الفرنكوفونيّة وفرنسا واللّغة الفرنسيّة شراكة ممكنة لنشر الثّقافة أم لفرض الهيمنة؟

الفرنكوفونيّة وفرنسا واللّغة الفرنسيّة

الملخّص

 يتناول المقال أبعاد العلاقة بين الفرنكوفونية وفرنسا واللّغة الفرنسيّة. ويبحث في مفهومها ومسارها التّاريخي من النّشأة إلى التأسيس وينظر في مدى التزام الفرنكوفونيّة المؤسّسيّة بالقيم الإنسانيّة المشكّلة للرّوح الفرنسيّة. ويحاول المقال الكشف عن مسوّغات الفكر الفرنكوفونيّ لنشر الثّقافة الفرنسيّة وبسط هيمنتها على المستعمرات السّابقة. فيستهدف الشّراكات الممكنة بين اللّغة الفرنسيّة، باعتبارها أكبر دعامة لتركيز المنظّمة الدّوليّة للفرنكوفونيّة، والسّياسة الفرنسيّة لنقل إيديولوجيا إنسانيّة قائمة على المساواة… ويبحث في الخطاب المجسّد للتفوّق الجوهريّ للّغة الفرنسيّة والثّقافة الّتي تنقلها على الثّقافات المحلّيّة. ويبرز المقال أوجه قصور اللّغة في تشكيل مجتمع متجانس دون ضرب للهويّة والتّاريخ. وإضافة إلى أنّه يسعى إلى تسليط الضّوء على مظاهر القوّة الّتي أدّت إلى انتشار اللّغة الفرنسيّة في وسط حضاريّ هشّ. وقد توصّلنا من خلال نقّاد غربيين للفرنكوفونيّة إلى أنّ مأسستها لم تكن بريئة وأنّ ديمومتها ومعانقتها العالميّة كانتا مرتهنتين إلى درجة وفاء فرنسا للرّوح الفرنسيّة واحترامها مبدأ التّعدّد اللّغويّ والتّنوّع الثّقافي..

 

Abstract

This article deals with the dimensions of the intricate relationship between Francophone, France and French. I will examine these concepts and their historical evolution from inception to foundation. Also, I will study the extent of the institutional Francophone’s commitment to human values that shape the French spirit. I will try to uncover the rationalisations of the Francophone ideology to spread the French culture and to extend its hegemony over the former colonies. Specifically, I will focus mainly on the possible partnerships between French, as the main pillar of the International Organization of (“la Francophonie”), and France’s policy for transmitting a humanistic ideology based on equality. I will examine the discourse that embodies the intrinsic superiority of the French language and the culture which it conveys on local cultures. The article highlights the deficiencies of language in forming a homogeneous society without striking identity and history. In addition, this article seeks to shed light on the manifestations of power that led to the spread of the French language in a fragile urban environment. Through Western critics of (“la Francophonie”), we have concluded that its institutionalization was not innocent and that its durability and its universal embrace were dependent on the degree of France’s loyalty to the French spirit and its respect for the principle of linguistic pluralism and cultural diversity.

مقدمة:

تناول عدد كبير من المفكّرين والكّتاب مسألة الفرنكوفونيّة وفق إيديولوجيّات وأفكار غلب عليها طابع الذّاتيّة، فتنوّعت المواقف بين مادح لها وذامّ، وبين مشيد بها ومنتقد. انبهر بها الأنصار وولعوا فتبنّوها لغة وثقافة، ونقدها الخصوم وعادوها فاعتبروها تركة استعمار ثقيل انتهى بآثار نفسيّة سلبيّة. قد يوحي مفهوم الفرنكوفونيّة بدلالة سيميائيّة عند ارتباطه بالبعد اللّغويّ، وبدلالة سياسيّة عند ارتباطه بالبعد التّاريخيّ، وبمعنى هويّاتيّ عند ارتباطه بالبعد الثّقافيّ. هكذا يكتنف المفهوم غموض يفضي غالبا إلى تصوّرات متعدّدة ومواقف متباينة. ممّا دفعنا إلى البحث في ماهية المصطلح محاولين تجلية أبعاد العلاقة بين الفرنكوفونيّة وفرنسا واللّغة الفرنسيّة من خلال مواقف مثقّفين وفرانكفونيين.

فما هو مفهوم الفرنكوفونيّة وتاريخها؟ وما هي مرتكزاتها الفلسفيّة ورسائلها الإيديولوجيّة؟ وهل مثّلت شراكتها مع اللّغة فرصة لنشر الثّقافة أم لفرض الهيمنة؟ وما هي منزلة اللّغة الفرنسيّة بالنّسبة إلى المنظومات التّربويّة للدّول الفرنكوفونيّة؟ وكيف نستشرف مستقبل الإرث الفرنكوفونيّ في ظلّ التّعدّد اللّغويّ والتّنوّع الثّقافيّ؟

1. مفهوم الفرنكوفونيّة وتاريخها

 أ- تعريف الفرنكوفونيّة لغة واصطلاحا

تمثّل الفرنكوفونيّة تيّارا ثقافيّا نُودي به في أعقاب استقلال البلاد الّتي كانت خاضعة للسّيادة الفرنسيّة بقصد الإبقاء على الصّلات الثّقافيّة المشتركة المتمثّلة في معرفة اللّغة الفرنسيّة وثقافتها، وتطوّر الأمر بإنشاء منظّمة الفرنكوفونيّة، وبتشكيل أمانة عامّة لها ومستويات مختلفة من القمّة الفرنكوفونيّة والتّوسع في توثيق الصّلات العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة بين الدّول الأعضاء وفرنسا الأمّ[1]. وتعني تحديدا مجموعة من الدّول – المنظّمة الدّولية للفرانكفونيّة OIF – التي أعلنت “أنّ الفرنسيّة لغة مشتركة بينها” والّتي تجتمع خلال قمم الفرنكوفونيّة لمناقشة المشاكل الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة. غير أنّها تعني أيضا، بالنّسبة إلى الكثير من النّاس، مجموع الأشخاص الّذين يستخدمون الفرنسيّة بالفعل في جميع أنحاء العالم، إما لكونها لغتهم الأمّ أو لغتهم الثّانية، أو لكونها اللّغة الرسميّة لدولهم أو اللّغة التي تعلّموها أيضا من أجل المتعة أو بدافع الاهتمام[2].

