عنوان النص يستحثنا على الابتداء بمقولة عميقة لـ إميل سيوران حيث يقول: “ليس للموت معنى، إلا عند أولئك الذين عاشوه بشغف“[1]. الموت من أعقد المفاهيم التي عالجتها الفلسفاتُ على مدار التاريخ، والاشتغالات الفلسفية حوله متعددة الأبعاد والمداخل والمناهج والغايات. ومن المعالجات الفلسفية الحديثة ما نجده في “الكينونة والزمان”، إذ يتحدث مارتن هيدجر فيه عن روح المبادرة بقالب عميق، إذ لا يربطها بالحياة بل بـ الموت، متحدثاً عما يسميه بـ “الكينونة- نحو-الموت“، عادَّاً إياها كينونة نحو إمكانية ما[2]؛ فالموت هو “الحافز” على العمل، ويدعو في سبيل ذلك الى “التطبيع” مع الموت، مشدداً في الوقت ذاته على أنه “ليس بوسع أحد أن يعهد بموته لآخر”[3].
معالجة الإسلام للموت فذة بحق، ودعوته للإكثار من تذكر الموت مُكرَّسة بشكل مذهل في النص القرآني الكريم والسنة النبوية المطهرة، في سياقات متنوعة متبصرة؛ تجعل من الموت أداة فعالة للحياة المنجزة والعمل البنَّاء والاستغلال الأمثل للوقت[4]. إن الإسلام يحيل الموت رافعةً للتدين الجميل والأخلاق الحسنة. وهذه المعالجة المتفردة سابقة لمثل تلك المعالجات الفلسفية، وهي أشمل وأثرى وأكمل، وهي مبثوثة تطبيقياً في ممارسات الأفذاذ؛ فكأن الإسلام، إذن، يقول لنا: من أراد “الحياة” فعليه بالموت!
سنعالج باقتضاب في هذا المقال المختصر جانباً من المعالجة القرآنية للموت من جهة كونه تجربة معيشة، حسياً ومعنوياً. يعد الموت مفهوماً محورياً في القرآن الكريم، حيث وردت مادة “موت” 165 مرة، في صيغ عديدة: المصدر (53 مرة: مثل الموت)، الصفة المشبهة (49: ميِّت)، الفعل المضارع (34: تموت)، الفعل الماضي (24 مرة: مُتُّم)، اسم المره (3: موتتنا)، فعل الأمر (2: موتوا)، وهذه الصيغ تؤمِّن أربعة معان، وهي: الموت نفسه، والنطفة، والضلال، والجدب وقلة النبات[5].
يتعامل النص القرآني مع الموت بوصفه قدراً محتوماً يواجهه كلُ إنسان، فـ “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ” (النساء: 78). ويمكن القول باطمئنان، إن النص القرآني ينظر إلى الموت على أنه محفز كبير للتدين الجيد والتخلق الحسن، وذلك أنه نُقلة إلى حياة أخروية، تبتدئ بحساب دقيق حيال الخير والشر المعمولين في الدنيا، في سياق قوة قهرية عليا “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ” (الأنعام: 61)، “إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ” (يس: 12).
على أن النص القرآني يمارس تنويعاً في أنماط التحفيز، إذ هو يشغِّل التحفيز الإيجابي لفعل الخيرات كما في صورة: “لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (الدخان: 56-57)، والتحفيز السلبي للامتناع عن فعل الشرور، كما في: “وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ” (الأنعام: 93). ما سبق يجعل الموتَ مِهمازاً دينياً أخلاقياً، يتوجب علينا غمزه بذكاء وفعالية، لا سيما أننا بتنا نعيش في عالم يهمَّش القيمَ ويُضمِر الأخلاقَ، ففشى الظلم والكذب والغش والفساد والاستبداد.
ضمن الجوانب المدهشة في المعالجة القرآنية للموت ما يتعلق بأساليبه المبدعة الخلاَّقة في جعل الإنسان يتمثل الموت بوصفه تجربة معيشة، وهذا ما سوف نركز عليه في بقية هذا المقال الصغير عبر تحليل معالجة قرآنية واحدة للموت، كما جاءت في نص واحد متكرر: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” (آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57)، لماذا عبَّر الله تعالى بـ “تذوُّق الموت” على هذا النحو في ثلاثٍ من الآيات المُحكَمات؟ ما الأسرار وراء هذا التعبير اللافت؟
إن الألفاظ والمعاني الواردة في القرآن الكريم هي غاية في الإحكام والدقة والبلاغة والحكمة، مما يجعلنا ننقِّب مليَّاً في أسرار هذا اللفظ أو التركيب أو السياق، وفي بواعث هذا المعنى أو المجاز أو السرد؛ لنخرج من ثمَّ بشيء من الحِكَم المتوخاة في هذا النص المقدس العظيم.
ذاقَ الشيءَ، أي اختبر طعمَه بلسانه (هنالك ما يقارب 10 آلاف برعم تذوق في اللسان وجنبات الفم والبلعوم). الذوق يتجاوز اللسان ولا يقتصر عليه، ولذا جاء في لسان العرب: ذاقَ فلاناً وذاق ما عنده أي خبرَه وجرَّبه (جيداً كان أم سيئاً)، وعليه فإن التذوق يعني اختبار الطعم أو الشيء (حسياً)، والتجربة والاختبار (معنوياً). المعنيان الحسي والمعنوي مفضيان إلى أن التذوق ينقلنا إلى عالم التجربة المعيشة.
الآن، تخيلوا معي صورة: أن الموت شيء نتذوقه. هذا الموت المُهاب سنتذوقه! أطيلوا التأمل في هذه الصورة المجازية البديعة المحلِّقة، واسعوا إلى تمثُّلها وجدانياً وعقلياً وحسياً ما استطعتم إلى ذلك “تذوقاً”، ولو تطلَّب ذلك التوقف عن قراءة هذا المقال لبعض الوقت، قليلاً كان التوقف أم كثيراً.
لاحظوا أن “الموت” جاء مُعرَّفاً في الثلاث آيات، فلم يرد نكرة؛ وذلك أن الموت واحد في جوهره، ليتهادى إلينا المعنى جليَّاً لا غموض فيه ولا لَبْساً: أنتم ستتذوقون “الموت” الذي تعرفونه. وهذا ما يجعلنا نقرر بأن النص جاء من هذه الناحية مغلقاً، فهو لا يحتمل دلالات أخرى، غير الموت الحقيقي الذي نعرفه جميعاً. بيد أن النص بكامله، ليس مغلقاً، بل هو مفتوح تماماً، وقد جاء الفتح من زاوية “ذائقة”، فحينما نكون إزاء تعبير مركَّب بـ “ذائقة الموت”، فهذا يعني نصاً مفتوحاً على دلالات عديدة، وهو ما سنتلمَّس بعضه في فقرات مختصرة متسلسلة.
- تخيلوا أننا نعيش في مكان واحد، وأن ثمة منْ أمرَ بأن “يتذوق” الجميعُ شيئاً ما، قبل أن يسكنوا في مهجعهم. ربما يقول البعض: أنا لا أريده، أو لا أطيقه! ولكنه أمر قاطع حاسم. هنا ندرك بأن ثمة قوة قاهرة تُملي ما تريد، فتأمر بأن نَطعم جميعاً “الموت المذاق” في الوقت المحدد لنا، فسبحان منْ جعل الموت يُدركنا بإذنه في الزمن الذي يحدده هو لنا، ولو كنَّا في بروج مُشيَّدة.
- التعبير القرآني “كل نفس” يخاطب الإنسان الكلي، ليؤكد على أن كل إنسان لا محالة ذائق الموت (بغض النظر عن دينه وجنسه وعرقه وعمره وثقافته)، وأنه ليس ثمة إمكانية أو احتمالية لتعطل حاسة تذوق الموت لأي إنسان كائناً من كان، حتى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم يتذوقونه أيضاً، ولكنه بقالب “الموت الحلو” الخاطف السريع. مما يحفز النفوس إلى الفوز بمثل هذا “التذوق الفاخر للموت”.
- نعلم جميعاً أن حاسة الذوق لها طعوم مختلفة، فثمة الحلو والمر والحامض والمالح. وهذا ما يستدعي إذن صوراً لـ “موت حلو” ، و”موت مر/حامض/مالح”. لا خيار في تذوق الموت من عدمه، فكل نفس ذائقته حتماً. والكل يُسلِّم بهذا، حتى الملاحدة، يُسلِّمون بالموت ويهابونه كثيراً، وإن تظاهر بعضهم بعدم الاكتراث له، فكيف لو فكروا بـ تذوق الموت؟!
