضت بعض منها مشكلات متنوعة، كما يرصد بدايات علاقته بالشيخ إمام، والمثقفين المترددين على حفلاته، الذين جمعته بهم علاقات محبة، حيث يقول في الكتاب بأنه تزوج “أحمد فؤاد نجم” من الكاتبة المعروفة “صافيناز كاظم” التي تحولت كتاباتها منذ نهاية السبعينيات نحو مفاهيم إسلامية، وهى والدة ابنته الكبرى “نوارة الانتصار: نسبة لنصر مصر على إسرائيل في أكتوبر 1973” وبعد طلاقهما تزوج من المطربة “عزة بلبع” التي غنت الكثير من الأغاني السياسية والوطنية، وفي آواخر أيامه تزوج من سيدة من خارج الوسط الثقافي تكنى بـ”أم زينب” نسبة لابنتها الوحيدة من نجم (9).

    قال عنه الشاعر الفرنسي لويس أراجون “إن فيه قوة تسقط الأسوار”، وأسماه الناقد الراحل علي الراعي “الشاعر البندقية”، ووصمه الرئيس الراحل أنور السادات بـ “الشاعر البذيء” ، وقال عنه الأديب الراحل يوسف إدريس: “الفارس الذي تمنيت أن أكونه”، وقال عنه الكاتب المصري “صلاح عيسى:” اكتشفت وأنا أتأمل مشاعري تجاه (نجم) الإنسان، ونجم (الشاعر)، ونجم (الفاجومي)، العنيد العصي على الإفساد، إننى أمام ابن البلد الحقيقي الذي أتمنى أن أكونه، وأن جلده فعلاء عباءة الفلاحين القادمين من حقول القمح، وبيان القادمين من الصناعات الخفيفة ليقوموا بالواجب اليومي ضد الهزيمة” (10).

  ولم تكن السخرية لدي أحمد فؤاد نجم وسيلة للتسلية أو المتعة ، بل كانت عنده آلية تعبيرية موحية عبر بها عن مواقفه السياسية والاجتماعية ، ويمكن اعتباره ناجحا إلي حد كبير في نهجه الأدبي حيث إنه تمكن من إبداع فكاهة تتمتع بقدرة إيحائية هائلة، وقد حصل أحمد فؤاد نجم بهذا على مجموعة من التكريمات، ففي عام 2007 اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة، سفيرا للفقراء، وفي 2013 وبعد وفاته منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.

  كان أحمد فؤاد نجم كالفراشة تجذبها النار وتشدها ، حيث  زعم ” نجم” أنه صدق أحلام الرئيس “جمال عبد الناصر” في دعوته للقومية ، وأيقن باقتراب النصر على إسرائيل ، لكن أحمد فؤاد نجم الواثق من حلمه آنذاك لم يخطر بباله أن عبد الناصر سيزج به في غياهب المعتقل ، وهنا يقول أحمد فؤاد نجم : “لم أناصب الرؤساء العداء، لكنهم هم من ناصبوا الشعب المصري العداء”.. هذا ما قاله الشاعر أحمد فؤاد نجم، عندما سئل عن أسباب سوء علاقاته برؤساء مصر” (11).

  وقد مرت أشعار أحمد فؤاد نجم بمرحلتين أساسيتين كما قال عنه صلاح عيسي، ما قبل نكسة حزيران 1967، وما بعدها، تميزت مرحلة ما قبل النكسة بقصائد رومانسية وجهها لأمه وأبيه، كذلك بالقصائد الوطنية التي تغنت بمصر ونيلها، كما برزت ميوله اليسارية في هذه الفترة من خلال شعره، إضافة إلي إبرازه قدرة استثنائية على تحويل العادي إلى شعري، دون المساس بالفنية الشعرية للقصيدة، مستغلاً مرونة اللهجة المصرية حتى آخر قطرة، وهي المعروفة أنها أكبر من أن تكون لهجة، لكنها أقل من أن تكون لغة، ومن أبرز القصائد التي كتبها في هذه المرحلة (الجزائر): “ارقص يا نيل ساعة الأصيل والشمس رامية شعرها ورا ضهرها على صفحتك.. رامية سلاسل من دهب داب وانسكب في ميتك ولا الصبايا العطشانين متبعترين على ضفتك” (12).

   أما المرحلة الثانية؛ فهي نقلة نوعية غير متوقعة من شاعر متصعلك مثل نجم، خاصة وأنه كان قد تخطى سن التمرد، حيث قامت نكسة عام 1967 عندما تخطى السادسة والثلاثين من عمره، لكنه استجاب استجابة سريعة ومتميزة، وكان من بين القلائل الذين تجرءوا على انتقاد سياسات عبد الناصر في العلن، من أبرز قصائده أيام حكم عبد الناصر، هي القصيدة التي كتبها بعد النكسة مباشرة بعنوان (الحمد لله): “يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار.. والعيشة معدن وأهي ماشية وآخر أشيا مدام جنابو والحاشية بكروش وكتار” (13).

    وكانت جسدت هزيمة 1967 نقطة تحول في تاريخ علاقة “أحمد فؤاد نجم” بعبد الناصر وبالسلطة بوجه عام ، فالحالم والمؤيد والمنتصر لشعارات القومية والعروبة ، انقلب إلي شاعر جامح لينتقد أمرائه تأسيساً لدولة الإستبداد وترسيخا للقمع والمنع ، وامتد ليهاجم شخص عبد الناصر نفسه .

    كان لـ” أحمد فؤاد نجم ” الكثير من المواقف ضد سياسيات الرئيس جمال عبد الناصر، خاصة فيما يتعلق بالحريات، زادت حدتها بعد نكسة 1967، فكتب ولحن مع الشيخ “إمام” عشرات الأغنيات، التي كانت سببًا في اعتقالهما، ومنها أول قصائده السياسية الممنوعة وهى: “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنايا محلا رجعه ظباطنا.. من خط النار.. الفول كتير والطعمية.. والبر عمار والعيشة معدن واهي ماشية اخر أشيا.. مادام جنابه والحاشية بكروش وكتار ح تقول لى سينا وما سينا شي ما تدوشناشي.. ما ستميت أوتوبيس ماشى شاحنين أنفار إيه يعني لما يموت مليون.. أو كل الكون.. العمر أصلاً مش مضمون والناس أعمار إيه يعني في العقبة جرينا ولا في سينا.. هى الهزيمة تنسينا إننا أحرار”.. وهي القصيدة التي دخل بسببها السجن، ولم يخرح إلا بعد وفاة عبد الناصر.. ايه يعني شعب ف ليل ذلة.. ضايع كله.. دا كفاية بس اما تقول له.. احنا الثوار.. الحمد الله ولا حولا.. الحمد الله ولا حولا.. مصر الدوله.. غرقانة في الكدب علاوله.. والشعب احتار.. وكفايه اسيادنا البعدا.. عايشين سعدا.. بفضل ناس تملا المعده.. وتقول اشعار.. شعار تمجد وتماين.. حتى الخاين.. وان شا الله يخربها مداين.. عبد الجبار (14).

   ورغم تعرض أحمد فؤاد نجم للسجن في عهد عبدالناصر طيلة 9 سنوات؛ إلا أنه رثاه عقب وفاته وكتب قصيدة بعنوان “على ضريح عبد الناصر” ، يقول فيها: أبوه صعيدى وفهم قام طلعه ظابط.. ظابط على قدنا وع المزاج ظابط..  فاجومى من جنسنا.. ما لوش مرا عابت.. فلاح قليل الحيا.. إذا الكلاب سابت.. ولا يطاطيش للعدا.. مهما السهام صابت.. عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت.. وعاش ومات وسطنا.. على طبعنا ثابت.. وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت” (15).

   ولم يتخل الشاعر أحمد فؤاد نجم – المعروف بمعارضته للنظام في مصر منذ العهد الناصري في الستينات، عن رغبته في المشاكسة، وحتى عندما انتقل لغرفة عادية بالمستشفي فإنه غافل الكثيرين ليدخن السجائر.. وغافل المرض حيث جاء تشخيص الأطباء لحالته بأنه “مشروع جلطة”، بدوره لم يفوت الفرصة لنقد النظام الحاكم بمصر فتندر على الوصف بالقول أنها مجرد مشروع جلطة لم يكتمل؛ تماماً مثل مشروع توشكى، وهو مشروع لاستزراع مناطق في الصحراء الغربية بمصر روجت له الحكومة قبل أكثر من عشر سنوات لكنه تعثر ولم يكتمل (16).

