يعتبرُ الفَسَادُ من أهم العوامل المؤدية إلى فشل التنمية في عالمنا العربي.. والفساد المقصود هنا ليس اقتصادياً فحسب، بل هو بالدرجة الأولى والعنوان الأولي، فساد السياسة والقرارات والخطط واستراتيجيات العمل المبنية حول التنمية وضمنها..
نعم، للفساد أشكال وأوجه عدة يتمظهر فيها، فهناك الفساد السياسي، وهناك الفساد الاقتصادي والفساد الاجتماعي والثقافي.. وغيرها.. ولكن بكل وجوهه وتمظهراته، ليس الفساد سوى خطر ماحق وغائلة كبرى تصل حدود الطاعون الذي يأكل الجسد السليم ويحوله رمماً.. بل هو سرطان يلتهم مظاهر التقدّم وقواعد النمو لأية أمة أو أي مجتمع.. وكل أمة أرادت أن تتطور وتتقدم وتتكامل على طريق تحقيق سعادة شعوبها وازدهارهم ورفاهيتهم، كان الواجب عليها يلزمها بضرورة العمل الدائم على مكافحة الفاسدين، والخلاص من الفاسدين بصورة شبه كاملة، لأنه الخطوة الحيوية الأهم في تنمية الأمة ومجتمعاتها.. فما انحدرت أمّةٌ بعد تقدّمها إلا وكان الفساد هو السبب الجوهري لانحدارها وارتكاسها وبقائها رهن التخلف والاستلاب والامعية الحضارية على كل الصعد والمستويات.. ومع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي بين الدول، واتساع رقعة ومساحة النشاط الاقتصادي المتزايد لرفع القدرة التنافسية للمنتجات، وضمان تسويقها ووصولها السريع للمستهلك، ينتشر الفساد، وتتزايد معطياته وأرقامه في كافة بلاد المعمورة، بقطع النظر عن الطبيعة السياسية لتلك البلدان..
حيث أنه غالباً ما تترافق -مع سياسات الانفتاح الاقتصادي المطبق في معظم دول العالم- عملية توسع كبيرة في نطاق سير وانتقال للأموال، وحركة غسيل كبيرة للأموال التي يمكن أن تكون على صلة بالجريمة المنظمة، وشراء النفوذ والولاءات، وتشديد الرقابة على الحدود الدولية لمنع الهجرة والتهريب.. حيث يلاحظ أنه وبعد انتهاء الحرب الباردة –مع بروز ظاهرة العولمة- انتشرت بكثافة ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات (عابرة للقارات-الكوكبية)، التي تبلغ رساميلها ودورتها الاقتصادية تريليونات الدولارات، مما جعلها تسيطر في الواقع على مجمل النشاط الاقتصادي العالمي.. كما رافق ذلك تغيرات مهمة في آليات الاقتصاد التقليدي السابق، مما جعل ويجعل الاقتصاد العالمي الحالي اقتصاداً جديداً يختلف عما سبقه، مع تعزيز وتشديد وتصعيد للاستغلال الرأسمالي، مما يتبعه حتماً انتشارٌ للفقر لا مثيل له، في كل أرجاء العالم.. وبلداننا العربية ليست استثناء من هذه المشكلة المتفاقمة، خاصة مع التكالب على المنافع الشخصية والرغبة الجامحة في الهيمنة والتسلط.
لقد وصلت حالةُ التّرهل وضعف المسؤوليات واستشراء الفساد في كثير من مواقع العمل لبلداننا العربية، حدوداً كبيرة باتت تحتاج معها إلى هزات صاعقة وضربات قانونية كبيرة حاسمة ماحقة من قبل الجهات الوصائية الكبيرة المسؤولة المعنية..
فمتى ستحدث هذه الصدمة والضربات القوية المطلوبة بشدة؟!.. وهل ستبدأ عجلة القانون بالتحرك السريع والقوي والفاعل لتأخذ مجراها بحق كثير من رموز الفساد وشخصياته المترهلة والمرتكِبة سواء المالية أو الإدارية أو غيرها، في كافة مواقع بلادنا العربية؟!!
والفساد هنا لا يعني فقط نهب المال العام، والارتكاب الوظيفي والتنفّع (التربُّح) من وراء الكرسي والمنصب (الذي تحول لدى الكثيرين إلى مزرعة خاصة وكأن الشركات والدوائر ملكهم الشخصي)، واستغلال الوظيفة العامة لمآرب خاصة، بل هو بمعنى آخر، الفساد الإداري وعدم القدرة على الإنتاج والتطوير، والارتهان للحالة السلبية والعقلية البيروقراطية المحافظة..!!!..
وتزداد حالات الفساد في بلداننا مع التوجه فيها نحو موضوع الاستثمارات ضمن مجالات وقطاعات محددة هي بذاتها تخلق بيئة مثالية لنمو الفساد.. وهذه الاستثمارات الدارجة في معظم بلدان العرب هي استثمارات بذخية ادّخارية استهلاكيّة، تبغي الربح السريع، بما يؤدي إلى نمو نخبٍ طفيلية لا يهمها سوى التربّح الفاحش السريع، ولو على حساب بناء مقومات اقتصادات قوية لتلك الدول..
يعني هي اقتصادات خدمية يستثمر فاعلوها في قطاعات الخدمات والتجارة والتسليع السوقي، وهذه لا تبني دولاً قوية، يبنيها فقط الاقتصاد القائم على الصناعة والزراعة وتنمية مهارات الأفراد علمياً ومهنياً وتقنياً، ليكون اقتصاداً صناعياً منتجاً لا ريعياً خدماتياً مستهلكاً..!!.
إننا نعتقد أن مكافحة الفساد لن تنجح إلا من خلال وعي ما يلي:
1-إعطاء الناس حقوقهم وتأمين حاجاتهم، وبناء أسس سياسية قوية لحضورهم في المجال العام.
2-تحديث القوانين وتطوير واقع عمل مؤسسات بلداننا العربية.
3-إخضاع كل المؤسسات والإدارات للقانون وللسلطات القانونية والرقابية وعدم استثناء أيٍّ منها.
نعم، إن مكافحة الفساد ترتبط مباشرة بتهيئة الواقع السياسي والاجتماعي والتنموي والثقافي من خلال دفع الناس لتحمل مسؤولياتها في عملية المكافحة، وذلك بخلق أجواء سياسية مجتمعية لمشاركتها الفاعلة بالقرار والمصير.. إذ لا تطور ولا تنمية ولا مكافحة للفساد، بلا حياة سياسية حقيقية تقوم على مبدأ المواطنة وإفشاء الحقوق وإشاعة الحريات وإعادة السياسة إلى المجتمع..
أي لا تطور بلا إصلاح وعقلية إصلاحية جديدة، وقبل ذلك إرادة جدية حقيقية.. والعقول السياسية الرسمية العربية المقفلة على مصالحها ومنافعها الواسعة، ليس لها مصلحة حتى في ذكر كلمة “إصلاح”، بل مصلحتها تتركز في إبقاء الأمور والأوضاع السياسية العامة ثابتة ومرتهنة لقوى الأمر الواقع الإفسادية..
..وبطبيعة الحال، الفساد موجود وقائم حتى في أقوى وأرقى النظم الديمقراطية وأعتى الديكتاتوريات العسكرية على حد سواء، ولكن المختلف بينهما أسس وطرائق المعالجة من حيث شيوع الإعلام الحر القادر على النقد والمساءلة وملاحقة الفساد والفاسدين، ووجود هيئات ومؤسسات المجتمع المدني، وتوفر مختلف آليات العمل السياسية (الديمقراطية كآلية لممارسة السلطة) التي تسمح لكافة أحزاب وتيارات ومؤسسات ونخب المجتمع -التي تشتغل كحكومة ظل- بالمشاركة في صنع القرار وممارسة الحكم وتسليط الضوء على المناطق القصية والخفية في الدولة لمنع انتشار الفساد وسلوكياته أو التقليل من حجم استشرائه وتفشيه..
ويمكن للدول أن تتكامل مع بعضها بعضاً للسيطرة على جماح هذا المرض، عبر سياسات تكاملية واتفاقات اقتصادية وتنموية ومواثيق قانونية مشتركة، مع أن الدول ليست جمعيات خيرية تعمل بالمجان وبلا غايات وأغراض واضحة أو مبيّتة.. وفي هذا العالم لا يوجد شيء بالمجان أو لوجه الله، خاصة في العلاقات بين دول هي بالأساس تتقوم بالمصالح المتبادلة لا بروحية الأخلاق والتعاون الإيجابي الحر.. فهذا قانون سياسي واجتماعي يعمل في كل الأوقات، وصالح لكل الأزمان منذ فجر الخليقة وسيستمر إلى أبد الآبدين.. فما بالنا اليوم، والناس والبشر والدول كلها دخلت في مآزق اقتصادية ومشكلات مالية وتعقيدات اجتماعية وتنموية وتسويقية وووإلخ، وربما دخلت في حالة ركود اقتصادي شديد قد يفضي إلى كساد عميق وواسع مكلف وطويل الأمد، بسبب هذا الفايروس اللعين الذي انتشر خلال أسبوع أكثر مما انتشر وتفشى خلال أربعة أشهر سابقة..
لهذا نعيد ما قلناه سابقاً في مقالات ومنشورات من أنه ما حكّ ظفرك مثل جلدك، وأنه على الدول التي تعيش في أزمات ودوّامات معاشية ومعيشية وسياسية وحروب داخلية لها آثارها السلبية على غير صعيد خاصة على صعيد موضوع الفساد المنهك والمحطم للمجتمعات، أقول: على تلك الدول التي تعاني ما تعانيه أن ترتد إلى داخلها لتعيد بناء ونسج علاقات فاعلة برؤى جديدة متينة منفتحة وتشاركية مع مختلف أطيافها وانتماءاتها وتكويناتها التاريخية والاجتماعية ومختلف فواعلها السياسية..
فالبداية الصحيحة تكمن هنا، من هذا الطريق لتصحيح المسارات وترميم النظرات والقناعات، وإعادة ضبط المرتكزات بروحية جديدة ونبض جديد… فالاقتصاد والسياسة والعلاقات بين مفردات المجتمع وفواعله المتعددة إنما تستمد وجودها وقوتها في الأول والأخير من الإنسان ذاته، من إرادته ووعيه وإيمانه بالآخر، عن قناعة وحقيقة واقعة لا شكلية منفعلة وغير فاعلة..
وهذا الإنسان ليس له أولويات معجِزة، فهو لا يريد أكثر من الخبز، الحرية، الكرامة الإنسانية.. وهي فقط أولوياته، أولويات هذا الإنسان-المواطن العربي من المحيط إلى الخليج..!!.
فهل يحتاج تحقُّقها إلى تدخلات ما وراء طبيعية وفوق بشرية؟!..
إن التغيير في عالمنا العربي بات اليوم مطلب المطالب، ولكن التغيير الحقيقي المرتقب، الناجح والمضمون، المنتج والمزدهر، هو التغيير الذي يقوم على خيارات الناس، ويرتكز على إرادتهم ومشاركتهم ووعيهم..!!.. رغم أن كلُّ ما نشاهدُهُ في عالمنا العربي المنقسم والمفكك والمفعول به على كل المستويات، يدلّ على أنّ التغيير صعب، وأنّ المخاضات عسيرة ومضنية، وطريق الخلاص طويلة وصعبة، والمشوار إلى بناء دولٍ عربية حديثة تعددية ومدنية (يُحترم فيها المواطن كذات حرة، ويسودها القانون العادل على الجميع) ما زال طويلاً جداً جداً.. وسوف يكون نافراً ومليئاً بالأشواك والحجارة للأسف الشديد… كما وسوف تكون الأثمان باهظة للغاية.. مع استمرارِ القلق الدائم للفرد على أمنه ومستقبله وغياب تنميتِه والنقصِ الكبير في الخدماتِ المقدّمة إليه من بنى تحتية وخدمات صحية وغيرها..
ينظرُ الفردُ العربيُّ حوله في بلدانه -التي يتلاعب بها الآخرون- فلا يجد سوى الحروبِ والصّراعات والطائفيات والفساد والنهب والاستبداد والهيمنة والاستلاب وانعدام تطبيق القانون.. ويقولُ كما قال غيره: ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان..!!..
4 تعليقات
اتفق معك ، حيث لا يمكن دفع عجلة التنمية والسير نحو التطور و الاصلاح الا في وجود خطة استراتيجية مخطط لها بعيانية من أجل اجتثاث الفساد بكافة اوجهه واشكاله .
مقال جميل وملفت 👍🏻
تعد ظاهرة الفساد ظاهرة قديمة قدم المجتمعات الإنسانية فقد ارتبط وجود هذه الظاهرة بوجود الأنظمة السياسية والتنظيم السياسي وهي ظاهرة لا تقتصر على شعب دون آخر أو دولة أو ثقافة دون أخرى إلا أنها تتفاوت من حيث الحجم والدرجة بين مجتمع وآخر وبالرغم من وجود الفساد في معظم المجتمعات إلا أن البيئة التي ترافق بعض أنواع الأنظمة السياسية كالأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية تشجع على بروز ظاهرة الفساد وتغلغلها أكثر من أي نظام آخر بينما تضعف هذه الظاهرة في الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على أسس من احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة وعلى الشفافية والمساءلة وسيادة القانون .
مقال رائع 👍🏻
يصنف الفساد في الأنواع التالية:
الفساد السياسي : إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومة) من قبل النخب الحاكمة لأهداف غير
مشروعة كالرشوة، الابتزاز، المحسوبية، والاختلاس.
الفساد المالـي : يتمثل بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة
القواعد والأحكام المالية التي تنظم
سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها.
الفساد الإداري : يتعلق بمظاهر الفساد والانحرافات الإدارية
والوظيفية أو التنظيمية وتلك
المخالفات التي تصدرعن الموظف العام خلال تأديته لمهام وظيفته الرسمية
ضمن منظومة التشريعات والقوانين والضوابط ومنظومة القيم الفردية .
تعتبر ظاهرة الفساد من أخطر المظاهر السلبية المنتشرة في الدول، وأكثرها فتكاً بالأمن والسلم المجتمعي؛ ذلك أنّها تصيب مفاصل حيوية ومؤثرة في الدولة، كالصحة، والتعليم وغيرها من مؤسسات الحكم والدولة المختلفة، فالمال، والرشوة، والمحسوبية تعتبر العناوين الكبرى في هذه الظاهرة، ومن هنا كانت هيئات قد تطوّعت في مكافحة الفساد، وأخرى لها جانب رسميّ رقابي من الدولة نفسها. مكافحة الفساد إنّ فكرة مكافحة الفساد تتمحور حول تتبّع مواطن الفساد الإداري في مؤسسات الدولة المختلفة، والعمل على تغييرها بالمناقشة حيناً، وبالمتابعة مع ذوي صنع القرار حيناً آخر، وبالنشر عبر وسائل الإعلام إن لزم الأمر، إذاً هذه مهنة شاقّة ورسالة عظيمة، وقد يترتب عليها المتاعب العديدة، ولا سيّما إن كان من يقوم بذلك من ذوي القيم والمبادئ الراسخة الأصيلة، فهذا لن ينجو من تشهير، أو سجن أو ملاحقة، ولكن من أجل المبادئ والقيم، فلا ضير إذاً، فهذه رسالة العظماء.من يضطلع بهذه المهمّة الشاقّة لا بدّ له من مؤهلات تنطلق من قوّة الشجاعة، وقوّة الإرادة، مروراً بالوعي وسعة الثقافة والعلم بالقوانين التي تحكم سير المؤسسات الرسميّة وتنظّم أعمالها، بالإضافة إلى القدرة على تحمّل تبعات مواقفه، ولا بدّ له أيضاً من قيمة الثبات على المبدأ، والحياديّة، وعدم وجود مآرب شخصية، ويتوّج ذلك كله روح الانتماء الحقيقي للوطن، والقيم والمبادئ، ولا بدّ من توفر غطاء رسمي داعم لأعماله.