- نحن نتذوق الأشياء في وقت محدد، إذ قد يطول تذوقُنا لشيء نحبه في الحالات الطوعية، أو لشيء نكرهه في حالات الإكراه، وقد يقصر تذوقنا له. هذه الصورة تحقن في التذوق عنصر الزمن، فليتخيل كل واحد منا مدة تذوق الموت في “حلق روحه”. ونظراً لكون الموت مباغتاً مهاباً، فالكل يروم أن يكون “تذوقه سريعاً خاطفاً”، حلواً لا مراً ولا حامضاً ولا مالحاً.
- لا يكتمل التذوق إلا بالشم، لدرجة أننا نشمُّ الطعامَ اللذيذ قبل تذوقه (ثمة اتصال في الدماغ بين هاتين الحاستين)، ويزداد اكتماله بالرؤية أيضاً، فهذه الحواس الثلاث تتعاضد معاً في جعلنا نتذوق الشيء بعمق. كأن هذا يعني أننا لن نتذوق الموت فقط، بل سنشمُّه وسنراه أيضاً، مما يعيَّشنا تجربةً أعمق للموت. عادةً، الطعوم الجيدة مصحوبة برائحة طيبة وشكل باهر، وهذا ما يوجد لنا صورة مركَّبة بديعة: “موتاً حلواً زكياً بهياً”.
- التذوق لا يتعلق بنوعية الطعم فقط، بل يتأثر بالحرارة الملائمة، فثمة أشياء لا نستسيغها إلا حارة أو دافئة أو باردة أو مثلَّجة. وهذا ما يدفعنا إلى التفكير بدرجة حرارة الموت، أساخن هو أم بارة؟ نميل في العادة إلى استطلاف درجة متوسطة، وهو ما يصوِّر لنا “موتاً معتدلاً لطيفاً”.
- يتأثر التذوق أيضاً بدرجة تماسك الشيء وصلابته، إذ إننا نلتذ ببعض الأشياء وهي متماسكة صلبة، ونطلب في الأخرى سيلاناً ومرونة. وفيما يخص تذوق الموت، فإنه سيكون مذاقه لطيفاً محبباً، إذا كان “موتاً ناعماً سلِساً”.
- كما أومأنا سالفاً، التذوق لا يكون باللسان فحسب، بل يحدث عبر أشياء كثيرة أخرى، ولذلك نجد -على سبيل المثال- نصاً قرآنياً يعكس لنا صورة أخرى للتذوق عبر الجلد: “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا” (النساء: 56). هذا يعني، أن تذوقنا للموت نحسه في سائر بدننا، إذ قد يكون نَزْعاً خفيفاً للروح في “مذاق حلو لطيف”، أو انتزاعاً عنيفاً لها.
- في العادة، نحب تذوق الأشياء التي نصنعها بأنفسنا أو بإرادتنا، أليس كذلك؟ مؤدى هذا أنه يتوجب علينا أن نصنع موتَنا، لا أن نترك غيرنا يصنع لنا موتاً يحقق له غرضاً أو حاجة. صناعة موتنا بأيدينا هو ما قد يجعله مُستطاباً لنا. ولكي يكون الموت كذلك، فإنه مفتقر إلى ما يطيَّبه من الإيمان والعمل الصالح. لا تدع أحداً يصنع لك نكهة موتك!
وختاماً، أحسب أننا بمسيس الحاجة إلى مزيد من النظر والعمل معاً حيال مفهوم “الموت” في المدونة القرآنية والمدونة الحديثية، بوصفه مِهمازاً للعمل والإنجاز، ورافعةً للتدين الحسن والتخلُّق الجميل، فمشروعنا الحضاري العربي الإسلامي لن يقوم له قائمة، إلا على قاعدة صلبة من الإنتاجية والمصداقية، وهو ما يقودنا إلى أن نختم بالقول: من أراد “التحضر” فعليه بالموت!
[1] انظر كتابه: دموع وقديسين، ترجمة: عبدالوهاب ملوح (الرياض، صفحة سبعة للنشر والتوزيع، ط1، 2020 ).
[2] كما في كتابه: الكيونة والزمان، ترجمة: فتحي المسكيني (بيروت: دار الكتاب الجديد، ط1، 2012)، ص 467.
[3] السابق.
[4] من شواهد السنة النبوية الصحيحة: حديث “أكثروا من ذكر هادم اللذات”، وحديث ” اغتنم خَمْساً قبل خَمْس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”.
[5] مركز تفسير للدراسات القرآنية، موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم (الرياض: مركز تفسير للدراسات القرآنية، ط1، 2019) مج 31، ص 293.