“إذا كان هُناك مَا هو أشد خُطورة من الإفراط في المُخدرات فمِن دون شك هو الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء” فرانز كافكا
مقدمة:
قد لا أبالغ أبدا إذا قلت: بأن مفهوم الأيديولوجيا هو من أكثر المفاهيم أهمية وخطورة في مجال العلوم الإنسانية، كما أنه في الوقت نفسه من أكثر المفاهيم تعقيدا وغموضا في عالم المفاهيم والأكثر استخداما بينها. وعلى الرغم من الغموض الكبير في دلالاته ومعانيه فإن الباحثين والمفكرين يستغرقون في استخدامه ويشغفون باستحضاره وكأنه نغمة موسيقية آسرة تضفي على خطابهم جمالا وسحرا دون الشعور بالحاجة المحة للسيطرة الكاملة على دلالاته والخوض في معانيه، وحال بعضهم حال من يستمتع بالموسيقى دون أن يفهم معانيها ويدرك سمو الدلالات فيها. وقد تأتت لي هذه الملاحظة منذ كنت طالبا في الجامعة عندما أساتذتنا يستغرقون في استخدام هذه الكلمة الموسيقية الجميلة “أيديولوجيا” فيتكرر إيقاعها في خطابهم دائما، وعندما كنا نفاجئهم بالسؤال عن معناها كان الأستاذ منهم ينتفض مرتبكا وكأنه قد استيقظ من حلم جميل، فيعرفها لنا سراعا وبصورة مقتضبة على أنها علم الأفكار أو وعي مزيف، ثم يتابع خطابه وكأن شيئا لم يكن، وبعض الجادين منهم كان يحاول أن يأخذنا إلى فهم أعمق للمفهوم فيبذل مزيدا من الجهد مستشعرا صعوبة كبيرة في أن يجعلنا نفهم دلالة المفهوم بدقة وعناية كاملة. وبوصفنا طلابا نحبوا على مدارج المعرفة كان يتملكنا شعور بأننا مع شروحاتهم المقتضبة والمعقدة كان الغموض في الفهم يزداد غموضا ويتحول الفهم إلى وهم الفهم، وتزداد حيرتنا نتيجة للتناقض والارتباك في شرح المفهوم وتقديماته المعقدة المتناقضة من قبل أساتذتنا. وعندما اصبحنا أساتذة في الجامعة أصبح هذا المفهوم حاضرا بالضرورة في كل خطاب فكري وفي كل محاضرة نلقيها ولاسيما فيما يتعلق بفلسفة التربية والعلوم الإنسانية القائمة على ركائز هذا المفهوم، ويكرر التاريخ نفسه فيسألنا الطلاب عن معنى المفهوم ودلالته فنخوض فيه خوضا مؤلما ونشعر دائما بأن القبض على ناصية المفهوم أمر صعب مستصعب كنتيجة طبيعية للتعقيد الكامن في تكويناته الفكرية والتناقضات القائمة في مضامينه الدلالية، وكان هذا الأمر يأخذنا من جديد إلى مقاعد الدراسة الجامعية إلى ذكرياتنا القديمة مع أساتذتنا في الماضي الذين لم يوفروا جهدا في تشكيلنا ومدّنا بالمعاني والدلالات للمفاهيم المستخدمة، وما زلنا نحاول أن نفوقهم قدرة على شرح المفهوم انطلاقا من تجربتنا كطلاب وخبرتنا كأساتذة في التفاعل مع هذه المفاهيم.
وقد يدور في الخلد عند مقاربة هذا المفهوم أسئلة كثيرة: ما الجديد الذي يمكن أن نقدمه في تفكيك مفهوم أبلى العلماء والباحثون والفلاسفة الكبار في تعريفه وتحديده؟ وما الذي يمكن أضافته إلى ماركس وغرامشي وهيغل وريكو وبورديو وغيرهم كثير في هذا الميدان؟ إنه لمن الصعب على أي مفكر أن يقدم جديدا في هذا المجال في المستويات الفلسفية. ولكن محاولاتنا هنا قد تكون مهمة جدا في تقديم تصور ربما قد يكون فاعلا في تقديم هذا المفهوم بصورة مبسطة عبر تحليل دقيق يتناول مفاصل هذا المفهوم وعمق دلالاته ليمّكن الطالب والدارس من الولوج إليه وإدراك هذا المفهوم بصورة تتيح له أن يدخل في ممارسة فلسفية لاحقة حول أكثر المفاهيم صعوبة وتعقيدا. ومن هذا المنظور وددنا أن نقدم هذه المحاولة المتواضعة للكشف عن أسرار هذا المفهوم على محك العلم في توصيفه والوصول إلى أوسع دلالاته عبر توظيف خبرتنا القديمة ومستجداتها في تناوله وفي تفكيك بنيته.
مفهوم الأيديولوجيا:
تقدم الأيديولوجيا نفسها كمنظومة من الأفكار والمعتقدات التي تمكن الإنسان من فهم العالم وتفسيره في الآن الواحد. فالإنسان لا يرى الواقع بمقاييس هذا الواقع نفسه دون إضافات خارجية، بل يدرك هذا الواقع بمقاييس نظرته الذاتية المحكومة بتصوراته وقيمه الذاتية ومعتقداته. فكل كائن إنساني يستند إلى مرجعية قيمية وثقافية تؤثر في أفعاله وفي نظرته إلى الكون، وهذه المرجعية تشكل ما يمكن أن نطلق عليه بالأيديولوجيا، وهذا يقتضي بأن الإيديولوجية هي نظرة ذاتية للعالم تتمثل في نسق من التصورات الفكرية الذهنية الدوغماتية التي تتغلغل في أعماق الوعي الإنساني للجماعات الإنسانية بوصفها تعبيرا عن الحقيقة والتفرد في امتلاكها كلها.
ولد مفهوم الإيديولوجية في معترك الثورة الفرنسية في الممارسات الفكرية لـ أنطوان ديستوت دوتراسي” (1754 – 1836) الذي استخدمه لأول مرة في عام 1796، وقد عرّف “دوتراسي” الأيديولوجية Idéologie بأنها علم جديد للأفكار، أي تعريف مرتبط بمعناها الحرفي: فالشق الأول للكلمة هو مقابل الأفكار Idéo والثاني مقابل العلم logie. وعلم الأيديولوجيا هو ذلك العلم الذي يبحث في نشأة الأفكار ويحلل جذور المفاهيم.
وقد شهد مفهوم الأيديولوجية عبر المراحل التاريخية المتلاحقة تطورات متصادمة بمضامينها واتجاهاتها. لقد شكل هذا المفهوم حقلا للتصادم والصراع بين المفكرين والمنظرين في مختلف القطاعات العلمية والمعرفية المشهورة. ومع أن هذا المفهوم يعدّ من أكثر المفاهيم شيوعا واستخداما فإنه من أكثر المفاهيم تعددا في دلالاته ومعانيه عند مستخدميه ومروجيه. ولا نبالغ إذا قلنا بان استخدام هذا المفهوم قد أصبح موضة ثقافية خرجت به عن معناه ودلالاته الفكرية. وقد تنوع استخدام هذا المفهوم في التوظيفات الشائعة ويمكن أن نسرد بعضا منها وهي: أن الأيديولوجيا تمثل أفكار الطبقة التي تسود وتهيمين، أو بأنها مجموعة من الأفكار السياسية التي توظف في خدمة طبقة أو حزب سياسي. وتعرف أيضا بأنها رؤية طبقية للعالم تنطلق تعبر عن مصالح طبقة اجتماعية، كما تعرف أيضا بأنها رؤى مزيفة للعالم.
لقد بيّن كارل ماركس في مختلف معالجاته لمفهوم الأيديولوجية أن الأيديولوجية مفهوم طبقي يوظف نفسه ويوظف في خدمة المصالح الطبقية ولا سيما الطبقة التي تسود وتهيمن. وعلى هذا المنوال فإن هذا الوعي يعمل على تشويه الحقائق وتزييفها في خدمة هذه المصالح. ويتضح أن ماركس يركز على عناصر التزييف في الأيديولوجيا ولا سيما الأيديولوجيا البرجوازية التي تتضمن مغالطات فكرية ومعرفية في خدمة مصالح هذه الطبقة. ومن هذا المنطلق شاع مفهوم الأيديولوجيا كوعي طبقي مزيف أو كوعي مزيف على الأعم.
فالأيديولوجيا، كما يراها مؤسسا الماركسية، نظام من الأفكار والتصورات التي تشكل صدى وانعكاسا للوجود الإنساني، وهي على الأغلب انعكاس مشوه للعالم الإنساني الحقيقي. وهذا يعني أن الأيديولوجيا لا ترتبط بالحركة الواقعية للتاريخ بل تعبر غالبا عن مصالح الطبقات الاجتماعية التي تهيمن وتسود في المجتمع. وفي نسق التصور الماركسي يمكن القول بأن الحد الفاصل بين الأيديولوجيا والأوهام واهن جدا وهذا يعني بالضرورة أن الأيديولوجيا غالبا ما تكون تصورات مزيفة عن الواقع تصب في مصالح طبقة اجتماعية محددة.
فالأيديولوجيا وفقا للتصور الماركسي- كما أسلفنا -وعي مزيف لا يتطابق مع الواقع ولا يتوافق مع الحقيقة بعينها إذ يهدف إلى تحقيق مصالح معينة تتمثل في مطلقات السيطرة والهيمنة والقوة والمصلحة لفئات وأحزاب وتيارات فكرية وسياسية. ويمكن تعريف الأيديولوجيا أيضا بأنّها مجموعة متماسكة ومتكاملة من الرؤى والتصورات والمفاهيم والأفكار التي تشكل المنصة العقائدية التي تنطلق منها الجماعات والأحزاب والتيارات الفكرية في فهم العالم ورؤيته على الصورة التي يجب أن تكون وفقا لمنظورهم الأيديولوجي، وتشكل هذه الأيديولوجيا المنطلق السياسي لنشاط هذه الجماعات الأيديولوجية لتي تحاول فرض أيديولوجيتها في المجتمع وتوظيف هذه الأيديولوجيا نفسها في تبرير السيطرة والهيمنة وفرض النفوذ في المجتمع. ويمكن القول في هذا السياق إن الأيديولوجيا تدفع الناس إلى رؤية مزيفة للعالم على خلاف ما هو عليه وبعبارة أدق فإن الأيديولوجيا تجعل الناس غير قادرين على رؤية الواقع كما هو بل كما يتوقعونه أو كما يجب أن يكون في منظورهم العقائدي.
ومع أهمية التصور الماركسي للأيديولوجيا فإن هذا المفهوم يتجاوز حدود المعطيات الماركسية ويفيض بعناصر وتصورات تتجاوز حدود التوظيف الماركسي المعروف. فهناك تعريفات عديدة وتوظيفات كثيرة لمفهوم الأيديولوجيا. ويمكن الإشارة في هذا السياق على التعريف الكلاسيكي للويس ألتوسر Louis Althusser (1918-1990) الذي يقضي بأن الأيديولوجيا ” نظام من التصورات يمتلك منطقه الخاص ويمارس دورا تاريخيا في مجتمع محدد ” ([1]). وغني عن البيان أن النظام الأيديولوجي بما ينطوي عليه من مضامين تصورية يشكل قوة حيوية ضرورية لطموحات المجتمع وحياته الدينامية وذلك لأن المجتمع يجد فيه مبررات وجوده وأفعاله.
وإذا استطعما أن نتجاوز المفهوم الماركسي للأيديولوجيا فإنه لمن الضرورة بمكان أيضا أن نتجاوز مفهوم الأيديولوجيا بمعناه التناحري كما يأخذه ريمون آرون R. Aron حيث تتجلى الأيديولوجيا بوصفها ” فكرة للأعداء”. وفي هذا المسار أيضا علينا أن نتجنب مفهوم الأيديولوجيا بمعناه البرغماتي والأداتي الذي يقدم الأيديولوجيا بوصفها منظومة من الأفكار التي تسعى لإخفاء الحقيقة أو لتبرير المصالح الاجتماعية ([2]). فالأيديولوجية وفقا للبرغماتية أنظمة فكرية مغلقة يزعم أصحابها أنهم يمتلكون الحقيقة ويرفضون قبول الأفكار المخالفة والعقائد الأخرى. وهي أشبه ما تكون بمعناها الشمولي بأديان وضعية شمولية، غالبا ما توظف في السيطرة والهيمنة السياسية والفكرية وضمان خضوع الجماهير. وهذا يعني في نهاية المطاف أن الأيديولوجية كيان فكري يتصف بالجمود والتحجر الفكري يعمل على إعادة تشكيل العالم بناءً على أفكار مجردة أو نظريات مسبقة.
وفي هذا السياق يرى جوردن بيترسون في كتابه (خرائط المعنى:1999) أن الأيديولوجيا ” اختيار لمجموعة معينة من الحقائق والمعلومات وعزل مجموعة أخرى تماشيًا مع رؤية الإنسان للوجود والعالم [3]. وهذه الرؤية تؤكد أن هذا الاختيار يعني رفضا مبطنا أو معلنا لكل الحقائق المغايرة وهنا تكمن إشكالية التحيز والتزييف والتعصب في الرؤية الأيديولوجية.
وغالبا ما تكون الأيديولوجيا دوغماتية، بمعنى أنها ترفض قيم النسبية والعقلانية، وتنزع إلى العنف والتعصب والانغلاق الفكري. وتختلف هذه الأيديولوجيات من حيث موضوعيتها واقترابها من العقلانية الواقعية. وغالبا ما تهدف إلى تقديم تصورات تتمحور حول غايات محددة خارج الحقيقة نفسها وبدرجة عالية من الانفصال عن الواقع عينه. وهنا وفي هذا السياق يجب التمييز بين الدين والأيديولوجيا، فالدين كيان عقائدي يربط بين الإنسان والله ومع الصبغة العقائدية الكامنة فيه إلا أنه يطفح بالقيم الإنسانية الشاملة وغالبا ما يتسم بطابعه الإنساني الغائي الخلاق. وعلى خلاف ذلك فالأيديولوجيا الدينية تعني توظيف الدين في تبرير المصالح والجماعات والقوى السياسية وتعمل على تقديم تفسيرات دوغماتية للظواهر الاجتماعية والطبيعة وفق منظور معين ومصالح معينة.
وتمارس الأيديولوجيا السوداء دورا خطيرا في المجتمعات الإنسانية ولاسيما عندما تبلغ درجة الهيمنة والسيطرة في المجتمع، فكثير من الحروب قد نشبت بتوجيه الأيديولوجيات وكثيرة هي في التاريخ الحروب العنصرية التي أدت إلى إبادة أجناس بشرية تحت ضغط الأيديولوجيات العنصرية في التاريخ وتكفي الإشارة إلى الكوارث الدموية وحروب الإبادة التي حدثت بتأثير الأيديولوجيات العمياء كالأيديولوجيات النازية والفاشية والصهيونية والشيوعية والأيديولوجيات الدينية المتطرفة بمختلف أنواعها.
ومما لا شك فيها أن الأيديولوجيات يشتد وطيسها في حمأة الصراعات والأزمات السياسية والاجتماعية والوبائية، وتبرز قوتها في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وهي في غالب الأحيان تظهر في وقت الكوارث والنوائب والجوائح التي تهدد كيان المجتمعات الإنسانية وتشكل خطرا على وجودها.
وعندما يتحول الفكر الديني إلى ايديولوجيا فإنه يتحرك بعيدا عن دوره بوصفه علاقة خلاقة بين المخلوق والخالق تقوم على الإيمان والعقلانية في النظر إلى الحياة والوجود. وغالبا ما يلتصق مفهوم الأيديولوجية – في سياق استخدامنا – بالطابع التبريري التلفيقي المتحيز لاتجاهات فكرية محددة توظف في خدمة السياسة والمال والاقتصاد والطبقة الاجتماعية.
وتختلف الأيديولوجيات فيما بينها باختلاف درجة العقلانية الكامنة في مكوناتها فهناك ايديولوجيات مختلفة متطرفة ومعتدلة ومتسامحة وعقلانية وخرافية وتعصبية، ولكل منها طبيعتها الخاصة فيما يتعلق بقدرتها على تناول الواقع وتغليفه بطاقة ذهنية من التصورات والمفاهيم المتنوعة. ويتنوع تعريف الأيديولوجيا بتنوع الاتجاهات الفكرية فالليبراليون على سبيل المثال يرون بأن الأيديولوجيا منظومة عقائدية تدعو إلى احتكار الحقيقة وتزييفها، بينما ينظر الماركسيون إلى الأيديولوجيا بوصفها تجسيداً لوعي زائف يغطي التناقضات القائمة في المجتمع الطبقي، كما أنهم يعتقدون بوجود أيديولوجيات متعددة تتناسب مع تعدد الطبقات الاجتماعية فلكل طبقة اجتماعية أيديولوجيتها الخاصة بها على صورة منظومة فكرية توظفها على نحو يتكامل مع رؤيتها الطبقية للحياة الاجتماعية والسياسية. ولا يتردد الأصوليون في توظيف النص الديني على نحو أيديولوجي فيجعلون من المقدس نمطا أيديولوجيا وينطلقون منه لتشكيل برنامج سياسي شامل لتحقيق الإصلاح الديني والاجتماعي المتوافق مع تطلعاتهم الأيديولوجية.
وظيفة الأيديولوجيا
ويوجد شبه إجماع بين النخب الفكرية من المفكرين أمثال كلود ليفي سترواس، ورولان بارت، وكارل ماركس وكارل مانهيام، ولوي التوسر، وبول ريكور، وغيرهم كثير، على أن الوظيفة الأساسية للأيديولوجيا تتمثل في تشويه الواقع وتزييف الحقائق، ويرى بول ريكور في هذا السياق أن الأيديولوجيا تمارس ثلاث وظائف تعمل بمستويات مختلفة وفق آليات التشويه والتبرير والإدماج. وعبر هذه الآليات الثلاث تقوم بإنتاج وإعادة إنتاج الوهم والخداع، ومن هذا المنطلق يمكن الاستنتاج عمليا وفق ريكور بأن الأيديولوجيا تنتج الوهم وتشوه الواقع وتقوم بعملية التبرير غير العقلانية للأفكار والوقائع وتلك هي وظيفتها المتجذرة في تكويناتها الشمولية المغايرة للواقع والحقيقة [4].
ومهما اختلفت التوجهات الأيديولوجية يمكننا أن نميز في الفكر الأيديولوجي عدة سمات، أهمها، أن الفكر الإيديولوجي غالبا ما يكون فكرا دوغماتيا عقائديا يرفض النسبية ويدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملة، والفكر الإيديولوجي ينزع إلى التعصب مجردا مكن أي لبوس عقلانية وواقعية، وفي الأغلب يكون فكرا مزيفا متحيزا ومتعصبا. وقد يعتمد الفكر الإيديولوجي على منظومات من الحقائق ولكنه يقدما في أطر تفسيرية تسعى لتزييف الحقيقة نفسها وتغليف المقاصد العدائية على نحو يبدو عقلانيا من حيث الهيئة والصيغة الشكلية. ومن سماته أيضا أن هذا الفكر ينظر إلى كل من يخالفه نظرة عدائية ويمتثل الشعار الذي يقول: “من لا يؤمن بأفكارنا عدو تجب إبادته”. وهذا يعني أن الفكر الأيديولوجي فكر محارب لا يهادن ولا يستكين، فهو دائما في حالة ترصد وهجوم ودفاع وذلك من منطلق أن العالم الخارجي يفيض بالعدوانية والشر والمصائب، وهذا يوجب على أصحاب الأيديولوجيا الدفاع عن وجودهم ومصيرهم أيديولوجيا من خلال الهجوم على الآخر بوصفه خير وسيلة للدفاع.
ويمكن تعريف الأيديولوجيا في سياق الوظيفة السياسية بأنّها مجموعة متماسكة من الأفكار تضع أساساً للنشاط السياسي المنظم، سواء قصد به الحفاظ على نظام القوة القائم، أو تعديله، أو الإطاحة به، ولذلك تتصف جميع الأيديولوجيات بأنّها تقدم توصيفاً للنظام القائم، ونموذجاً للمستقبل المرجوّ، وتفسر كيف يجب ويمكن إحداث التغيير السياسي”. وبصورة عامة فإن الناس المؤدلجين لا يرون الناس العالم كما هو بل كما يتوقعونه وكما يجب أن يكون وفق المعتقدات والافتراضات الأيديولوجية المتأصلة في وعيهم.
بين خطاب الأيديولوجية وخطاب العلم:
يمكن لأي تعريف يقدم للأيديولوجية أن يطرح نسقا من التساؤلات الإشكالية ولا سيما عندما يتعلق الأمر بطبيعة العلاقة بين هذا المفهوم والمفاهيم التي تترامى على أطرافه وتعد العلاقة بين هذا المفهوم ومفهوم العلم من أكثر العلاقات تعقيدا وتشابكا.
فعندما نحاول تفكيك مفهوم الإيديولوجية نجده يتضمن نسقا من ثلاثة عناصر أساسية هي:
1- تقدم الأيديولوجيا تصورًا للعالم عبر منظومة من المفاهيم والمقولات والتصورات.
2- تقدم تفسيرا لهذا العالم بما ينطوي عليه من مكونات وعناصر وأنساق.
3- تقدم تصورات منظمة لإمكانيات تغيير العالم وتحويله إلى طاقة مستقبلية في خدمة البشر.
وهذا يعني أن الأيديولوجية منظومة فكرية تقوم بوظائف الكشف والتفسير والتنبؤ وتضع المعايير الضرورية لتغيير العالم على نحو ما يتوافق مع مقدمات هذه الأيديولوجية وشروطها.
وهذا يعني أن الأيديولوجية تتخطى حدود “ما هو كائن” إلى ما ينبغي أن يكون، وتتجاوز حدود الفهم إلى مقتضيات التأثير والفعل فهي تسعى إلى تغيير العالم وفقا لمنظومة المقولات التي تفسره. إنها بناء يدعو إلى التغيير في الكون بناء على فهم محدد لهذا الكون.
ويختلف الخطاب الإيديولوجي عن الخطاب العلمي Un discours scientifique بصورة جوهرية ونوعية تتعلق بالغايات التي يسعى كل منهما إلى تحقيقها. فالخطاب العلمي يبحث في الحقائق الموضوعية التي تفرض نفسها في دائرة الواقع وهي تعمل على وصف هذه الحقائق وتفسيرها بمقاييس الواقع نفسه دون إضافة أو تحيز ذاتي يتعلق بهذه الحقيقة. وهذا يعني أن الخطاب العلمي يتجه إلى عقولنا ويخاطب ذكاءنا. وعلى خلاف هذا فإن الخطاب الإيديولوجي discours idéologique – وإن كان يأخذ صورة خطاب علمي- فإنه يقودنا أو يحملنا على الاقتناع بالحلول المقترحة والأفكار المتضمنة في بنية هذا الخطاب. وهذا يعني أيضا أن الخطاب الإيديولوجي يوجهنا نحو الفعل والممارسة وفقا لمقتضياته وخصوصياته. ويتميز الخطاب الأيديولوجي بأنه أكثر قدرة وفعالية وقدرة على الحضور والتأثر لأنه يشحن مضامينه بقيم تأخذ مكانها المميز في عقل الجماهير ووجدانها، وهو بذلك يحشد عقول الناس ويستلهم قيمهم ويفجر طاقتهم في دائرة الفعل والعمل. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الأيديولوجيا تشكل نواة الحقيقية للثقافة الاجتماعية السائدة في مجتمع محدد. ومن خلال الأيديولوجيات السائدة في المجتمع يمكننا أن نضع اليد على أهم القضايا التي تحرك الجماهير في المجتمع فهي تتضمن القيم التي يؤمن بها الناس وتنطوي على إمكانيات الفعل التي يخفيها البشر لأنها تبلور معتقدات الناس وتحدد غاياتهم وترسم حدود وسائلهم الممكنة في فعل الحياة وممارساتها.
فالقيم العقائدية تشكل منطلقا إلى الأيديولوجيا، والأيديولوجيا تعني نوعا من التنظيم للأفكار والمبادئ الذي يقدم رؤية للكون، والأيديولوجيا كالعقيدة بناء عقلي يؤسس لتفسير وتبرير رؤية الإنسان إلى الوجود ومن ثم يعطي للسلوك دلالة ومعنى، وهذا يعني في نهاية الأمر تبرير القيم الأساسية البنيوية للعقلية حيث تكون الأيديولوجيا هنا تعبير عقلاني.
ففي ترحالها بحثا عن الحقيقية تغتذي الأيديولوجيا بنسق من القيم وتتداخل في تكويناتها أنساق الحقائق مع أنساق القيم ويترتب على هذا عدم وجود فواصل واضحة بين مكونات الأيديولوجية والحقيقية. لقد كانت الأيديولوجية هي العدو اللدود للحقيقة عند كارل ماركس فهي دائما وعي مزيف لأنها وعي طبقي تصنعه الطبقة الحاكمة في تبرير الاستغلال والقهر.
فالأيديولوجيا معرفة قوامها مزيج من القيم والأحلام والتطلعات. إنها لا تكتفي بالكشف عن الحقيقية بل تعمل على تزينها أو تزييفها بالقيم والطموحات، وهذا يؤدي إلى تزييف هذه الحقيقية. فالأيديولوجية تتجاوز حدود الحقيقية لتحدد للناس خرائط تفكيرهم وسلوكهم. إنها عالم يموج بالحقائق إذ تتمازح بالقيم وتختلط بالتطلعات وتفيض بالقيم المتعارضة. ولأن الأيديولوجية تزوِّد الأفراد بخرائط فكرية للواقع الاجتماعي وتحدد لهم نماذج نمطية للسلوك فإنها تعمل على تكوين منظومات من العلاقات بين الأفراد والجماعات من ناحية، وبين هذه الجماعات وتكوينات السلطة والقوة في المجتمع من ناحية أخرى، وهي بذلك توظف في دعم أبنية السلطة القائمة والترويج لأفكارها وتعزيز هيمنتها.
خاتمة
ما قدمناه في هذه المقالة يمثل محاولة سريعة ومقتضبة لفهم الأيديولوجيا على محك العلم أو المعرفة العلمية. وتجدر الإشارة في هذا السياق أن بعض الباحثين يستخدم مفهوم الأيديولوجيا العلمية ويزعمون أنها نمط من الأيديولوجيات التي تقوم على أسس علمية بمعنى أنها تقلّص المسافة بين الوعي الذي تقدمه وبين الواقع الذي تقاربه. ومهما يكن يجب علينا بداية ألا نجهل أن بعض الأيديولوجيات مارست دورا تاريخيا في النضال الوطني ضد المستعمرين وفي تطوير مجتمعاتها. وهذا يعني أن الأيديولوجيا ظاهرة اجتماعية صميمية في حياة المجتمع ووجوده. ولكن خطرها يتمثل في الأيديولوجيات الظلامية السوداء المنتفخة بقيم التعصب والعنف. ومهما يكن فإن الأيديولوجيا تصبح إنسانية أكثر عندما تقترب من الواقع وتعبر عنه. فالعلم يعتمد على التجربة ويقدم تصورا موضوعيا للواقع ولكن الأيديولوجيا تعتمد على المخيال وتقارب الواقع مقاربة تبريرية تزييفية في كثير من الأحيان. والعلم نسبي بينما تأخذ الأيديولوجيا طابع الاطلاق والشمولية. العلم يقوم على النقد بينما لا يمكن للنقد أن يجرح جدران الأيديولوجيا ويخدش حياءها.
مراجع المقالة :
[1] -Herve Martin , Mentalités médiéval X1-XV, Nouvelles Clio. P.U.F., Paris , 1996 , P 6.
[2] – Servier J., L’ideologie , P.U.F., Paris 1982.
[3] – إبراهيم الكلثم، الإيديولوجيا والمعنى: بين جيجك وبيترسون، معنى 19، أبريل، 2019.
https://mana.net/archives/1500
[4] – Paul Ricoeur, L’idiologie et l’utopie, éditions seuil, Paris, 1997.
29 تعليقات