  وعند جاء الرئيس أنور السادات صاحب قرار الإفراج عن أحمد فؤاد نجم، وبرغم ذلك لم يسلم من انتقاد “نجم” له ولسياسته، فكتب عدة قصائد تهاجمه وتسخر منه ومن سياسة الانفتاح، منها: “ريسنا يا أنور”، و”الفول واللحمة” و”على الربابة” و”بوتيكات” و”البتاع”، وأشهرها كانت قصيدة “نيكسون بابا” التى ألفها بعد زيارة الرئيس الأمريكى “ريتشارد نيكسون”، وقال فيها: “شرفت يا نيكسون بابا.. يا بتاع الووتر جيت.. عملولك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت..
فرشولك أوسع سكة.. من رأس التين على مكة.. هناك تنزل على عكا.. ويقولوا عليك حجيت (17).

    وهى القصيدة التى تسببت في سجنه، كما كان السادات لا يكتفي بسجن “أحمد فؤاد نجم”؛ بل دائمًا ما يعتقل زوجته صافيناز كاظم، وقد قال “نجم” عن ذلك؛ «كان السادات كل ما يحطنى في دماغه يجرنى على السجن أنا وصافيناز»، وبعكس جمال عبد الناصر، ولم يكتب «نجم» في «السادات» رثاء بعد اغتياله عام 1979 كتب أحمد فؤاد نجم قصيدة “المجنون أبو برقوقة..عيره وبرانى وملزوقة..بسلامته بيسرح قال بينا.. يعنى إحنا مواشي يا زقزوقة ..حلوين وحياتك يا بلدنا.. يا أم الخيرات المسروقة ..إحنا اللى رمينا البذرايه.. وروينا الأرض المعزوقة
…وحنحصد بكره وحنغنى.. وعيون الخاين مخزوقة”. وحصل وقتها على حكم بالسجن لمدة عام، لكنه هرب حتى تم القبض عليه (18).

   ولم يتوقف نجم يوماً عن الكتابة اللاذعة المباشرة، فبرز صوتاً عالياً أيام أنور السادات كما كان أيام عبد الناصر، فكتب العديد من القصائد التي انتقد فيها علاقات السادات الخارجية مع أمريكا وتحضيره للسلام مع الاحتلال الصهيونية، كما انتقد سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها السادات، من بين هذه القصائد قصيدة (موال الفول واللحمة) عام 1973: “عن موضوع الفول واللحمة صرح مصدر قال مسؤول.. إن الطب اتقدم جداً والدكتور محسن بيقول.. إن الشعب المصري خصوصاً من مصلحته يقرقش فول.. حيث الفول المصري عموماً يجعل من بني آدم غول” (19).

  وعندما جاء “حسني مبارك” وقف “نجم” ضد سياسات الرئيس محمد حسني مبارك، واستقبل رئاسته بقصيدة «الشكارة»، تلاها بعدة قصائد ناقدة لحكمه ومعارض لخطة التوريث، فكتب قصيدة “في عيد ميلادك الكام وسبعين»، يقول فيها: “في عيد ميلادك الكام وسبعين، كل سنة وانت طيب واحنا مش طيبين كل سنة وانت حاكم واحنا محكومين، واحنا مظلومين، واحنا متهانين، ويا ترى يا حبيب الملايين، فاكرنا ولا احنا خلاص منسيين، فاكر المعتقلين، فاكر الجعانين، فاكر المشردين، فاكر اللى ماتو محروقين، فاكر الغرقانين، الله يكون في عونك، ها تفتكر مين ولا مين” (20).