زُرعت الفرنكوفونيّة خلال تاريخ عرف بالازدواجيّة والمفارقات: ناقل للقيم الإنسانيّة والقمعيّة في الآن نفسه. ويصعب تفسيرها اليوم دون تقصّي هذا التّاريخ الّذي يعتبر شرط وجودها والّذي جعل اللّغة الفرنسيّة تنتشر حول العالم ممكّنة فرنسا من فرض رؤيتها العالميّة بإشعاعها الفكريّ. فالفرنكوفونيّة تحجب اليوم حقائق غامضة متفرّعة من الأقلّ مأساويّة إلى الأكثر مأساويّة، إذ يجعل ارتباطها الشّديد بالتّاريخ وباللّغة الفرنسيّة معانيها متعدّدة. فهي تحمل بداخلها ندبات التّاريخ المأساوي للحركة الاستعماريّة، وتختزل في مسيرتها لغة فرنسيّة خادمة للفكر والكلام، ومكوّنة لشّخصيّتي الفرد والمجتمع مثل غيرها من اللّغات. وقد شكّل ارتكازها على المكوّنين: التّاريخي واللّغويّ صعوبة في تعريف المصطلح وضبط المفهوم، إذ جسّد تأسيس المنظّمة الدّوليّة للفرنكفونيّة سنة 1960 نقطة تحوّل فارقة مثّلت منعطفا تاريخيّا سلكته فرنسا لتجميع شتات مستعمراتها القديمة من جديد، وجسّدت اللّغة الفرنسيّة، في الآن نفسه، سلاحا للمجتمع المهيمن وسلاحا للمجتمعات المقاومة. فالفرنكوفونيّة، حسب المكوّن الأوّل، هي مفهوم سياسيّ لتجميع بقايا الامبراطوريّة المنهارة. وتلحق الإهانة، بناء على هذا المفهوم، باللّغة الفرنسيّة، وبـالنّاس الّذين يتبنّونها. أمّا الفرنكوفونيّة، حسب المكوّن الثّاني، فهي عبارة عن مفهوم لغويّ تشكّل لتوسيع قاعدة المتكلّمين باللّغة الفرنسيّة. ولا يعتبر الفرنكفونيّ فرنسيّا بالمفهوم السّياسيّ، حسب هذا المكوّن، لأنّه لا يمكن أن يصبح فرنسيّا، فهو فرنسيّ فقط عبر اللّغة الّتي اختارها. فهناك كتّاب لم يختاروا اللّغة الفرنسيّة بل ولدوا معها، وهناك كتّاب آخرون اختاروا اللّغة الفرنسيّة للتّعبير، فكانت درجة تملّكهم اللّغة أكبر من الّذين وجدوا أنفسهم فيها منذ الولادة”[3].

 ب- نشأة الفرنكوفونيّة وتاريخها

أنشأت خمس عشرة دولة أول مؤسسة فرنكفونية سنة 1960. فانعقد مؤتمر وزراء التربية القوميّة للبلدان الّتي تشترك في استخدام اللّغة الفرنسيّة (Confémen)، واتّخذت من داكار مقرّا لأمانتها، واقترح رئيس النّيجر حماني ديوري Hamani Dior (ت 1989) ورئيس تونس الحبيب بورقيبة Habib Bourgiba (ت 2000)، ورئيس السّنغال سنغورSenghor (ت 2001)، سنة 1961، الجمع بين الدّول المستقلة حديثًا والراغبة في متابعة العلاقات مع فرنسا على أساس الصّلات الثّقافيّة واللّغوية. وقد تبعت ذلك سلسلة من الإجراءات الّتي شكّلت أساس الفرنكوفونيّة المؤسّسيّة. واتّضح أنّ فرنسا كانت متردّدة للغاية للانخراط في هذه المغامرة الفرنكوفونيّة. ويبرّر بعض المؤرّخين هذا التّردد بالإشارة إلى أنّ فرنسا، الّتي لا تزال في طور إنهاء الاستعمار، تخشى أن يتمّ اتّهامها بالتّدخّل في السّياسات الدّاخليّة للدّول المستقلّة حديثًا. وقد حدّد غلاسي Glasze ثلاث مراحل لتاريخ الفرنكوفونيّة[4]:

– المرحلة الأولى (1960-1969): نشأت الفرانكوفونية في البداية، أثناء حركة التّحرّر من الاستعمار، بمثابة مجتمع متوطّد باللّغة. وهي مجموعة يحدّدها الماضي الاستعماريّ دون الرّابط الاستعماريّ. ولئن تمّ الإعلان عن تمزّق هذا الرّابط في الخطاب الفرانكفونيّ، فإن علاقته بالخطاب التقليديّ مازالت جليّة. فالفرنسيّة قدّمت باعتبارها ناقلة لعالميّة مثاليّة وإنسانية، والخطاب المجسّد لصورة اللّغة هذه يستنسخ تفوّقا جوهريّا للّغة الفرنسيّة والثّقافة الّتي تنقلها.

– المرحلة الثّانية (السبعينات والثّمانينات): تزايدت، خلال هذه المرحلة، الانتقادات ضد الطّابع الاستعماريّ الجديد للفرنكوفونيّة، ممّا دفعها إلى إعادة صياغة خطابها بطريقة مختلفة جذريّا. ويمكننا أن نتحدّث عن تحوّل مقدراه 180 درجة، لأنّ هذه اللّغة ستُترك جانبا. وقد أكّد “غلاسي”، من خلال دراسة معجمية، أنّه بداية من سنة 1969 ستتلاشى ىسيطرة “اللّغة الفرنسيّة” ببطء لتترك المجال لموضوعين هما: السّلام والدّيمقراطيّة. فكلمة فرنكوفونيّة لم تضبط موعدا لنشأتها – هي موجودة أصلا وتنتظر ساعتها- ولكنّها حقّقت انطلاقة مزدوجة. فهي تتغلّب على منافسيها من جهة (مثل “الفرنسيّة” الّتي مسكت بزمام الأمر في بعض الفترات، انظر “الغاليّة “gallicité”) وتراقب دلالتها تنحسر من جهة ثانية. وقد استعملت كلمة “فرنكفوني” باعتبارها “مجموعة من الكفايات في اللّغة الفرنسيّة” غير أنّحصر محتوى المصطلح في هذا المعنى لا يعني أنّ التّعريف بات واضحا بالقدر الكافي.

– المرحلة الثّالثة: بدأت أواخر التّسعينات. وقد ظهرت كما لو أنّها استمرار للمرحلة السّابقة، فباستثناء الفروق البسيطة الّتي بلورتها القيم المعلنة وأسّستها خلال المرحلة الثّانية، فإنّ المنظمة الدّولية (OIF) قد أنشأت الفرنكوفونيّة وعرّفتها بكونها فضاء للتّنوع الثّقافي. ويتأكّد التخلّي عن المعيار اللّغوي من ناحية، فتنضاف موضوعات جديدة للأولى، وتتكثّف حولها وتتمّ إضافة التّنمية المستدامة وحوار الثّقافات إلى الدّيمقراطيّة والسّلام من ناحية أخرى.

2. مرتكزات الفرنكوفونيّة ورسائلها

أ- المرتكزات التّأسيسيّة

ولدت فكرة مجتمع الأشخاص الذين يتقاسمون اللّغة الفرنسيّة في التّخاطب، في السّتّينات التي ميزت موجة الاستقلال الكبرى بعد الحرب العالميّة الثّانية، والتي ستعلن عن بدايات مأسسة الفرنكوفونيّة في وقت واصلت فيه فرنسا تعزيز نظامها الدّبلوماسيّ الثّقافي[5].وقد خصّبت الفرنكوفونية، منذ نشأتها، روابط قويّة بين إفريقيا وفرنسا، إذ سعت الحكومة الفرنسيّة، منذ الستّينيات وحتّى اليوم، إلى استثمار هذه الرّوابط في بناء علاقات جديدة مع المستعمرات السّابقة مرتكزة على تعاون متعدّد الأوجه، بما في ذلك التّعاون العسكريّ والتّعاون النّقديّ والمالي (franc CFA) والتّعاون الاقتصاديّ والثّقافي الّذي تجسّده القمم الأفريقيّة وقمم الفرنكوفونيّة. وأنشأت الدّول الأفريقيّة المستقلة الجديدة، سنة 1961، الرابطة الأفريقية والملغاشية المشتركة (أوكام Ocam). وقد تضمّن العدد الصادر سنة 1962 من المجلّة الفرنسيّة “Esprit” والّذي تناول وضع الفرنسيّة في العالم، مسألة الفرنكوفونية وفكرها.

تمّ تحليل التّوجّهات المستقبليّة للفرنكفونيّة، في هذا الفضاء الفكريّ، اعتمادا على كتابات مختلفة، مثل كتابات سنغور أو نورودوم سيهانوك Norodom Sihanou(ت 2012). ويمثّل المقال الذي كتبه سنغور النصّ التّأسيسي للفرانكوفونيّة. إذ يشير في مقتطف منه إلى أنّه: “في الوقت الذي تُبنى فيه حضارة الكوني، عن طريق الشّموليّة والتّنشئة الاجتماعيّة، يطرح الإشكال في كلمة واحدة، هي مدى استخدامنا هذه الأداة الرّائعة الموجودة في أنقاض النّظام الاستعماريّ. وإذا اُعتبرت اللّغة الفرنسيّة جزءا من هذه الأداة، فإنّ الفرنكوفونيّة هي هذه الإنسانيّة المتكاملة، المنسوجة حول الأرض: هذا التّعايش بين “الطاقات الكامنة” من جميع القارّات، ومن جميع الأجناس، الّتي تستيقظ على دفئها التكميلي، “ففرنسا، كما قال لي مندوب جبهة التّحرير الوطني (F.L.N)، هي أنت، وأنا: إنّها الثّقافة الفرنسيّة”[6].

ولئن أكّد سنغور أنّ الفرنسيين والعرب والزّنوج يتخاطبون، في إطار الفرنكوفونيّة، بلغة مشتركة شبّهها بالشّمس الّتي تضيء خارج فرنسا، ولئن أوضح أنّهم يقرؤون كتبا تدافع عن القيم الكونيّة وتدعو إلى التّكامل الإنساني. فإنّه يجوز التساؤل: كيف يمكن له أن يستخلص من فرنسا السّياسيّة ومن الفرنسيّة، في أعقاب الاستعمار (الّذي لم ينته بعد)، هذا المفهوم الإنسانيّ ويجعله أساس الفرنكوفونيّة؟ ألم يكن سعيا وراء مثاليّة سرياليّة وغموضا للرّوح الفرنسيّة؟ كيف يمكن له أن يغفر لفرنسا، بهذه السّهولة بعد قرون من إخضاع السكان السود وإنكار هويتهم وفرض لغة أجنبية عليهم بالقوّة؟

ب – إيديولوجيا الفرنكوفونيّة

أعلنت السّياسة المتردّدة والمتناقضة للفرنكوفونية المؤسّسية نتيجة طبيعيّة، أفرزت غموضا في علاقة البلدان الفرنكوفونيّة مع فرنسا، فوضعت فرنسا في القمّة باسم القيم الإنسانيّة المزعومة وحوّلت العلاقة، في إطار المنظّمة الدّوليّة للفرنكفونيّة، إلى علاقة هرميّة. ممّا أدّى إلى استمرار التّبعية الثقافيّة للمستعمرات الفرنسيّة السّابقة من خلال اللّغة الفرنسيّة[7]. لنتذكّر أنّه في غالبيّة المستعمرات الأفريقيّة السّابقة، كانت الفرنسيّة لغة التّعليم ولغة النّخب، ولم تكن لغة الشّعب. إذ نجحت فرنسا – بهذا الخيار الثّقافيّ الاستعماري – في مسخ الشّخصيّة الثّقافيّة واللّغويّة للمجتمعات الأفريقيّة الّتي استعمرتها ويكاد لا يوجد مجتمع أفريقي من مستعمراتها السّابقة – باستثناء المغرب العربيّ – لا تمثّل اللّغة الفرنسيّة لغته “الوطنيّة الجامعة”[8].

وقد ترك تمزيق إفريقيا وتقسيمها بين الدّول المستعمرة الرئيسيّة، إرثا لغويًا وثقافيًا لا جدال فيه في هذه الدّول الجديدة الّتي أصبحت، بالفعل، متعدّدة اللّغات. وقد أثار هذا التّراث، في البلدان التي تشترك في اللّغة الفرنسية، مشكلة الشّرعية الثّقافية للّغة الفرنسيّة في هذه المستعمرات السّابقة. في واقع الأمر، يبدو أنّ الفرنسيّة احتلّت مكانة رياديّة لا تمحى في أدب المستعمرات السّابقة، إذ تستخدمها ستّ عشرة دولة بإفريقيا جنوب الصّحراء في تعليمها[9]. وتكتسي أهمّيّة كبيرة في الإدارة والاقتصاد في بلدان ما بعد الاستعمار، ممّا يشهد على تجذّرها في منطقة لا تستطيع التّحرر من الاستعمار، وتعاني في بعض أماكنها من أزمة هويّة حادّة. مثلما هو الحال في البنين[10] على سبيل المثال، إذ تُستخدم فيه حوالي خمسون لغة معظمها شفويّة دون قواعد نحوية موحدة. وبما أنّ الفرنسيّة تحظى بوظيفة أساسيّة في الكتابة والاتّصال مع الكيانات الإدارية والتّعليمية، وما إلى ذلك، فإنّها تعتبر اللّغة الرّسمية الوحيدة.

ومع أنّ فرنسا فشلت في وأد اللّغة العربيّة في بلدان المغرب العربيّ، فإنّه سيكون من باب المكابرة الوطنيّة الجوفاء الادّعاء أنّها لم تحرز نجاحات هائلة في مجال تحقيق هدف الاغتصاب الثّقافيّ واللّغوي في هذه البلدان. ويكفي أن نعرف أنّ اللسان الفرنسيّ مازال، حتّى الآن، لسان الإدارة والتّعليم والرّأس المال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعيّ[11].وهكذا، عملت الثّقافة الفرنسيّة واللّغة الفرنسية على نقل أيديولوجية إنسانيّة قائمة على المساواة، ولكن وراء الإيديولوجيّة المستنيرة لحقوق الإنسان غالبًا ما تكمن الغوغائية السّياسيّة، أو ببساطة الأكاذيب الصغيرة أو التّرهات التّافهة الّتي تجعل، اليوم، العلاقة بين فرنسا وإفريقيا مرتكزة على أعمال إنسانيّة متجدّدة باستمرار. “فالكلمات ليست سوى كلمات تغرس الحقائق الوهميّة في تصوّراتنا”[12].

3. الفرنكوفونيّة وفرنسا: أيّة شراكة ممكنة؟

أ – الفرنكوفونيّة والرّوح الفرنسيّة

مزجت فرنسيّة سنغوربين الرّوح الدّيكارتيّة والأخلاق، وهي، في نظره، إنسانيّة في تقاليد الإنسانيّين العظماء الّذين صنعوا التّنوير في فرنسا، وأوضحت أنّ الرّوح الإنسانيّة واحدة من الحركات الإصلاحيّة الّتي ساهمت في زعزعة فكر العصور الوسطى في فرنسا. إذ ساهم اختراع الطباعة، والتّطوّرالمميّز للمدن، والتّركيز الهائل للجامعات في (إعادة) اكتشاف الفلسفة القديمة. ويعتبر التّعريف الأعمق والأكثر ديمومة للإنسانية، حسب سنغور، هو التّعريف الخاصّ بالحقبة الممتدّة من مونتاني Montaigne (ت 1592) إلى كونستانت Constant (ت 1830)، مرورا بروسوRousseau (ت 1778). وقد أشار عالم الإنسانيّات بيك دي لا ميراندول Pic de la Mirandole (ت 1494) في عام 1486 أنّه: “لا يمكنك أن ترى أي شيء أكثر إثارة للإعجاب في العالم من الإنسان”. وهذه هي الصّورة المثلى لفرنسا التي سعى سنغور إلى اتّباعها. “فالإشعاع” الثّقافي المرتبط بمفهوم الفرنسيّة، يشير بشكل أفضل إلى الثّراء الثّقافي للّغة الفرنسيّة مقارنة بالفرنكوفونيّة.[13] ويعرّف “الأستاذ الفخري” ميشيل تيتو Michel Tétu الفرنسيّة في المقام الأول بأنّها “الرّوح الفرنسيّة، الّتي لا تزال تظهر في اللّغة الفرنسية”، من خلال منطق متناسق لا شذوذ فيه، ومن خلال وضوح لا لبس فيه (…) وقد بدا مصطلح الفرنسيّة francité، خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين، أكثر قدرة على ضبط الخصائص اللّغوية والثّقافية، وربما “الرّوح الفرنسيّة لمن هو فرنسيّ”[14].

ب- مظاهر انتشار اللغة الفرنسية بالمستعمرات السّابقة وانحسارها.

أشار جون ماري كلينكنبيرغ إلى أنّ معنى الفرنكوفونيّة أصابه تشويه، وأكّد أنّ هناك معنيين لها: المعنى الهويّاتي والمعنى اللّغويّ. ودعا إلى إحياء فرنكفونيّتين: فرانكفونيّة اللّغات وفرانكفونيّة الهويّات[15]. ففي الفرانكوفونية الرّسمية هناك بالفعل عدد كبير من الدّول استعمال اللّغة الفرنسيّة فيها أقل بكثير من اللّغات الأخرى، مثل أرمينيا أو الجبل الأسود…. وعلى عكس ما يتخيّله المرء بشكل عام، بالكاد تهتمّ هذه الفرنكوفونيّة الرّسمية باللّغة الفرنسيّة الّتي يقال إنّها تشكّل مرتكزها. إذ أنشأت تلك الدّول في الآونة الأخيرة فقط إدارة للشّؤون اللّغوية[16]. ونبّه إلى أنّ الغموض الّذي اكتنف المصطلح شوّه المعنى الحقيقي للفرنكفونيّة، وأحدث خللا في ضبط المفهوم. فأصبحت كلمة فرنكفونيّ تعني، بالنّسبة إلى عامّة النّاس، ذاك الشّخص الّذي يمتلك كفاءة لغويّة كبيرة للتّواصل باللّغة الفرنسيّة، والحال أنّ هذا الارتباط إنّما هو ارتباط بالنّشأة والهويّة أكثر منه بالممارسة اللّغويّة، فالكفاءة العالية في تملّك اللّغة من المفترض أن تُكسبها المناهج الدّراسيّة[17].

فرضت الفرنسيّة نفسها، منذ نشأتها، على اللّغات الأخرى أو بالأحرى، فرض المتحدّثون بها لغتهم تاريخيّا. ويعتبر تاريخ الفرنسيّة تاريخ الصّراعات الدّائمة، بين السّلطة والقهر، بين المجتمعات المهيمنة والتّابعة، بين النّاس وأولئك الذين يمتلكون السّلطة اللّغوية… فالفرنسيّة قضت تدريجيّا على اللاّتينية، وحوّلت”الإسكوندينافيين” من “الفايكنج الدّنماركيين Vikings danois” إلى نورمان Normands، وفرضت نفسها على “الأوكسيتانL’occitan “، وتجاهلت “بريتون breton”، وواجهت “الباسك basque  والكورسيكان Corse”، وتصالحت مع “الألزاسي…” وقد فجّر دو بيلاي Du Bellay (ت 1560) لغة الحرّيّة الجديدة، ثمّ ساهم مشرّعو بارناسو فوغيلاس Vaugela (ت 1650) ومالهيربي Malherbe (ت 1628)، في وضع معيار خاصّ بالمحكمة وبباريس يضمن صفاء اللّغة. ويكشف قول ريفرول Rivarol (ت 1801) “أنّ كل ما هو غير واضح ليس فرنسيا” عن صدى نخبة متعاظمة بالفخر ومفتقرة إلى وحدة وطنية تبوّأت أقلّيّة منها الصّدارة لغزو العالم وفرض “لغة الحضارة” لتحكم وتسود[18].

بدأت جميع القارات، مع الاستعمار الفرنسيّ، تتحدث الفرنسيّة. إذ سافرت اللّغة الفرنسيّة مع الحكومة والتّعليم والتّكنولوجيا والدّين الكاثوليكيّ، ممّا أدّى إلى تغيير عميق في هويات النّخبة المستعمرة وأنماط حياتها، وبطريقة مختلفة، الشّعب. وقد أعطى الاستعمار المدرسة مكانة مركزيّة في نظام هيمنتها على البلاد[19]. فما هي منزلة اللّغة الفرنسيّة في الأنظمة التّربويّة للدّول الفرنكوفونيّة؟ وما هي حدودها وآفاقها؟

4. اللّغة الفرنسيّة والأنظمة التّربويّة للدّول الفرنكوفونيّة: أيّة علاقة؟

أ- منزلة اللغة الفرنسية في الأنظمة التّربويّة للمستعمرات الفرنسيّة السّابقة.

تكتسب الفرنسيّة مكانة متميّزة في الأنظمة التّربويّة للمستعمرات السّابقة باعتبارها لغة للاتّصالات بين الأعراق في مجالات الإذاعة والتلفزيون والعمل كذلك، ويعتبر اكتسابها ضروريّا عمليّا في المناطق الحضريّة. إذ يعيش حوالي70٪ من السكّان في المناطق الرّيفيّة، في ظروف محفوفة بالمخاطر ولا يتحدّثون الفرنسيّة على الإطلاق. ووفقًا لليونسكو، فإنّ حوالي 70٪ من السكّان أمّيون. وقد أولى الاستعمار الفرنسيّ المدرسة عناية فائقة باعتبارها أداة يبسط بها سلطانه وهيمنته على كامل البلاد. ففي مدغشقر، كان أحد الإجراءات الأولى التي اتّخذها الجنرال جالييني GaliéniGénéral (ت 1916)[20]هو أنّه لا يمكن إعطاء وظيفة عامّة لأيّ ملغاشيّ إلاّ إذا كان قادرا على التّواصل بالفرنسيّة مشافهة وكتابة. هكذا أجبر الجنرال الملغاشيين على تعلّم القراءة والكتابة، ولكن بالفرنسيّة[21].

وإذا كانت الفرنسيّة هي لغة التّدريس في التّعليم، فإنّ ذلك يوحي ضمنيّا أنّ المتحدّثين غير الفرنسيين، بالمعنى اللّغوي للمصطلح، لا يمكنهم الانخراط في التّعليم. ويعتبر هذا التّراث اللّغوي للاستعمار عقبة رئيسيّة أمام تطوّر هذا النّوع من البلدان خاصّة في إفريقيا والعالم العربي. ولعلّه من التّحدّيات الكبيرة الّتي تواجهها الفرنكوفونية اليوم أن تضع نفسها فوق فرنسا، وفوق الأمم، وفوق التّاريخ، وقوية في تنوّعها، وأن تعتبر نفسها الطّاقة لكلّ من يؤمن بهذا التّنوّع لتجسيد حوار الثّقافات. فالأمر، بالنّسبة إليها، يتعلّق بالنّظر في وجه التّاريخ، وقياس عواقبه، لأنّ هذا التّاريخ هو الّذي حفّز يوتوبيا الفرنكوفونيّة. غير أنّ المبدأ الّذي تنهض عليه الفرنكوفونيّة، والمنادي بالتّعدّد اللّغويّ والتّنوّع، يطرح تناقضات كبيرة في المنظومة التّربويّة للدّول العربيّة المستعمرة. إذ كيف يمكن الكتابة بالفرنسيّة في بلد يحاول أن يثبت هويّته من خلال اللّغة؟ وكيف تتفاعل اللّغات المحلّيّة مع الوافد الجديد؟

غالبا ما تعمّ الازدواجيّة اللّغويّة في التّعليم في البلدان “الفرنكوفونيّة- الأرابوفونيّة” لتؤشّر تأشيرا حقيقيّا لوجود تصنيف اجتماعيّ معيّن من تلك المجتمعات، ومن بينها الجزائر – على سبيل المثال – إذ أصبح الفرنكوفونيون يمثّلون الفئة الاجتماعيّة (العصريّة) في حين يمثّل “الأرابوفونيّون” الفئة التّقليديّة من ذلك المجتمع[22].تشكّل الكتابة باللّغة العربية تناقضا كبيرا في التّاريخ الجزائريّ، فالجزائريّون يبحثون عن هويّتهم في اللّغة العربيّة والبربريّة والإسلام ولكنّهم يكتبون ويتفاهمون باللّغة الفرنسيّة، وعندما يكتبون بالعربيّة لا يتوفّر لهم جمهور القرّاء لأنّ الأغلبيّة العظمى تقرأ بالفرنسيّة[23]. هكذا فشل التّعريب فشلا ذريعا، إذ لم يجر في إطار التّثقيف، بل كان عبارة عن فرض النّظام لسيطرته على المواطنين، لأنّه فرض فرضا، فأساتذة الرّياضيات في الثّانوية يدرّسون باللّغة العربيّة، ولكن عند خروجهم من المدرسة لا يستطيعون التّخاطب باللّغة العربيّة. إذ ينحصر استعمال العربيّة في المدارس، أو الثّانويات والجامعات فقط، ولا يتكلّم النّاس في الشّارع إلاّ باللّهجة الدّارجة والفرنسيّة والبربريّة[24].

ب- مآلات الإرث الفرانكوفونيّ في ظلّ مركزيّة لغويّة

قد تكون الأشياء كلّها عسيرة في ثقافة تضرب المثال الأكثر إثارة من دون شكّ، وهو المركزّية اللّغويّة والمأسسة اللّغويّة. فالثّقافات الكبيرة تنتظم بشكل عامّ حول مركز واحد أو مجموعة مراكز تتركّز فيها أجهزة الحياة الثّقافيّة ومنها ينتظم الخلق. وتتفرّد هذه المراكز بممارسة نفوذها خارج الحدود السّياسيّة. إذ تسعى إلى التقاط مجموعات ثقافيّة صغيرة جدّا وضعيفة للغاية أو عاجزة عن مقاومة قوّة جذبها، فتدمجها وتحوّلها إلى كيانات طرفيّة. ولتمثيل العلاقة بين الثّقافات يمكننا استعارة النّظام الشّمسي، فمثلما يتّخذ كل جرم سماوي مدارًا حول النّجم المركزيّ ويستقرّ فيه بفضل قوى الجاذبيّة، فإنّ مسار الثّقافات الطّرفيّة يعتمد أيضا على العلاقة الّتي تربطها بذلك المركز. ممّا يعني أنّ هذه الثّقافات تخضع في الآن نفسه لقوى مركزيّة تجذبها نحو المركز وقوى نابذة تبقيها بعيدا عنه[25].لذا يمكننا تصوّر المجموعات الثّقافيّة من حيث الاتّجاه نحو التّبعيّة والاستقلاليّة. فبينما تعتبر مراكز المجموعات الكبيرة ثقافات مستقلّة، فإنّ الثّقافات الصّغيرة تعتبر ثقافات أسيرة. ومثلما أوضح كلنكنبيرغ Klinkenberg (2010)[26]. ذلك أنّ باريس تستمر، إلى غاية يومنا هذا، في الاستئثار بغالبيّة المؤسّسات الّتي تحكم الحياة الثّقافيّة والفكريّة والأدبيّة الفرنكوفونيّة[27]. فتبنّي اللّغة الفرنسيّة، في بداية القرن العشرين، لم يكن تعبيرا عن اختيار حرّ بالنّسبة إلى الأنظمة التّربويّة للدّول الفرنكوفونيّة بقدر ما عبّر عن الضّرورة والرّغبة في تحقيق ضرب من الامتياز الجماعي. غير أنّ هذا التّبنّي بدأ يتراجع في نهاية القرن العشرين وأصبح اختيارا تناقضيّا على الصّعيد العالميّ، ففي الوقت الّذي أصبح فيه امتلاك خمسين كلمة إنجليزيّة قادرا على التّعويض عن لهجة عالميّة يتفاهم من خلالها الأفراد في جميع أنحاء العالم، فإنّ لغة رابليهRabelais (ت 1553) وسيلينCéline (ت 1992) ظلّت سجينة صياغات أدبيّة ولسانيّة معقّدة ووريثة لتاريخ ضخم[28].

يرى كليكنبيرغ أنّه علينا التّخلّص من التّناقض الّذي ينغلق فيه الفرنكوفوني ناسبا إلى نفسه الاستثناء الثّقافيّ، إذ يتصرّف مع الآخرين على شاكلة الإمبرياليّ المتظاهر بمواجهة الإمبرياليّة، والمقتنع بأنّه لا يمكن أن يكون كذلك لأنّ لغته سليلة جمهورية الإنسان. لكن، ألا يجب أن يهب الفرنسيّ للآخرين ما يعدّه لمواجهة الإنجليزيّة؟ أليست اللّغات الإفريقيّة في حاجة إلى جهود استثنائيّة تساعدها على مواكبة التّطوّر؟ وإنْ استبعدت هذه اللّغات من المسرح الديداكتيكي (التّعليمي-التّعلّمي) إلى حدود التّسعينات… ألا يجدر بالفرنسيين الاعتراف بأنّ لغات أخرى يُتكلّم بها في البلدان الإفريقيّة تستحقّ أن تعيش أيضا؟ ويتساءل أيضا لماذا ترفض فرنسا ما يطالب به “الكورسيّ” أو “الألزاسيّ” من أجل لغته في العالم[29].وقد اعتبر كليكنبيرغ الفرنكوفونيّة سلاحا إيديولوجيّا من العيار الثّقيل نتعامل معه دون تقدير لخطورته[30]. وبيّن أنّ مهمّته تكمن في تحقيق التّوازن للهيمنة وتحويل المنظّمة الدّوليّة للفرنكوفونيّة إلى فضاء للتّنوّع الثّقافيّ بديلا للتّجانس النّاتج عن العولمة[31].

انتشرت الفرنكوفونية في جميع أنحاء الكوكب لأنّ اللّغة الفرنسيّة هي اللّغة الوحيدة، إلى جانب اللّغة الإنجليزيّة، الّتي يتمّ تدريسها في جميع دول العالم[32]. وقد أوضحت دراسة إحصائيّة أنّ الفرنسيّة هي أكثر اللغات الأجنبيّة الّتي يتّم تدريسها على نطاق واسع في المجتمع الفلمنكي لبلجيكا وأيرلندا والمملكة المتحدة. وهي عبارة عن مادّة إلزاميّة لتلاميذ لكسمبورغ بداية من سنّ السّابعة. بالإضافة إلى أنّها منتشرة نسبيًا في24%من مدارس اليونان الابتدائيّة وفي 16% من مدارس رومانيا[33]. غير أنّ تقديرات وولف Wolff (2010)[34] لعدد الفرنكفونيين ببلجيكيا بـحوالي 8.2 مليون تكشف عن صدمة أحدثتها اللّغة الفرنسيّة في العالم وتتّهم مرصد اللّغة الفرنسيّة مباشرة بالإمبرياليّة، خاصّة إذا علمنا أن عدد السكّان الأصليين ببلجيكيا لا يتجاوز 11 مليون نسمة. ألم تضمّ هذه الفرنكوفونيّة غالبيّة السكّان ضدّ إرادتهم؟[35].لماذا لا تحوّلا لمعركة الّتي تخوضها من أجل التّنوّع الثّقافيّ إلى معركة من أجل إرساء العدالة والمساواة ومناهضة العنصريّة…؟

وتجدر الإشارة إلى أنّ فرنسا تحاول الإبقاء على اللّغة الفرنسيّة صامدة أمام اللّغة الإنجليزيّة، والمحافظة على الثّقافة الفرنسيّة في مواجهة مخاطر العولمة الأمريكيّة. وهي تتطلّع إلى تحقيق أهداف لغويّة جغرافيّة، والعمل على توثيق الرّوابط الثّقافيّة بين أعضاء الفرنكوفونيّة، وتراهن على اللّغة الفرنسيّة باعتبارها كتلة عالميّة كبيرة تستطيع أن تواجه المدّ “الإنكلوفوني” في العالم. غير أنّ بروز الولايات المتّحدة كقوّة عظمى جعل فرنسا تضيف، إلى جانب البعد الثّقافي، أبعادا أخرى سياسيّة ودبلوماسيّة[36].

خاتمة

هكذا نستنتج، في نهاية المقال، أنّ الشّراكة بين الفرنكوفونيّة وفرنسا واللّغة الفرنسيّة لم تكن بريئة، بل كانت محكومة برسائل إيديولوجيّة مبطّنة ومذكّرة بالهيمنة الاستعماريّة. ونستنتج أيضا أنّ وفاء الفرنسيّة للرّوح الفرنسيّة أصبح محلّ شكّ، ذلك أنّ فرنسا لم تحترم مبدأ التّعدّد اللّغويّ والتّنوّع الثّقافيّ في تعاملها مع مستعمراتها السّابقة، بل سارعت إلى تذويب لغاتهم وهويّاتهم خاصّة بالنّسبة إلى المستعمرات الإفريقيّة. وما من شكّ أنّ جهود سنغور وغيره من الفرنكوفونيين لم تكن كافية لإبرام ميثاق لغويّ عظيم يجسّد فكرة المجتمع الكونيّ، لأنّها لم تستطع في النّهاية حماية لغات محلّيّة من الاندثار. وقد توصّلنا في نهاية المقال إلى أنّ الفرنكوفونيّة في مواجهة مع الإنجلوفونيّة، وهي مضطرّة إلى تجديد خطابها واستراتيجيّاتها حتّى تتكيّف مع إكراهات العولمة الأمريكيّة.


[1] – إسماعيل، عبد الفتّاح. الموسوعة الاقتصاديّة الاجتماعيّة (عربي– إنجليزي)، دون طبعة، مارس 2005، ص 373.

[2]– Jean-Marie, Klinkenberg.La francophonie comme idéologie. Mythes et réalités d’un discours sur la diversité culturelle, Revue de l’Université de Moncton, Volume 48, numéro 1, 2017, p: 12.

[3] – غسّان، فوّاز. منفى اللّغة حوارات مع الأدباء الفرانكوفونيين (شاكر نوري)، ضمن كتاب دبي الثّقافيّة، مجلّة دبي الثّقافيّة، عدد، 48، دار الصّدى للصّحافة والنّشر والتّوزيع، دبي: أفريل2011، ص: 61.

[4]-Glasze, G. (2013). Langue et identité. Langues et identités régionales. In Courtois, L., Pirotte, J. et Lemaître, S. (dir.). Apports de l’histoire aux constructions identitaires. Appartenances, frontières, diversité et universalisme. Louvain-la-Neuve: Fondation wallonne P.-M. et J.-F. Humblet. 53-73. [coll. « série Recherches, 6 »]

[5]– Amelie. Leconte: La France et la Francophonie: Un partenariat possible pour la diffusion du français ? Histoire de langue française, d’institutions et de chaos linguistique, Université de Provence – Département de Français Langue Etrangère Institut de la Francophonie, Année universitaire 2007-2008, Master 2 Professionnel Sciences du langage, Responsable: Daniel Véronique, p: 9.

[6]– Senghor, L. S. (1962): Le français, langue de culture, in “Esprit” n°311, novembre 1962. p: 844.

[7]– Amelie. Leconte. p: 13

[8] – عبد الإله، بلقزيز، الفرنكوفونيّة أيديولوجيا، سياسات، تحدّ ثقافيّ – لغويّ حلقة نقاشيّة نظّمها مركز دراسات الوحدة العربيّة (تحرير، عبد الإله بلقزيز)، ط 1، بيروت، 2011. ص 20.

[9]– Amelie. Leconte . p: 13-14

[10] – استقلّت البنين سنة 1960، ودخلت المنظمة الدولية للفرنكوفونية سنة 1970، وبلغ عدد سكانها حوالي 6.5 مليون نسمة، وفقًا للتقديرات الرسمية لعام 2001، منهم 8.8 ٪ فقط، وفقًا لبيانات المنظمة الدولية للفرانكوفونية اليوم، فرنكفونيون حقيقيون. إذ يستخدم معظم البنينيين الفون fon أو اليوروبا yorubaأو الباريباbariba  باعتبارها لغات مركبة.(Amelie. Leconte . p: 14)

[11] – عبد الإله، بلقزيز. مرجع سابق، ص 20-21.

[12]– Ibid: p: 13

[13]– Jean-Marie Klinkenberg: LA Francophonie comme idéologie. Mythes et réalité d’un discours de la diversité culturelle, Revue de l’Université de Moncton, vol. 48, no 1, 2017, p: 10

[14]-Tétu, M: Qu’est-ce que la Francophonie ?, Hachette, Edicef, Paris. 1997

[15]– Jean-Marie Klinkenberg, p: 21.

[16]– Ibid. p: 12-13.

[17]– Idem. p :22-23.

[18]– Amelie. Leconte: La France et la Francophonie: Un partenariat possible pour la diffusion du français ? p: 2

[19]– Ibid., p: 2

-[20] جوزيف سيمون جاليانيJoseph Simon Gallieni (1849-1916) متخرّج من المدرسة الحربيّة Saint-Cyrوهو شخصيّة بارزة في فترة الاستعمار، وقد اكتسبت أعماله في مدغشقر هالة كبيرة في فرنسا، إذ اشتهر بنجاحه في مشروع التهدئة (1896-1905) الّذي ذكره جول فيريJules Ferry (ت 1893). وتمثّل التّهدئة، وفقًا لدليل المدرسة الملغاشية الحالي، الفترة الّتي أعاد فيها الجنرال جالياني إحلال السّلام في مدغشقر. وبالمناسبة، فإنّ الهدف من هذه التّهدئة هو تهدئة بلد كان الفرنسيّون هم السّبب في تقويضه. انظر تعليقAmelie. Leconte ص 2.

[21]– Ibid. p: 2

[22]– نازلى، معوّض أحمد. الصّحافة في أقطار المغرب الثّلاثة بين ماض استعماريّ وحاضر عربيّ، مجلّة المستقبل العربيّ، السّنة3، العدد 19، سبتمبر/ أيلول 1980، ص 75.

[23]– بوعلام، صنصال. منفى اللّغة حوارات مع الأدباء الفرانكفونيين (شاكر نوري)، ضمن كتاب دبي الثّقافيّة، مجلّة دبي الثّقافيّة، عدد، 48، دار الصّدى للصّحافة والنّشر والتّوزيع، دبي: أفريل 2011، ص61.

[24]– بوعلام، صنصال. المرجع السّابق، ص 62

[25]– Jean-Marie Klinkenberg: LA Francophonie comme idéologie. Mythes et réalité d’un discours de la diversité culturelle. p: 29

[26]– Jean-Marie Klinkenberg. Périphériques Nord. Fragments d’une histoire sociale de la littérature francophone en Belgique. Liège: Presses de l’Université de Liège. 2010. [coll. « Travaux du C.I.E.L. »]

[27]– Ibid. p: 29

[28] – شاكر، نوري: منفى اللّغة، مرجع سابق، صص 17-19.

[29]– Ibid: p: 35.

[30]– Idem: p: 12.

[31]– Idem: p: 15.

 [32]- Bruno Maurer. Mesurer la francophonie et identifier les francophones, Inventaire critique des sources et des méthodes, Copyright © 2015 Éditions des archives contemporaines, Document élaboré dans le cadre du 2e Séminaire international sur les méthodologies d’observation de la langue française, octobre 2014, Université Paul-Valéry Montpellier-3, p: 6

[33]-Idem: p: 27.

[34]-Wolff, A. (2010). La langue française dans le monde 2010. Ouvrage réalisé par l’Observatoire de la langue française de l’Organisation internationale de la Francophonie. Paris: Nathan.

[35] Jean-Marie Klinkenberg: p: 22.

[36] – وليد، كاصد الزّيدي. الفرانكفونيّة دراسة في المصطلح والمفهوم والتّطوّر التّاريخي، ط 1: النّجف – العراق، العتبة العبّاسيّة المقدّسة، المركز الإسلامي للدّراسات الاستراتيجيّة، 2020، ص 88.


المراجع العربيّة:

– إسماعيل، عبد الفتّاح. الموسوعة الاقتصاديّة الاجتماعيّة (عربي– إنجليزي)، دون طبعة، مارس 2005.

– الفرنكوفونيّة أيديولوجيا، سياسات، تحدّ ثقافيّ – لغويّ حلقة نقاشيّة نظّمها مركز دراسات الوحدة العربيّة (تحرير، عبد الإله بلقزيز)، ط 1، بيروت، 2011.

– غسّان، فوّاز. منفى اللّغة حوارات مع الأدباء الفرانكفونيين (شاكر نوري)، ضمن كتاب دبي الثّقافيّة، مجلّة دبي الثّقافيّة، عدد، 48، دار الصّدى للصّحافة والنّشر والتّوزيع، دبي: أفريل 2011.

نازلى، معوّض أحمد. الصّحافة في أقطار المغرب الثّلاثة بين ماض استعماريّ وحاضر عربيّ، مجلّة المستقبل العربيّ، السّنة3، العدد 19، سبتمبر/ أيلول 1980.

وليد، كاصد الزّيدي. الفرانكفونيّة دراسة في المصطلح والمفهوم والتّطوّر التّاريخي، ط 1: النّجف – العراق، العتبة العبّاسيّة المقدّسة، المركز الإسلامي للدّراسات الاستراتيجيّة، 2020.

المراجع الأجنبيّة:

  • Leconte : La France et la Francophonie: Un partenariat possible pour la diffusion du français ? Histoire de langue française, d’institutions et de chaos linguistique, Université de Provence – Département de Français Langue Etrangère Institut de la Francophonie, Année universitaire 2007-2008, Master 2 Professionnel Sciences du langage, Responsable: Daniel Véronique.
  • Bruno Maurer. Mesurer la francophonie et identifier les francophones, Inventaire critique des sources et des méthodes, Copyright © 2015 Éditions des archives contemporaines, Document élaboré dans le cadre du 2e Séminaire international sur les méthodologies d’observation de la langue française, octobre 2014, Université Paul-Valéry Montpellier-3.
  • Glasze, G. (2013). Langue et identité. Langues et identités régionales. In Courtois, L., Pirotte, J. et Lemaître, S. (dir.). Apports de l’histoire aux constructions identitaires. Appartenances, frontières, diversité et universalisme. Louvain-la-Neuve: Fondation wallonne P.-M. et J.-F. Humblet. 53-73. [coll. « série Recherches, 6 »].
  • Jean-Marie, Klinkenberg (2017). La francophonie comme idéologie. Mythes et réalités d’un discours sur la diversité culturelle, Revue de l’Université de Moncton, Volume 48, numéro 1, 2017.
  • …………….(2010) Périphériques Nord. Fragments d’une histoire sociale de la littérature francophone en Belgique. Liège: Presses de l’Université de Liège. [Coll. « Travaux du C.I.E.L. »].
  • Senghor, L. S. (1962): Le français, langue de culture, in “Esprit” n°311, novembre 1962.
  • Tétu, M: ¿Qu’est-ce que la Francophonie?, Hachette, Edicef, Paris. 1997.
  • Wolff, A. (2010). La langue française dans le monde 2010. Ouvrage réalisé par l’Observatoire de la langue française de l’Organisation internationale de la Francophonie. Paris: Nathan.

مقالات أخرى

مجلة نقد وتنوير – العدد التاسع عشر (آذار- مارس) 2024

مجلة نقد وتنوير – العدد الثامن عشر (كانون الأول- ديسمبر) 2023

القرآن في التّديّن الصّوفيّ

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد