تلخيص:
تعد دراسة المتخيّل في الفكر الدينيّ المسيحيّ من الدراسات المهمّة التي تساعد على سبر أغوار هذا الفكر وفهم آليات اشتغاله، وطبيعة علاقته بالفكر الدينيّ العام الّذي يبدو فيه المتخيّل عنصرا شبه قار. كما يعتبر هذا النوع من الدراسات محاولة في تفكيك البنيّة الثقافيّة لمجموعة بشريّة تنتمي إلى السجلّ الثقافيّ الدينيّ نفسه. ويتنزل ذلك في سياق ما تتيحه الدراسات والمناهج الحديثة – الأنتربولوجيا، علم النفس، وعلم الاجتماع وعلم الأديان- من إمكانات معرفيّة وفكريّة تخرج المقاربة من دوائر القراءة الإيمانيّة إلى دائرة المقاربة الفكريّة العلميّة، بغية كشف كنه الممارسات الدينيّة، وكشف خبايا التفكير والإحاطة بمظاهر الخطاب الدينيّ في الثقافة المسيحيّة. وقد اخترنا التوقف عند صورة الحيوان في المتخيّل المسيحيّ سعيا إلى النظر في اللامعقول الدينيّ ودراسة التحوّلات التي شهدها في رحاب فكر يمزج بين الواقعيّ والأسطوري.
الكلمات المفاتيح: (متخيّل، حيوان، المسيحيّة، القديس)
Abstract:
The study of the imaginary in Christian religious thought is one of the important studies that helps to explore the depths of this thought and understand the mechanisms of its operation, and the nature of its relationship to general religious thought in which the imagined is a semi-permanent element. This type of studies is also considered an attempt to deconstruct the cultural structure of a human group belonging to the same cultural-religious record. This is revealed in the context of the cognitive and intellectual potentials offered by modern studies and curricula – anthropology, psychology, sociology, and religion science – that extends the approach from the circles of faith reading to the circle of the scientific intellectual approach, in order to uncover the essence of religious practices, uncover the mysteries of thinking and surrounding the manifestations of religious discourse in Christian culture. We chose to stop at the image of the animal in the Christian imaginary, seeking to examine the religious absurdity and the studies of the transformations that it witnessed in the context of a thought mixing between the real and the myth.
Key Words: (Imaginary, Animal, Christianity, Saint)
1- مقدمة:
يقف المتأمّل في التراث الدينيّ باختلاف توجهاته وميادينه، عند كمّ هائل من المتخيّل الّذي يكاد يكون لبنة من لبنات البناء العقائدي، فيحضر اللامعقول باعتباره حقيقة لا ريب فيها، تستمدّ مشروعيتها من خلال مقولة تدخل الله في التاريخ، لذلك، فإنّ المؤمن يصدّق الخطاب مهما كانت درجة حياده عن المنطق، لأنّه خطاب منسجم في تفاصيله مع المنظومة الدينيّة في شكلها الكليّ. وتعد دراسة المتخيّل في الفكر الدينيّ المسيحيّ من الدراسات المهمّة التي تساعد على سبر أغوار هذا الفكر وفهم آليات اشتغاله، وطبيعة علاقته بالفكر الدينيّ العام. كما يعتبر هذا النوع من الدراسات محاولة في تفكيك البنية الثقافيّة لمجموعة بشريّة تنتمي إلى السجلّ الثقافيّ الدينيّ نفسه. ويتنزل ذلك في سياق ما تتيحه الدراسات والمناهج الحديثة – الأنتربولوجيا، علم النفس، وعلم الاجتماع وعلم الأديان- من إمكانات معرفيّة وفكريّة تخرج المقاربة من دوائر القراءة الإيمانيّة إلى دائرة المقاربة الفكريّة العلميّة، بغية كشف كنه الممارسات الدينيّة، وكشف خبايا التفكير والإحاطة بمظاهر الخطاب الدينيّ في الثقافة المسيحيّة. وقد اخترنا التوقف عند صورة الحيوان في المتخيّل المسيحيّ سعيا إلى النظر في اللامعقول الدينيّ ودراسات التحوّلات التي شهدها في رحاب فكر يمزج بين الواقعيّ والأسطوري.
2- قراءة في مفهوم ” المتخيّل”:
حظي المتخيّل بالدراسة والتفكيك باعتباره من الظواهر المرتبطة بثقافة الإنسان منذ القديم، وقد ورد في تعريفه بكونه “اسم مفعول من تخيّل، وهو مشتق من مادة (خ، ي، ل)، خال الشيءَ يخالُ خيْلاً وخيلَة وخَيْلَة وخالاً وخِيلاً..: ظنّه، وفي المثل من يسمعْ يَخَلْ، أي يظنّ.. وخيّلَ عليه: شبَّهَ. وأَخَالَ الشيء اشتبه.. والسحابة المتخيّل ولمتخيّلةُ والمخيّلُةُ التي إذا رأيتها حسبتها ماطرة[1].الصور المحسوسة والمعاني الجزئيّة المنتزعة منها وتصرّفها فيها بالتّركيب تارة والتفصيل أخرى”[2] وكلمة متخيّل في المستوى الاصطلاحي ترجمة لكلمة (Imaginaire) التي تعود في الأصل إلى الكلمة اللاتينيّة (Imaginarius) ويقصد بها الشيء الذي لا وجود له في الواقع، أو ذاك الذي لا وجود له إلاّ في ذهن الإنسان، فهو عبارة عن صورة ذهنيّة. وقد عرف استعمال هذه الكلمة تحوّلا انطلاقا من القرن التاسع عشر ليدلّ على مجال الخيال ويتحوّل تدريجيّا إلى مفهوم إجرائي معتمد في دراسة الظواهر الاجتماعيّة، والطبيعيّة، والأعمال الأدبيّة، والأساطير والأديان.. مع كلّ من باشلار (Gaston Bachelard) وكاستورياديس (Cornelius Castoriadis) وجيلبار ديران. (Gilbert Durand).. فالمتخيّل أضحى حصيلة ما تفرزه عمليّة التخيّل أو القوّة التخييليّة. فـ “المتخيّل هو موضوع التخيّل وموضوع الخيال أيضا، وهو نتاجهما، وهو كذلك موضوع الخيال في حالة ما إذا كانت علاقتنا بالمتخيّل أكثر صرامة وتحديدًا وتبلورًا، والمتخيّل قد يكون فرديًّا وقد يكون جماعيًّا، وقد يكون متعلّقًا بحالة سويّة أو مرضيّة”[3].
يمكننا القول إنّ المتأمّل في مفهوم “المتخيّل الديني” يقف عند عديد القضايا المتداخلة وذلك نتيجة شبكة العلاقات المفتوحة التي يتحرّك داخلها. وإنّ انفتاح هذه الشبكة يعود إلى ثراء المجالات التي يحضر فيها المتخيّل عموما والمتخيّل الديني بوجه خاصّ. يعتني دارس المتخيّل بكلّ ما يتعلّق بالذاكرة والخيالات والأحلام، وما يتعلّق بالتعبير عبر الصور، والرموز، والأشكال والأيقونات، وما يكون تعبيرا فرديّا أو تعبير جماعة أو تعبير ثقافة، وما يكون جامعا بين الفردي، الفنّان أو المريض أو السياسي…، والجماعي، وما يعبّر عن العقائد غير المبرّرة منطقيّا، أو ما قد يبرّر منطقيّا ولكنّه ينحو نحو “اللامعقول”…[4] وعادة ما تحضر عديد المفاهيم في الدراسات الخاصّة بالمتخيّل، وهي مفاهيم وجّهت الدراسات الأنثروبولوجيّة الحديثة مثل مفهوم العقليّة (mentalité)[5] ومفهوم التمثّلات الاجتماعيّة (représentations sociales)[6]، و المعنى الخفيّ (sens caché)[7]، ومفهوم المعنى النمطيّ (stéréotype, préjugé)[8]، ومفهوم النموذج (modèle) أو قاعدة السلوك (norme)[9]، ومفهوم النظام والنسق (système)[10].
ويعود الاهتمام بهذه الدلالات وتمييزها عن المعاني إلى أنّ المتخيّل عموما والمتخيّل الديني خصوصا هو نظام من الظواهر المتعالقة التي لا ينبغي النظر إليها منفردة أو نظرة جزئيّة. ذلك لأنّ لعالم المتخيّل قوانينه الذاتيّة وبناه المخصوصة، فالصّورة مثلا تحمل أكثر من مجرّد المعنى الذي نراه فيها بشكل مباشر آنيّ، إنّها تخضع إلى قوانين تستمدّ معقوليّتها ودلالاتها من العلاقات المعقّدة التي تقيمها مع بقيّة وحدات المشهد الديني.
ونختم مسألة مفهوم المتخيّل بما ذهب إليه الباحث محمد معتصم الّذي اعتبر أن المتخيّل:” يحيل على المعطيات الذهنيّة التي لا تتطابق مع معطيات الواقع الماديّ، واستعملها بسكال لوصف الأشياء التي لا وجود لها إلاّ في مخيّل الإنسان”[11].
سوف نتوقف عند ظاهرة المتخيّل في الخطاب الدينيّ المسيّحيّ في علاقته بحضور الحيوان، وذلك لغاية سبر أغوار المقاربة التّي ينتجها الفكر الدينيّ أثناء بناء المقاربة الإيمانيّة وتشكيلها. فما هي مظاهر حضور المتخيّل الحيواني في الفكر الدينيّ المسيحيّ؟ وكيف تساهم في تشكيل الوعي بآليات اشتغاله؟
3- الحيوان في قصص القدّيسين:
3 -1- القديس والسباع:
3 -1-1- ركوب ما لا يُركب:
لعلاقة الإنسان بالحيوان أسرارها الخاصّة التي تختلف من مجموعة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر. وتتحكّم في هذه الاختلافات طبيعة المقاربة الفكريّة والعقديّة التي نشأت في رحابها هذه العلاقة، إضافة إلى مكانة الشخص. فلا تشهد علاقة الإنسان العادي بالحيوان أيّ تغيير، بخلاف علاقة الأنبياء والمصطفين. ففي المرويات الدينيّة -الحافة بالنصّ المقدّس (أو الخطاب المقدّس) – يحضر الحيوان ليكون علامة على قداسة البطل، وتميّزه بالبركة الإلهيّة. وعادة ما تجري العلامة في مستوى التحوّلات في السلوك أو الوظيفة أو الهيئة.
التيس: ورد في سياق الحديث عن سير القدّيسين[12] أنّ لبعضهم أثرا كبيرا في الحيوان، فيتحوّل هذا الكائن ببركتهم إلى خادم أمين، وإلى كائن ذلول مطواع. لأنّهم يحملون رائحة الفردوس، ومباركة الربّ يسوع. فقد رُوي في سيرة القدّيس أَبَّا أبيللين (Abba Apellen) أنّه “كان يفتقد الإخوة الذين كانوا يعيشون بالقرب منه في البرية من حين إلى آخر. في إحدى المرات كان مشتاقًا أن ينطلق إلى بريته، وأن يحمل بعض البركات الضرورية التي قدمها إليه الإخوة. وإذ كان سائرًا في الطريق وجد بعض التيوس تأكل فقال لهم: » بِاسْمِ يَسُوعَ المَسِيحْ لِيَأْتِ أَحَدُكُم وَيَحْمِلْ هَذَا الحِمْل«، وللحال جاءه تيس منهم، فوضع يديه على ظهره وجلس عليه، وسار به إلى مغارته في يوم واحد”.[13] نتوقف في هذه الرواية “المقدّسة” عند نقطتين، أولاهما التواصل اللغوي بين القدّيس والحيوان “التيوس” وهي من النقاط التي باتت مألوفة في سياق المتخيّل النصّي، وفي سياق المفاهيم الخاصّة بعالم القداسة. فالقديّس يمتلك قدرة ممنوحة من الرّبّ على إحداث الغريب والمفارق. أمّا النقطة الثانيّة، فتتمثّل في استعمال التيس مطيّة، وهو ما يعني درجة النقلة الثانيّة التي طرأت على الحيوان، فليس من وظائف التيس أن يكون مطيّة، بل هو مصدر للطعام والشَعر. فالقديّس وهو يركب التيس، يأخذنا إلى عالم من الرمز، يحدّد ملامحه السياق النصيّ أو ما يمكن تسميته بالنصّ الرحم (النصّ المقدّس) الّذي تحدّث في ثناياه عن تيس الخطيئة “تيس عزازيل” وهو تيس يقوم الكاهن بوضع يده على رأسه ويعترف بذنوب بني إسرائيل، ثمّ يتمّ إطلاقه في الصحراء[14]. وما ركوب القديّس التيس إلاّ سموّ على الخطيئة ويعكس هذا التحوّل في المستويين (التواصل اللغوي+ الركوب) علامة خرق للمألوف.
التمساح: ورد في سيرة القدّيس أبيللين أنّه “ذهب إلى جماعة رهبان في أول الأسبوع فوجدهم لا يتممون الأسرار المقدسة، فانتهرهم قائلًا: “لماذا لا تتممون الخدمة؟” أجابوا: “لأنه لم يأت إلينا كاهن من عبر النهر”، عندئذ قال لهم: “إني أذهب وأستدعيه” أجابوه: “يستحيل أن يعبر شخص النهر من أجل عمقه ومن أجل التماسيح التي تقتل البشر”. فذهب إلى المكان الذي يتم منه العبور، وجلس على ظهر تمساح وعبر”[15]. وفي رواية أخرى أنّه “جاء إلى النهر ولم يجد قاربًا يعبر به، وإذ بأبيللين ينادي التمساح بصوته فأطاع وجاء إليه، وكان مستعدًا ليحمل على ظهره الرجل القديس. توسل الطوباوي لدى الكاهن أن يأتي ويجلس معه على ظهر التمساح لكنه خاف وتراجع. أما الإخوة الساكنون في الجانب الآخر فإنهم إذ رأوا الطوباوي يجلس على ظهر التمساح في الماء، وقد عبر به إلى البر وخرج خافوا. قال الطوباوي للتمساح: “إنك قتلت كثيرين لذلك فالموت هو أفضل شيء لك”، وللحال مات الحيوان (دون أن يمسه أحد)”[16]. تتفق الروايتان حول ركوب القديّس ظهر التمساح وعبور النهر، وهو ما يعني أنّ تحوّلا ما حدث في سلوك هذا الحيوان، فتحوّل من سبع معاد للإنسان إلى كائن مطيع. وتظهر التفاصيل عند قراءة السياق الروائي، ففي الرواية الأولى كان ركوب ظهر التمساح وليد تحدّ للجماعة الباحثة عن معجزة وعلامة، أمّا في الرواية الثانيّة فالأمر كان حلاّ لتعويض غياب مركب لعبور النهر. وقد لا تكون هذه المقامات الروائيّة ذات شأن مهمّ مقابل التركيز على الحدث (ركوب القدّيس التمساح). وهذه سمة القصص الديني القائم في أغلبه على الوعظ، فالمتواري خلف الرواية طرفان هما الراوي والمرويّ له، فالراوي يجتهد ليوصل فكرة أنّ الرّب يمنح أولياءه كرامات، على المتقبّل أن يجتهد للالتحاق بدائرة المصطفين. ويكون هذا النوع من الخطاب منتشرا أثناء نشر تعاليم الديانة. فتشتغل عقليّة رجال الدين على تقديم خطاب مشحون بالعاطفة يسهّل فهم الدين ويرغّب فيه.
3 -1- 2- القديس ينتصر على السبع:
يمثّل خوف الإنسان من بعض الحيوانات قاعدة طبيعيّة، فلا يمكن له أن يتصدّى لها إلاّ في مجموعة من بني جنسه، أو مسلّحا. لذلك يعتبر كلّ شخص يحقّق تواصلا مع هذا النوع من الحيوانات أو نصرا عليها قد قام بخرق المألوف. وعادة ما نجد هذه الظاهرة منتشرة في مستوى الأساطير والخرافات الشعبيّة، نظرا إلى طابعها الخياليّ، فيمنح البطل فرصة التميّز عن غيره من أفراد المجموعة عبر انتصاره على الوحش. أمّا في مستوى التراث الدينيّ، فإنّ وجود هذه الظاهرة يدرج ضمن تقنيّة الكرامة الإلهيّة وهي سرّ من أسرار القداسة. ورد في سيرة القدّيس سابا:” ذهب فتوغّل في صحراء قاحلة حيث وجد مغارة على سفح جبل، فدخلها وأقام فيها. فما إن سجد ليشكر الله على ما أنعم به عليه من تلك الخلوة والسكينة، حتّى رأى أسدا هائلا يدخل عليه، وكانت تلك المغارة عرينا له: فلم يضطرب سابا لرؤيته ولم ترتعد فرائصه، لأنّ رجال الله يضعون ثقتهم كلّها في الله. فبادر الأسد بالكلام وقال له: لا تغضب، فالمحل يتسع لي ولك. فحدّق فيه الأسد بعينيه الكبيرتين، ولوّح بذنبه، ثمّ أدار رأسه وترك القديس في عرينه ومضى.”[17] وكذا الشأن مع القديّس دنيال الّذي ورد في سيرته ” فطرحوا دنيال في جب الأسود، فلمّا كان الغد، قام الملك عند الفجر وذهب إلى جب الأسود، ليرى ما حلّ بدنيال […] فناداه باسمه. فأجابه دنيال وقال:” أيّها الملك، حييت إلى الأبد. إنّ إلهي أرسل ملاكه فسّد أفواه الأسود، فلم تؤذني”[18].
كما ورد في سيرة القديسين أنّ أوّل شخص جذبه القديس مارمرقس إلى الإيمان هو أبوه أرسطو بولس، “بينما كانا سائرين في طريقهما إلى الأردن لاقاهما أسد ولبؤة في الطريق. فعرف أرسطو بولس أن نهايته نهاية مرقس قد اقتربت، فقال له: [اهرب يا ابني لتنجو بنفسك، واتركني أنا لينشغل هذان الوحشان بافتراسي]. فقال مرقس لأبيه: [إن المسيح الذي بيده نسمة كلّ منا، لا يدعهما يقعان بنا]. ثم صلى قائلا: [أيها المسيح ابن الله أكفف عنا شر هذين الوحشين، واقطع نسلهما من هذه البرية]. واستجاب الله صلاته في الحال. فانشقّ الوحشان، وانقطع نسلهما من تلك البرية”[19].
وورد في قصص انتصار القديسين على سباع الحيوان أنّ القدّيس ثاوذورس “ذُكر أمامه يوما أنّ تنينا هائلا يخرج كلّ يوم في بعض المواضع وينقضّ على الناس والبهائم فيفترسهم. فحملته شجاعته على مهاجمته وإراحة الناس من شره. فصام وصلّى وتوكّل على الرب، وركب حصانه وراح يطلب ذلك التنين الضاري. فخرج إليه ذلك الوحش الهائل كعادته. فلما رآه ثاوذورس صرخ قائلا: باسم يسوع الناصري أنا أهاجمك. وصال حوله، ثمّ انقضّ عليه بسيفه فطرحه وقتله”[20]. وتكاد التفاصيل نفسها تتكرّر في قصّة القديس فرانسيس مع الذئب[21].
يمثّل خروج الحيوان عن حالته الطبيعيّة، وارتداده نحو فقدان القوّة المألوفة بفعل حضور قوّة مضادّة (أقوى من قوّته)، مستمدّة من البركة الإلهيّة. فالإله المنتصر على اللوثيان (التنين)[22] في الكتاب المقدّس تستمرّ قوّته سندا للمختارين من عباده. ويُعدّ تدخّل الرب في التاريخ من أجل إنقاذ أنبيائه ورسله وعباده الصالحين قاعدة عملت الكتب المقدّسة على تأكيدها:
- نوح ← نجّاه من الطوفان
- إبراهيم ← نجّاه من النار
- إسماعيل/ إسحاق ← نجّاه من الذبح
- موسى ← نجّاه من فرعون
- يوسف ← نجّاه من الجب
- يونس ← نجّاه من الغرق
وتعود هذه القاعدة النظريّة التي يعمل الخطاب المقدّس على تقديمها إلى طبيعة الخطاب الدعوي القائم على ترغيب الناس في الانخراط في دائرة الإيمان بالربّ وتعاليمه من أجل ضمان مساعدته ومحبّته. وهذه الآليّة لم تبق مسيّجة بالنصّ المقدّس، بل امتدت لتكون الآليّة نفسها المنتجة للخطاب الوعظي والمتحكّمة فيه. كما أنّ لهذه الظاهرة (صراع القديّسين مع الوحش) جذورا تاريخيّة فأسطورة التنين موجودة في كلّ أساطير العالم القديم، وقد شهدت تطوّرا، فبعد أن كانت محصورة في عالم الآلهة وقصص الخلق أصبحت جزءا من تاريخ البشر، حيث تبرز أساطير صراع “الأبطال” – من أنصاف الآلهة والبشر – ضدّ التنين الذي اتخذ هو الآخر أشكالا أخرى يمكن أن نطلق عليها اسم “الوحش”. “وهذا يؤدي إلى القول إنّه، في سياق تطور الفكر الأسطوري، تمت عملية “إبدال” التنين (الرب) بالتنين (الوحش) وإبدال الإله (مصارع التنين) بالبطل (الأسطوريّ والملحمي)”[23]. فينفتح الدينيّ على الكونيّ عبر إخراج الهيكلة القصصية من سياقها التاريخيّ الأسطوريّ وشحنها بمادة دينيّة جديدة، فيصير البطل ذا ملامح مسيحيّة ويخرج فعل الخرق ليصبح علامة دالة على تدخّل الربّ. وتخرج صورة الربّ (يسوع) من دائرة النصّ المقدّس لتصبح قناعا لكلّ قدّيس. فيشتغل القاص لسير القدّيسين على آليّة الشبه المتكرّر، فيتخذ يسوع موقع الأنموذج الأصلي والقديسون موقع الشبه. فتختلف الأسماء والأمكنة والأزمنة وتحافظ الصورة على وحدتها.
3-1-3- الحيوان ينتصر للقديس:
نقف أثناء قراءة وظائف الحيوان في الكتب المقدّسة عند ظاهرة خدمته للأنبياء، وكيف أنّ بعض الحيوانات عُرفت بطبيعة علاقتها بالأنبياء. ويبدو أن هذه القاعدة انسحبت أيضا في مستوى النصوص الحواف، فنجد أنّ بعض قصص القدّيسين عملت على جعل الحيوان يتدخّل في أحداث القصّة ليأخذ موقع المنقذ، فاختلفت السياقات ولم تتغيّر ملامح الفعل المقدّس. ورد في سيرة القدّيسة إيريني (Irène) ” وكانت إحدى جواري الفتاة إيريني مسيحيّة، فعلّمتها ديانة المسيح، فآمنت به وشغفت بحبّه، ونذرت إليه بتوليتها، واصطفته عريسا لها. […] فعلم أبوها بذلك فجُنّ جنونه، […] فأمرها أن تكفر بديانتها الجديدة، فاعترفت بالمسيح بلا خوف ولا وجل. […] فامر بها، فرُبطت إلى ذنب حصان جموح، وأُطلق الحصان لكي يجرّها وراءه ويهشّم جسدها. إلاّ أنّ ذلك الحيوان ارتدّ على أبيها ليكينيوس القاسي، وعظّه في يده فقطعها، فوقع مغشيّا عليه وما لبث أن فاضت روحه”[24].
تبدو لنا هذه القصّة في ظاهرها منخرطة في السياق الوعظيّ نفسه، فقد حوت حدث تدخّل العجيب، فــ “الحصان الجموح” يعود إلى وضعه الطبيعيّ، ويقع التحوّل في مستوى تدخّله من أجل إنقاذ القديسة. لكن إذا ما حاولنا مقارنتها ببقيّة القصص الأخرى الحاملة للموضوع نفسه -المتمثّل في حضور الحيوان في قصص القدّيسين- سنلاحظ الحضور السافر لثنائيّة الأنوثة والذكورة. ففي القصص الأخرى يتغلّب القديس (الذكر) على الوحش (الحيوان)، أمّا في هذه القصّة، فإنّ الحيوان يتدخّل لينقذ الأنثى. فالأنثى لم تبد أيّة حركة في مواجهة وضعها أمام الحصان، بل بدت مستسلمة خاضعة. وهو ما يعني أن هذه القصص ذات هويّة ثقافيّة ذكوريّة. ويمكننا إثبات ذلك بما ورد في سيرة القديسة العذراء طاتباني، فقد وورد في سياق الحديث عن كراماتها” أن الوالي أراد أن يجعلها عبرة لكلّ من يؤمن بالمسيح، ويرفض عبادة الأوثان، فطلب أن يحضروا أسدا ضاريا، ويُترك بلا طعام لمدة ُ ثلاثة أيّام، ثمّ يُطلق على هذه العذراء في ساحة الاستشهاد أمام الجماهير ورجال الدولة. جاء الموعد المحدّد، وكان الكلّ يترقب لحظة انطلاق الأسد الجائع ليلتهم العذراء. بينما كان الكل يترقب هذه اللحظة وقفت القديسة تصلي في وسط الساحة وقد وهبها الله نعمة الثبات. وظهر على ملامحها السلام الحقيقي. انطلق الأسد الجائع وقد هزّ الساحة بزئيره وسرعة انطلاقه ليفترس أحدًا. لكن صُعق الكل حينما رأوه قد انطلق نحو هذه العابدة لينحني برأسه في خشوع ويُعلق بلسانه قدميها كقطٍّ أليف يود مداعبتها له”[25].
3- 1- 4- الحيوان يسبّح باسم الربّ:
تذهب الكتب المقدّسة إلى كون كلّ ما في الكون خاضعا لقدرة الربّ، ومنخرطا في التسبيح باسمه. لذا فلا غرابة أن ترحل هذه الصورة من النصّ المركز إلى النصّ الحاف. ورد في سيرة القديّس أنطونيوس البادوي (Antoine de Padoue) “أنّه لمّا رأى إصرار الكثيرين على تصلّبهم وعناد قلوبهم، هتف بالجموع الملتفة حول منبره وقال: من أراد أن يرى عظائم الله فليتبعني إلى مصبّ النهر[…] حدّق بناظريه إلى الماء وقال: أيّتها الأسماك النهريّة والبحريّة اسمعي. […] حتّى أقبلت جموع الأسماك […] “أيّتها الأسماك بأيّ آيات من الشكر والامتنان يجب عليك ان تسبّحي وتمجّدي الله، الّذي جعل لك هذه الأنهار العظيمة مسكنا تأوي إليه، أنت خلّصت النبي يونان من الغرق، أنت قدّمت الدرهم لبطرس هامة الرسل وبه أدّى الرسوم عنه وعن معلّمه الإلهي، أنت صرت غذاء لملك الملوك. فسبّحي الربّ وباركيه، لأنّه أسبغ عليك نعمة أكثر من غيرك…” فاهتزت الأسماك، وحرّكت رؤوسها وأذنابها، وضربت الماء بأفواهها، وهكذا جعلت تمجّد الربّ بطريقتها”[26].
تدور تفاصيل هذه الرواية حول استعمال القدّيس للأسماك حجّة على عظمة الربّ، فنلاحظ افتتاحه الخطاب بالتذكير بالمكانة المقدّسة للسمك في الكتاب المقدّس، أي ذكر وضعها في النصّ المركز، ثمّ يطلب منها أن تعبّر عن شكرها للرّب، وكانت النتيجة أنّ استجابت الأسماك لطلبه، فشرعت في تمجيده على طريقتها. وقد ذكرت هذه القصّة في سياق الشاهد على اعتراف الحيوان بجميل الربّ ونعمه عليه، في مقابل جحود الجماعة العاصيّة. تدور أحداث الرواية في فلك قراءة إيمانيّة الغاية منها خلق فضاء من الدعوة إلى الله عبر تقنيّة المتخيّل القصصي. وتظهر مع ذلك ملامح ترتيب جديد للكون:
ورد في سيرة القديس فرانسيس تواصله مع الطيور أثناء الكرازة :” تجمع أسراب الطيور أحيانًا بينما كان فرنسيس يتحدث، و “زهور القديس فرانسيس الأسيزي الصغير” تسجل أن الطيور استمعت باهتمام إلى خطب فرانسيس. “سانت رفع فرانسيس عينيه، ورأى على بعض الأشجار على جانب الطريق مجموعة كبيرة من الطيور. وكونه مندهشاً للغاية، قال لأصحابه: “انتظروني هنا في الطريق، بينما أذهب وأكرز لأخواتي الصغيرة”. ودخل إلى الحقل، وبدأ في الوعظ للطيور التي كانت على الأرض، وفجأة جاء جميع هؤلاء على الأشجار، واستمع الجميع حين كان القديس فرانسيس يبشر لهم، ولم يطر بعيدا حتى أعطى عندما كان يكرز للطيور، كان فرنسيس يذكّرهم بالطرق العديدة التي باركها الله بها، ويختتم خطبته بقوله: “احذري يا أختي الصغيرة من خطيئة الجحود، ودرسوا دائمًا إعطاء الثناء على الله”[27].
تبدو لنا علاقة القديس بالحيوان في المتخيّل الديني المسيحيّ قائمة على قاعدة التجاوز والعجيب، فالسباع تخرج عن حالتها الطبيعيّة لتنخرط في دائرة خدمة الإنسان المبارك، من أجل إظهار قدرة الرب على حماية المؤمن به. ولكن ما يجب أن نشير إليه هو انفتاح هذه النصوص على النصوص الأسطوريّة القديمة، فقد ذكرت الباحثة رويدة فيصل موسى النوّاب أنّه:” ” ظهرت أشكال للأسود بهيئات مختلفة في بعض الأختام الاسطوانيّة ولاسيما التي تعود إلى عصر سلالة أور الأولى […] وهي جزء من حكايات أسطوريّة ترتبط بملحمة كلكامش والصراع بين الخير والشر […] وقد برزت مشاهد الصراع بين القوّة والضعف بشكل كبير في العديد من الأختام الاسطوانيّة في هذه الحقبة التاريخيّة المهمّة، وقد صوّرت البطل الأسطوريّ وهو يمسك بالأسود. ويعود هذا الختم إلى حوالي 2700 قبل الميلاد”[28]. وذكرت أيضا انخراط الأسد في مشروع التعبّد ومشاركة الإنسان طقوس العبادة:” فضلا عن الأسد حاملا بيده آنية كأنّه في دور طقوسيّ دينيّ يختلف عن أدواره الطبيعيّة السابقة في البطش والقتل ويحمل بيده الأخرى آنية ليشارك الآخرين في مراسم التعبّد”[29].
نلمس كذلك الانفتاح على الأسطوريّ من خلال الدور البطوليّ الّذي يقوم به القديّس، فيتحد في صفاته مع البطل الملحميّ ” فالبطوليّ عظيم المكانة قويّ البنيّة، عزيز النفس، كامل الخلق والخلقة، على الرغم من اشتراكه في الصفات الإنسانيّة مع باقي الناس، إلاّ أنّه يتميّز منهم بصفات أخرى لا يملكونها وهي خاصّة به، فالقدرة على لتضحيّة بالذات وحمل آمال لآخرين مكابدة المشاق، والدخول في المغامرات، ومخاطرات من أجل الآخرين، هي أشياء لا يمكن لأيّ إنسان القيام أن يقوم بها، أو أن يتصف بها[…] مستفيدا من اتحاد الجوهرين الأصليين المكونين له، ألا وهما الإلهي والإنسانيّ مع ميل واضح إلى الجوهر الإلهيّ”[30]. وفي الأسطورة أو الملحمة يتمّ الانطلاق من ” تصوير ميلاد البطل المعجز والقوّة الهائلة التي ترعاه، كما أنّ النبوّة أو المعجزة تكشف عن مستقبله والدور الخطير الّذي سيقوم به، من أجل تحقيق مكسب جماعيّ، إنّه نموذج إنسانيّ يحمّل نفسه قوّة عظيمة تنمو معه وتدفعه إلى أن يحقّق الكثير المعجز، ولا غرو أن ترقب الآلهة في عليائها سلوك البطل وأعماله، فتتدخل في اللحظة التي يحتاجها فيها”[31]. وهكذا تهاجر النصوص الأسطوريّة لتتخذ لبوسا دينيا.
4- الحيوان في الفنّ المسيحيّ:
4- 1- الحيوان من النصّ إلى الأيقونة:
تحتلّ النصوص المقدّسة مكانة مهمّة في الدوائر الثقافيّة التّي تؤمن بها. فمنها يستمّد المؤمن تعاليم دينه، وآليات طقوسه. غير أنّها تبقى صامتة وملغزة في بعض جوانبها، وهو ما يدفع رجال الدين إلى تفسيرها وتبسيطها قصد إفهام الناس محتواها. وعادة ما يكون التفسير عبر تقنيّة الخطاب الشفويّ أو المكتوب. غير أنّ المسيحيين عمدوا إلى التعويل على الصورة المقدّسة (الأيقونة) في تفسير بعض مقاطع نصّهم المقدّس وتوضيحها وذلك لإيمانهم بما للصورة من حضور تاريخيّ في ثقافة الإنسان، “هذا الإنسان العاقل الّذي استوقفته الصّورة في شتّى مراحل نموّه باعتبارها كائنا يتعقّل العالم بالرّسم قبل الكتابة، تحسّس حضوره في العالم بالعين، فكان تاريخه في اختزال مجازيّ هو تاريخ العين بامتياز”[32]. فعلاقة الإنسان بالصورة أكثر قدما أو أشدّ عمقا أعمق، لأنّ الكتابة تبقى في جوهرها حكرا على النخبة التّي استطاعت فهمها، أمّا الصورة فهي ملك للجميع فــ “الكتابة خصيصة نخبة ترى فيها غرض قراءة وممارسة، أمّا الصّورة فتعلن الطّلاق بين فكّ الرّموز والممارسة”[33]. يرى جلّ الباحثين في تاريخ الإنسان أنّه عرف الصورة منذ فجر التاريخ، واتّخذها وسيلة للتعبير “كانت تلك الرّسوم للحيوانات ولشبيهات الإنسان والحيوان ولأوضاع الصّيد وتبعاته من انتصارات وانكسارات، اللّعبة الأولى التي مارسها الإنسان البدائيّ بطرق عفويّة وبخلفيّة سحريّة، جعلت للصورة مكانة مميّزة في حياته، فهي مظهر من مظاهر حماية مأواه، وهي تميمة ساكنة ومتنقّلة تحفر على أنياب الحيوانات لتقلّد صدر الصّيّادين، وتنقش على أدوات الصّيد. كانت تلك الرسوم مصدر طمأنينة، فهي التي أوهمت الإنسان بسيطرته الروحيّة على الإنسان، فصورة الوعل والثّيران والماموث على أرضيّات وجدران وسقوف المغارات حوّلت ممارسة الصيّد إلى مواجهة ماديّة صرفة”[34] .
تعتبر علاقة الإنسان بالصورة علاقة تاريخيّة، وهذا ما جعل الكنيسة تعوّل في تعاليمها على الاشتغال عليها. “ففي الكاثوليكيّة سُمحَ بالتصوير الأيقوني على بلّوريّات الكنائس استنادا إلى الأطروحة القائلة بأنّ الصّورة تساهم في تعليم المسيحييّن الأمييّن تعاليم المسيحيّة التي بقيت أسيرة الكتب”[35]. وقد احتفت الكنيسة بالأيقونة، فربطتها بفضاء عرضها الدّيني “فمثّلت الكنيسة المجال المخصوص لتقديمها، وكذلك الأديرة الصّغيرة، ودخلت الأيقونة مجال بيوت العامّة أيضا باعتبار وظائفها التعليميّة والتربويّة في مجتمع لا يقرأ بالقدر الّذي يبصر، ومثّلت الايقونات الغذاء البصري الطبيعيّ في المجتمعات الغربيّة والشرقيّة المسيحيّة[36]. وتعوّل الأيقونات[37] في مادتها التصويريّة على نقل بعض مقاطع الكتاب المقدّس، فيتحوّل النصّ المكتوب إلى نصّ مرئي. بمعنى أنّ المعطى اللسانيّ (النصّي) يتحوّل إلى معطى بصري[38]،وهو ما يجعل المعنى داخل الأيقونة يستدعي استحضار التجربة النصيّة شرطا أوّليا للإمساك به. “فإذا كان من البديهيّ القول إنّ مجموع التمثيلات الصوتيّة لا تشتغل كدوال إلاّ في حدود إثارتها لمدلولات (لمعان)، فإنّ التمثّلات البصرية، أي مجموع ما يشتغل كعلامات بصريّة، هي الأخرى لا يمكن أن تدرك إلا في حدود إحالتها على قسم من الأشياء”[39]. فدور الأيقونة هو أن تجعل بعض المقاطع المهمّة في النصّ المقدّس تتحوّل إلى صور. وينتقل الأسلوب الرمزيّ في الفن ليوضّح أكثر مفاهيم العقيدة المسيحيّة تعقيدا، “غير أنّ العديد من الرموز التي سادت الثقافة الرومانيّة، كانت قد تغلغلت عبر صور المسيحيّة الأولى، حيث لاءمتها، وساهمت بنصيب كبير في الإيحاء بمعتقداتها. أمّا النقوش الجدارية التي ترجع إلى كنائس القرن الثالث عشر ميلاديا فقد تضمّنت رموزا محفورة على هيئة “السمكة” التي هي رمز “المسيح” ومن هنا فإنّ غموض فكرة الرمز تتوقّف على ما يلخصّه الرمز من أسرار”[40]. وما يعنينا في هذا المقام من حديثنا عن الأيقونة، هو البحث عن حضور الحيوان فيها، وكان سبيلنا في ذلك البحث في الأيقونات المجسّدة لمقاطع نصيّة من الكتاب المقدّس ورد ذكر الحيوان فيها.
4- 2- مشهد الحيوان في الأيقونات:
عند مشاهدة بعض الأيقونات يطالعك حضور الحيوان فيها واضحا، وهو حضور مشروط بذكرها في النصّ المقدّس. فكلّ مقطع نصيّ كان فيه للحيوان دور إلاّ وتمّ تصوير ذلك الحيوان في الوضعيّة المناسبة لوضعه النصّي. فقد رسمت الحمامة رمز الروح القدس في أيقونة التعميد[41]، والثور والحمار في أيقونة الميلاد[42]، والحوت في أيقونة يونان[43]، والحمل في أيقونة الربّ، يقول محسن محمّد عطيّة ” وهناك صورة ترمز إلى فكرة “الخلاص” رسمها جان فان آيك J. Van EYCK تعرف بـ “عبادة الحمل” اللوحة عبارة عن مشهد احتفالي كبير متألق، يظهر فيه “الحمل” في قلب الصورة، وتجتمع في اتّجاهه حشود المباركين، ويرمز الحمل الأبيض إلى المسيح بوصفه الضحيّة (القربان)، كما يظهر “يوحنا” المعمدان مرتديا جلد ناقة (كما ورد في إنجيل متى). لقد وقف حشد كبير، من كلّ القبائل والشعوب أمام العرش والحمل” وقف كلّ الملائكة حول العرش. أولئك هم الّذين خرجوا من محنتهم العظيمة، وقد غسلوا أثوابهم وجعلوها بيضاء من دم الحمل بعد ذلك”[44]. وقد تمّ أيضا رسم بعض الحيوانات التي تصنّف في النصّ ضمن الأسطوريّ مثل اللوياثيان[45]. وما نلاحظه أثناء التأمّل في هذه الصور المقدّسة الحضور غير المباشر للحيوان، فبعض الكائنات السماويّة المقدّسة تحمل جزءا من الحيوان وهو الجناح. ويظهر ذلك جليّا في كلّ أيقونة يدور موضوعها حول رواية التواصل بين السماويّ والأرضيّ. فالملائكة[46] تحمل أجنحة شأنها شأن الطير. وحضور الجناح نراه مستمدّا من صورة الطير، باعتباره وسيلة تنقله في الفضاء، فالملائكة لا يمكنها الانتقال من عالم السماء (عالم الإله) إلاّ عبر تقنية الجناح.
وقد تمّ توظيف بعض الحيوانات في زخرفة الفضاء المقدّس المسيحيّ، و”ربما كان أكثر الزخارف شيوعاً هو “الإيَّل”، فقد وُجدت فرسكاته في فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقيا، وتماثيله واضحة في مبنى المعمودية في اللاتيران بروما. وتبنِّي هذا الديكور راجع إلى التفسير المعاصر لـ (مز1:42 (“كَمَا يَشْتَاقُ الإِيلُ إِلَى جَدَاوِلِ المِيَاهِ هَكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ”. وشرح القديس أغسطينوس واضح في هذا المجال: لا ينبغي أن يُساء فهم اشتياق الموعوظين إلى نعمة المعمودية المقدسة حيث يُرتَّل هذا المزمور في هذه المناسبة: “هم يشتاقون إلى ينبوع مغفرة الخطايا كاشتياق الإيل إلى جداول المياه… ليس هذا فقط، فالإيَّل عدو الأفعى، وحينما يصارعها ويأتي عليها فإنه يلتهب عطشاً فيعدو عدواً ليروي ظمأه. والأفعى هي الشرور والآثام والخطايا أعداء حياتنا. فهي عند إحساسها باقتراب الإيَّل تختبئ في شقوق الصخر. والإيَّل يحاول من جهته إخراجها من مخبئها بأن يغمرها من فمه بالماء أو ببعض السوائل من بطنه. ومتى سحقها يكون عطشه قد بلغ حد الالتهاب فيسرع إلى جداول المياه يروي منها عطشه”[47].
أرضية إحدى مباني المعموديات تصوِّر المعركة بين الإيَّل والأفعى[48].
ويقدّم الأب متّى شرحا لصورة المعركة بين الإيّل والأفعى فيقول:” كل إيَّل منهما يصارع أفعى ممسكاً بها محاولاً سحقها تحت حافره. فالموعوظ ليس مطلوباً منه الخلاص فقط، بل مصارعة قوات الشر وسحقها. فالتوازي هنا رائع بين تماثيل الإيَّل المنسكب من أفواهها المياه في معمودية اللاتيران، وبين جحد الموعوظ للشيطان وكل أعماله وغواياته. كما يظهر في الصورة أيضاً الحمامة، رمز حلول الروح القدس في المسحة المقدسة، ثم شجرة حاملة الثمار إشارة إلى الإفخارستيا التي سيشترك فيها المعمَّد عقب خروجه متوجهاً إلى الكنيسة. وهكذا انجمع في رسم واحد كل ممارسات طقس المعمودية”[49].
ومن مظاهر التحول التي شهدها الحيوان أيضا من النصّ إلى الصورة في الثقافة المسيحيّة، استعمال بعض الحيوانات في مستوى المنسوجات. حدّد الباحث محمّد متولي عامر في بحث وسمه بــ”رموز الحب والكراهية في المنسوجات الأثرية القبطية”[50] بعض النماذج الحيوانيّة ذات المرجع الدينيّ والمستعملة في المنسوجات القبطيّة:
الرسوم الحيوانيّة
|
رمزيتها ودلالتها |
الأرنب البري | يرمز الأرنب إلى الرجل الضعيف الذي يرى فى السيد المسيح خلاصه والوصول إلى بر النجاة، كما أنه يرمز إلى الشهوة والخصوبة، لذا فكثيراً ما يرسم أرنبا أبيض عند قدمي السيدة العذراء للدلالة على انتصارها على الشهوة. |
الأسد المجنح | حيوان خرافي له رأس وأجنحة نسر وجسم أسد ويستخدم الأسد المجنح كرمزين مختلفين لكل دلالته، فالرمز الأول يدل على المخلص السيد المسيح، والرمز التالي يدل على أعداء المسيحيين. ورأى فيليب سيرنج أنّ:” الأسود في الفن الأيقوني المسيحيّ عديدة، سواء أكانت منحوتة أم مرسومة، فصورة الراهب وهو يرفع شوكة من الأسد تعني القديس “جيروم”، الّذي غالبا ما مثّل في الرسوم وهو يصلي في الصحراء، أو في سرداب وإلى جانبه أسد، والأسد أو الأسدين اللذين يحفران حفرة للميت تعني إمّا صورة للقديسة مادلين التائبة أو القديس بولس الراهب”[51]. |
البجع
| يرمز إلى تضحية السيد المسيح على الصليب من أجل محبته لجميع البشر. |
البوم
| رمز للشيطان وكذلك الوحدة وأحيانا يظهر البوم في الصور مع الموحدين وهم يصلون حيث يرجعها البعض بأنها صفة السيد المسيح الذي ضحى بنفسه من أجل خلاص البشر. |
الثعبان
| يرمز إلى الخطيئة والشيطان والمكر. |
الثور
| يرمز إلى التضحية والسيد المسيح الذي ضحى من أجل البشر ويرمز الثور المجنح إلى القديس لوقا لأنه يهتم بتضحية السيد المسيح لخلاص البشر ويظهر الثور والحمار معا في صور ميلاد المسيح. |
الحمام
| يرمز الحمام في الفن القبطي إلى الطهارة والسلام والروح القدس |
الحمل (الخروف الصغير) | يرمز إلى السيد المسيح، وهو من أكثر الرموز استعمالا في الفن القبطى. “وعادة ما يرسم على عتبات أبواب الكنائس، ويمكن أن يكون لوحده أو في إطار مزخرف ممسوكا من قبل ملاكين أو محاطا أيضا بأربعة حيوانات”[52]. |
الطاووس
| يرمز إلى الفخر والزهو والخلود. |
السمك
| يرمز إلى العماد، لأن السمك لا يعيش إلا في الماء والسيد المسيح لا يعيش دون عماد. والسمك يرمز إلى الحروف الخمس الأولى من السيد المسيح بن الله باللغة اليونانية. |
الصقر المفترس
| يرمز إلى الأفكار الشريرة، والصقر المستأنس الذي يرمز إلى الإنسان الضال الذي أعتنق المسيحية.. |
الضفدعة | ترمز إلى الخطيئة. |
احتفى المتخيّل الدينيّ المسيحيّ بعنصر الحيوان في المستوى القصصي والمستوى الفنيّ، فكثر حضوره في المستويين وذلك في سياق القداسة الدينيّة، فلاحظنا عديد التحوّلات التي طرأت عليه فأخرجته من دائرة المتداول الثقافيّ العام إلى دائرة المتصوّر البديل الّذي تتحكمّ فيه بركات القديسين، ومباركة آباء الكنيسة. وهذه التحوّلات لم تكن وليدة تجربة أو تصوّر خاص قدر ما كانت نتيجة تراث أسطوري قديم عملت المخيّلة الدينيّة على تطويعه وجعله خادما للديانة المسيحيّة، وذلك في سياق التأسيس لهويّة بديلة لهذه المتصوّرات القديمة. وهذا الأمر نجده موجودا أيضا في مستوى القصص الدينيّ الإسلاميّ، وكأنّنا بالعقليّة الدينيّة تستعمل الأسلوب نفسه في تشكيل مقاربتها للوجود في جميع تفاصيله. لنخلص في نهاية هذه المحاولة إلى أنّ النصوص الدينيّة نصوص منفتحة في تشكلّها اللغويّ والمعنويّ على الثقافة الكليّة، وذلك تحت تأثير جدليّة التأثر والتأثير. إضافة إلى أنّ متخيّل الحيوان قد خضع في جوهره إلى متصوّر فكريّ دينيّ يرى الكون منخرطا بداهة في حالة إيمانيّة.
[1]– ابن منظور، لسان العرب، مادة (خ، ي، ل).
[2]– الجرجاني، علي بن محمّد. (2004). معجم التعريفات. (تحقيق: محمّد صدّيق المنشاوي). القاهرة: دار الفضيلة، ص 167.
[3]– عبد الحميد، شاكر. (2009، فبراير). الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي. ضمن سلسلة عالم المعرفة، العدد 360. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص ص 46-47.
[4]– Wunenburger, Jean Jacques, L’imaginaire, col. Que sais-je? PUF, 2013, p 5; Natanson J., «L’imaginaire dans la culture occidentale», dans Imaginaire & Inconscient, 2001/ 1, n° 1, p. 27, 30; Abraham G., «Réalité et imaginaire en psychothérapie», dans Psychothérapies 2002/ 1, Vol. 22, p. 55; Avis, Paul, God and the creative imagination: metaphor, symbol and myth in religion and theology, Routledge, N.Y., London, 2005, p 7.
[5]– مفهوم العقليّة مفهوم غير واضح المعالم حتى أن أغلب الدارسين غير الفرنسيين قد نقلوا مفهوم mentalité إلى لغاتهم نقلا دون ترجمته إلى ما يقابله فيها. ويذكر أندري بورغيار (André BURGUIÈRE) أن لهذا المفهوم خصوصيّة في التيّار التاريخي الذي أحدثه مارك بلوخ (Marc Bloch) ولوسيان لوفيفر (Lucien Febvre) جعلت علم النفس والعلوم الاجتماعيّة تخيّر توظيف مفهوم التمثّلات بدلا عنه.[ Burguière, André, « Mentalités», in Encyclopaedia Universalis, (Edition Numérique 2012); Jedrej, M.C., «primitive mentality», in Encyclopedia of Social and Cultural Anthropology, edited by Alan Barnard and Jonathan Spencer, Routledge, London, N.Y., 2002, p 680-681; Rivière, Claude, «Lévy-Bruhl, Lucien», in Encyclopedia of Religion, 2nd edition, Thomson Gale, 2005, p 5429] ويرى الباحثون في العقليّة أن ما لاحظوه من اختلافات ثقافيّة بين الشعوب عبر الأزمنة والأمكنة يعود لا إلى المعارف والخبرات المكتسبة فحسب بل إلى بنى الفكر المنطقيّة أيضا. غير أنّ ارتباط مبحث العقليّة خصوصا في الأدبيّات التاريخيّة والاجتماعيّة الفرنسيّة بـ “المجتمعات البدائيّة”، [Lévy-Bruhl, Lucien, La mentalité primitive, P.U.F., 1922; Lévy-Bruhl, Lucien, Le surnaturel et la nature dans la mentalité primitive, Paris, 1931] وغموض حقل البحث فيه ساعد على أن يفضّل المؤرّخون اليوم الاعتناء بالخطاب الذي تعبّر به الحياة العقليّة عن ذاتها، ممّا دفعهم إلى مفهوم التمثّلات الاجتماعيّة من أجل توفير أساس نفسي للنظام الاجتماعي المدروس.) Burguière, André, « Mentalités»; Burke, Peter, «History», in The Social Science Encylopedia, 2nd edition, Routledge, N.Y., London, 1996, p 631)
[6]– ولئن اعتنى مفهوم التمثّلات الاجتماعيّة بما يشتمل عليه الحقل المنفتح الذي يتحرّك داخله المتخيّل (Mannoni, Pierre, les représentations sociales, P.U.F., 2016, p 131 et suite.). فإن بعض تعريفاتها لا تربطها بشكل مباشر بهذه المكوّنات يقول دنيس جودلي (Denis Jodelet) مثلا: “التمثّلات الاجتماعيّة هي أشكال من الأفكار العمليّة تُوَجَّهُ نحو التواصل، والفهم، ونحو تملّك المحيط الاجتماعي المادّي والذهني”. (Jodelet, Denise, Représentation sociale: phénomènes, concept et théorie, in Psychologie sociale, sous la direction de S. Moscovici, Paris, PUF, 1997, p. 365..) وهو ما يجعلها أشمل مجالاتٍ، وأعمّ غايات من المتخيّل. ولعلّه بسبب هذا العموم وذلك الشمول تفقد دراسة المتخيّل حينما يُعْتَبَرُ مجرّد تمثّل اجتماعيّ راهن القدرة على تدقيق بعض المجالات المهمّة في التعبير الاجتماعي الفردي والجماعي كدراسة تجلّيّات المتخيّل دراسة تقوم على المقارنة بين المجتمعات والثقافات، أو على تبئير تلك التجلّيّات في الزمن بأبعاده الثلاثة… إن المتخيّل عموما والمتخيّل الديني خصوصا يجمع، من حيث اهتماماته، بين النظر في “استعارات التاريخ” (كارل ماركس، فريديريك إنجلز)،(Legros, Patrick, (et autres), Sociologie de l’imaginaire, col. Cursus, Arman Colin, Paris, 2016, p 18ff; Avis, Paul, God and the creative imagination: metaphor, symbol and myth in religion and theology, Routledge, N.Y., London, 2005, p 7) والتمثّلات الجماعيّة (دوركهايم)،(Legros, Patrick, (et autres), Sociologie de l’imaginaire, p 38) و”المثال الاجتماعي” (ماكس فيبر)، إلى جانب الانتباه بحساسيّة كبيرة إلى أشكال تعبير شديدة التنوّع بدءا بـالمكتوب بكل حقوله إلى الشفوي في أكثر مقاماته تنوّعا إلى السمعي البصري في أوسع أشكال حضوره.
[7]– المعنى الخفيّ (أو المتخيّل والحقل الدلالي: رمز + أسطورة + صورة + نصّ سرديّ):
أغلب من يحلّل المتخيّل يعمل على اكتشاف معنى خفيّ أو غير مدرك بشكل مباشر من خلال النظر في الرمز أو الأسطورة أو الصورة أو نص سرديّ ما… وتتحدّد الرموز أو الأساطير أو الصور أو النصوص السرديّة بحسب المتخيّل المعنيّ (متخيّل ديني، أو اجتماعي، أو سياسي…). ويفتح البحث عن المعنى الخفيّ صعوبات جمّة أهمّها: كيف يحدّد هذا المعنى الخفيّ للرمز أو للأسطورة أو للصورة أو للنصّ السرديّ؟ وما هي قيمة ذلك المعنى في السياق الذي يتحرّك فيه؟ بلغة أخرى إذا كان جيلبار دوران يحدّد الرمز بأنّه “ممثّل ما لا يمكن تمثيله، وهو الدليل المحروم أبدا من مدلوله، وهو المدعوّ دائما إلى أن يُتَأَوَّلَ بما لا يمكنه أن يتلاءم مع ما يشير إليه”(Durand, Gilbert, «le vocabulaire du symbolisme», dans L ‘Imagination symbolique, Paris, PUF, 1968, p.3 -15؛ انظر ترجمة كتاب دوران إلى العربيّة دوران، جيلبير، الخيال الرمزي، ترجمة علي المصري، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 1411هـ/1991م، ص 11 وما بعدها.) فأي ضامن أن يكون تحديد المعنى الخفيّ ملائما فعلا للرمز أو للأسطورة؟ وكيف يمكن أن تصاغ الدلالة التي يفيدها هذا الحامل للمعنى الخفيّ؟
[8]– يفتح الوعي بالمعنى النمطي سؤال الموقف الذي يقفه المشتغل بالمتخيّل هل هو تفسير المجال الذي يعمل عليه أم تأويله وهو ما يفتح المجال أمام الفرق بين ما يعبّر عنه المتخيّل أو البيان أو التعبير (expression) وبين ما يراه من يعمل على شرح هذا البيان أو تبيينه أي ما سيعبّر عنه الشرح والتفسير (explication) الذي يقدّمه الباحث. ذلك أن “حقيقة” البيان أو التعبير منحصرة في ما يقال عنه سواء كان المتكلّم ممّن ينطق عن المتخيّل أو ممّن يروم عدم الانحياز له.
[9]– يشير الشرح والتفسير (النمطي في غالب الأحيان) إلى القواعد والقوانين والنماذج التي تنظّم حياة مجموعة ما أو مجتمع مخصوص. فالمتخيّل هنا هو “مجموع انتظارات أناس بخصوص ما يجب فعله أو قوله في مجال معيّن”[9] وسيكون المتخيّل عندئذ سبيلا في تسمية مجموع المبادئ والمعاملات التي يجب أن تحكم وجود المجموعة. من ذلك مثلا ما يشير إليه فوننبرغر(Wunenburger) من أن من مكوّنات المتخيّل الحكايا التاريخيّة التي تبني الانسجام في مجتمع ما، وتحدّد له معناه وتضبط وحدته، فهي تسرد تطوّر “الانتظارات” و”الرغبات” و”الإرادات” و”القيم”، من خلال سرد حكاية بطل ما أو “تاريخه”. والمتخيّل الديني يعمل على التشريع للقوانين ولكلّ ما يؤسّس لوحدة الجماعة.
[10]– عندما يرتبط المتخيّل بالقواعد والقوانين والقيم، وبالمعنى الخفي الحالّ في الرمز والصورة والأسطورة أو النصّ السرديّ…يتحدّد بما هو نظام أو نسق متميّز. وهذا يعني أنّه لا يكفي وجود الرمز أو الأسطورة أو الحكاية أو الدلالة على جملة القواعد والقيم… بل لا بدّ من انتظام كل هذه الحوامل ضمن نسق أو نظام انتظاما يخضع لرؤية ما للإنسان وللوجود. بعبارة أخرى لا يتحدّد المتخيّل بالمعنى الخفي أو النمطي المستخرج من الرمز أو الحكاية أو الأسطورة… بل يتحدّد في خطوة أولى بالدلالات التي تتولّد عن العلاقات المتشابكة بين معاني الرموز والحكايات والأساطير… فالمتخيّل “رواق من النماذج الأصليّة الاجتماعيّة”.ويتحدّد في خطوة ثانية بالدلالات التي تتولّد عن العلاقات التي يقيمها مع مختلف الأنساق الأخرى المنتجة للمعنى.
[11]– معتصم (محمّد)، المتخيّل المختلف، منشورات الاختلاف، ط1، 2014، ص 48.
[12]– يندر استعمال لفظ “قدّيس” بمعناه المطلق في العهد القديم، وكان مقصورا على مُختاري الأزمنة الأخيرة. (معجم اللّاهوت الكتابي، (مادة: قدّيس).
[13]- ملطي (تادرس يعقوب):”قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض الشخصيات الكنسيّة“ نشر كنيسة مارجرجس بإسبورتنج، 2001، ص 353.
[14]– انظر (لاوي 16: 20-24)
[15]– ملطي (تادرس يعقوب): م، ن، ص 354.
[16]– ملطي (تادرس يعقوب): م، ن،ص 354.
[17]– عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، منشورات المكتبة البولسيّة، 2003، ج1، ص 341.
[18]– م، ن، ج1، ص 385.
[19]– سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسية st-takla.org
[20]– م،ن، ج1، ص 615.
[21]– عندما عاش فرانسيس في بلدة جوبيو، كان الذئب يرهب المنطقة من خلال مهاجمة الناس والحيوانات الأخرى وقتلهم. قرر فرانسيس لقاء الذئب في محاولة لترويضه. غادر غوبيو واتجه نحو الريف المحيط، مع العديد من الناس يراقبون. الذئب اتهم لفرنسيس مع الفك مفتوحة في اللحظة التي التقيا فيها. لكن فرانسيس صلى وجعل علامة الصليب، ثم تقدم أقرب إلى الذئب ونادى بها: “تعال هنا الذئب الأخ. أنا أوصيكم في اسم المسيح أنك لا ضرر لي أو لغيرها. “وأفاد الناس أن الذئب يسمع على الفور عن طريق إغلاق فمه، وخفض رأسه، والتقدم ببطء نحو فرانسيس، ثم الاستلقاء بهدوء على الأرض بجوار قدم فرانسيس. ثم استمر فرانسيس في التحدث إلى الذئب بقوله: “الذئب الأخ، ستلحق الكثير من الضرر في هذه الأجزاء، وقد ارتكبت جرائم كبيرة، ودمرت ذبح مخلوقات الله دون إذنه… لكنني أرغب، يا أخي الذئب، لجعل السلام بينك وبينهم حتى لا تسيء إليهم، وأنهم قد يغفرون لك جميع جرائمك السابقة، ولا يلاحقك أي من الرجال أو الكلاب بعد الآن. “بعد أن استجاب الذئب من خلال رضوخ رأسه، وتحريك عينيه، وتهويل ذيله للإشارة إلى أنه قبل كلمات فرانسيس… وبعد ذلك، عاش الذئب لمدة عامين في غوبيو قبل أن يموت في سن الشيخوخة.”(عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، منشورات المكتبة البولسيّة، 2003، ج2، ص 112).
[22]– انظر مزمور (74: 13)
[23]– محمود عزيز (كارم): أساطير اليهود، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2011، ص 12.
[24]– عساف ميخائيل، كتاب السنكسار، ج2، ص 128-129.
[25]– سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسية st-takla.org
[26]– عساف ميخائيل، م، ن، ج2، ص 385.
[27]– عساف ميخائيل، م، ن، ج2، ص 113.
[28]– النواب (رويدة فيصل موسى)، الأسد في الفكر العراقي القديم: دراسة تاريخية تحليليّة، مجلة آداب العدد 98.
[29]– النواب (رويدة فيصل موسى)، م، ن.
[30]– سالم نبيل إبراهيم، البطولة في القصص الشعبي، دار المعارف مصر، 1977، ص 21.
[31]– م،ن. ص 22.
[32]– شقرون (نزار)، معاداة الصورة، الانتشار العربي، بيروت 2009، ص 7.
[33]– Marc Thivolet: Image, in Encyclopoedia Universalis, Corpus 11,France 1990,p.928
[34]– شقرون (نزار)، م،ن، ص 21.
[35]– م،ن، ص 43.
[36]– م،ن، ص 48.
[37]– ” تعني الأيقونة بكلّ بساطة صورة Image)) إلاّ أنه منذ عهد مبكّر أصبحت تشير بصفة خاصّة إلى الفن الديني التمثيلي للكنائس الشرقيّة. […] إلاّ أنّه في اللاهوت الأرثوذكسي الشرقي تشير كلمة ” أيقونة” ببساطة إلى صور أشخاص مقدسين أو أحداث مقدّسة توافق الأغراض الدينيّة[…] وتلعب الأيقونات دورا مهمّا في العبادة الشعبيّة البزنطيّة، وهي ترى أيضا كشهادة على حقيقة تجسيد المسيح.” (جون ر. هينليس، معجم الأديان، ترجمة أحمد محمّد، المركز القومي للترجمة، ط1، 2010، مادة (Icône).
[38]– يذهب ريجيس دوبري إلى أنّ “الصورة أكثر عدوى وأكثر وباء من الكتابة. ولكن في ما وراء فضائلها المعروفة التي لا تجعل منها في حدود معينة سوى وسيلة إعادة الخلق التدويني والتعليمي، فهي تملك موهبة رئيسية تكمن في صنع لُحمة المجموعة المؤمنة، وذلك بمماهاة الأفراد بالصورة المركزيّة للمجموعة. فلا وجود لجماهير منظمة بدون سنادات بصريّة تمكّن من الالتحام كالصليب والقسّ والراية الحمراء. […] قد يقتل الحرف الروح، لكن الصورة تحيي الحرف، كما يحيي التمثيل بالصورة التعليم والأسطورة والإديولوجيا.” ريجيس دوبري: حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق، 2002، ص ص 72-73.
[39]– بنكراد (سعيد): السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار، سوريّة، ط2، 2005، ص 121.
[40]– محمد عطية (محسن): الفن وعالم الرمز، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، 1993، ص 64.
[41]–
أيقونة التعميد في موقع الأنبا تكلا..
[42]–
أيقونة الميلاد في موقع الأنبا تكلا.
[43]–
أيقونة قبطية تمثل الحوت يبتلع يونان النبي.
[44]– محمد عطيّة (محسن)، م،ن، ص 71.
[45]–
أيقونة في موقع الأنبا تكلا: من الصور الإيضاحية في سفر أيوب – بهيموث ولوياثان.
[46]–
أيقونة أثرية قديمة تصور الملاك جبرائيل رئيس الملائكة.
[47]– المسكين (الأب متى)، المعموديّة الأصول الأولى للمسيحيّة، مطبعة دير القديس أنبا مقار – وادي النطرون، 2000، ج3، ص 341.
[48]– م،ن، ج3، ص 341.
[49]– مسكين (الأب متى)، م،ن، ج3، ص 342.
[50]– عامر (محمّد متولي): رموز الحب والكراهية فى المنسوجات الأثرية القبطية، كليّة الفنون التطبيقيّة جامعة حلوان، 2008.
[51]– فيليب سيرنج، الرموز في الفن-الأديان- الحياة، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، سوريا، ط1، 1992، ص 70.
[52]– فيليب سيرنج، م،ن، ص 97.