نحن بلا ذاكرة وبلا حياء ….حاتم علي أنت أكبر من كل النقابات

أُهينت سورية وتُهان يوم أُهين رجالها التاريخيين، ونقطة على أول السطر، في فيلم “الاسكندرية كمان وكمان” للمخرج المصري يوسف شاهين، فجأةً يتوقف عامل التنقيب عن الحفر من تلقاء نفسه، خوفاً من أن يرتطم المعول بقبر الاسكندر! ماذا فعل معول السلطة السورية بتاريخ سورية وتراثها الحضاري؟ لن نسأل ما الذي فعله بعظمائها؟ وإنما نسأل ماذا فعل هذا المعول بأبنائها وبالأوطان؟.

حاتم علي لتعذُرنا، نحن لسنا فقط بلا ذاكرة بل أيضا بلا حياء

كل الأمم تتذكر عظمائها وتفتخر بهم باعتبارهم ثروة وطنية ونبراساً تقتدي بهم لأجيال القادمة إلا نحن! نتغنى بأبطال مستوردين من خارج الحدود فنتناسى أبطالنا الحقيقيون! الناس تتذكر موتاها، ونحن ننسى أحياءنا، لا جديد وأنت خير من تعلم، منذ أكثر من نصف قرن وكل شيء رخيص لدينا، حتى البشر فكيف بالحجر؟ لا كبير في قاموسهم ولا عظيم سوى عظمتهم، لقد ضاع الشعب وضاعت منا الأوطان، لتندحر أمام جزمة الاستبداد والتخندق المذهبي وحكم العسكر.

يقول لينين “أعطِ الأمريكيين ما يكفي من الحبال وهم كفيلون بشنق أنفسهم في آسيا”، هل يحتاجون لمن يُعطيهم تلك الحبال؟، بالوقت الذي برعوا فيه بحياكتها بأنفسهم (عسكر واستبداد وفساد) منذ استيلائهم على السلطة بالعام 1970.

ماذا بعد ذلك من حبال؟ لا يوجد سوري ابن سوري ولا حتى عربي إلا ونعى الراحل الكبير حاتم علي، مع إبداء ألمه وحزنه الشديدين على فقد عَلَم ليس من الأعلام الوطنية السورية فحسب وإنما العربية والإنسانية جمعاء، وهو ما عبّرت عنه خلال الأيام الماضية الأقلام والحناجر العربية من محيطها إلى خليجها بغزارة، وحدها نقابة فنانين أو (فرع مخابرات) زهير رمضان وفقا لوصف الفنان بشار إسماعيل، اكتفت بإعلان نبأ وفاته! لا بل رفض مجلس إدارتها الواحد بعد الآخر المشاركة في برنامج (المختار) الذي يقدمه الإعلامي السوري خالد محرز ، الذي وصف النقابة ونقيبها بأنها “كتلة صماء”.

يقول عالم الاقتصاد “غريشام” أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق” هكذا كان حال شغل الوظيفة العامة والمنصب العام في سورية، منذ استيلاء نظام البعث على مقاليد السلطة وحتى يومنا هذا “الموظف الرديء يطرد الموظف الشريف من الوظيفة العامة”، مع بعض الاستثناءات الضيقة، حتى وقع الفأس بالرأس، زهير رمضان خير من يمثل هذه العملة الرديئة، (فساد وسرقة وقتال من أجل أن يبقى نقيباً) (بشار إسماعيل ـ الوسيلة تي في ـ 23-2-2020).

نقيب للفنانين وعضو مجلس أمة! مثله مثل غيره من بعض مسؤولي السلطة، ممن حملوا معاولهم لتهديم ما تبقى لدينا من وطن وفكر وإرث حضاري، فوزه كنقيب للفنانين السوريين بانتخابات بداية العام الماضي كانت معروفة مسبقاً، لأنه يفوز بسبب الواسطات” (بشار إسماعيل ـ قناة العالم 13 يونيو 2020) وما يؤكد صحة ذلك هو قيام رمضان بطرد وسائل الاعلام من المؤتمر لمنعهم من تغطية عملية الانتخابات، الأمر الذي نتج عنه فوز ساحق لقائمته على حساب المرشحين الآخرين.

نقيب لكن من دون نقابيين!.

لم يتميز رمضان بقوة علاقته بالأجهزة الأمنية فحسب، وإنما تميز أكثر باستعداء زملائه الفنانين، نتيجة فرضه عليهم خارج إرادتهم من جهة، وسلاطة لسانه بحقهم من جهةٍ أخرى، في إحدى جلسات مجلس الشعب يقول عن الفنانين المعارضين: “هؤلاء غرباء، تجب محاسبتهم!” مؤكداً “أنه أبلغ الأجهزة الأمنية عن الفنانين الذين لديهم تصريحات ومواقف ضد الدولة السورية” معتبراً عودة البعض منهم وعملهم في مؤسسات الإنتاج الإذاعي والتلفزيون لهو “أمر خطير”!. (العربي الجديد 10 نوفمبر 2018).

 بعد فوزه بالولاية الثانية عمل رمضان على تصريحات انتقامية بمواجهة كل الفنانين الذين وقفوا ضده بالانتخابات وهم كثر، ليس ذلك فحسب، وإنما سنّ شروطاً جديدة تُعقِّد من عملية الانتساب للنقابة، مما حولها من مؤسسة فنية إلى مؤسسة استخباراتية بامتياز، حسب قول البعض، لذلك عمل ومن قبله على فصل عدد كبير من الفنانين، تجاوزا (200) فنان، إما بناء على ميولهم السياسية، أو بذريعة عدم تسديدهم الاشتراكات. (مجلة الاقتصادي السورية 1 يوليو 2011).

وعليه فإن سياسة الجعجعة والاستزلام، أو سياسة (رئيس المخفر) التي يتبعها رمضان، ألبّت عليه غضب الغالبية العظمى من الفنانين السوريين، “عن جد عيب.. رغم مطالبة جميع زملائه له أن يرحل من النقابة” الفنان مصطفى الخاني، في تعليقه على نجاحه بالانتخابات (وكالة شام الإخبارية 12 يونيو 2020) “يستثمر منصبه لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب بقية زملائه” (الفنان بسام كوسا ـ العربي الجديد 10 نوفمبر 2018) لا بل إنه “شبيح فاشستي”، حسب وصف الفنان جمال سليمان (سيدتي 10 أكتوبر/ تشرين الثاني 2016) والذي يضيف: لا يشرفني ان أكون عضواً في نقابة أنت نقيبها.

تاريخ نقباء غير ناصع ومن سيء إلى أسوأ.

يقول الفنان جمال سليمان في تصريح سابق لموقع “إرم نيوز”: “لا يجب أن ننتظر قدوم نقيب للفنانين السوريين قائم على انتخابات نزيهة، تاريخ هذا المنصب ليس ناصع البياض، وأكبر دليل على ذلك أنه أيام الأسد الأب قام سهيل كنعان في عام 1974 بكتابة سيناريو وإخراج فيلم بعنوان (فرسان التحرير) خصيصاً لتمجيد سرايا الدفاع التابع لـ رفعت الأسد، أراد كنعان من خلاله أن يؤكد أن جميع التضحيات والبطولات وعمليات الاستشهاد التي حدثت في حرب تشرين/ أكتوبر، كانت بفضل هذا الفصيل، الذي لم يشارك في الحرب إلا بحدود ضيقة وقليلة جداً”، بعد أن قدّم كنعان هذا الفيلم الرديء اختاره النظام ليكون نقيباً للفنانين كمكافأة له، والقول بالطبع لسليمان نفسه.

أية سلطة وأية نقابات هذه؟ عندما يكون شغلها الشاغل النيل من الهامات الوطنية بهدف تحطيمها؟ يقول العلامة محمد علي كرد في معرض مقارنته بين العالم الغربي والعالم العربي: «لا تخلو فرنسا يوما من تذكّر الموتى والإشادة بهم ورفع أقدارهم، يريدون من ذلك ألا ينسوا رجالهم، وأن يرددوا على الدوام ذكراهم، أما المسلمون على الأكثر فانتهجوا نهجاً آخر: يصِمون رجالهم بكل نقيصة، ويخترعون لهم مساوئ ليست فيهم، فإذا ماتوا سكتوا بعض السكوت عنهم، ولا يتناولون بالنقمة واللعنة إلا عظماءهم في حياتهم».

رؤساء نقابات ومنظمات ووزراء يشبهون بعضهم البعض في كل شيء، إلى درجة التطابق في مفعول النقمة وتخريب وتهشيم كل أيقونة وطنية بارزة، علي عقلة عرسان تبطّح على اتحاد كتاب العرب أكثر من ربع قرن، همه الوحيد الاستمرار بشغل هذا المنصب، لذا جمع في هذا الديكور ما هب ودب خلال هذه السنوات الطوال، خصوصاً من أصحاب النياشين (الضباط) ممن لا تنطبق بحقهم الشروط المطلوبة، أما خليفته الدكتور حسين جمعة، صاحب كتاب الحيوان في الشعر الجاهلي، فلم يكن أقل سوءاً، لقد بدأ عهده بالتطاول على شخصية أدبية ووطنية سورية كبيرة، هي سعد الله ونوس، باتهامه في محاضرة له أمام طلاب السنة الرابعة في “التعليم المفتوح” في اللغة العربية، أنه “سارقاً لأعمال الرائد المسرحي أبو خليل القباني” من جهته النقيب السابق وعضو مجلس الأمة الحالي “نضال الصالح” شكك بمكانة الأديب زكريا تامر، في مدرج جامعة دمشق بقوله: “أن تامر ليس قاصّاً مهماً، ولا تستحق تجربته الالتفات إليها، فنحن نوثنّ أسماء غير جديرة بالتوثين”.

من جهته صاحب قصيدة (ينطح الغيمَ شموخي) صابر فلحوط تربّع على اتحاد الصحفيين السوريين مدة (36) عام بالتمام والكمال، ومثله أيضاً الجنرال تركي صقر مدير عام جريدة البعث، الذي جاء من المؤسسة العسكرية فجأةً، ليتربع على صدر الصحافة الحرة مدة سبع عشرة سنة، نال خلالها شهادة الدكتوراه في “القانون الدستوري” سنة 1985 تُذكرنا دكتوراه صقر بالشهادات العالية التي حصل عليها رفعت الأسد ورسالته للدكتوراه بعنوان: “الصراع الطبقي في سورية”.

بالقطع لم توجد التجمعات النقابية منذ نشوئها بالعام 1720 على يد عمال الخياطة في إنكلترا، إلا للدفاع عن مصالح أعضائها وحماية حقوقهم وصيانة مكتسباتهم، ماذا قدّمت نقابة الفنانين لمنتسبيها ومثلها بقية النقابات والتنظيمات السورية؟ غير ابتزازهم مالياً وسياسياً، بمحاولة حشرهم في قوالب خشبية بعثية؟ كل المعطيات تؤكد أن هذه النقابات وهذه التنظيمات لم تقف يوماً بجانب فنان أو صحفي أو طبيب أو مهندس أو محام تعرض لملاحقات أو مسائلات أمنية! بل على العكس من ذلك لقد عمل النقيب زهير رمضان كمخبر، كما جاهر بنفسه أعلاه في جلسة مجلس الشعب، بأنه يقوم بإخبار الأجهزة الأمنية عن كل شاردة وواردة تتعلق بمنسوبي النقابة!.

لا بل منع علي عقلة عرسان أعضاء «اتحاد الكتاب العرب» من الظهور على شاشة قناة «الحرة» تحت طائلة التعرض لعقوبة زاجرة، مما دعا الكاتبة كوليت الخوري لمعارضة هذا القرار بقولها: «أنا ضد أن يُصبح اتحاد الكتاب مؤسسة عسكرية أو منظمة حزبية، تلزم الأعضاء بشكل ديكتاتوري بتصرف ما أو موقف ما» مؤكدةً على موقفها الذي أعلنته في المؤتمر: «إنني مع الظهور على شاشة الحرة بل أنا ضد مبدأ اتخاذ قرار إما مع أو ضد، لأن كل واحد منا يعرف مصلحة الوطن ولسنا في مدرسة». ‏

نقابات ومنظمات شعبية تأكل من لحم أكتاف منسوبيها!.

عندما أعلن نائب الرئيس عبدالحليم خدام انشقاقه بالعام 2005 تفاجئنا كمحامين أن المذكور لا يزال مسجلاً في جدول النقابة، كان ذلك بعد أن سارعت نقابة المحامين السوريين إلى فصله من عضويتها، لا بل قامت النقابة بصرف معاشات تقاعدية وتعويضات معونة وفاة لـ (34) شخص من قيادات حزب البعث الحاكم السابقين، على رأسهم زهير مشارقة وتوفيق صالحة، ووهيب فاضل وآخرين، وفقاً لما ذكرته المنظمة العربية لحقوق الانسان في سورية، ببيانها الصادر بتاريخ 25 نوفمبر/كانون الأول 2005 مع أن هؤلاء لم يمارسوا المحاماة يوماً، فضلاً عن مخالفة ذلك نص المادة (11) من قانون تنظيم مهنة المحاماة الصادر عام 1981 المتضمنة بالفقرة (آ) منها: “لا يجوز الجمع بين عضوية النقابة والوظائف العامة أو الخاصة..” كذلك نص المادة (15) من قانون التقاعد رقم (31) لعام 1972 المتعلقة بممارسة مهنة المحاماة، ومثل هؤلاء كان بالطبع حال الرفيق الآخر أحمد أبو موسى قائد طلائع البعث وغيره، الذين اتضح بعد عشرات السنوات أنهم أعضاء في اتحاد الكتاب العرب.

ماذا بعد؟ عدد غير قليل من الفنانين والنقابيين السوريين ماتوا وهم في حالة عوز وحرمان، لم يجد هؤلاء بديلاً يستر عرى تقدمهم بالسن سوى اللجوء لمأوى العجزة، أو ما أطلق عليه تهذيباً (دار السعادة) هكذا كان حال كل من المخرجين رياض ديار بكرلي وعلاء الدين كوكش ومثلهم كل من الفنانين عبدالرحمن آل رشي، وممتاز البحرة، صاحب رسومات باسم ورباب، وما تضمنته كتب المرحلة الابتدائية ومجلتي أسامة وسامر، على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، البحرة قبع في هذه الدار أكثر من إحدى عشر سنة، كذلك الفنان عصام عبه جي، الذي توفيّ من دون أن يجد من يعيله على تسديد تكاليف علاجه في أيّامه الأخيرة، ومثلهم حال المفكر فاخر عاقل، ليس ذلك فحسب لقد باع حنا مينا أشيائه ومتاعه وكل ذكرياته قبل أن يرحل، لذلك قال: عشتُ في الخطأ وسأموت في الخطأ”.

قدرنا كسوريين أن نموت إما ملاحقين أو منفيين أو محزونين، لم يكن الراحل الكبير حاتم علي الفصل الأول من هذه التراجيديا المحزنة ولا الأخير، وإنما تغريبة طويلة، طارد خلالها الرفاق الرفاق من مكان إلى آخر، فالرئيس نور الدين الأتاسي ورئيس وزرائه صلاح جديد الأول مات بعد أيام من سجنه الطويل في سجن المزة، فيما الثاني مات في نفس السجن، “مؤسسي حزب البعث” عفلق والبيطار، كما منيف الرزاز هربوا بجلودهم ليموت الأول والثالث في بغداد فيما الثاني اغتيل في باريس، ومثلهما كان حال كل من الدكتور يوسف الزعين رئيس وزراء ثورة البعث 1963 ووزير خارجيته إبراهيم ماخوس، الأول توفي في بودابست، بينما الثاني في الجزائر، محمد عمران اغتيل في لبنان.

من جهته أكرم الحوراني قائد انتفاضة الفلاحين في حماة، والذي شارك وهو نائب بالبرلمان في “حرب الجليل” ضد الصهاينة عام 1947، فضلاً عن أنه رفض استلام السلطة بعد الإطاحة بحسني الزعيم، رغم مطالبة (160) ضابط له بتوليها (ديفيد أوين كتاب الحوراني ـ ويكيبيديا) لقد توفي الحوراني في منفاه الأردني، ورفضوا عودته للوطن حتى وهو جثة هامدة، ومثله كان حال الأمين القطري لحزب البعث “حمود الشوفي” الذي توفي في منفاه الأمريكي، “شبلي العيسمي” اختفى في بيروت..ألخ.

 بل طارد خلالها الرفاق كل قامة وطنية شريفة، رئيس الجمهورية “شكري القوتلي” توفي فقيراً في مشافي بيروت، عجز أولاده عن تسديد نفقات المشفى، فسددها الملك فيصل بن عبد العزيز، ومثله الرئيس “سعيد إسحاق” الذي مات في الولايات المتحدة، “رشدي الكيخيا” مؤسس حزب البعث توفي في منفاه القبرصي، “جميل مردم بيك” رئيس خمس وزارات توفي في مصر، وزير العدل “منير العجلاني” توفي في الرياض، مات نزار قباني بعيداً عن شامه كمداً في منفاه اللندني، ولم يستطع العودة إليها إلا جثة هامدة، المفكر صادق جلال العظم توفي في منفاه الألماني، ومثله الفنان التشكيلي رضا حسحس ، الكاتب علي تركي الربيعو مات في الأردن .. القائمة طويلة.

ختاماً، نقابة تُدار بعقلية مخابراتية، هجرها أكثر من 200 فنان من خيرة الفنانين السوريين، هذه بالقطع ليست نقابة، حاتم علي ستبقى أكبر من كل نقاباتهم، لتخلد روحك بسلام..  

مقالات أخرى

قصةُ ولادةِ “معجمٍ الاستشهادات” –أو– القبض على عصفور السعادة

الحفر الأركيولوجي والإبيستيمولوجي لسلسلة أفلام “جيمس بوند” الجاسوسية

في لغة المشتهى يتفتح الأمل: إضاءة على قصيدة الشاعر المتألق حاتم قاسم (هو اللوز ظلي)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد