حوار نينار برس مع الدكتور علي أسعد وطفة حول هموم وشجون النظام التعليمي السوري في ظل الحرب والدمار

ali watfa

تطال الحروب أو النزاعات المسلّحة قطاعات كبيرة ومهمة في الدول، ومنها ما يتعرض للانهيار، من أهم هذه القطاعات، التعليم، الذي تعرّض في سورية إلى مختلف أنواع التخريب.. بدءاً بتدمير بناه التحتية المتمثّلة بالمدارس التي تحولت إلى ملاجئ للنازحين، أو مقرات عسكرية، أو تعرضت للتدمير نتيجة القصف المتكرّر.. إضافة إلى خسارة جزء كبير من كوادرها نتيجة الهجرة وظروف الحرب السيئة.. وصولاً إلى هدف وغاية هذا القطاع، وهو الطلاب بفئاتهم العمرية كافةً، الذين نالت الحرب من حياتهم ومستقبلهم..

حول هذا الموضوع تقدمت نينار برس بالأسئلة التالية من الدكتور علي أسعد وطفة الأستاذ بجامعة الكويت

 نينار برس :   تعرض نظام التربية التعليم في سوريا إلى تهدمات عميقة وواسعة في مرحلة الصراع الجارية في البلاد. كيف يمكن تحديد مستوى هذا التهدم على الصعيدين التاليين:

– البنية النفسية للأطفال من عمر ثلاثة سنوات حتى نهاية مرحلة الطفولة وفق محدداتها الدولية (سن ما قبل 18عاماً)

– المستوى العلمي للمربين في مؤسسات التعليم 

يسرني في بداية هذا اللقاء أن أوجه لكم خالص الشكر والتقدير على استضافتي للحوار في شأن التربية والتعليم في سورية المنكوبة كما أود أن أشكر أسرة تحرير نينار برس على اهتمامها ودعوتها لي للحوار في هذا الموضوع. 

في معرض الإجابة عن سؤالكم الكريم أقول: بأن رحلة الهدم والتدمير في النظام التربوي السوري بدأت مع الحركة التصحيحية مع بداية ثمانينيات القرن الماضي حيث بدأ النظام السياسي يفرّغ التعليم من مضامينه العلمية والمعرفية والأخلاقية، ويحوله إلى أداة أيديولوجية، تقوم بتمجيد النظام ورموزه، وقد طغى هذا الطابع الأيديولوجي على مختلف نشاطات التربية والتعليم في مختلف أنحاء القطر، فتحول التعليم إلى أبواق دعاية للنظام ورموزه وبدأت هذه الدعاية الأيديولوجية تطغى على الطابع التربوي والتعليمي في سوريا بصورة مأساوية وتراجيدية. فتمت عملية هدم البنية التعلمية والتربوية بالدعايات والشعارات الفارعة ومن ثم بدأت المدرسة تتحول إلى بروباغاندا دعائية عبر الاحتفالات والمظاهرات والصور الرئاسية والخطابة السياسية التمجيدية، وقد وصل الأمر إلى درجة أن نسبة كبيرة جداً من الدوام المدرسي تحسب للممارسة السياسية الأيديولوجية من عطل واحتفالات حزبية بانتصارات النظام الموهومة والمزعومة (الثامن من آذار، الحركة التصحيحية، الانتخابات الرئاسية، وغيرها كثير كثير). وقد ترافق ذلك كله بازدياد درجة الفساد في المؤسسات التعليمية أسوة بمؤسسات الدولة.

وباختصار حول النظام السياسي في السبعينيات من القرن الماضي المؤسسات التعليمية إلى مؤسسات لتجهيل الأجيال المتعاقبة وترويضها على مبدأ الطاعة الأيديولوجية وتدمير كل مظاهر العقلانية والنقد والحوار في عقول الطلاب ونفوسهم. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن النظام السياسي كان يقوم بتفريغ المدارس من طلابها وتطويعهم في الوحدات العسكرية التي كان يسميها (الكتائب العقائدية) المعنية بالمحافظة على النظام وحمايته.

