المقدمة
إنّ الاستخدام المفرط لكلمات “الإرهاب” و”التطرّف” دون القيام بالتّدقيق العلمي والمعرفي في اشتقاقاتها اللّغوية ومدلولات استعمالاتها الاطلاحية الرّاهنة زاد من ضبابيتها وأخفى حقائقها أمام الرأي العام العالمي. فعندما نعود إلى تاريخ ظاهرة الإرهاب في العالم، نلاحظ أنّ الكيفية التي تعالج بها قد أغفلت بها أحداث عظيمة الأهمية شهدتها الإنسانية وغيّرت مساراتها التاريخية حتى بات من الصّعب لدى أغلب الباحثين فهم حقيقة هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها وأبعادها وتعدّد توظيفاتها السياسية بحسب اختلاف سياقاتها الزمانية والمكانية. لهذا، فنحن في أمس الحاجة إلى القيام بالتشخيص الموضوعي والتاريخي للأحداث التي توصف بـ”الإرهابية” حتى نعرف جوهرها ولا نضيع في ما هو عرضي منها.
نهدف من خلال هذه الملامسة البحثية الأكاديمية، ووفق المقاربة السوسيولوجية، إلى المساهمة في التّدقيق العلمي حول استخدامات مفاهيم “الإرهاب” و”التطرّف” و”العنف” انطلاقا من توظيفاتها السياسيوية في سياق مخاضات الصّراعات الدوليّة الرّاهنة. ففي ظلّ الغموض الفكري وغياب الدّراسات العلمية الموضوعية، اختلطت الرؤى وأهْمَلت أغلب الدراسات الأكاديميّة المتخصّصة الأسباب الحقيقية المنشئة لظاهرة الإرهاب. لهذا، كان هدفنا من هذه الورقة لا يتعدّى مستوى المدخل التّعريفي والمنهجي باعتبارهما من الشّروط العلميّة لتشخيص هذه الظّاهرة وفهم أبعادها المختلفة.
أولا: المحاذير المنهجية السوسيولوجية في دراسة ظاهرة الإرهاب
على الرّغم من شيوع استخدام مفاهيم “التطرف” و”الارهاب” وغيرها من المفاهيم في أدبيات العلوم الاجتماعية والسّياسية المعاصرة، فإنّ ذلك لا يعني وجود اجماع وفهم واضح لما تعنيه هذه المصطلحات وكيفية التّمييز بينها، وما يترتّب عن ذلك من تداعيات كبيرة خاصة عندما ينتقل هذا المفهوم من حقل علمي إلى آخر، أو من مقاربة إلى أخرى.
لذلك، فإنّه من المهمّ أن نشير إلى المحاذير المنهجيّة التّالية:
1ـ إنّ أولى الاعتبارات العلمية التي ينبغي الانتباه إليها هي أن هذه المفاهيم غالبا ما تستخدم في سياق مقولات عامّة يحاول البعض أن يعمّمها على الرّغم من اختلاف الظواهر الموصوفة بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. لهذا، فإنّ الصعوبة المنهجية الأولى تكمن في أن تعبيرات “الإرهاب” أو “التطرّف” تجمع دون تفريق بين الذي يقومون به وبين الذين يؤسّسونه والذين يستفيدون منه، أي هناك خلط بين أسبابه في ظل الظروف العربية والعالمية الراهنة وبين السياسات والبرامج التي تضع التصنيفات واستخدامات هذا المفهوم. لذلك، فنحن في مثل هذه الحالة من الضبابية والتشويش في حاجة إلى اعتماد منهجية علم الاجتماع المعرفي المتحرّر من كل ابتسار ومن كل مفهوم شائع“([1]). وينبغي على السوسيولوجيا في مثل هذه الحالة أن تفضح الانخداع الذي يرعاه السّياسيون ويشجّع عليه، فيشكل في كل مجتمع، أساسا لأكثر القيم قداسة، ودعامة لتشكيل الواقع الدّولي بكامله. لقد أشار عالم الأنثربولوجيا الفرنسي “مارسيل موس”(Marcel Mauss) بأن “المجتمع يخدع نفسه على الدوام“([2]). وأوّل خطوة لتعرية أوجه الخداع المعرفي هو أن نكشف مختلف المسارات والشروط التاريخية التي نشأت في ظلها ظواهر الإرهاب والتطرّف، وكيف انتشرت خاصة في منطقتنا العربية والإسلامية التي تنعت بأنّها خير أمّة أخرجت للناس، في حين أنّ حالها أصبح الأسوأ بين جميع أمم العالم.
2ـ غالبا ما يقع الباحثون في علم الاجتماع الذين يبنون إشكالياتهم العلمية بكل بساطة من ألفاظ تستعار من المفردات المتداولة سياسيا دون رؤية نقدية لها، وتحت وطأة اللغة التي تزودهم بموضوعاتهم ولو ظنوا أنّهم لا يخضعون إلا لما هو معطى(Le donné)([3]). فنحن في حاجة مثلما يقول “ألفن توفلير” ( Alvin Toffler)إلى القيام بـ”القطيعة المنهجية” في إعادة دراسة هذه الظاهرة، لأنّ “تقنية القطع التي تتمثل بالنقد المنطقي للمعرفة الاجتماعية الشائعة تعد أداة لا بديل لها في علم تشخيص أمراض اللغة المألوفة”([4]). ويمكّن هذا النقد عالم الاجتماع من ازالة الغشاوة و”الضبابية الدلالية” التي تحيط بالمصطلحات الأكثر شيوعا واستعمالا من قبل العامة والخاصة، حتى يتمكن بعد ذلك من التحكم في المعاني العائمة والعائدة لكثافة الاستعارات بما فيها تلك التي تبدو ميتة في الظاهر. وهذه الضبابية الدلالية لمفاهيم “التطرف” و”الارهاب” وعدم التمييز بينهما باتت تشكل “ثقوبًا سوداء” في معمار عدد من الدّراسات والبحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية حول ظاهرة الإرهاب.
3ـ لقد دخلنا إلى عصر معرفي جديد لم تعد فيه المصطلحات تعبر دائما عن مدلولاتها الواقعية، منذ أن تحوّلت بعض الظّواهر (التطرف والارهاب وتجارة المخدرات وتبييض الأموال..) إلى ذخائر للتحكّم في النّزاعات السياسية وإدارة الأزمات الاجتماعية التي تحدث يوميا من حولنا في ظل العولمة التي لم تعد فيها الظروف المحلية هي التي تحمل فعلا معنى ما يدور فيها من أحداث“([5])، بل إنّ الوضع المحلي أو الوطني لا يضفي إلا معنى ثانويا أو هامشيا على جوهر هذه الأحداث لتجد تفسيرها الحقيقي والموضوعي على المستوى العالمي بدرجة أولى. لهذا، تحوّلت أغلب الأحداث العالمية ـــ ومنها ظاهرة التطرّف والارهاب ـــ إلى وقائع “مُشكّلة” ( ليست نتيجة مسارات طبيعية) لإعادة البناء المجتمعي، وليست مجرد ظواهر اجتماعية عابرة، وهذه الطبيعة البنيويّة لظاهرة الإرهاب في تركيبة أبنية الواقع الاجتماعي تمثّل مشكلة منهجية معقّدة ينبغي أن نعمل على تحليلها.
عندما نقرأ بعض الدّراسات والبحوث التي كتبت في الإرهاب نجد أن الكثير منها قد كتب وفق مقاربات تجزيئية (Micro Paradigme) كمن يرى الشجرة دون الغابة. وليس الانتقاد هنا موجّها إلى التخصصيّة العلمية الضيّقة في البحث، بقدرما نعني بها خطورة اختزال ظاهرة “الارهاب” باعتماد أحد أبعادها والخروج بنتائج أحادية الجانب سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية أم أمنية. لقد اجتاحت نزعات التطرّف والحركات الإرهابية جميع المجتمعات، وشملت مختلف الفئات الاجتماعية وكل الحقول المجتمعية؛ فهناك تطرّف في الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي التربية والتّعليم…الخ، والإرهاب ليس ظاهرة دينيّة أو اقتصادية أو سياسية محضة، بل هو ظاهرة مركبة في أسبابها ووسائلها وميادينها وأهدافها.
لقد حذّرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تقريرها السنوي الذي تعرض فيه أوضاع حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم الذي أصدرته عام 2002 من أن ” الحملة المناهضة للإرهاب التي تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية كانت باعثا على الاعتداءات الانتهازية التي تتعرض لها الحريات المدنية عبر أنحاء العالم. وفي الوقت نفسه، فإنّ تلك الحملة تتيح فرصة لتركيز الانتباه على حرمان الشّعوب من التمتع بحقوق الإنسان والديمقراطية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث وضعت الحكومات الاستبدادية ملايين البشر بين خيارين: إما اللّجوء إلى سياسات التطرّف أو عدم ممارسة السياسة على الإطلاق.
ويمكن أن نفسّر ذلك مثلا من خلال السّلوكيات والحركات المعادية للأجانب والمهاجرين في أوروبا وأمريكا والحركات الدينية السياسية المتطرفة في الغرب والشرق على السّواء([6]). فقد ازدادت وثيرة التطرّف اليوم، خاصة في الدّول والمجتمعات الأقل تأقْلُما مع التغيرات العالمية الرّاهنة، نتيجة عوامل متعدّدة تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية. لهذا، ينبغي علينا أن نعتمد المقاربة السوسيولوجية النقدية لتناول قضايا التطرّف والارهاب نظرًا إلى عدم وجود رؤى موحّدة حولها، وباعتبارها تمثّل مركز الخلافات والصرّاعات الدولية اليوم، خاصة في منطقتنا العربية والإسلامية. ونظرا إلى خطورة هذه الظّاهرة على مصير أمتنا العربية في المستقبل، فينبغي علينا أن نقوم بفحص هذه الإشكاليات المنهجية والمعرفية بدقّة وموضوعيّة، “وإعادة تحليل الواقع وفهمه فهمًا جديدا باعباره من الشروط الأولية لتصحيح مسار هذه الأمّة بعد أن عاشت قرونا في أزمات التخلف والتبعية والتطرّف وغيرها([7]) من أشكال مظاهر الإذلال.
إذا كانت جماعات التطرف والعنف في الدول المتقدمة، هي إفراز سلبي لمشكلات التحضر والفردانية والتفكك الاجتماعي والأخلاقي، فإن تنامي هذه الظاهرة في منطقتنا العربية والإسلامية هي نتيجة لمشكلات التخلف والتبعية والاستعمار وغياب الأنظمة الديمقراطية. ونتيجة اتساع هذه الظاهرة وامتدادها دفع بعضهم إلى وصف القرن الحالي بأنه سيكون “قرنا للتطرف والعنف والإرهاب”([8]).
منذ بداية القرن التاسع عشر، كان بناء تاريخ العالم واقعا تحت هيمنة أوروبا الغربية، وذلك تبعا لوجود جيوشها في بقية أنحاء العالم ونتيجة للثورة الصناعية التي مكنتها من تركيز سياساتها الاستعمارية فيها. وفي ظل غياب التوصيف الدقيق لأسباب الإرهاب وأهدافه، اتجهت الأبحاث حول هذه الظاهرة إلى الاعتماد على الخطاب السياسي الغربي، فكانت أغلب الدراسات حولها غير موضوعية ولم تؤد في أغلبها إلا إلى إرباك التفسير العلمي والموضوعي لها .
ثانيا: في معنى الإرهاب
يُعرّف المصطلح بأنه كلمة تعبر عن مفهوم خاص، في مجال محدّد“([9]). لذلك، فإنّ السياق هو الذي يحدد معنى الكلمة، لأنّها مرتبطة به ارتباطا شديدا إلى درجة أن فهم معناها يستحيل إذا وردت خارج فهمنا لسياق ظهورها أو استعمالاتها. لكن الاستعمال المتواتر للكلمة قد يفقدها أحيانا جدّتها ويجعلها تكتسب عرفية واستقرارًا قد يتغير معناها مع مرور الوقت، ويؤدي إلى فقدانها معناها الأصلي ليهمن عليه ما هو متداول (الاستعمال العامي)، وقد يصبح المعنى المتداول والمجاز هو المسيطر عندما ينتقل اللفظ من الرّصيد العام أو اللغة العامة إلى الرصيد الخاص أو اللغة المتخصصة التي هي مادة المصطلح“([10]). ومعنى المصطلح أخص من معنى الكلمة العادية؛ فهو يعبر عن المفهوم العلمي المحدّد، وهو الذي يساعد في توضيح المعارف الإنسانية ويكشف العلاقات المعرفية([11])، بل إن المصطلح في البحوث العلميّة يمثل أحد المفاهيم والمؤشّرات الدّالة عن التخصّص العلمي.
إنّ عملية التّدقيق في مفاهيم “الإرهاب” و”التطرّف” وغيرها من المصطلحات السياسية، ومعرفة اشتقاقها لغويا تتطلّب جهدا بحثيا ومعرفيا سوسيولوجيا كبيرا، وتفترض التجديد على مستوى دلالاتها السياقية مع الحفاظ على المضمون الذي نحن بصدد تعرية أشكاله وصوره في الواقع. وبالنّظر إلى قانون التّغيير الذي يتميّز به العالم، يجب أن تتغير الأدوات التحليل. فالعلاقة بين شكل المصطلح والمعنى مرتبطة ارتباطا شديدا، إذ أنّ كل تغيّر في نقل الشّكل يصاحبه تغير في المعنى، والعكس صحيح. وهذا ما نلاحظه في استعمالات الخطاب السّياسي الرّاهن لمصطلح “الإرهاب”، فإنّه غالبا ما أدّى إلى تجريده من سياقاته فبدأ يكتسب معناه الجديد من “خلال استعمالاته المتداولة أو اليومية دون دقة أو موضوعية”([12]).
فما هو المقصود بالارهاب تحديدا؟ وكيف يمكن أن تؤدّي تعريفات الارهاب إلى تشتيت معانيه؟ هكذا يتساءل الكاتب الصحفي الأمريكي “إيبيغيل إيسمان”(Abigail R. Esman) في مقالة له في موقع “معهد أبحاث المشروع الاستقصائي حول الإرهاب”([13]). إن الارهاب، بحسب هذا الكاتب، هو مفهوم عميق استطاع تشكيل السياسة الدولية في مختلف بقاع الأرض لعقود، وازداد بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ورصد الباحث أليكس شميد Alex Schmid ))) في كتابه Political Terrorism نحو 109 تعريفات لمصطلح الإرهاب، وهي تنطلق من خلفيات ومصالح سياسية مختلفة. أما الباحث والمفكر الأمريكي” نعوم تشومسكي” فقد حدّد مضمون الإرهاب باعتباره كل محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما عن طريق الاغتيال والخطف أو أعمال العنف، بهدف تحقيق أهداف سياسية، سواء كان الإرهاب فرديًّا أو تقوم بهة مجموعات أو تمارسه دولة، وهو الإرهاب الأكثر خطورة “([14]).
إذًا، يعتبر مصطلح “الارهاب” من أبرز المصطلحات السّياسية الذي تأكّدت من خلاله، بشكل واضح، عمليّة امتهان السّياسة للّغة، أو امتهان اللّغة لأغراض سياسية. فهذه الكلمة، مثلما يذهب العديد من الباحثين في العلوم الإنسانية، أصبحت تحمل الشّتائم والتّهم أكثر ممّا تحمله من توصيف للظاهرة المرصودة في حد ذاتها. وباتت، بحسب البعض، تستخدم كلمة “الإرهاب” سلاحا في القمع الفكري، مهمته تجريم الضعيف إذا لجأ لاستخدام ما تيسر له من قوة لمحاولة درء الظلم الواقع عليه، بينما يعتبر استخدام الأقوياء للقوّة الفائقة والغاشمة “إقرار للقانون والنّظام” حسب ما يراهما ويعتنقهما حاكم جائر“([15]).
لقد دُمِغت بالإرهاب كل الدّول العربية والقوى السّياسية المعارضة لسياسة الولايات المتّحدة الأمريكية والمناهضة لدولة الكيان الصهيوني. وتحوّلت هذه الكلمة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى مقاربة سياسية تعتمدها الدّول الإستعمارية وتشرّع بها الحق في التدخّل في كل مكان في العالم. إذ قامت استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في التدخل في شؤون الدّول على ابتكار الأقنعة وأدوات “القوّة النّاعمة” (Soft Power) ([16]) التي تخفي بها نواياها الحقيقية في الهيمنة على العالم، وهذه الأقنعة تعتمد أساساً على التّلاعب باللّغةً؛ فكانت كلمة “الإرهاب” إحدى هذه الأدوات من “أجل إشاعة تعريف وفهم مشوه له يؤثر في إدراك من يتلقون التعرف وفهم حقيقة الظاهرة التي تزعم الكلمة التعبير عنها، بهدف تشويه إدراك الرّاي العام للظّاهرة، ومن يمكن نعته بـ”الإرهابي([17]). وأصبح الإرهاب من الأساليب غير المباشرة للقتال الذي يستخدم من أجل ارباك دولة أو تحقيق إذعان لشعب“([18]).
على الرّغم من إقرار المجتمع الدّولي بمخاطر ظاهرة الإرهاب الناجمة عن التطرُّف، فإنّه لم يتوصل حتى الآن إلى تعريف المقصود به، على الرغم من وجود حزمة من القرارات الدولية، لكنها ومنذ عام 1963 كانت قطاعية، أي أنّها تشمل تشريعات تتناول بعض مجالات الإرهاب؛ مثل الهجمات الإرهابية على متن الطائرات أو الاستيلاء عليها أو خاصة بالمواد النوويةّ أو تهديد النقل الجوي أو مكافحة التفجيرات أو تمويل الإرهاب الدّولي أو مكافحة الإرهاب النووي أو غيرها. كما نال موضوع الإرهاب والتطرف حيزا زمنيا هاما من اهتمام وسائل الإعلام والسياسيين والندوات العلميّة على المستويات الوطنية والدولية، وبات يشغل جميع المنظمات الإقليمية والعالمية، وأنفقت من أجله مئات الآلاف من الدولارات. لكن ما يميّز هذه الظاهرة، على الرّغم من الاهتمام الدولي غير المسبوق بها، أنّها لم تحدّد أركانها وعناصرها ومواصفاتها بدقّة إلى اليوم، بل مازال مصطلح “الإرهاب” غامضا وشاملا لمختلف المجالات السياسية والاقتصادية والدينية…الخ.
وإنّ معظم الاتفاقيات التي صدرت عن الأمم المتحدة لم تعالج موضوع الإرهاب بصورة شاملة، بل تعاملت مع ظواهر الإرهاب الفردي وإرهاب الجماعات، واستبعدت معالجة ظاهرة الإرهاب الدولي “الرّسمي” الذي تمارسه القوى الإستعمارية الغربية في منطقتنا العربية وأنظمة دول هذه المنطقة على شعوبها. فالطابع الجديد للعنف، مثلما يذهب البعض([19])، غالبا ما يظهر في القابلية على قهر الإنسان وظلمه وإذلاله وبمسميات عديدة وأوجه مختلفة”.
إنّ المقاربة النقديّة في علم الاجتماع وعلم النّفس تنطلق من بديهة وهي أن الفرد أو الجماعة “الإرهابية” لا تولد إرهابية، وإنّما تتحوّل إلى ممارسة الإرهاب بفعل عوامل بيئية اجتماعية وسياسية ودينية وثقافية. ولذلك، فمن الضروري دراسة هذه الأسباب والعوامل التي تنتج هذه الظاهرة أو تدفع الشباب إليها. كما أنه من الضروري معرفة البيئة السياسية القمعية التي عادة ما تكون سببا مباشرا في ضعف الوعي المواطني وانتشار حملات التحريض السياسي والثقافي والإعلامي وتهيئ الشباب وتعبئهم لتقبل الفكر المتطرف والانخراط في الحركات الإرهابية. لهذا، نعتقد أن مفهوم الإرهاب ، مثلما يتم تداولها اليوم، هو نتاج للعقل الغربي الذي قام بدور مهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في تشكيل العقل السّياسي في العالم والتحكم فيه. فظل هذا المفهوم مثل غيره من المفاهيم السياسية الأخرى “أسير” سلطة حكومات الدول الكبرى المسيطرة على الخارطة الجيو ــ سياسية في العالم، وبقيت إلى اليوم، تمثل المرجعيات والمراكز المنتجة للمصطلحات ضمن هيمنتها الحضارية والثقافية.
الخاتمة
تعتبر كلمة الإرهاب من أهم المصطلحات السياسية التي أصبحت حاملة لمظاهر الغموض والالتباس والاختلاف أكثر من حالات الوضوح والاتفاق حول سماتها. كما تثير هذه الظّاهرة إشكاليات معرفية وأخلاقية حول المعايير العلمية لتوصيفها وتمييزها عن بقية الظواهر الأخرى مثل: حركات المقاومة والحرب النّظاميّة، أي مازالت تطرح إشكالية في ما يتعلق بظروفها وملابساتها التي تسمح لنا بأن ننعت سلوكا أو نشاطا ما بأنه سلوك أو نشاط إرهابي.
من المؤكّد أنّ ظاهرة “الارهاب” ليست ظاهرة طبيعية، وإنّما هي ظاهر بشرية صنيعة فعل الإنسان مثلها مثل الظواهر الاجتماعية الأخرى التي تحوّلت في مجتمعاتنا المعاصرة إلى “حركة” (Un mouvement) وأداة سياسية في النّظام العالمي الجديد، وباتت تتشكّل ذخائرها عبر مختلف المؤسّسات والنظم الاجتماعية والقانونية والوسائل الإعلامية، ولا يمكن لهذه الحركة أن تستقر أو تنتشر في أي مجتمع إذا لم تكن توجد فيه الثقافة والنفسية والبيئة المجتمعية (سياسية واقتصادية وأمنية…) الحاضنة والمنتجة لها.
[1] ـ أنظر جورج قورفيتش، الأطر الاجتماعية للمعرفة، ترجمة خليل أحمد خليل، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات، لبنان، الطبعة الثانية، 2008.
[2] ـ بيار بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، المغرب، الطبعة الثالثة، 2007، ص 19.
[3] – Ernest Cassirer, « Le langage et la construction du monde des objets », in Essais sur le langage, Paris, Minuit, 1969, pp.18-44.
[4] ـ ألفن توفلر، تحول السلطة، ترجمة لبنى الزيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص 29.
[5] – Alain Touraine, Un nouveau paradigme pour comprendre le monde d’aujourd’hui, Fayard, 2005, p.15.
[6] ـ تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، دار الساقي، بيروت ، لبنان، 1999، ص 25.
[7] ـ برهان غليون، اغتيال العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ المغرب، الطبعة الرابعة، 2004، ص 10.
[8] ـ أنظر مثلا، معتز محي عبد الحميد، “تفعيل جهود التعاون الإقليمي والدولي ضد الإرهاب.وهيثم كيلاني، إرهاب الدولة بديل الحرب في العلاقات الدولية”، مجلة الوحدة ، العدد 67، 1990.
[9] ـ عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، نماذج تركيبية ودلالية، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1986، ص360.
[10] ـ محمد حسن عبدالعزيز، المصطلحات اللغوية: تمام حسن رائدا لغويا، الطبعة الأولى، عالم الكتب، القاهرة، 2002، ص301.
[11] ـ محمد حسن عبدالعزيز، المصطلحات اللغوية: تمام حسن رائدا لغويا، المرجع نفسه، ص 301.
[12] – Dominique Maingueneau, L’analyse du discours, Paris, Hachette , 1991,p.10.
[13] – Abigail R. Esman, “ What Exactly Is Terrorism? Why Words Matter”, in Special to IPT News, March 26, 2018.
[14] ـ نعوم تشومسكي، الارهاب : حالة 11 سبتمبر 2001، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب،الطبعة الأولى، 2003،ص 21.
[15] ـ نعوم تشومسكي، الإرهاب الدولي:الأسطورة والواقع، ترجمة لبنى صبري، سينا للنشر، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى1990، ص7.
[16] ـ يُعرّف الكاتب والديبلوماسي الأمريكي “جوزيف س.ناي”(Joseph S.Nye) القوة الناعمة باعتبارها ” القدرة على الحصول على ما تريده عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال.ورد في كتابه ، القوة الناعمة:وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق البحيرمي، العبيكات للنشر، 2007.
[17] ـ نعوم تشومسكي، الإرهاب الدولي:الأسطورة والواقع، مرجع سابق، ص10.
[18] ـ محمد عزيز شكري، الإرهاب الدولي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1991، ص46.
[19] ـ إبراهيم الحيدري، سوسيولوجيا العنف والإرهاب: لماذا يفجر الإرهابي نفسه وهو منش فرحا؟، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2015، ص10.
1 تعليق
للأسف في وقتنا الحاضر نرى العديد من مشاكل الارهاب و انتشاره بعالم ، تنتهج الجهات المتطرفة أسلوباً إكراهيّاً في حق الأفراد داخل المجتمعات الدوليّة، ومن المتعارف عليه أنّ الإرهاب لا هدف له ولا دين له، وكما أنّه لا يلتزم بقانون ويخالف كل ما يحترم الإنسانيّة والأديان، وكما أنّه يفتقر إلى الأهداف المشتركة بين الجهات المتطرّفة. الإرهاب لغةً: مصدر للفعل الثلاثي “رهب” ومعناه خاف وفزع ورُعِب، فالإرهاب هو الإخافة والإفزاع ، و للأسف نرا العالم بوقتنا الحالي يربطون الاسلام بالارهاب و أنه دين ارهاب مع ان هذا مما لاشك فيه خطأً في حق هذا الدين الجميل .