   وقد تبعها بالعديد من الأشعار والقصائد منها: “الجدع جدع والجبان جبان”، و”شيد قصورك”، و”رسالة من “حسني مبارك” إلي الشعب المصري”، و”سلامة مرارتك”.. وهى القصيدة التي كتابها عندما استئصل الرئيس “مبارك” مرارته، قبل أن يشترك نجم في ثورة 25 يناير المطالبة بتنحي الرئيس “حسني مبارك” ؛ إضافة إلي عشرات القصائد اللاحقة، من أبرزها قصيدة “البتاع”، وقصيدة “احنا مين وهما مين”، كذلك قصيدته “شقلبان”، و”جيفارا مات”، وقد غنى الشيخ إمام أغلب هذه القصائد.. لم ينشر ” أحمد فؤاد نجم ” قصائد جديدة بعد انفصاله عن الشيخ إمام (21)، واكتفي بالظهور في البرامج التليفزيونية، إلا أنه عاد للشعر في آخر عهد مبارك فكتب قصيدة (ألف سلامة لضهر سيادتك)، (عريس الدولة)، وأيد الشباب في ثورة يناير 2011 .. وكانت قصائده تملأ ميدان التحرير ، وعارض حكم الإخوان المسلمين المحظورة ، ومن أشهر قصائده “كلمتين يا مصر”، “يعيش أهل بلدي”، “شيد قصورك”، “كلب الست”، “جيفارا مات” وتوفي في 3 ديسمبر 2013 (22).

    وفي الثالث من كانون الأول/ يناير عام 2013،  توفي الشاعر “أحمد فؤاد نجم” بعد عودته من الأردن، حيث أحيا هناك آخر أمسياته الشعرية، وكان قد فاز بجائزة كلاوس الهولندية، لكنه مات قبل استلام الجائزة بأيام، توفي نجم عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، تاركاً ورائه إرثاً شعرياً كبيراً، بعد أن سجل مع الشيخ إمام ولادة ظاهرة جديدة في الموسيقى والكلمة، ما تزال خالدة حتى يومنا هذا.

   وفي نهاية هذا المقال أقول مع الأستاذ حلمي سالم : إن أحمد فؤاد نجم لم يكن مجرد شاعر، بل كان ظاهرة اجتماعية –سياسية- ثقافية – جمالية متكاملة ، انضجتها لحظة تاريخية مركبة ، عامرة بالانتصار والإنكسار، بالحرية والقمع ، بالشعارات البراقة والسلاسل البراقة ، بالإنجاز والسقوط ، بالحقيقة والوهم ، ومن قلب هذه اللحظة الدرامية انبثق صوت أحمد فؤاد نجم بالشعر- صرخة احتجاج ضد القهر ، والجوع، والرعب والاستعباد (23).

  كما لم يكن “أحمد فؤاد نجم” يمثل نبتاً شيطانيا بلا سياق أو أصول ، لقد كان علي العكس امتداداً لتراث قديم ، ووسيط ، وحديث من كسر الطوق والشعر خارج السرب ، ورفض الإنصياع ، بدءً من جماعة ” الصعاليك” (الفجميون مثله ، قبل الإسلام وبعده) ، ومروراً بشعراء الشطار والعيارين في العصور الوسيطة) ووصولاً إلي عبد الله النديم ثم “بيرم التونسي” في العصر الحديث (24)؛ ويستطيع المتايع أن يجد وشائج ربط عديدة بين عروة بن الورد – زعيم الصعاليك الأقدمين – وبين أحمد فؤاد نجم : مثل النزع الإستراكي عند كل من الصلوكيين ، ومثل نزعة الخروج علي بيت الطاعة القبلي (قبلية النظام الجاهلي وقبلية النظام السياسي المصري في الستينيات والسبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي ، ومثل حمل الروح علي الكف والمغامرة بكل الحياة : عاش عروة بن الورد مشرداً مطروداً ، وعاش أحمد فؤاد نجم معظم سنواته مسجوناً ، ومثل النزعة الوجودية الضاربة في عمق الرجلين علي الرغم من السطح الاشتراكي الملتزم (25).


الهوامش

(1) أنور مغيث: فولتير الساخر ، مقال بجريدة الأهرام ، الثلاثاء 3 من جمادي الآخرة 1441 هــ 28 يناير 202.

(2) خالد القشطيني: سيد السخرية، جريدة الشرق الأوسط -الجمعة – 15 شعبان 1438 هـ – 12 مايو 2017 مـ رقم العدد [14045].

(3) تورج وند : الفكاهة السياسة في أشعار أحمد فؤاد نجم دراسة وتحليل ، أفاق الحضارة ، أكاديمية العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية ..السنة التاسعة ، العدد الأول ، الربيع والصيف 1437هـ ، ص 46.

(4) أحمد فؤاد نجم: الأعمال الشعرية الكاملة أحمد فؤاد نجم، دار العودة ، القاهرة ، 2005، ص 122.

(5) د. جلال أمين: فتحي رضوان أو السياسة كأخلاق، ضمن كتابه شخصيات لها تاريخ، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص 17. 

(6) المرجع نفسه ، ص 18. 

(7) أحمد فؤاد نجم: الفاجومي ، تقديم صلاح عيسي، سفنكس للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1993، ص 12.

(8) أحمد فؤاد نجم: الفاجومي .. السيرة الذاتية الكاملة، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، 2013، ص 34.

(9) المصدر نفسه ، ص 18.

(10) إلهام زيدان: في ذكرى رحيله الـ7.. ماذا قال كبار المثقفين عن أحمد فؤاد نجم؟.. مقال منشور بجريدة الوطن المصرية .. نشر بتاريخ11:09 ص | الخميس 03 ديسمبر 2020.

(11) يوسف دياب: أحمد فؤاد نجم .. حكايات مع الحياة والسجن.. جريدة مبتدأ .. 2020-12-03 20:54.

(12) أنظر مقدمة صلاح عيسي لكتاب الفاجومي ، مصدر سابق ، ص 15.

(13) المرجع  نفسه ، ص 19.

(14) أحمد فؤاد نجم: الأعمال الشعرية الكاملة أحمد فؤاد نجم، المصدر السابق، ص167.

(15) أحمد فؤاد نجم: الفاجومي ، مصدر سابق ، ص  66.

(16) نفس المصدر، ص 89.

(17) نفس المصدر، ص 97.

(18) نفس المصدر، ص 112.

(19) نفس المصدر، ص 176.

(20) نفس المصدر، ص 198.

(21) نفس المصدر، ص 232.

(22) نفس المصدر، ص 239.

(23) حلمي سالم: انا رحت القلعة وشفت ياسين : مختارات من شعر احمد فؤاد نجم، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، مج 23 ,ع 256، 2006، ص 42.

(24) المرجع نفسه ، والصفحة نفسها.

(25) المرجع نفسه ، والصفحة نفسها.

 

 

 

 

مقالات أخرى

قراءات المعاصرين للنقد القديم

تفكيك فينومينولوجيا التّأسيس القصديّ للمعنى

الشّخصانيّة الواقعيّة عند محمّد عزيز الحبّابيّ

1 تعليق

علي القاسمي 9 أغسطس، 2021 - 10:49 م
أستاذنا الجليل المفكر الدكتور محمود محمد علي حفظه الله ورعاه، شكراً جزيلاً على هذا المقال القيم الذي أعادني إلى القاهرة المحروسة ، فقد كنتُ أمضي فيها شهراً كاملاً كل عام بمناسبة مؤتمر لجمع اللغة العربية السنوي. وفي كل عام، كنتُ أمضي معظم أمسيات ذلك الشهر في دار نشر ميريت، حيث يلتقي نخبة من الأدباء لعلاقة تربطهم بصاجب الدار الكاتب الصحفي محمد هاشم، وفي مقدمة أولئك الأدباء المرحوم الشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم، حتى أستطيع القول: ربطت بيننا صداقة موسمية. وكلما حضرتُ إلى الدار، كنتُ أرجو المرحوم أن يقرأ لي ما استجد من شعره، فيشفي غليلي بقصائده في الهجاء. وكان جاداً دائماً وساخراً ولكنه قلما يضحك. . لقد أنصفتَ هذا المناضل الوطني الغيور. فتحية حارة لك بمناسبة هذا المقال الرائع الماتع. محبكم: علي القاسمي
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد