سنّة محرّفة

سنّة محرّفة

ترجمة. د. سماح حمدي

الملخّص

في هذا المقال المقتطف من كتاب أوليفيي كاري: “الإسلام اللاّئكي، أو العودة إلى السّنة العظيمة، الذي صدر سنة 1993، أراد الكاتب أن يستدلّ على أن علماء الكلام المسلمين قد أرسوا سنّة مهمّة تمّ بموجبها فصل السياسيّ عن الدّيني، وأنّ المتكلمين المعاصرين السّنّيين منهم والشيعة هم الذين وضعوا، بداية من ق19، إصلاحا يقطع الصّلة بالتقليد الطويل المرن والمنفتح، وهو الذي أرسى انحرافا كبيرا يدفع تجاه التطرّف.

Abstract:

In this article, fromhis book “Laique Islam, or The Return to the Great Tradition,” publishedin 1993, Olivier Carré wanted to provethat Muslim theologians have forged a Great Tradition that separates politics from religious and that itis contemporary Sunni and Shia theologians who have created – from the 19th century – a reformism that breaks with the long flexible and open Tradition and which installs a great deviance pushing towards extrimism installs a great deviance pushing towards extrimism.


مقدمة:

 هذا المقال ترجمة للفصل الثاني من كتاب “الإسلام العلماني، من الصفحة 29 إلى الصفحة 38. أو العودة إلى السُّنة العظيمة” من الصفحة 29 إلى الصفحة 38. للكاتب الفرنسيّ أولفيي كاري Olivier Carré وهو فرنسيّ مختصّ في الإسلام والسياسة والاجتماع في العالم العربي، وباحث في مركز الدراسات والبحوث الدوليّة. عمل مدرّسا في جامعة السوربون الجديدة وفي مركز البحوث الدوليّة. من مؤلّفاته: “الإسلام والدولة في عالم اليوم” (1982) و”الإخوان المسلمون”(1983). وقد صدر الكتاب عن دار أرمند كولان Armand Colin سنة 1993.

يبدو الوضع الحاليّ للإسلام مغذّيا للجوهر السياسي، وإذن لثيوقراطيّة الإسلام باعتبارها دينا، وبالخصوص الإسلام الشّيعيّ. لكن، في الواقع، لا يتعلّق الأمر إلا بسنّة قصيرة وحديثة حتّى نتحدّث هكذا عن “سنّة منحرفة”.

إنّها سنّة لأنّ جهازا إسلاميّا دوليّا يفرضها ويحميها، وهي منحرفة لأنّها في تنافر مع السّنّة الإسلاميّة الكبيرة في السياسة، وهوما سنبيّنه في الفصل الخامس.

ثمّة تضامن دوليّ بين ما يمكن أن نسميه جهاز الإسلام. وبالتأكيد: فلا يوجد إكليروس في الإسلام بمعنى التراتبيّة التي تملك سلطات مقدّسة، مثلما هو الأمر في المسيحيّة مع الرّقابة الاجتماعيّة المعتبرة التي تمارسها غربا الكنيسة خاصّة من خلال سرّ التوبة.

ولكن، بالتّأكيد هناك طاقم متخصّص في مهام العبادة والعقيدة، وهو يكوّن في العالم الإسلاميّ شبكة من علماء في المجال الديني. ومن فقهاء القانون الإسلامي ومن أئمة عدد لا محدود من المساجد أو الأضرحة، وأئمّة الجمعة وقضاة منشغلين بمسائل المسلمين. وتناقش كلّ المشاكل العمليّة والثقافية والفقهيّة والسياسيّة التي تطرح على هذا الطّاقم في اجتماعات دوليّة، وفي مؤتمرات للعلماء والفقهاء، وفي ندوات لرؤساء الدّول الإسلاميّة أو لوزرائهم. وتعتبر جامعة الأزهر الإسلاميّة بالقاهرة مثلا، بمثابة مركز ثقافيّ قديم للفكر الإسلامي في كلّ المجالات. ومنذ بدء القرن العشرين، عقدت مؤتمرات إسلاميّة إمّا في الهند أو باكستان، مستوحاة من المشرق العربيّ (مؤتمر مكّة لسنة 1926، والقدس لسنة 1931)

ويبقى المؤتمر الدائم للعالم الإسلامي الذي تأسّس في كراتشي سنة 1949، ذا تأثير باكستانيّ وأندونيسيّ أيضا. لكنّ الوزن الماليّ الصّاعد للعربيّة السعوديّة، مقترنا بدورها في حماية أماكن الحجّ المقدّسة بمكّة والمدينة، يمنحان هذا البلد أهميّة متزايدة، خصوصا منذ تأسيس منظّمة دول المؤتمر الإسلامي سنة 1970 التي يقع مقرّها في جدّة، وبالتوازي مع رابطة الدول الإسلاميّة (وهي منظّمة غير حكوميّة تأسّست سنة 1962) ذات الأهداف الثقافيّة والدّعويّة، ومنذ 1975، ذات شبكة بنكيّة إسلاميّة عبر العالم. فثمّة مساجد فخمة ومراكز جامعيّة جديدة مجهّزة جيّدا، مشيّدة غالبا على نفقة السّعوديين، تتخلّل العالم وخصوصا إفريقيا، منذ بضع سنوات.

ويبدو أنّ القطبين السّعوديّ والباكستانيّ يتكاملان أكثر مما يتنافسان.

ونشأت حركات إسلاميّة راديكاليّة مميّزة عن هذا الجهاز، ولكنّها مدعومة منه بطريقة مباشرة نوعا ما منذ السنوات الـ 70، وقد أصبحت حركات إسلاميّة راديكاليّة إمّا متهافتة وعنيفة وإمّا في شكل مجموعات ضغط ­تتكوّن -حيث يسمح القانون بذلك- في أحزاب سياسيّة.

ومن أندونيسيا إلى المغرب مرورا من أفغانستان والاتحاد السوفياتي السابق المسلم (L’EX-UNION SOVIÉTIQUE MUSULMANE) ويوغسلافيا قديما وسوريا ومصر وتركيا وإفريقيا الصّحراويّة والمغرب تشترك هذه المجموعات تقريبا في نفس الأفكار ونفس ممارسات النشطاء فيها.

وحاليّا، فإنّ للموقف الإسلاميّ العام أصلا داخل ما يسمى بـ “الحركة الإصلاحيّة”، وفي الواقع “الأصوليّة” والعودة إلى الجذور أكثر من التجديد والإصلاح. وإنّ هذا النّوع من السّنة التي تدعى نيوإسلام قد أصبحت اليوم مقبولة عند بعض المتطرّفين سواء من الإسلاميّين أومن العلمانيّين.

ومع ذلك، فإنّ التّكيّف الإسلاميّ مع العالم المعاصر موجود. وهذا التّكيّف هو حلّ وسط وليس طفرة أو تحوّلا ثقافيا. وحسب هذه السّنّة الحاليّة، يجب ببساطة تبنّي علوم الغرب وتكنولوجياته دون ممانعة ودون تأخّر ظاهر، ولكن مع المحافظة الكليّة على المعتقدات وعلى التطبيقات (التشريعات) الاجتماعيّة، فنقبل العلم طالما أنّه لا يخترق الإيمان والتفكير الدّغمائيّ، ونتقبّل التقدّم التكنولوجيّ طالما أنّه لا يغيّر العقليّات والبنى الاجتماعيّة والأسريّة. وعلى خلاف الديانات التوحيديّة الأخرى، فإنّه يقال إنّ الإسلام في توافق جوهريّ وكليّ مع العقل والعلم. وتبعا لذلك، يمنع على العلوم التدخّل في الإيمان وإخضاع النصّ القرآنيّ وأحاديث الرسول وحياته وتاريخ المسلمين الأوّل واللّاحق لمناهجها. وفي هذه النقطة فقط، رُفض العلم المعاصر ومازال مرفوضا في الإسلام ” الرّسميّ”. ليست إعادة هيكلة رسميّة إذن، وإنّما إصلاحات خارج النّواة العقائديّة باستثناء ما هو عند بعض المثقّفين أو الروحانيّين الجدد الذين ترفضهم السّنة الحاليّة وتضطهدهم. وسنذكرهم في الفصل الحادي عشر.

إنّ السّنة الحاليّة للجهاز الدّوليّ المتأثرة بالغ التّأثر بالإخوان المسلمين منذ السنوات الخمسين ترى أنّه من الضّروريّ إعادة إثبات التشريعات الإسلاميّة كاملة مثلما بلورتها المؤلّفات التشريعيّة الإسلاميّة للسّنة. وفعلا، فإنّ التفكير الإسلاميّ منغرس دائما في التّشريع. وزيادة على القانون المدنيّ والقانون العامّ والقانون الجبائي، فإنّ القانون العام والتّأسيسيّ قد أخذ بعين الاعتبار بدافع من رجال القانون السّعوديّين. وقد تمّ اقتراح دستور إسلاميّ سنة 1978 صالح لجميع الدّول الإسلاميّة. وقد أنشأه المجلس الإسلاميّ العالميّ في شكل “الإعلان الإسلاميّ العالمي لحقوق الإنسان” (باريس لندن 1981 وفي شكل “نموذج لدستور إسلامي” (إسلامباد 1983). وحسب هذه الوثائق وغيرها ممّا كتبته مباشرة الرابطة الإسلامية العالمية فإنّه من الضروريّ تنقيح الأحكام والقانون الجنائيّ على طريقة ما هو معمول به في السودان سنة 1983 بعد القانون القديم الذي كان للعربية السعوديّة وأحدث منه قانون باكستان، دون أن نذكر مثال إيران المطعون فيه. والشعار هو “تطبيق الشريعة”.

وإنّ مصر الديمقراطيّة والتّعددية منذ السنوات الثمانين قد سجّلت تطبيق الشريعة في البرلمان، ويحاول البعض، مثلما هو الحال في السودان سنة 1983 ثمّ 1989، الإنشاء الفوريّ، بالقوّة، لحكومة إسلاميّة مقلّدين في ذلك النظام السعوديّ ومطبّقين فورا ما يظنّونه الشريعة.

وها هو ما يحمله المشروع في النهاية:

زكاة: وهي صدقات إجباريّة محدّدة المبالغ، وهدا يعني حسب رأيهم منع الربا، وهو منع كلّ قرض بفوائد، مع تمديد وصرامة بارزة من البنوك الإسلاميّة (بدون فوائد)، ولكن خصوصا، وبصفة فوريّة، قوانين مدنيّة تفرض نفوذا على غير المسلمين وعلى وضعيّتهم التمييزيّة، وأيضا، قانون دستوريّ يؤسّس مجلسا استشاريّا دون نفوذ ولا تشريع ولا تنفيذ لدى الأمير (الإمام) الذي يتمتّع بالولاء الشخصي للرعايا، وتطبيق (دون إعداد قانونيّ ودون أيّ معنى لتاريخ المجتمعات وللقانون) العقوبات الجسديّة التي ينصّ عليها القرآن والعادات الأولى للمسلمين من قبيل عقوبة الموت وعقوبات القطع (قطع أعضاء الجسد) ضدّ المرتدّين والزّناة والزناة بالمحارم والسّارقين واللّصوص والمتمرّدين على النّظام العام والثالبين، وعقوبات الدّية المسمّاة “ثمن الدم” والقانون الأسري وقانون الأحوال الشخصيّة سيكون قرآنيّا بالكامل أكثر ممّا كان عليه.

هكذا كان على الجزائر (سنة 1984) ومصر (1985) ” أسلمة القانون ” في هذا الاتجاه أكثر بقليل ممّا كان عليه. ها هي السّنة الجديدة التي اعتبرتها محرّفة.

لماذا محرّفة؟

بالنسبة إلى المسلمين المتنوّرين الذين يكاد لا يُسمع لهم في المؤسّسات الإسلامية الرّسميّة، فإنّ الشريعة حتّى في مجال قانون الزواج، هي إلهام، ومسار، مُعبّر عنه في سياق محدّد تاريخيّا ومغلق منذ فترة طويلة، يتناسب مع المفاهيم الكونيّة لـ “حقّ الطبيعيّ” ولـ “حقوق الإنسان ” و “للمبادئ الأساسيّة للقانون”. إنّهم يأخذون سنّة المسلمين العظيمة التي بمقتضاها يصحّح قانون السلطة المتعلّق بشؤون المجتمع الطبيعيّ والصّراعيّ للإنسان والسلوك الاجتماعيّ والقانون الإلهيّ المعلن. ويضيف إليها مهامّ دينيّة لكنّه لا يحدّد لها جوهرها. والآن، دعنا نفكّر: هذه النظرة هي وجهة النّظر السائدة في الشريعة الإسلاميّة التقليديّة سواء السّنيّة أو الشيعيّة، في مواجهة نظريّات الناشطين المتطرّفين للتيّارات التي تعتبر بدعيّة، الخوارج ثمّ الإسماعيليّة (مقصورون على فئة معيّنة) المختلفة (والتي سأتحدّث عنها في الفصلين 5 و6).

هذه السّمة الحقيقيّة هي في الأساس معادية لفكرة المهدي المنتظر وخاضعة للّه. لكنّها تجد نفسها مُنتقدة بقوّة سواء من الإسلاميين الذين يؤمنون بفكرة ظهور المهدي أومن قبل الإسلام الرّسميّ نفسه. وسيناقش قلّة من الإصلاحيّين والمصلحين الحقيقيّين النّظريّات الإسلاميّة بعمق سواء منها الإصلاحيّة أو الإصلاحيّة الجديدة أو الثوريّة النّشيطة وسيبيّنون، وليس بدون أسباب، أنّ السياسيّ والدّينيّ متمايزان في الإسلام كما في الحضارات الأخرى، وأنّ النّظريّة الإسلاميّة هي نفسها، وليس الممارسة فقط، قد فصلت بعناية الرّوحيّ عن الزّمنيّ عندما انتهت الممارسة النبويّة، وأنّ “السنّة المحرّفة ” الحاليّة مستوحاة من سنّة بسيطة وغير تقليديّة تؤكّد هويّة الدّين والدّولة والزمنيّ بشكل عام. وهذا الرّوسم “ددد” (دين دنيا دولة) الذي استرجعه العقل السني الإسلامي الحالي، لا قيمة له إلّا في “التقاليد الصغيرة” أو” المساجد الصّغيرة ” (بالمفهوم السّوسيولوجيّ) سواء المقصورة على فئة معيّنة غير مسلمة، أو على هوامش الإسلام التي ترثها المجموعات المتطرّفة الحاليّة بطريقة عدوانيّة: إنّها سنن الخوارج والإسماعيليّة المتطرّفة التي تعتبر أنّ ممارسة الحكم من قبل مسلم عادل أمر ضروريّ والتي تفرض دوما الثورة والحرب، وينظر إلى الحرب باعتبارها (ضدّ السنّة العظيمة) فرض عين (يقود إلى) تطهير دائم.

وقد تبنّى الإسلام الرّسميّ منذ العشرينات (مؤتمر المسلمين والجامعات وكبار المفتين) أكثر فأكثر رؤى السّنة العظمى الأقلّ خضوعا، وهي بعض ما كتب ابن تيميّة (ت 1328) والتي ربّما تتّفق مع وضع تبعيّة أو رضوخ لاحتلال عسكريّ. وقد تأثر رشيد رضا (ت 1935) الإصلاحيّ بابن تيميّة ونقل تأثّره للأسف إلى الفكر الرسميّ الحاليّ. فقد سادت إذن حنبليّة جديدة المجال السياسيّ، وهذا يعني مذهبا سياسيّا راديكاليّا يخلط بين الروحي والسياسي في صفوف تلاميذ ابن تيميّة.

وكان هؤلاء التّلاميذ، مثل الّسعوديين اليوم، ينتمون للمدرسة الفقهيّة “الحنبليّة” الأكثر انضباطا من المدارس السّنيّة الثلاث الأخرى، ولكنّها ليست متطرّفة أبدا في الجانب السياسيّ، بخلاف الحنبلة الجديدة الحاليّة. ومن الخطأ والخطير أن ندّعي أنّ الإسلام في الجوهر يجمع بين الدّينيّ والسياسيّ بالرّغم من الميل المذهبيّ اليوم في إسلام الجهاز وفي الإسلام الموازي (انظر الفصل 3).

وللأسف، فإنّ بعض الكتّاب يسقون قرّاءهم المهتمّين والمنشغلين بالإسلام بأفكار خاطئة وبثقة في النفس مفاجئة.

وهكذا، فإنّ طبعة ثانية مراجعة ومنقّحة لكتاب جديد تذيع أنّ التفكير العربيّ الإسلاميّ ينكر كلّ تفرقة بين المجتمع المدنيّ والمجتمع السياسيّ (ص 109)، وأنّ من الضّروريّ بالنسبة إلى أغلب المفسّرين التخلّصَ من القيادة عندما تكون مدانة نزولا عند مبدأ الثّورة على الظالم، وهذا يتعارض بقوّة مع الحقيقة. وبالفعل، فإنّ هذه الإسلاميّات ترتكز على ثيوقراطيّة الإماميّة الشيعيّة المثلى قبل الفتنة الكبرى، كما ترتكز على مبدأ الإسماعيليّة المتطرّفة وعلى الحشّاشين في العصر الوسيط. إنّهم لا يرون غير المصلحين الإسلاميّين ذوي الإلهام الجائر والمتزمّت كما لا يرون سوى بعض الناشطين الإسلاميّين الحاليّين. وقد تمّ تجاهل السنّة الممتدّة في الزّمان، والحال أنّها تميّز بقوّة بين فترة النبوّة والفترة اللاحقة لها، وبين السلطة السياسية والسّلطة الدينيّة.

وإنّ هذا التّجاهل لهذه الحقائق المعقّدة يفسح المجال لعديد الأحكام المسبقة ويدفع إلى أعمال معادية للإسلام، وهي تدعو إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام في سنّته الكبرى يتبنّى مواقف الإسلاميّين، وهو أيضا قد يشجّع مسلمي فرنسا على أن يصبحوا متطرّفين ظنّا منهم بأنّهم سيصبحون من أفضل المؤمنين.

وإنّ تصديق ما في هذه الكتابات، يدعو إلى الاعتقاد بأنّ التّهمة المفضوحة بالإعدام والملاحقة الإرهابيّة للكاتب الهنديّ البريطانيّ سلمان رشدي تكون في نهاية الأمر تهمة إسلاميّة، وليس الأمر كذلك بالمرّة. وإنّ المتطرّف الشيعيّ اللّبنانيّ محمّد حسين فضل الله قد أعلن في شهر مارس 1989 للصحافيّ في مجلّة “ليبيراسيون” أنّ موقف الخميني الّذي أعلن فيه وجوب قتل رشدي لم يكن قرارا متماشيا مع الشّريعة عن المعتاد والذي يراد منه تحقيق فائدة عليا تتمثّل في إنقاذ الثورة الإسلاميّة في إيران، وبتعبير آخر، فإنّ الأعمال الممنوعة تصبح نافذة حسب فضل الله كلّما كانت هذه الأعمال نافعة، إلاّ أنّ إعلان وجوب قتل رشدي والأمر بذلك دون محاكمة ودون احترام الحدود الدّوليّة والاعتقاد بأنّ المرء قادر على أن يقرأ تماما مثل الله نفسه ما في ذهن رشدي والحكم عليه بالكفر وعدم الإيمان يفضي (كلّ هذا) في الحقيقة إلى القيام بفعل جاهليّ مضادّ تماما للإسلام ولا علاقة له بالمرّة بالقرآن الذي لا يأمر بقتل النفس خارج إطار الحرب. إنّه لموقف غير إسلاميّ الموقف الذي صدع به الخميني.

ولنشرح ذلك بأكثر دقّة:

إنّ كلّ مسلم مثقّف يعرف معرفة اليقين الآيتين الشّيطانيّتين الموجزتين اللّتين نسخهما الوحي بعد ظهورهما في القرآن نفسه. وترى الثقافة الإسلاميّة أنّ هاتين الآيتين المملاتين من قبل الشيطان، وليستا من عند الله قد أنكرهما الرّسول محمّد وحذفتا فيما بعد من المصحف القرآنيّ. فهما تقرّان بوجود فعليّ ومجدٍ لآلهات لمشركي مكّة “إنّها الآلهات العظيمات وإنّ شفاعتهنّ لمرجوّة”. وإنّ نفسيّة محمّد المعقّدة عند حصول هذا الخطأ­، والحال أنّه خطأ مفيد جدّا سياسيّا، (مثلما يرى فضل الله خطأ الخميني) قد ألهم الخيال السّرديّ الجميل لدى رشدي في كتابه “الآيات الشيطانيّة” وهو كتاب نرجّح أن يكون أكثر روحانيّة وإسلاما من الفتوى التي أصدرها الخميني. وقد سبق للخميني الذي كان ناشطا مغمورا في السّنوات الأربعين أن أصدر حكما بالإعدام في حقّ كاتب آخر وهو الإيرانيّ أحمد خسروي الذي أعدم حقّا بعد سنوات من ذلك على أيدي مجموعة إرهابيّة تدعى فدائيي الإسلام.

إنّ الاستشراق المتسرّع يرى أنّ مثل هذا الصّنيع منطقيّ ويساعد بصفة خاصّة الناس على اعتبار ذلك من الإسلام حقّا، وإنّ ذلك لجرائم وعقوبات على طريقة الإسماعيليّة والحشّاشين.

إنّ الباحث المشهور صبحي صالح المسلم السّني اللبناني صاحب الإيمان القويّ والثقافة العالية ونظيره المثقّف المسلم ذا التّوجّه الماركسي، الشّيعيّ حسين مروّة قد أعدم في بيروت سنة 1987 كما أعدم بعد ذلك زميلي وصديقي الفرنسيّ ميشال سورا، وإنّ السّودانيّ الذي كان منهمكا في تفسير للقرآن سريع، لكنّه نيّر، وهو محمود طه، قد أعدمته حكومته هو الآخر سنة 1985. وحديثا سنة 1992، وبنفس المنطق، الذي لا يمتّ بصلة إلى الإسلام إلا قليلا، مهما ادّعى مشارقة الثّراء الفاحش، أعدم الكاتب المصريّ فرج فوده على قارعة الطّريق بأمر شيطانيّ من خمينيّ صغير من أحواز مصر لا تربطه صلة بالإسلام، اللّهم إلا إذا أخضعناه لمقاييس “المتخصّصين” الجدد. وفي هذا إشارة إلى الطابع الخطير لكتاباتهم.

إنّ الإسلام الرسميّ في العالم في سنّيته المحرّفة الحاليّة قد تبنّى ارتجالا إعدام رشدي، ولكن بطريقة صارمة ودون تتبّع قضائيّ ولا إرهابيّ. وقد تمّ ضمنيّا رفض فتوى الخمينيّ. وفعلا، فإنّ هذا الموقف لم يقع التنكّر له بوضوح من السّلط الدينيّة غير الإسلاميّة الكاثوليكيّة بصفة خاصّة، بتعلّة عدم مصادمة حساسيّات غير المؤمنين بصفة عامّة.

مقالات أخرى

مجلة نقد وتنوير – العدد التاسع عشر (آذار- مارس) 2024

مجلة نقد وتنوير – العدد الثامن عشر (كانون الأول- ديسمبر) 2023

القرآن في التّديّن الصّوفيّ

1 تعليق

نادر سعود نادر العجمي 2 يناير، 2021 - 11:19 م
بالفعل فإن الأمر بالغ الخطورة فإن التحريف في نصوص الكتاب والسنة من الأمور الخطيرة التي تقشعر جلود المسلم من تصورها، حيث أنه تقوّل وافتراء على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وزيادة في كتاب الله وفي حديث نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أن علماء ديوبند لم يبالوا بذلك وحرفوا نصوصاً من القرآن الكريم ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ترجيحاً لمذهبهم وتأييداً لمسائلهم الفقهية، فإلى الله المشتكى
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد