(مقاربة الإيكولوجيا البشرية وإسهام كل من بارك وبيرجس)
Abstract
At first glance, the city appears to be an enormous collection of people, ideas, activities, arenas, fields and things. It seems like a fusion of difference and a creation of unity, of urban identity. It is a form of human meeting; they seem to create a creative web of materials that are difficult to synthesize. “The city has been able to attract in its orbit the groups of the world most distant, and it has also been able to combine various fields, people and activities to make it an organized world,” said Worth.
But this conjunction and synthesis described by sociologists such as Weber and Becher, conceals behind it a deeper truth of separation. The city has parts, sections, and ordinances. It is the heart, the center, the ocean, and the margin. As much as it strives for rapprochement and grouping, it excels in exclusion, isolation and discrimination. Rather, it was perhaps the most inclined to build and preserve distinctions. Perhaps the urban fabric, which is painstakingly woven, without the ability to bridge the differences and distances between the various urban elements, or rather without the ability not to break the bonds of one at all. Could urban segregation be the reality of all urban living? Is it original? Does it grow with the city?
In this article, we will try to clarify urban segregation and understand how it occurs and how it affects the urban sphere and living, from the perspective of human ecology that crystallized in the framework of what has come to be called the Chicago School.
مقدمة:
تبدو المدينة للوهلة الأولى تجميعا هائلا لأشخاص وأفكار وأنشطة ومجالات وحقول وأشياء. تبدو صهرا للاختلاف وخلقا للوحدة، للهوية الحضرية. تبدو، باعتبارها شكلا من أشكال الاجتماع الإنساني، وصلا وربطا، خلقا لنسيج مبدع من مواد وخامات يصعب التوليف بينها. “لقد استطاعت المدينة أن تستقطب في مدارها مجموعات العالم الأكثر بعداكما استطاعت أن تؤلِّف بين مجالات، وأناس وأنشطة متعدّدة لتجعل منها عالما منظَّما”[1]، يقول وورث. لكن هذا الوصل، هذا التَّوليف والتَّجميع الذي وصفه علماء اجتماع من قبيل فيبر وبيشر[1]، يُخفي خلفه حقيقة أعمق هي الفصل. المدينة أجزاء ومقاطع وتراتبيات. إنها قلب ومركز ومحيط وهامش. وبقدر ما تَجْهَدُ من أجل التقريب والتَّجميع تَبْرَعُ في الإبعاد والعزل والتَّمييز. بل لربما كان أكثر الجنوح لبناء التَّمايزات وحِفظها. ولربّما كان النسيج الحضريُّ، الذي يحاك بمشقَّة، دون القدرة على رتق الفوارق والمسافات بين مختلف العناصر الحضرية، أو بالأحرى دون القدرة على عدم تقطيع أواصر الواحد أصلا. فهل يكون الفصل الحضريّ هو حقيقة كل عيش حضريّ؟ هل هو أصلي؟ هل ينمو مع المدينة؟ هل يخلق أم يقتل المدينة؟ سنحاول في هذا المقال تبيُّن الفصل الحضري وتفهّم كيف يحدث وكيف يؤثِّر في المجال والعيش الحَضَرِيَّين، وذلك من منظور الإيكولوجيا البشرية التي تبلورت في إطار ما أصبح يصطلح عليه بمدرسة شيكاغو.
وباختصار، تقوم مقاربة الإيكولوجيا البشرية على تحليل “كيف ولماذا تتوزع ساكنة معينة في المجال، مع تحديد القوى الرئيسية ذات التأثير على عمليات الانتقاء والتكيّف”[1]. وسنكتفي هنا بتقديم بعض العناصر الأساسية من إسهامَيْ كلٍّ من روبرت إزرا بارك وإرنيست واتسون بيرجس رائِدَيْ هذه المقاربة.
الفصل الحضري حسب مقاربة الإيكولوجيا البشرية (مدرسة شيكاغو)
ارتبط الاستعمال المعاصر لمفهوم الفصل الحضري أساسا بمدرسة شيكاغو الأمريكية وباشتغالها، من خلال مقاربة الإيكولوجيا البشرية، على سيرورات التقسيم الاجتماعي للمجال الحضري باعتباره مجالا مُتَّسما بالتعدد والاختلاف.
وقد أحال الفصل عند رواد هذه المدرسة إلى معنى التفرقة المجالية فيما بين السكان الحضريين لنفس المجال الحضري على أساس متغيرات سوسيولوجية تشمل العرق والثقافة والدين والطبقة الاجتماعية، لكنها تشمل أيضا اللغة والمهنة وقيمة الوعاء العقاري والقيمة الرمزية للمناطق والأحياء. وتَعكس استعارة الغيتو، التي وَظَّفها روّاد هذه المدرسة، الكثير من حمولة هذا المفهوم الدّلالية. بهذه الطريقة عبر بارك عن الفصل الحضري في مقال له تحت عنوان “الغيتو”: “تتبدّى مدننا الكبرى، عند الفحص، بمثابة فسيفساء من الشعوب المنفصلة – المختلفة في عرقها، في ثقافتها أو فقط في عبادتها –شعوب يسعى كل منها إلى الحفاظ على أشكاله الثقافية الخاصة والإبقاء على تصوراته الفردية والفريدة عن الحياة. إذ تسعى كل مجموعة من هذه المجموعات المنفصلة بشكل لا يمكن تفاديه، حفاظا على سلامة الحياة الجماعية الخاصة بها، إلى فرض نوع من العزلة الأخلاقية على أعضائها. وبقدر ما يصبح الفصل بالنسبة إليها وسيلة لتحقيق هذه الغاية، يمكن أن يُقال عن كلِّ شعب وكلِّ مجموعة ثقافية أنها تنشئ وتحافظ على غيتو خاصٍّ بها”[2].
ويبدو الفصل الحضري وفق فرضية الإيكولوجيا البشرية طبيعيا بالدرجة الأولى، من جهة كونه يتمظهر على شكل توزيع طبيعي للجماعات البشرية في المجال، وذلك في ارتباط بسيرورات إيكولوجية واضحة من قبيل التنافس والانتقاء والتكيف والغزو والتعاقب. وتوضح قراءة أدبيات هذه المدرسة الرائدة أن سيرورات الفصل الحضري تخفي سيرورات موازية للوصل، طبيعية أيضا. إنّ الطابع الطبيعي لهذا الفصل يخرجه بشكل كبير، لكن ليس نهائيّا ولا قاطعا، من مجال القرار السياسي. ويحيل الطابع السيروراتي إلى حركيّة يتّسم بها الثّالوث فرد-بنية-ثقافة، ذات طبيعة تجاذبية وتنافريّة في نفس الوقت. إن الفصل هنا لا يبدو كنتيجة أو كاختيار معياري بقدر ما يبدو كآلية هي نفسها تسهل حركة الأفراد وحركيتهم الاجتماعية داخل منظومة ليبرالية. فـ”إضافة إلى وسائل النقل والاتصالات، الفصل نفسه ينحو إلى تيسير حركة الأفراد. تقيم سيرورات الفصل مسافات أخلاقية تجعل من المدينة فسيفساء من عوالم صغيرة تتلامس دون أن تتداخل”[3]، يقول بارك.
روبرت إزرا بارك Robert Ezra Park
يُمثِّل الفصل أساس التّقسيم الاجتماعي للمجال الحضري عند روبرت إزرا بارك، صاحب الإيكولوجيا البشرية ومؤسس مدرسة شيكاغو. ويمتاز هذا الفصل بكونه يُفرِز داخل المدينة مناطق يصفها بالطبيعية تارة، وبالروحية تارة ثانية، وبمجالات الفصل تارة ثالثة، وهي تنشأ بشكل طبيعي، أي دون تصميم مسبق. ذلك أن المدينة بحسب بارك “ليست محض حادث مصطنع artefact وإنما، بمعنى ما، وإلى حد ما، عضوية حية organism”[4]. وتحتوي كلُّ واحدة من هذه المناطق أو القطاعات ساكنة معينة متجانسة أي تحمل ثقافة خاصة، ونمطَ عيشٍ معين، وتقوم بوظيفة متمايزة قد تعتبر إيجابية لكن أيضا قد ينظر إليها باعتبارها سلبية كما هو الحال بالنسبة إلى أحياء الصفيح مثلا. هكذا “أصبحت المدينة عبارة عن مجموعة من المدن داخل المدينة، كل واحدة منها تضم ساكنة ‘منتقاة'”[5]، يخبرنا بارك.
توجد هذه المناطق الطبيعية المتجانسة داخليا والمتمايزة خارجيا وفق تعبير ماكينزي[6] في كل المدن ابتداء من حجم معين. ونستشفُّ من بارك أنه كلما ازداد حجم المدينة كلما ازداد الفصل الحضري داخلها. وهو ما يعني أن التحضّر في نهاية التحليل عبارة عن سيرورة متصاعدة لفصل السكّان. وقد يصل التّمايز بين قطاعات المدينة المختلفة إلى مستويات مذهلة. وفي هذا الإطار يقدِّم بارك نتائج دراسات متعلقة بمدينة شيكاغو تشير إلى اختلافات ديمغرافية وثقافية عميقة بين أحياء المدينة. ويَفترض أنه “في المدن الأوربية الأكثر قدما، حيث بلغت عملية الفصل مستويات أعلى، من المرجّح أن تكون التمايزات بين الأحياء أكثر قوة ووضوحا ممّا هي عليه في أمريكا”[7].
ويعبر هذا الشّكل من تقسيم الاختلاف السكاني داخل المجال الجغرافي للمدينة الواحدة عن وجود مسافة اجتماعية تفسر المسافة المجالية بين منطقة وأخرى. ويدلّ هذا على أنّ الحياة داخل المدن الكبرى تقوم على التعايش داخل المنطقة الواحدة والمنفعة المتبادلة بين المناطق المختلفة أكثر مما يقوم على علاقات اجتماعية حقيقية. كما يدلّ، وهذا هو الأهمّ، على أن العلاقات الاجتماعية لا تكون فقط بين أفراد وإنما أيضا، وخصوصا، بين مجموعات اجتماعية داخل المجتمع الواحد.
لكن كيف يحدث هذ الفصل الحضري عمليا؟ كيف تنشأ هذه المناطق الطبيعية والثقافية وكيف تحافظ على وجودها؟ يصف بارك سيرورتين اثنتين طبيعيّتين تتشكل من خلالهما البنية الإيكولوجية للمدينة، هما[8]:
- الانتقاء، الذي بمقتضاه تسعى كلّ منطقة إلى استقطاب واجتذاب نوع خاصّ من الساكنة، وهذا الاستقطاب يتم بصورة لامتكافئة، ذلك أنّ كل المناطق ليس لها نفس قوة التأثير والجذب، ولذلك فإنّ تأثيرها لا يمتدّ إلاّ إلى فئة محدودة من الناس.
- الطابع العدوائي (المعدي contagieux) للنّماذج الثقافية، هذا الطابع الذي يجعل السكان الذين يعيشون في مناطق من نفس النمط يخضعون لنفس الظروف ولنفس الأوضاع الاجتماعية، ومن ثم تكون لهم نفس الخصائص.
ويبدو أنّ هذا التراكب بين الطبيعي والثّقافيّ، والذي يفرز تمفصلا بين الجماعي والجماعي، يخفي تمفصلا آخر، على المستوى الميكروسوسيولوجي، بين الفرديّ والجمعيِّ. ويعني هذا أن الاختيارات الفردية المقصودة تلعب دورا مهمّا في تفعيل عملية الانتقاء ذات الطابع غير القصديّ. وتكون حاجة الأفراد إلى الانضمام إلى من يشبههم طلبا للانتماء، وللاندماج وللاحتماء، عاملا قويّا في تفعيل الاقتراب والابتعاد كميكانيزمَيْن للفصل الحضري. وهكذا “تنحو الرغبات والأذواق الشخصية، والمصالح المهنية والاقتصادية بشكل لا يخطئ نحو الفصل segregation، أي نحو تقسيم الساكنات في المدن الكبرى. بالشكل الذي يجعل الساكنات الحضرية تنتظم وتتوزَّع وفق سيرورة تمتاز بكونها لا مقصودة ولا متحكما فيها (. . . ) ويمارِس شعور الجورة neighborhood sentiment، المتجذّر بشكل عميق في التقاليد والعادات المحلية، تأثيرا انتقائيا حاسما على ساكنات المدن الأوربية الأكثر قدما ويبرز في النهاية بشكل واضح في خصائص السكان”[9].
وبطبيعة الحال، يكون الاختيار الفردي، بحسب بارك، رهين محدّدات سوسيوثقافية عاملة بقوة في عملية انتقاء وتوزيع ساكنة المدينة، يحصرها في الثقافة والعرق واللغة. وواضح أن هذه المحددات، التي تشكل حدودا للاختيار الفردي الميكروسوسيولوجي في عملية الانتقاء الماكروسوسيولوجية، قد طفت على السّطح بشكل واضح نتيجة الطابع المركب إثنيّا للمدن الأمريكية (شيكاغو بشكل خاصّ) التي تتأسّس بنيتها السكانية على ظاهرة الهجرة الوافدة. لكن هذه المحدّدات أيضا لا تمثل قيودا مطلقة ونهائيّة لا يمكن للأفراد التخلص منها كأفراد. إنّ سطوتها على الفرد، كما نفهم من بارك، قد تضمحل إلى أن تختفي بشكل كبير مع تحقيقه للمزيد من النجاح الماديّ. ويعبر بارك عن ذلك قائلا: “تحدث مثل هذه التّفرِقات بين السكان، أوّلاً، على أساس اللغة والثقافة، وثانيا، على أساس العرق. ومع ذلك لا محالة، تحدث داخل هذه المستوطنات المهاجِرة والغيتوهات العرقية، عمليات اختيار أخرى تؤدي إلى الفصل على أساس المصالح المهنية والذكاء والطّموح الشّخصي. والنتيجة هي أنّ الأكثر حرصا، والأكثر نشاطا، والأكثر طموحا سيخرجون قريبا من غيتوهاتهم ومستعمرات المهاجرين التي ينتمون إليها وينتقلون إلى منطقة استيطان ثان للمهاجرين، أو ربما إلى منطقة كوسموبوليتانية يتواجد فيها أعضاء من عدة مجموعات مهاجرة وعرقية يجتمعون ويعيشون جنبا إلى جنب. أكثر فأكثر، ومع ضعف الروابط العرقية واللغة والثقافة، يغادر الأفراد الناجحون وينتهون بإيجاد أماكنهم في الأعمال التجارية والمهن، بين مجموعة السكان الأقدم التي لم تعد محدَّدة بأي لغة أو مجموعة عرقية”[10].
كما يبقى الاختيار الفردي أيضا رهين العامل السوسيو-اقتصادي (الذي قد يبدو على الأقلّ بالنسبة إلى الطبقات الاجتماعية العليا معاكسا للمحدّدات الثقافية). هكذا يعزّز التمايز (التّفاوت) المجالي لقيمة العقار نزوع الساكنات إلى الاستقرار داخل مناطق لها مستوى سوسيو-اقتصادي متناسب مع قيمة الوعاء العقاري بها. وينجم عن ذلك قدر كبير من التطابق بين المكانة الاجتماعية والمكانة المجالية. ولذلك، فبمجرد أن يحدث تغير على مستوى المهنة والدّخل، يعقبه آليّا تغيرٌ على مستوى السكن. يقول بارك: “إن تغيير المهنة، النجاح أو الفشل الشخصي– أي باختصار التغييرات في الوضع الاقتصادي والاجتماعي– تميل إلى أن تكون مسجلة في تغييرات الموقع. إنّ التنظيم المادي أو الإيكولوجي للمجتمع يستجيب ويعكس، على المدى البعيد، المهني والثقافي. إن الانتقاء والفصل الاجتماعيين، وهما اللذان ينشئان المجموعات الطبيعية، يحدّدان في ذات الآن المناطق الطبيعية للمدينة”[11].
إرنيست واتسون بيرجس Ernest Watson Burgess
تعتبر نظرية المجالات متّحِدة المركز (أو مشتركة المركز) لصاحبها إرنيست بيرجس من أولى وأهمّ النظريات التي وصفت وفسّرت ظاهرة الفصل الحضريّ. وتقوم هذه النظرية، التي تضمَّنها مقالَه “نمو المدينة” والتي تندرج في إطار مقاربة الإيكولوجيا البشرية، على القراءة الطبوغرافية للظواهر الاجتماعية. وهي تقدِّم الفصل الحضري باعتباره “يمنح للمجموعة، ومن خلالها للأفراد الذين يكوّنونها، مكانا ودورا داخل التنظيم الكلي للحياة الحضرية”[12].
ويكمن جوهر هذه النظرية في كون كل المدن تنمو وتتوسع نحو الخارج انطلاقا من مركزها في شكل سلسلة من المناطق الدائرية (أو الحلقية) المتمايزة والمعزولة، لكن أيضا المتواصلة ومشتركة المركز. ويحدث هذا التوسّع عن طريق “مد كل منطقة داخلية لمجالها من خلال غزو المنطقة الخارجية التي تعقبها”[13]. ويتمّ ذلك بدوره عبر العدوان الطبيعي على وسط المدينة من قبل المهاجر القادم إليها من المناطق القروية المجاورة. ويسمّي بيرجس هذا النمط من التوسّع، الذي لا يحدث لا بشكل مفاجئ ولا نمطي، بالخلافة (أو التعاقب) succession، وخلاله تُفرَّغ المناطق من المجموعات الأصلية التي تدهورت جودة عيشها. كما تصبح خلاله كل منطقة خاضعة للنشاط الذي يغزوها. وبطبيعة الحال، يتسبب هذا الغزو في تكوين صورة سلبية لدى الساكنات الأصلية عن المجموعات الوافدة التي فَرضت عليها المغادرة. ومرَدُّ ذلك ما نجم عن قدومها من تردِّ للإطار العام للعيش. ولا تتكون هذه الصورة السلبية فقط لدى ساكنة المركز، وإنما أيضا لدى الساكنة الأصلية للمناطق الهامشية، حيث السكن الإيكولوجي والطبيعي. هذه الأخيرة يتمّ غزوها من الداخل في إطار نفس عملية التوسع.
ويحدد بيرجس الخلافة أو التعاقب في العمليات المتعاقبة التالية: (1) الغزو، ويبدأ غالبا باختراق غير ملحوظ أو تدريجي، يليه (2) ردّ الفعل، وهو عبارة عن مقاومة معتدلة أو عنيفة من سكان الجماعة، وهذا يفضي في النهاية إلى (3) تدفق الوافدين الجدد والتخلي السريع عن المنطقة من قبل سكانها القدامى، و(4) الذروة أو تحقيق توازن جديد من الاستقرار المجتمعي[14].
وتتحدد الخطاطة التي تحدث فيها ومن خلالها هذه العمليات، في خمس مناطق متّحدة المركز تشكل في تراكبها بنية المدينة. غير أنّه على الرغم من طابعها الكوني، لا تنطبق هذه الخطاطة على أيٍّ من المدن بشكل حرفي، بما في ذلك مدينة شيكاغو نفسها. ويرجع ذلك بحسب بيرجس إلى التعقيدات الجغرافية، وإلى العوائق المتعلقة بالتخطيط الحضري، وإلى العوامل التاريخية، وكذا إلى درجة مقاومة المجتمعات للغزو. أما المناطق الخمس فهي[15]:
1- الحي التجاري المركزي: تعرف هذه المنطقة بـ “وسط المدينة”، وتمثِّل قلب المجتمع الحضري حيث تتركز الأنشطة المالية والصناعية والتجارية والاجتماعية والمدنية. وتحتوي على مباني المكاتب والمتاجر والمسارح والمقاهي والفنادق والبنوك وعيادات الأطباء ومكاتب المحامين والمباني الحكومية المدنية. ونظرا لارتفاع تكلفة الأرض فيها، تكون هذه المنطقة غير سكنية، كما تتميز ببناء ناطحات السحاب للاستفادة من الأرض باهظة الثمن. ورغم قلّة السكّان بهذه المنطقة فهي تشهد، نظرا لديناميتها، جحافل مستمرة من الزوّار. وتمتاز أطراف هذه المنطقة باختلاط الوظائف، إذ نجد بها محلاّت البيع بالتقسيط وبالجملة، ومخازن البضائع، وكذا بعض الصناعات الخفيفة. ويبدو أن هذه المنطقة تتميز بشكل أوضح مع تنامي حجم المدينة.
2- منطقة الانتقال: منطقة بينية في أوج الطفرة من السكن إلى التجارة والصناعة. لذلك فهي تجمع بين مواصفات المنطقة الأولى والثانية، أي تختلط بها الأنشطة التجارية والمصانع التي تغزو منطقة المباني السكنية القديمة. إنّها أيضا منطقة التّدهور السكنيّ، حيث المباني القديمة التي هجرها أصحابها بعد ارتفاع مستوى معيشتهم، وحيث يأتي المهاجرون الجدد والعزّاب، ويعيشون لأنّ الإيجارات منخفضة وتكاليف النقل إلى مكان العمل زهيدة. وبالتالي، فهذه المنطقة هي موقع ظهور الغيتوهات والعشوائيات الحضرية والمكان الذي يرغب الناس في الهروب منه.
3- منطقة سكن الطبقة العاملة: أكثر القاطنينبهذه المنطقة من العمال والموظفين من ذوي الدخل المحدود، ومعظمهم من الجيل الثاني من المهاجرين. واختيار هؤلاء للسكن بهذه المنطقة راجع لرغبتهم في التواجد بالقرب من مواقع أعمالهم اقتصاد المصاريف النقل وللوقت. والمساكن في هذه المنطقة ذات جودة أفضل من المنطقة الانتقالية. ومعظم الناس الذين يعيشون بها مستأجِرون.
4- منطقة السكن المتوسّط والعالي الجودة: تبعد هذه المنطقة بحوالي 15 إلى 20 دقيقة عن وسط المدينة باستعمال وسائل النقل العمومي. وهي تشتمل على أغلب الاحياء السكنيّة الخاصة بالطبقتين المتوسّطة والعليا من أصحاب الاعمال التجارية وذوي المهن من المستوفين لتعليم ثانوي وأحيانا جامعي. ويتجلّى الوضع الفكريّ للسكان في نوع الكتب والمجلات بالمنزل، وفي انتشار الأندية النسائية وفي الاستقلال في التصويت. ويقيم العديد من أغنياء هذه المنطقة في بيوت مستقلة بحديقة، غير أنّ أكثريتهم تعيش في شقق العمارات ذات الطوابق المتعدّدة. والمنازل في هذه المنطقة أحدث وأكبر من المناطق السابقة، ونسبة المستأجِرين أقلّ. وتحتوي هذه المنطقة على الحدائق العامّة والمراكز التجارية المحلية التي تقِّدم الخدمات وبضائع الاستهلاك المحلّيّ اليوميّ.
الخريطة رقم 1 المناطق الحضري (المصدر: The City, p. 55)
5- منطقة الذهاب والإياب (الضواحي): تحيط هذه المنطقة الخارجية بالمدينة وتقع خارج المناطق العمرانية المتصلة البناء، على بعد ساعة واحدة من وسط المدينة. بشكل تدرّجي، وتتحول هنا القرى الصغيرة المحاطة بأراض مفتوحة إلى ضواحٍ. ولا يزال جزء كبير من هذه المنطقة عبارة عن مساحة مفتوحة مكوّنة من مجموعة من المدن الصغيرة والضواحي. وتسكن في هذه المنطقة مجموعات من السكان متباينة في طبقاتها الاجتماعية: ففي بعض أجزائها يسكن أصحاب الدخل العالي، وفي أجزاء أخرى يسكن أصحاب الدخل المحدود الذين ترتبط مصالحهم بداخل المدينة. وتمتاز هذه المنطقة بتوليفها بين جوّ السكن القروي والولوج عبر النقل السريع أو بواسطة السيارة إلى المركز الميتروبوليتاني للعمل، أو للتسوق أو للاستجمام.
لقد انتبه بيرجس إلى أن ما يبدو من تعقيدِ وفوضويةِ في المجال الحضري لمدينة شيكاغو، يخفي نظاما معيّنا يقوم على الفصل، أي على وجود مناطق اقتصادية وثقافية طبيعية لكلّ منها بنيته الخاصة وتنظيمه الداخلي المتميز، غير أنّه منفتح على المناطق الأخرى بشريا ومجاليّا. وتحقق عمليات عدم التنظيم disorganization والتنظيم المتعالقة جدليا توازنا متحرّكا لهذا النظام الاجتماعي. ونستشفّ في جمل بيرجس الفورة الكبيرة (الأقرب ما يكون إلى الفوضى) التي تعرفها المدينة، وما تفرضه على السّاكن، وبخاصة على الوافد الجديد، من تكيّف مستمرّ، وبالتالي من صراع داخلي وتحرّر. فـ”بقدر ما يشير عدم التنظيم إلى إعادة التنظيم reorganization وجعل التّعديل أكثر كفاءة، يجب أن يُنظر إلى الفوضى، لا باعتبارها مَرَضية، وإنما طبيعية. إنّ عدم التنظيم كمسبّق لإعادة تنظيم المواقف والسّلوكات يكاد يكون دائما هو نصيب الوافد الجديد إلى المدينة، أمّا التخلي عن العادة، وعمّا كان في الغالب أخلاقيّا بالنسبة إليه، فليس من النادر أن يرافقه صراع عقليّ حادّ وإحساس بخسارة شخصيّة. وغالبا، ربما، يعطي التغيير عاجلا أو آجلا شعورا بالتحرّر وحثّا على تحقيق أهداف جديدة”[16]. وينبغي أن نلاحظ في المقابل الارتباط الوثيق، في تصور بيرجس، بين عدم التنظيم، وبين حرية الأفراد الذين لا تسمح هوامش اختياراتهم، وما يترتب عنها من قرارات، باستقرار البنية. فالناس يرغبون في مغادرة الأحياء الداخلية، وهم يقومون بذلك فعلا متى توفّرت لهم الإمكانية. وتفضي المسارات الفرديّة، من المركز إلى المحيط، بحثا عن تحسين مستوى العيش، إلى الانفصال عن المنطقة الطّبيعية الأدنى لمعانقة المنطقة الطبيعية الأعلى. مجاليّا، تلعب منطقة التّدهور دورا مهما في عملية التّنظيم (التوزيع/الفصل)، فعلى الرّغم من كونها منطقة اضمحلال، أي منطقة ثبات أو تناقص في عدد السّكان، فهي أيضا منطقة تجديد regeneration. هذه المنطقة هي المكان الذي يستقبل الهجرة الوافدة المكثفة إلى المدينة، ويمنح للوافدين الجدد بعض مقوّمات صراعهم من أجل البقاء. ومنها تنطلق سيرورة الخلافة والتمدّد. واجتماعيا، تضطلع المهنة، بامتداداتها الإثنية والثقافية والاقتصادية، بنفس الدور. فتقسيم العمل يمنح لكل مجموعة من الأفراد مجموعة اجتماعية ذات مكانة وموقع اجتماعي معين. فـ”في سياق توسع المدينة، يقول بيرجيس، يتم إرساء عملية توزيع distributionتغربل، وتنتقي وتعيد توطين الأفراد والجماعات على أساس الإقامة والمهنة. وفي إطار عملية التوزيع هذه، والتي تتمّ وفق نمط واحد، مع فقط بعض التعديلات الطفيفة المهمّة، عادة ما يحدث تمايزُ differentiation المدينة الأمريكية الكوسموبوليتانية إلى مناطق”[17].
وفي إطار هذا النموّ المتمايز الطبيعي والإرادي، يتحدّد الفصل الحضري أيضا، باعتباره لا مركزة ممركزة. وتتطور المدينة، كلّ مدينة، إلى “نظام لا مركزي ممركَز” تعبر عنه نفس الخطاطة الموصوفة أعلاه. ويتحقّق ذلك عبر “عمليات متخاصمة ولكنها متكاملة من التركز واللامركزة”[18]. يحدث التركّز من خلال عملية تجميع وتلاق طبيعي شبه حتميّ لسكان المدينة، ولأهمّ إمكاناتها وقدراتها وأنشطتها الاقتصادية والثقافية والسياسية في منطقة الأعمال المركزية. وتحدث اللّامركزة من خلال نشوء مراكز أعمال فرعية في المناطق النائية. وبحسب بيرجس، “لا تمثل هذه’ المراكز التابعة’ الإحياء ‘المأمول’ للحي، بل تمثل تجميع العدّة مجتمعات محليّة في وحدة اقتصادية أكبر. وتخضع شيكاغو الأمس، وهي تجمع من البلدات الريفية ومستعمرات المهاجرين، لعملية إعادة تنظيم لتصبح نظاما لا مركزيا ممركزا من المجتمعات المحلية التي تتجمّع في مناطق أعمال فرعية تسيطر عليها بشكل واضح أو غير مرئيّ منطقة الأعمال المركزية”[19].
خاتمة:
لقد استطاع إسهام كلّ من بارك وبيرجس، كما يتّضح من خلال هذه القراءة، أن يعكس تحوّلات الظاهرة الحضرية ومعها تحوّلات المجال الحضري. ولقد أعطى اسهامُهما لهذا التحوّل اسما رئيسيا هو الفصل الحضري.
ومحايِثا للتحضر المتصاعد، برز الفصل الحضري في عمليهما باعتباره ظاهرة كلية ونسقيّة تخترق الحياة الحضرية على ثلاثة مستويات:1) مستوى سيكولوجي يعكسه الإنسان الحضري الذي يعيش تراجيديا التكيّف في مواجهة هذه الآلة الرهيبة التي تسمّى مدينة. عاش الفصل داخليا كإقصاء وعزل، وكخوف من التقهقر، ويسجَّل في التاريخ الشخصي للحراك الاجتماعي الفردي. ويبرز الفصل الحضري إذن، باعتباره مواقف تتجذّر في قناعات الأفراد، وتنعكس في سلوكاتهم كأفراد؛ 2) مستوى اجتماعي يتمثّل في ضعف الرّابط الاجتماعي، بل في تحلّل هذا الرّابط. ويخلق تقسيم العمل وتقسيم السكن داخل المدينة مجموعات اجتماعية متمايزة، ويكسران الوحدة الروحية للمجتمع الحضري. وتتحوّل المنافسة إلى ابتعاد واجتناب يأخذان أشكالا طبقيّة. وتعزّز الصورة السّلبية إلى الجماعات الأدنى، باعتبارها تهديدا، هذا التقوقع والانفصال خوفا من التراجع. وتبدو الحتمية الاجتماعية متجلية في هذه الإيديولوجيا التطورية التي تسكن التأويل الإيكولوجي للمدينة وللتحضر ومؤداها أن جزءا من السّاكنة سيحسِّن مستواه السوسيو-اقتصادي حتما في مقابل جزء آخر سيعاني التهميش حتما. ومن البداهة القول إنّ المنافسة على المجال وعلى الموارد، في غياب وظيفة الدولة، أي في غياب التدخل السياسي في العلاقات السوسيو-اقتصادية والسوسيو-مجالية، ستخلق حتما فائزين وخاسرين، أي طبقات أو مجموعات اجتماعية مستفيدة وأخرى متضرّرة. أمّا الاستيعاب الذي سيحصل ببطء وبدرجات متفاوتة فلن يكون إلاّ فرديا، أي مرتكزا على قاعدة القدرات الفردية وقدرة الشخص على التكيّف. وهذا بالطبع لن يمكِّن من خلخلة بنيات الفصل الحضري الاجتماعية والذهنية؛ 3) مستوى مجاليّ يعكس نهاية المدينة كمجال متماسك ومنسجم. وهكذا تتحوّل المنافسة الاجتماعية إلى منافسة مجالية على الأرض. وتخلق العمليات السوسيو-مجالية المرتبطة بالمنافسة وبالتكيّف، مع نمو وتوسّع المدينة، فصلا مجاليا متعدّد المستويات. فمن جهة أولى، تظهر مناطق للفصل محدّدة ومتوقَّعة كارطوغرافيا؛ ومن جهة ثانية، يبرز تمدّد المدينة، متجلّيا في التحضّر المحيطي، كهروب مستمر من المجالات الباتولوجية، حيث الفقر وسوء العيش، وما يرتبط بهما من انحراف وجريمة وضغوط. ومن جهة ثالثة يصبح اللاّتكافؤ واقعا مجاليا. وتنبثق المدينة على هذا المستوى، ليس كمجال مقسم بشكل وظيفي، وإنّما كتراتبية مجالية مطابقة للتراتبية الاجتماعية الجذريّة.
وخلاصة القول أنّ مفهوم الفصل الحضري قد منح، مع مدرسة شيكاغو ومقاربة الإيكولوجيا البشرية، إمكانية تحليل البنية الحضرية بشكل أعمق وأشمل. وهكذا، أصبح تحليل المجالات الحضرية من زاوية الفصل أساسيّا لتفهّم البنية والعلاقات الحضرية.
[1]– McKenzie Roderick D., «The ecological approach to the study of the human community», in Park Robert E., Burgess Ernest W., McKenzie Roderick D., The City. Chicago, University of Chicago Press, 1925, p: 63-79.
[2]– Park Robert E., Human communities: The city and human ecology, 1952, p: 99.
[3] – Park Robert E., «The city: Suggestions for the investigation of human behavior in the urban environment», in Park Robert E., Burgess Ernest W., McKenzie Roderick D., The City. Chicago, University of Chicago Press, 1925, p: 1-46.
[4] – بارك روبرت إزرا. (1929). “المدينة كمختبر اجتماعي”، ترجمة المالكي عبد الرحمن، ص. 176-197، في المالكي عبد الرحمن، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، أفريقيا الشرق، 2016.
[5]– Park Robert E., «The city: Suggestions for the investigation of human behavior in the urban environment», op. cit.
[6]– McKenzie Roderick D., «The ecological approach to the study of the human community», op. cit.
[7]– Park Robert E., «The city: Suggestions for the investigation of human behavior in the urban environment», op. cit.
[8]– المالكي عبد الرحمن، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2016، ص. 128.
[9]– Park Robert E., «The city: Suggestions for the investigation of human behavior in the urban environment», op. cit.
[10]– Park Robert E., «The Concept of Position in Sociology», Papers and Proceedings of the American Sociological Society, 20, 1926, p: 1-14.
[11]– Ibid.
[12]– Burgess Ernest W., «The Growth of the City: An Introduction to a Research Project», op. cit.
[13]– Ibid.
[14]– Burgess Ernest W., «Residential Segregation in American Cities», The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science, 140(1), 1928, p: 105-115.
[15]– Burgess Ernest W., «The Growth of the City: An Introduction to a Research Project». Op. cit.; Burgess Ernest W., « Residential Segregation in American Cities », op. cit.
[16] – Burgess Ernest W., «The Growth of the City: An Introduction to a Research Project», op. cit.
[17] – Ibid.
[18] – Ibid.
[19]– Ibid.
المراجع:
- بارك روبرت إزرا. (1929). “المدينة كمختبر اجتماعي”. ترجمة المالكي عبد الرحمن، ص. 176-197. في المالكي عبد الرحمن. 2016. مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة. أفريقيا الشرق.
- المالكي عبد الرحمن. (2016). مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة. الدار البيضاء. أفريقيا الشرق.
- وورث لويس. (1938). “التحضر كنمط عيش”. ترجمة المالكي عبد الرحمن. ص. 198-231. في المالكي عبد الرحمان. مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة. الدار البيضاء. أفريقيا الشرق. 2016.
- Burgess Ernest W. (1925). The Growth of the City: An Introduction to a Research Project. Park Robert E., Burgess Ernest W., Mc Kenzie Roderick D. The City. Chicago, University of Chicago Press. p. 47-62.
- Burgess Ernest W. (1928). Residential Segregation in American Cities. The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science, 140(1). p. 105-115.
- McKenzie Roderick D. (1925). The ecological approach to the study of the human community, Park Robert E., Burgess Ernest W., Mc Kenzie Roderick D. The City. Chicago, University of Chicago Press. 63-79.
- Park Robert E. (1925). The city: Suggestions for the investigation of human behaviour in the urban environment, Park Robert E., Burgess Ernest W., Mc Kenzie Roderick D. The City. Chicago, University of Chicago Press. p. 1-46.
- Park Robert E. (1926). The Concept of Position in Sociology, Papers and Proceedings of the American Sociological Society, 20. p. 1-14.
- Park Robert E. (1952). Human communities: The city and human ecology.
1 تعليق
دمتم لخدمة العلم أوفياء