لحظة الانهيار والتدمير لم تبدأ اليوم بل بدأت منذ عام 1973 مع ما يسمى الحركة التصحيحية بقيادة حافظ الأسد. وقد تمّ بفضل القيادة الجديدة تفريغ التعليم جوهرياً من معانيه ودلالاته العلمية والمعرفية منذ المراحل الابتدائية حتى المراحل الجامعية في سياق ما يسمى بطلائع البعث وشبيبة الثورة والفتوة والتدريب الجامعي العسكري ودورات المظلات والصاعقة. وقد أكون صادقاً إذا قلت بأن التعليم في سوريا قد خطف تماماً من قبل الأيديولوجيا التي انتهجت سياسة التمجيد والتعظيم والتفخيم برموز النظام في كل المستويات بدءاً من المناهج إلى النشاطات إلى مختلف الفعاليات التي أخذت طابعاً أيديولوجياً على حساب العلم والمعرفة والتعليم. وهذا كله كان كافياً لعملية هدم البنية الأساسية للتعليم وتدمير مضامينه المعرفية. 

نينار برس :  وإذا كان التعليم يعاني من الهشاشة والضعف والانهيار قبل أن تبدأ الثورة فإن الحديث عن أوضاع التربية والتعليم بعد الثورة يأخذ طابعاً مأساوياً وتراجيدياً يندر مثيله في تاريخ الأمم والشعوب. ولا يمكن أن نتحدث عن التعليم بصورة موضوعية إلا في سياقه المجتمعي والثقافي. لقد تم تدمير المجتمع السوري سياسياً واجتماعياً وفكرياً وأخلاقياً واقتصادياً في ظل هذه الحرب الساحقة التي أتت على كل مقومات الوجود والإنسان. وهذه الصورة واضحة جداً لكل من يعرف عن جرائم الحروب الدائرة في سوريا التي أدت إلى هجرة ملايين السوريين إلى لبنان وتركيا والأردن ومختلف أصقاع الأرض. 

ومما لا شك فيه أن الأطفال في سوريا أكثر ضحايا هذه الحرب القذرة في مختلفات المستويات الإنسانية والأخلاقية. لقد فقد الأطفال ذويهم وعائلاتهم، وقطعت أجسادهم، وبترت أعضاءهم، وتناثرت أشلاؤهم، وهدمت بيوتهم تحت براميل الحقد والنار، وسقطت أجسادهم تحت ضجيج المدافع ودفع الصواريخ والنار. إنها تراجيديا الألم والمعاناة التي يندى لها جبين الإنسانية خجلاً بل هي أكثر مآسي الإنسانية حضوراً في التاريخ. 

نينار برس  :  تعرض الطفل السوري للرعب بسبب عمليات القصف والقتل التي جرت أمامه. ما نتائج هذا الرعب على الطفل في قادم أيامه من حيث البنية النفسية والقدرة على الأداء العلمي أو العملي في حياته؟

– ماذا أحدثكم عن البنية النفسية للأطفال في هذه المحرقة التاريخية الرهيبة؟ إنها كارثة سيكولوجية تفوق حدود الوصف، وإذا كانت مثل هذه المحرقة تدمر نفوس العتاة من الرجال وتهدم التكوينات النفسية لصناديد الأبطال فكيف سيكون وقعها في نفوس الأطفال الذي بقوا على قيد الحياة. ومما لا شك فيه أن هؤلاء الأطفال ولنقل بأن جيلاً كاملاً من الأطفال قد تعرضوا للتدمير النفسي الرهيب الذي سيجعل من حياتهم كلها أضغاث عذاب وقهر وهزائم وآلام. ومما لا شك فيه أن صدمة الحرب أصابت الأطفال السوريين في مقتل سيكولوجي دمرهم وسحقهم وقتل فيهم كل مبادرات الحياة والعطاء والإبداع. 

ومن المؤكد أن الأطفال الذي عاشوا في أجواء هذه الحرب الضروس سيعيشون عذاباتهم حتى آخر العمر، ولن يكون في مقدورهم أن يحققوا إنجازات علمية أو معرفية في حياتهم إلا ما شاء ربك وقدر. وهذه حقيقة تبينها الدراسات النفسية والسيكولوجية التي أجريت في عدد كبير من دول العالم. فالطفل الذي يعيش أحداث الحرب ودمارها لن يتمكن في المستقبل أن يحقق شخصية حرة وطبيعية متكاملة أو متوازنة مع الحياة. هذا عداك عن النزوع إلى الجريمة والعنف تحت تأثير فقدان الطابع الإنساني للمعنى والغاية من الوجود. وقد أسمح لنفسي في القول: إن هؤلاء الأطفال سيكونون مؤهلين للوقوع في براثن الجريمة والعنف والمخدرات وسيشكلون عبئاً كبيراً على عائلاتهم وعلى أنفسهم. ومثل هذه الحالات للأطفال ضحايا الحرب قد درست بعد الحرب العالمية الأولى وهناك فيض من الدراسات التي أجريت على سبيل المثال وليس الحصر في دولة الكويت بعد الغزو العراقي وكانت النتائج النفسية والتربوية كارثية على الأطفال وذويهم.

ونخلص إلى القول إن أطفال الحرب والدمار سيعانون وبصورة دائمة من شلل نفسي كبير في مختلف مستويات حياتهم، وسيأخذ هذا الأمر طابعاً سيكولوجياً مأساوياً طوال حياتهم يتجلى في حالات من الانزواء والانشطارات النفسية والهزيمة السيكولوجية المستمرة. وهذا يعني أن جيل الحرب لن يتمكن من العودة إلى الحياة الطبيعية ولن يكون قادراً في المستقبل على مواجهة المصير بشكل متوازن وخلاق، إنها كارثة إنسانية سيكولوجية وقعت على الأطفال السوريين في مختلف مراحل العمر منذ الطفولة حتى المراهقة. ولا أبالغ في القول: إننا في مواجهة معضلة خطيرة تتمثل في جيل كامل من الأطفال الذين تمّ تدميرهم في أتون حرب ضروس ما زالت متأججة منذ أكثر من عقد من الزمن وما زالت تحرق الأخضر واليابس في بلادنا المنكوبة.

وفيما يتعلق بالشطر الثاني من السؤال، حول أوضاع المعلمين ومستوياتهم يمكننا القول بأن حظ المعلمين لم يكن أفضل كثيراً من حظوظ المتعلمين، لقد عانى المعلمون من هول هذه الحرب وما زالوا يواجهون آثارها المدمرة. جيل من المعلمين الذين شاهدوا مدارسهم كيف تتداعى تحت القصف والتدمير الذي لا يميز بين طفل صغير وشيخ كبير. هؤلاء المعلمون الذين يتوقد فيهم الحس الإنساني بالطفولة والأطفال عانوا كثيرا وما زالوا يعانون من صرير هذه الحرب وبطشها في مختلف مستويات حياتهم ووجودهم المادي والمعرفي والمهني، إذ كيف لمعلم قد شاهد أطفاله وتلامذته يتطايرون أشلاء تحت قصف المدافع والطائرات والبراميل أن يهنأ له عيش وأن يكون قادراً على العطاء؟ لقد تحول هؤلاء المعلمين إلى أشلاء سيكولوجية متناثرة جعلتهم أكثر عجزاً عن ممارسة أي دور تربوي سليم وأخلاقي. ولو كانت هناك إمكانيات للبحوث العلمية في هذا الموضوع لوجدنا كثيراً من هؤلاء المعلمين يعيشون حالة نكوص سيكولوجية وربما حالات معقدة من الاكتئاب والأمراض النفسية. وأين لهؤلاء المعلمين أن يطوروا من إمكانياتهم العلمية في أجواء يفتقر فيها النازحون من الأطفال إلى أبسط شروط الحياة في تركيا وفي سوريا وفي الأردن ولبنان. إنها حالة تدمير شامل للتكوينات الإنسانية والمعرفية في نفوس الأطفال والمعلمين على حدّ سواء. ويضاف إلى ذلك أن كثيراً من المعلمين قد فقدوا قدرتهم على متابعة تحصيلهم العلمي وبعضهم فقد وظيفته ومصادر وجوده وحياته. وضع المعلمين كما هو وضع المتعلمين وكل المواطنين من مقيمين ومهاجرين يشكل حالة مأساوية يندى لها الجبين الإنساني خجلاً. 

  نينار برس :  لنفترض أن الحرب توقفت وبدأ مع توقفها برنامج إعادة إعمار البلاد. ما مواصفات وحاجات برنامج إعادة إعمار الانسان السوري نفسياً واجتماعياً وإعادة تأهيل قدراته؟

ليس الأمر مرهوناً بتوقف الحرب بل بالوصول إلى حالة من السلام والاستقرار السياسي وتحقيق الوحدة الوطنية. توقف الحرب لا يعيد اللاجئين إلى ديارهم وتوقف الحرب لا يعني إعمار البلاد. فالبلاد تحتاج إلى وفاق سياسي بين مختلف الأطراف المتصارعة على الأرض وفي الأفق السياسي. ما تحتاجه سوريا بداية تغيير سياسي ديمقراطي يشمل مختلف مكونات الحياة السياسية والاجتماعية جغرافياً واقتصادياً وإنسانياً وحقوقياً. وعلى النظام أن يقتنع بضرورة التخلي عن بطشه السياسي والأمني وأن يلجأ إلى الحوار مع القوى السياسية لإطلاق السجناء السياسيين وتحقيق وفاق سياسي استراتيجي تحت مظلة دستور واحد ديمقراطي شامل لكل فئات الشعب ومناطقه الجغرافية. وهذا يعني أن إيجاد نظام ديمقراطي هو الحل الشامل الذي يسقط كل أشكال الاستبداد والقهر والطغيان والاستئثار بالسلطة. وهذا الحل مع الأسف ما زال بعيد المنال لأن سوريا تقع تحت بطش عدد كبير من القوى التي تمزق جسدها والأطماع السياسية كبيرة جداً من مختلف الجهات التي ستعمل على تعطيل أي حل سياسي، لأن وجود حل سياسي شامل قد يعطل مصالح دول عالمية وإقليمية في سورية مثل: إيران وتركيا وإسرائيل وروسيا وأمريكا. والوضعية الحالية الممزقة هي الوضعية الأمثل لمثل هذه القوى في السيطرة على مقدرات هذا الوطن وإمكانياته. ونقول في هذه المناسبة أن الوصول إلى هذه الحالة الوفاقية أمر معقد ومستبعد في ظل الأوضاع المأساوية للمطامع الأجنبية وتغول النظام ومعارضيه. 

ولكن ضمن الافتراض بأن سوريا ستعود إلى وضعها الطبيعي كنظام ديمقراطي شامل ضمن وفاق سياسي شامل فإن التعليم يحتاج إلى استراتيجيات جديدة للنهوض بالتربية والتعليم إلى المستويات المطلوبة. وما هو مطلوب بالدرجة الأولى هو العمل على تشييد البنية التحتية التي دمرتها الحرب من مدارس ومنشآت وجامعات ومؤسسات تربوية. 

ثم يتوجب العمل على المستوى التربوي ووضع استراتيجية تعليمية جديدة تنأى بالتعليم عن الأيديولوجيا وتنتقل به من مؤسسة أيديولوجية إلى مؤسسة تربوية حقيقية تعنى بالمعرفة العلمية وتحقيق النهوض الشامل للعقل والمعرفة أي باختصار تحويل المدرسة من مؤسسة أيديولوجية إلى مؤسسة تربوية تعنى بعقول الأطفال ضمن أهداف تربوية بعيدة المدى للاستثمار في العقل والمعرفة وليس بالأيديولوجيا والبروباغاندا السياسية. 

وبصورة عامة يجب إعادة بناء المؤسسات التعليمية والتربوية على أسس جديدة ومناهج عقلانية جديدة وتحريرها من عملية التسييس الممنهجة التي دمرت الأجيال والناشئة. كما يتوجب تحرير النظام التعليمي من الفساد والوساطة والمحسوبية والجنون السياسي. أوليس من المعيب اليوم أن يكون على رأس وزارة التربية والتعليم طبيباً بيطرياً فرضته الوساطات والعلاقات البيروقراطية السياسية وهو أحد أشكال تدمير التعليم وترويض الأطفال بطريقة مخيفة ومزرية. 

فجامعاتنا السورية اليوم على سبيل المثال تشكل أخطر بؤر الفساد والحمق والرشاوى والسفاهة والتفاهة وقد حان الوقت لإحداث ثورة في التعليم والتعليم الجامعي في مختلف مستوياته التربوية والإنسانية والاجتماعية. 

وخلاصة القول: إننا بحاجة إلى ثورة حقيقية في ميدان التربية والتعليم ولم يعد ينفع الإصلاح أبداً فالأوضاع متهاوية مأساوية مدمرة، والنظام التربوي القديم يحتاج إلى هدم كامل وإعادة بنائه بصورة حضارية. باختصار نحن نحتاج إلى ثورة تربوية في مختلف المستويات التعليمية والتربوية والعلمية في مجال إعداد الأجيال وتطوير قدراتهم إلى المستويات العالمية المطلوبة. 

نينار برس : كم تحتاج المؤسسات التربوية السورية التي تعمل في ظل استقرار سياسي في البلاد لتنتهي من تجاوز مرحلة آثار الحرب على الانسان السوري؟ وما هي الوسائل الضرورية لخدمة هذا الهدف؟

نبدأ حديثنا بهذه الحكمة التي وردت على لسان الحكيم الصيني كونفوشيوس إذ قال: «إذا أردت أن تؤسس لعام فازرع القمح، وإذا أردت أن تؤسس لجيل فشجر الأرض، وإذا أردت أن تؤسس للعمر كله فعلم الناس».

فالثورة التربوية المطلوبة لن تحقق جدواها بين ليلة وضحاها إذ يجب أن تكون ثورة تربوية مستمرة في خضم ثورات مرافقة لها اجتماعية واقتصادية وسياسية. إعادة بناء سوريا تحتاج إلى عقود متواصلة من الزمن. فالنظام التربوي قد تعرض لعملية تدمير أيديولوجي على مدى أكثر من نصف قرن والنظام يهدم العقول ويدمر القيم والمعرفة. وهذا التدمير أصبح أكثر عنفاً مع العنف الذي رافق الثورة. وهذا يعني أن نظامنا التعليمي اليوم في الحضيض لقد خرجت سوريا من كل المؤشرات العلمية والتربوية وخرجت أيضاً من كل التصنيفات وأصبحنا في الدرك الأسفل من الحضارة. 

هذا الهدم المستمر على مدى نصف قرن، جعل من النظام التعليمي مطية للنظام السياسي فحوله إلى ترسانة أيديولوجية من الفساد والسفاهة ودمر فيه أجمل وأنبل مكوناته العقلية والأخلاقية يحتاج اليوم ربما إلى ضعف هذه المدة كي يستطيع أن يقف من جديد ويتألق بصورته الخلاقة. لقد استطاع النظام السياسي عبر عقود من الزمن أن يدمر الأجيال وأن يدمر التكوينات الأخلاقية والمعرفية لديهم إذ هيمنت الوساطة والفساد والتفاهة والسفاهة بدلاً من قيم الحق والخير والعدل والجمال. لقد قتل النظام السياسي القائم كل نوازع الإبداع والعطاء واستطاع أن يجعل من السفاهة مبدأ ومذهباً والفساد منهجاً والطغيان فلسفةً والاستبداد والظلم مطلباً. وباختصار استطاع النظام أن يدمر في الإنسان كل النوازع الأخلاقية والقيم الإنسانية والمطالب الروحية. ولذا فنحن اليوم بحاجة إلى مسارات زمنية طويلة لإصلاح ما أفسده النظام وما جرته علينا الحرب من ويلات ودمار وفظائع. 

نقول بأنه في الأحوال الطبيعية يحتاج التخطيط التربوي إلى ثلاثين عاماً، حيث تؤخذ بعين الاعتبار الاحتمالات المستقبلية للتغير في الوظائف والعمل والتطور الاجتماعي وهذا يعني أنه التخطيط يتم لمستقبل الطفل عندما يصبح شاباً منتجاً في سوق العمل. 

وهنا علينا أن نفكر إذا كان التخطيط في الحالة الطبيعية يتطلب ثلاثين عاماً بالنسبة للأنظمة التعلمية المتقدمة، فكيف سيكون الحال بالنسبة لنظام تعليمي متخلف في الأصل ثم تعرض للتخريب والتدمير خلال نصف قرن من الزمن ومن ثم تعرض لأهوال حرب ضروس على مدى عشر سنوات وأكثر. مما لا شك فيه أن رحلة الإعمار والبناء ستكون طويلة وبعيدة المدى وقد نحتاج على الأقل إلى نصف قرن على الأقل من الجهود الجادة لإعادة النظام التربوي إلى نضارته وقوته الحضارية ولن يتم ذلك إلا في سياق إصلاح سياسي اجتماعي اقتصادي شامل وعميق وجوهري في مختلف مظاهر الوجود والحياة. 

وهنا تجدر الإشارة إلى الأوضاع المزرية لأطفال اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا والأردن الذين يعانون الويلات من غياب المدارس والمعلمين والأوضاع المهلكة لهم في مختلف مظاهر حياتهم النفسية والاجتماعية. هؤلاء الأطفال يعيشون حالة اغتراب شاملة وحالة استلاب مدمرة لوجودهم وحياتهم وكيانهم. ومن يستطيع منهم متابعة التعليم فإن مستويات التعليم المقدمة إليهم لا تناسب احتياجات الطفولة والأطفال. وباختصار الأطفال السوريون يعيشون حالة انتكاسة حضارية وهزيمة إنسانية شاملة وهم اليوم في أمس الحاجة للعناية الدولية والاهتمام بحاجاتهم التربوية والإنسانية والأخلاقية. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يخفف من هذه الكارثة التي ضربت مهد الحضارات الإنسانية سوريا الحضارة والتاريخ والإنسان ونسأل الله أيضاً أن يلم الشمل السوري تحت رعاية نظام ديمقراطي لا تسلط فيه ولا طغيان يعيد للإنسان السوري كرامته وحريته بعد أن عانى صنوف الويلات والقهر وتجرع كل آلام الوجود نفسياً وروحياً وأخلاقياً وإنسانياً نسأل الله أن تعود سوريا كما كانت قبل الطغيان مملكة الحب والجمال والعطاء.

واسمحوا لي في النهاية أن أرفع إليكم خالص الشكر والتقدير على تكريمي بهذا الحوار المؤلم عن وطني وبلدي وأطفالنا المقهورين في زمن الحرب التي لا تبقي ولا تذر.

مقالات أخرى

إبراهيم مشارة : فؤاد زكريا والحركة الإسلامية

التربية الجنسية في الفلسفة الكانطية

صابر جيدوري : ثنائية الفرد والمجتمع وانعكاساتها التربوية

6 تعليقات

ياسر طويش 6 فبراير، 2021 - 2:22 ص
شكرا لكم من القلب اخي الحبيب وصديقنا الاستثنائي الوطني الحر النبيل الاصيل سعادة الدكتور: علي ..سلطتم الضوء بشجاعة وتميز واقتدار على مأساة التعليم التي المت بابناء شعبنا السوري المكلوم دمتم علما يرفرف خفاقا بسماء وعلى متصفحات ادبنا العربي الحديث والمعاصر شكري وامتناني ومحبتي التي تعرف اخوكم المحب امين عام الجمعية الدولية الحرة للمترجمين واللغويين العرب شاعر واعلاميى د. ياسر طويش
مشاري سعد حمد المطيري 2 مارس، 2021 - 7:48 م
نعم يا دكتور نشر الجهل والعنصرية والتفرق بين أبناء الشعب هو ما بجعل نبض حكم الطغاة مستمرا فعكس ذلك يقعط وريد الطاغي لأن المتعلم لا يريد إلا أن يكون حرا في بلد يليق به ومؤسفا جدا أن نرى المدارس التي خرجت أجيالا نفتخر به كعرب تتحول إلى ملاجئ يختبأ بها من كان يفترض أن يجلس على كراسها ويضع كتابه على طاولتها ويتعلم حتى يكمل مسيرة بناء الوطن
آمنه خالد المطيري 19 مايو، 2021 - 1:53 ص
جميعنا نشعر بالألم والأسى لهؤلاء الاطفال دكتور ، ل قد قرأت قبل عدة أيام تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بمناسبة مرور عشر سنوات على اندلاع الحرب في سوريا، أنها تسببت في مقتل وإصابة حوالي ١٢ ألف طفل ، ووصف التقرير الحرب في سوريا بأنها جعلت حياة ومستقبل جيل من الأطفال معلَّقين بخيط رفيع ، كم آلمني هذا ماذنب هؤلاء الاطفال ؟ طغيان الروؤساء لم يقتل الانفس وحسب بل قتل كل شي جميل ، قتل الطفولة قتل التعليم عزاءنا أن لكل ظالم يوم ولابد لدولة الظلم أن تنتهي ، وترجع دمشق الجميلة الفاتنة إلى سابق عهدها .
ساره سعود العنزي 4 يونيو، 2021 - 10:05 ص
يعطيك العافيه دكتور ، اشعر بالاسف لما حصل لسوريا من دمار وتخريب للحضاره والثقافه السوريه والدمشقيه التي كانت تشع بالعلم والجامعات والثقافه ، واليوم يواجه الاطفال السورييون واللاجئون مشكله في التعليم في سوريا ، ذكرت الدراسة أن واحدة من بين كلّ خمس مدارس في سوريا أصبحت غير صالحة للاستخدام، إما لأنها تعرّضت للضرر أو التدمير أو أصبحت ملجأ للنازحين داخلياً، في حين أن ما بين 500 ألف و600 ألف طفل سوري لا يتابعون دراستهم في البلدان التي تستضيف اللاجئين السوريّين. وأشارت إلى أن المناطق الأكثر تضرراً لجهة التعليم هي تلك التي تشهد أشدّ المعارك، كالرقّة وإدلب وحلب ودير الزور وحماه ودرعا وريف دمشق، حيث انخفضت معدلات الحضور في المدارس في بعض هذه المناطق لتبلغ 6% ، نسأل الله ان يرفع هذه الازمه عن اخواننا في سوريا وجميع البلدان العربيه والاسلاميه
الهنوف سعود الرشيدي 10 يونيو، 2021 - 1:05 ص
يعطيك العافية دكتور للأسف تدمير الشعوب عادة يكون من قبل انتشار الفساد السياسي وتمكينه في اغلب شؤون الدولة وهذا ماحدث في سوريا حيث قام النظام كما تفضلت ببث رموزه ومعتقداته خاصة في التعليم ليتم تداوله بين الاجيال ولاسيما ماقد يعانيه الاطفال والمعلمين من انتهاك وانهيار لمنظومة التعليم والتدمير الشامل لمعنوياتهم ونفسيتهم ووحدتهم الوطنية . فالحرب والتدمير والنظام السياسي اثر بشكل سلبي على الشعب السوري من جميع النواحي النفسية والاجتماعية والمهنية . فالإصلاح لا يكون الا بطريقة ما كالوصول لحالة السلام السياسي والوحدة الوطنية بين ابناء الشعب السوري الشقيق للعودة والنهضة بالنظام السياسي والتربوي في سوريا .
الجازي عمر الهاجري 15 أغسطس، 2021 - 12:45 ص
حديثك ذا شجون لكل عربي مسلم فالادمار الذي لحق بسوريا بعد ان كانت وجهة للعلم وتطور والسياحة فالادمار والتخريب والتهجير اثر بشكل سيء على اطفال سوريا حيث كشف تقرير جديد لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بمناسبة مرور عشر سنوات على اندلاع الحرب في سوريا، أنها تسببت في مقتل وإصابة حوالي ١٢ ألف طفل. ووصف التقرير الحرب في سوريا بأنها جعلت حياة ومستقبل جيل من الأطفال معلَّقين بخيط رفيع. على الرغم من التحديات الهائلة التي يواجهها أطفال وشباب سوريا، فإنهم عازمون على التعلم والتغلب على الصعاب وبناء مستقبل أفضل.اللهم كون عونا لهم وسهل طريقهم
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد