الملخّص
شهدت الأندلس خلال فترة حكمها بشبه الجزيرة الإيبيرية بداية أروع وأعمق تطور حضاري شهده هذا القطر الأوروبي عبر التاريخ، حيث خطَّ المسلمون على ظهر هذه الجزيرة، صفحة جديدة مختلفة عن كل الصفحات، وقد كان ذلك التطور مرتبطا بالعديد من العوامل المتداخلة، من ضمنها مبدأ حرية العقيدة، هذا المبدأ القرآني الرائع الذي غلب على حكام المسلمين في الأندلس، فجسدوه على أرض الواقع أيما تجسيد. فقد سمح الحكام المسلمون في علاقتهم بالثقافات الأخرى عموما، والثقافة اليهودية على وجه الخصوص، طوال مدة عزهم ومجدهم، بممارسة الحرية الدينية، بل والتشجيع على الإبداع الفكري مما أدى إلى عملية تأثير وتأثر هذه الثقافات فيما بينها، وهو ما أكد على أن الأندلس كانت بمثابة فضاء نموذجي مازال شاهدا على عمق حوار ثقافي وحضاري متميز، كان قائما على كل أشكال التعايش والبحث الثنائي عن تلك الأجوبة الشافية للأسئلة الفكرية والثقافية التي شملت اللغة، والأدب والشعر، والتي برز من خلالها عدة شعراء تأثروا بالثقافة العربية الإسلامية من قبيل: “بن النغريلة” و”يهودا الحريزي” وغيرهم من الشعراء والأدباء والمفكرين الذين ترجموا تأثرهم بالثقافة الإسلامية عن طريق أدبهم وأشعارهم.
كما كانت الريادة العربية الإسلامية في هذا الإطار ريادة استقطاب ثقافي ومعرفي مصحوبة بمنطق الحرية في الاختيارات، فلم يترددوا في النهل من منابعها الغنية بالعطاء، دون أن يضطرهم هذا الإقبال إلى التنازل القسري عن هويتهم ودون أن يكرههم على الدخول في متاهات صدامية تهددهم في كيانهم ومواقفهم.
Abstract
During its rule، during its ruling, Andalusia witnessed the beginning of the most wonderful and deepest civilizational development on the Iberian Peninsula which changes the European Continent in this important period of history،on behalf of this island،the Muslims wrote a new different page. This evolution was linked to many interrelated factors،including the principle of Freedom of belief. These wonderful Quranic principles were often used by the Muslim rulers in Andalusia،where they embodied it on real life.
The Muslim rulers،in their relationship with other cultures in general،and the Jewish culture in particular،have permitted throughout their period of glory،the practice of religious freedom. Besides،they encouraged the intellectual creativity،which led to the process of influencing these cultures among themselves،were confirmed that Andalusia was a typical space that still witnesses the depth of a distinguished cultural،Religion and civilizational dialogue which was based on all forms of coexistence and the bilateral search for those healing answers of the intellectual and cultural questions،Which included language،literature and poetry،through which several poets have emerged as poetry such as: “Bin Naghriela” and “Yehuda Al-Harizi” and other poets،writers and thinkers who translated their influence on Islamic culture through their literature and poetry.
In this context،The Arab-Islamic leadership was a pioneering cultural and cognitive polarization accompanied by the logic of freedom in choices; they did not hesitate to benefit from the other’s rich sources of references،without forcing themselves to forcibly compromise their identity،also without entering into confrontational clashes that threaten
مدخل:
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم بعض الإضاءات العامة حول بعض ملامح تأثير الثقافة العربية الإسلامية في الثقافة العبرية، وذلك من خلال توقفنا عند بعض مظاهر هذا التأثر المستمدة من ذاكرة الثقافة الأندلسية، حيث كان الأدباء والعلماء اليهود يعملون على بلورة هويتهم من خلال اقتفائهم لخطى المنجز العربي، وخاصة منه في الجانب المتعلق بقوانين النظم وأسسه ذات المنحى الإيقاعي والدّلالي، وإثبات أهليتهم في اقتفاء أثر الأعلام العرب من شعراء وكتاب، حيث برعوا في تدبيج الخطب والمراسلات كما هو معبر عنه في تنويه ( موسى بن عزرا) بـ (بن النغريلة) باعتباره نموذجا متقدما من نماذج الأدباء الكتاب اليهود، حيث يقول في مجموعاته الشعرية: وما تأليف مجزوءاته، ومطولات كلماته وخطبه ومراسلاته، فقد نظمت حاشيتي مصر وملأت قاصيتي البر والبحر، إلى رؤساء العراق وعلماء الشام، وأعلام مصر وصناديد إفريقيا وأفاضل المغرب وأشراف الأندلس، ولقد أصاب في عامتها محاسن القول وعيون الصواب، وكسا كثيرا من ألفاظها ومعانيها أبهة الملك، وألبسها عزة الجلالة وألحفها رداء العلم، وحلاها بسيماء البلاغة”[1].
وإذا تجاوزنا جانب المبالغة الحاضرة بقوة في هذه الشهادة، فإن ذلك لن يحول دون اعتراف بأهمية المكانة التي يحتلها الشاعر الوزير “بن الغريلة” في بلورة الأجناس الأدبية المشار إليها على مستوى التمثل ومحاكاة المنجز العربي الإسلامي مع التأكيد على أن الهدف المركزي من هاته الورقة يتمثل أساسا على تسليط الضوء على بعض الإشكاليات التي استقطبت وماتزال اهتمام الباحثين والدارسين، وسيكون من الضروري في هذا السياق الاستناد على بعض الشواهد التي أدلى بها أدباء يهود في حق رموز الإبداع العبري، الذين أهّلهم وعيهم بالتجربة الإبداعية العربية للمساهمة في تحقيق تراكم إبداعي عبري لا يخلو من حضور روح عربية، كانت سببا في تقوية إشعاعه وامتداده، ولنا في شهادة الشاعر والناقد يهودا الحريزي (1170م – 1235 م) خير معين في هذا السياق، وسنكون ملزمين بعرض نسبة كبيرة مما ورد فيها، وذلك بالنظر إلى ما تكتسيه من أهمية، ولقد وردت في كتابه “تحكموني” المكتوبة باللغة العربية والصادرة عن دار توبورفسكي بمدينة تل أبيب سنة 1952. يقول:
” إن بني شعبنا، بعد جلائهم عن أرض كنعان، أقاموا بين ظهران العرب المسلمين حيث ألفوا التحدث بلغاتهم والتفكير بتفكيرهم من خلال تمازجهم بهم، أخذوا عنهم فن صناعة الشعر. وحين كان آباؤنا يقيمون في مدينة القدس لم تكن لهم دراية بقرض الشعر، ذلك أن إلمامهم بالنظم كان مقتصرا على أسفار أيوب، والأمثال والمزامير، والتي كانت متميزة بقصر جملها وأبياتها السهلة والبسيطة والقريبة من السجع، لتكون بذلك دون المستوى الجميل الملتزم بقانون الوزن والقافية”[2]. ويضيف موضّحا: ” اعلم أن الشعر البديع الحافل باللآلئ قد كان في بادئ الأمر ملكا مقصورا على العرب وحدهم، وهم يفوقون في شعرهم شعراء العالم قاطبة… ومع أن لكل أمة شعراءها فإن جميع شعرهم لا قيمة له ولا وزن، في مقابل شعر الإسماعيليين، فالعرب وحدهم هم المستأثرون بالشعر العذب في لفظه الجميل، في فحواه ومعناه…” [3]
فمن خلال تأملنا في هذه الشهادة نستخلص العناصر التالية:
- تلقائية تمازج الشعب اليهودي بالشعوب الإسلامية، على أساس أن التواصل اللغوي هو الذي يؤدي إلى التواصل المعرفي وهو ما يعني تمرس الأدباء اليهود بقواعد كتابة اللغة العربية وآدابها.
- الاعتراف الصريح بتمدرس الشعراء اليهود على الشعراء العرب المسلمين.
- التصريح بخلو الذاكرة العبرية من أية معرفة بشروط النظم واقتصارها على الإحاطة بأسفار أيوب والأمثال والمزامير.
- حصر المعرفة الشعرية على العرب دون غيرهم من الشعوب.
- بقاء التجربة الشعرية العبرية دون مستوى القوة والدربة الشعرية عند العرب.
وعموما فإن مجمل هذه العناصر الواردة في شهادة يهودا الحريزي تحيلنا على قناعة ثابتة مفادها:
أولا: إكبار الشاعر العبري للتجربة الشعرية العربية.
ثانيا: اعتمادها نموذجا مثاليا جديرا بالتمثل والاحتذاء.
وكما هو معلوم فإن نضج الوعي لدى الشاعر العبري بضرورة انتقاله من مستوى الكتابة الشعرية البسيطة إلى مستوى القصيدة المحكمة، تأسس على أرضية توافر شروط سوسيوثقافية، من منطلق ما تتحلى به من سماحة وقناعة من أجل مد جسور التواصل والحوار بينهم وبين باقي الشعوب المتواجدة في محيطهم، وذلك استنادا على ما كان يتميز به العرب حينها بسلطة حضارية وسياسية، وهذه السلطة الرمزية والفعلية كانت تتمركز في قرطبة التي كانت تشتهر بمكتبتها الضخمة، إذ كانت تضمّ كما هائلا من الكتب والمخطوطات في كل مجالات الفنون والعلوم والآداب، بالإضافة إلى مكتبة القصر التي كانت تحت رعاية عبد الرحمان الثالث المسمى بالناصر (891 – 961 م ) وهو ما يضعنا في عمق الحركة الثقافية التي كانت تتمتع بها الأندلس في عصر الشاعر يهودا الحريزي.
وبالاستناد إلى الأهمية الكبرى التي كان يحظى بها الفضاء الثقافي المعرفي الأندلسي، فإن النخبة المثقفة والمشكلة من العلماء والفقهاء والشعراء، كانت تحلم بتعبيد الطريق إلى حلقة الخليفة عبد الرحمان الثالث، حيث يلاحظ حضور الشعراء ضمن مكونات هذه النخبة.
من هنا يمكن القول إن تمثل اليهود في ذلك الزّمن بالثقافة والإبداع الإسلامي هو السبيل الأوحد لتجاوز هامشيتهم بهدف التموقع داخل المشهد الثقافي، حيث كان من الطبيعي أن يرتقوا بشعريتهم ومعارفهم الفكرية والأدبية من خلال مواصلة احتكاكهم بالثقافة العربية وهو ما ساعدهم على إثبات أهليتهم في اقتضاء ظاهرة النظم.
ظاهرة النظم الشعر العبري على غرار الشعر العربي:
بناء على ما سبقت الإشارة إليه، بدأت تتبلور لدى الشّعراء ظاهرة النظم الشعر العبري على غرار الشعر العربي شكلا ومضمونا، معتمدين في ذلك على احتذاء العناصر المعتمدة في نظم القصيدة العربية مقلدين فيها في المدح كما في الغزل والرثاء والفخر وباقي الأغراض الشعرية، مع الإشارة إلى أن هذا التقليد لم يلغ خصوصية شعرهم المتمثلة في تشبع نصوصهم بروح الحنين إلى أرض الميعاد، مع التنبيه إلى أن هذا الشعر النموذجي لم يصرفهم في كتابة قصائد تستمد مادتها من الألغاز والأحاجي، وإمكانية التمرس بالقوالب الفنية والموظفة من قبل الشعراء العرب والمسلمين، وفي هذا الإطار نستحضر شهادة حاييم شرمان التي يقول فيها: “لقد أخضع الشعراء اليهود الشعر العبري للقوالب الفنية التي كانت عليها القصيدة العربية، وتلك التي أدخلها دوناش بن لبراط إلى القصيدة العبرية”.
وعلى غرار توظيفهم للأوزان والبحوث العربية، نجد إلى جانب ذلك كلفهم بالصور البلاغية والمجازية التي حاولوا أن ينسجوا على منوالهم كما هو وارد في الشهادة ذاتها يقول: “وطبقا للأمثلة العربية أمكن إدخال الصور والمحسنات البلاغية بالإضافة إلى وزنها طبقا لأسلوب الوزن العربي … كذلك نقل الشاعر هذه الأوزان إلى القصيدة الدينية”.
ونظرا لضيق المقام سوف نكتفي بتقديم موجز لثلاثة نماذج تعتبر في نظر الباحثين والمختصين الأكثر تمثيلا للشعراء اليهود بالأندلس. وهم على التوالي يهودا هاليفي، وأبراهام بن عزرا، وموسى بن عزرا.
ولعل أهم شاعر يمكن التمثل به في هذا السياق هو يهودا هاليفي “باعتباره أحد أهم الشعراء اليهود، حيث اشتهر في نظم قصائده الغزل والإخوانيات وكافة الأغراض الاجتماعية، وعموما فإن شعره يتميز بتأجج عاطفته وقوة الخيال وسلاسة الأسلوب وجزالة اللفظ.
وفضلا عن علو كعبه في الشعر، فقد اشتهر أيضا بنبوغه الفلسفي التي تشهد له بذلك مؤلفاته الفكرية ذات الطابع الديني، وخاصة منها كتابه ” الخوزري” الذي ترجمه للعبرية بعد أن كان قد ألفه بالعربية، وهو كتاب تتمثل أهميته في تطرقه إلى موضوع على درجة كبيرة من الحساسية، وهو المتعلق بدراسة العلاقات القائمة بين الأديان السماوية الثلاثة، أما المنهجية التي اعتمدها في إنجاز هذه المقارنة، فجاءت على صيغة حوار بين عالم مسلم وحبر يهودي وكاهن مسيحي، وبالنظر إلى شهرة مؤلفات يهودا هاليفي فقد أصبحت من بين النماذج الأكثر حضورا في الاستشهادات المتعلقة بالثقافة العبرية سواء بالنسبة لدى العامة أو الخاصة، بما في ذلك الكتب المدرسية.
أبراهام بن عزرا:
نبغ أبراهام بن عزرا المولود بطليطلة سنة 192 م، في جل الأغراض الشعرية. وسيكون من الصعب على الدارسين والباحثين المهتمين بالشعراء اليهود المعروفين في الأندلس، تجاوز أحد الأسماء الأكثر شهرة والأكثر رسوخا، ويتعلق الأمر بأبراهام بن عزرا الذي كان مبرزا في نظم الموشحات ذات المنزع الديني من خلال الاعتماد على مجموعة الأبحر الشعرية المتداولة في تلك المرحلة عند الشعراء العرب، ودليلنا في ذلك شهادة ” لفين إسرائيل” التي يقول فيه: “إن الأشعار الدينية لأبراهام بن عزرا المنظمة على شكل موشحات تتميز بعدد أوزانها. فإذا سلمنا بالتفاوت في أوزان المصاريع مثلا نتيجة للتباين في أوزان الوشاح والترشيح، فإن عدد الأوزان كان يبلغ 107”.
وهو ما يعكس توفر تلك القدرة الخلاقة لدى الشاعر على الانتقالات المتعددة على الأوزان والتي تعود إلى براعة الارتجال وحسن التفنن فيه، كما يؤكد على ذلك “لفين إسرائيل” بقوله: “هذا الرقم الكبير يدل بشكل واضح على براعة الشاعر وقدراته على الارتجال فيها فيما يخص اللحن، وهو الأمر الذي يلعب دورا كبيرا في الموشحات”.
موسى بن عزرا:
هو موسى بن يعقوب بن عزرا: المولود بغرناطة 1055 – 1138 م والذي يعدّ من أشهر شعراء عصره، بسبب نبوغه في جل الأغراض الشعرية، كما عُرفت عنه إحاطته بكثير من العلوم والفنون التي كان يعتبر إلمام الشاعر بها مكسبا أساسيا يؤشر على عمق ما يتوفر عليه من زاد معرفي وثقافي.
وفي السياق ذاته نذكر كتابه المعروف بـ “المحاضرة والمذاكرة ” والذي تمت كتابته في صيغة جواب على أحد المتسائلين حول القضايا التالية والمثبتة في مقدمة الكتاب:
- الخطب والخطباء.
- الشعر والشعراء.
- دلالة حضور الشعر عند العرب، باعتباره طبعا وعند غيرهم باعتباره تطبعا.
- مدى اضطلاع وتعرف العبرانيين على جنس الشعر المعرب والموزون.
- تاريخ اهتمام الجالية اليهودية بالشعر.
- دواعي ازدهار الشعر اليهودي.
إلى آخر ما في الكتاب من قضايا أدبية وفلسفية.
ولا يفوتنا في هذا السياق أن نذكّر ببعض الشعراء اليهود الذين كانوا سباقين إلى توظيف الأوزان العربية في الشعر العبري، مثل “دوناش بن لبراط“، الفاسي المولد والنشأة، البغدادي التعليم والثقافة، إلى جانب يهودا بن داوود وحيوج المشهور عند العرب بأبي زكرياء يحيى، ويونا بن جناح القرطبي المعروف بأبي الوليد، وشلوم بن جبراييل بأبي أيوب بن سليمان بن يحيى.
ولقد كان لطبقة هؤلاء الشعراء الكبار وأمثالهم الفضل في الارتقاء باللغة العبرية من مستوى تداولها البسيط إلى مستوى توظيفها في البحث والدرس الفكري والإبداع الأدبي والفني.
ذلك أن اللغة العبرية كانت تشكو من فقر مدقع من حيث معجمها، سواء على مستوى الكم أو النوع مما كان يحول بينها وبين تجربة الخوض في أي حقل ثقافي أو معرفي، إلا أنها استطاعت أن تتجاوز هذا العائق من خلال انفتاحها الشامل على المعجم العربي الغني بدلالاته ومرجعياته الضاربة في أغوار ذاكرة الحضارة الإنسانية.
وبموازاة اهتمام النخبة اليهودية بنظم الشعر والتوسع في آدابه وفنونه، إلى جانب اهتمامهم الكبير بعلوم اللغة وأساليبها، فإنهم تفرغوا للدراسات اللاهوتية والفلسفية وغيرها من العلوم وخاصة منها الطب.
ولقد تمثل ذلك في ترجمتهم لغير قليل من أمهات الكتب العربية إلى اللغة العبرية من ذلك مثلا: كتاب بن سينا وغيره.
وكما هو معلوم فإن هذا الاحتكاك ساهم في تهذيب العقيدة اليهودية في رؤيتها للذات الإلهية وصفاتها.
ونخلص إلى أن الأندلس كانت بمثابة فضاء نموذجي شاهد على عمق حوار ثقافي وحضاري، كان قائما على قناعة راسخة مفادها البحث عن تلك الأجوبة الشافية لأسئلة متعددة ومتشعبة كانت تشمل الشعر والأدب، كما كانت تشمل الفكر والفلسفة والعقيدة، ولقد كانت الريادة العربية الإسلامية في هذا الإطار ريادة استقطاب ثقافي ومعرفي مصحوب بمنطق الحرية في الاختيارات، فلم يترددوا في النهل من منابعها الغنية بالعطاء، دون أن يضطرهم هذا الإقبال إلى التنازل القسري عن هويتهم وأيضا دون أن يكرههم على الدخول في سجلات صدامية تهددهم في قناعاتهم أو في مواقفهم.
وقد ارتأيت أن أقدم قراءة وصفية لكتاب “المحاضرة والمذاكرة” لموسى بن عزرا.
ثمة ثلاث إمكانيات لوصف المتن:
أولها: المقدمة التي أثبتها موسى بن عزرا في صدر كتابه والتي يلخص فيها استراتيجية الكتاب.
ثانيتها: الفهرسة الواردة في نهاية الكتاب.
أما الثالثة فهي تلك التي تنطلق من قراءة الكتاب ذاته، ولقد تعمدنا تأخيرها لكونها السبيل الأقوم والموضوعي لوصف المتن.
المقدمة مدخلا: أي باعتبارها تلخيصا لمضامين الكتاب ولمنهجية كتابته، وتشمل عشر صفحات من القطع الصغيرة تضم حوالي ستة عشر سطرا، إذ من خلالها سيتبين لنا بأن طبيعة هذا العمل هو في الأصل جواب لأبي هارون على أحد المتسائلين حول بعض القضايا البيانية الشائكة والمتعلقة بـ :
- الخطب والخطباء.
- الشعر والشعراء.
- دلالة حضور الشعر عند العرب، باعتباره طبعا وعند غيرهم باعتباره تطبعا.
- مدى اطلاع وتعرف العبرانيين على جنس الشعر المعرب والموزون.
- تاريخ اهتمام الجالية اليهودية بالشعر.
- دواعي ازدهار الشعر اليهودي.
وتشير المقدمة إلى أن المتن سيتضمن مجموعة من الآراء المتمحورة حول هذه المسائل فضلا عن الاستشهاد ببعض القصائد التي ادعى ناظموها بأنها وردت عليهم في الحلم كي تليها بعد ذلك بعض النصائح التي يمكن الاستناد عليها في صياغة (القريض العبراني على آراء العرب).
ولا يفوت أبا هارون “التأكيد لسائله أن هذا العمل مجرد مقالة موجزة ومقتضبة ناصحا إياه كي يستأنس بمتون المسلمين المتضلعين في هذا العلم مثل (قدامة في النقد، والبديع لابن المعتز، والمذاكرة والمحاضرة للحاتمي، والعمدة لابن رشيق، والشعر والشعراء لابن قتيبة وغيرهم).
كما يؤكد على هدف مقالته بقوله: (هذه الأوراق القليلة هو تقديم المسائل السالفة الذكر في إطارها العبري والعربي على أساس تقليد العبرانيين للنموذج العربي واستلهامهم له، بالإضافة إلى حرصه على توثيق ما يخشى ضياعه ونسيانه.
كما أن أبا هارون “ينبه سائله إلى طبيعة البناء الذي ستقوم على أساسه مقالته من حيث توظيفه (لبعض الأغراض الحكمية) والنوادر الفلسفية المشاكلة له والفقرات الأدبية المنتظمة معه مشبها التأليف بمائدة تضم عدة أصناف من الأطعمة التي تغري الأكل / القارئ بالإقبال وتفتح شهيته لما هو مبسوط أمامه.
أما بالنسبة لمصادر المقالة فإنه يؤكد على أنها استعادة واسترجاع لما سبق أن حفظه من أقاويل الحكماء وحمله من (الأساتذة العلماء ص 5).
أما اجتهاداته الشخصية فستظل في حدود شرح ما بدا له غامضا، أو غير مقنع، دون أن يجزم هو نفسه، بصحتها وسلامتها، ويستشهد في هذا السياق بمعاصره وأستاذه الربي سعديا، الذي لقنه فضيلة التواضع، وطلب المغفرة من القارئ الحصيف القادر على تدارك ما وقع فيه من أخطاء، وقبل أن يشرع في بسط مادة المقالة (كتاب المحاضرة والمذاكرة) لا يفوته الإفصاح عن وجهة نظره الخاصة بمنهاج طرح الأسئلة حيث يقسمه على غرار ما هو موجود في الكتب العبرانية المقدسة، إلى أربعة مستويات هي السؤال والجواب والمعارضة والانفصال، أما أسلوب هذا المنهاج، فسيقوم على مبدأ الإيجاز المستفيد، من المقولة التالية” إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا” ص8، إذ يلاحظ أن أبا هارون يسعى من خلال توظيفه لخاصة الاختزال، تمكين المهتم من حفظ المعارف الواردة في مقالته بدليل قوله: ” واذكر قليلا إذا كان الاختصار أعون على الحفظ وأجمع القول” ص 9. حيث يتطرق بعد ذلك إلى تفصيل القول في مستويات منهاج طرح الأسئلة بالاستناد إلى شواهد من الكتاب المقدس.
وصف المتن من خلال الفهرسة:
يلاحظ من خلال قراءة الفهرسة الموضوعة للكتاب نزوعها إلى الاختزال والتعميم، حيث اقتصرت الإشارة لأرقام الأسئلة تبعا لتسلسلها عبر الصفحات نظرا لأنها تقوم بدور ثابت ومحدد، يتجلى في مساعدة القارئ على الاهتداء إلى الأسئلة التي تعينه من خلال أرقام الصفحات المقترنة بها، بذلك تكون على سبيل المثال (ص11 هو) مرجع القارئ للسؤال الأول، وص 18 للسؤال الثاني وهكذا دواليك إلى نهاية الكتاب.
وصف المتن من خلال المادة المبسوطة فيه:
الغرض من هذا الوصف هو مقاربة القضايا العامة الواردة فيه:
1 _ من حيث الإشكاليات المطروحة.
2 _ من حيث صيغة طرح هذه الإشكاليات.
فأول ما تجدر ملاحظته، هو أن الكتاب مقسم إلى فصلين أساسيين يمتد أولهما من الصفحة 14 إلى صفحة 234، بينما يمتد الفصل الثاني من الصفحة ذاتها إلى نهاية الكتاب.
بالنسبة للفصل الأول يمكن اعتباره بمثابة جواب من أبي هارون لسائله عن الأسئلة الثمانية التي سبق أن أشرنا إليها في وصفنا للمقدمة بينما يتمحور الفصل الثاني حول ما سماه بمحاسن الشعر، وعددها عشرون (سنفصل فيها القول لاحقا)، علما بأن هاته المحاسن مذيلة بقصيدة عبرية من نظم المؤلف، ويصل عدد أبياتها إلى مئة بيت (ولنا فيها كلام سيرد في حينه).
وقبل الشروع في تقديم نظرة إجمالية عن مادة الفصلين معا وجبت الإشارة إلى أن الكتاب مؤلف باللغة العربية، تتخللها نسبة كبيرة من الإشارات باللغة العبرية، التي تهمّ:
أ. الأعلام المستشهد بهم والمنتمين إلى العلماء العبريين.
ب. بعض الشواهد المستمدة من كتبهم المقدسة، ومن الديوان العبري المعاصر للشاعر أو المتقدم عنه، بالإضافة إلى بعض الأقوال العبرية التي ترد في سياق التحليل أو المقارنة فضلا عن القصيدة الطويلة المشار إليها أعلاه.
كما تجدر الإشارة إلى أن منطق عرض الأجوبة يقوم على خاصية الاستطراد الذي يتجاوز في سياقات كثيرة، المسألة المركزية إلى مسائل جزئية بعضها قريب الصلة بالمسألة المركزية، وبعضها الآخر يوشك من حيث البعد أن يتعلق مع قضايا شبه غربية عن السياق، وهو ما سنتعرض إليه في حينه.
أما الآن وبعد هذا التقطيع الأولي لمادة الكتاب فإننا سنشرع مباشرة في تأطير مجموع القضايا الواردة فيه تبعا لتسلسلها وستكون البداية بجواب أبي هارون عن السؤال الأول.
ونظرا للخاصية الأسلوبية المعتمدة في التحليل والقائمة على الإيجاز والتكثيف، فإننا سنكتفي من جهتنا بالإشارة المركزة لما يطرحه من قضايا حتى لا نجد أنفسنا منساقين إلى نسخ الكتاب من ألفه إلى يائه، ولعل هاته الملاحظة ستكون من بين العناصر الأساسية التي سنتوقف عندها في معرض مقاربتنا لأسلوب ومنهج صياغة الكتاب.
1 _ الخطب والخطباء:
يشرع في مناقشة هذه المسألة، انطلاقا من تعريفها عند اليونان، باعتبارها أداة للإقناع، وفي علاقتهما بالفن المنثور عند العرب المعروفين بطول باعهم فيها. ورؤية الرومان لها … وطبيعة حضورها عند العبرانيين ليتطرق في النهاية إلى قراءة معجمية مقارنة لمفهوم الخطابة والكلام عند العبرانيين والعرب، بنوع من التفضيل استنادا على البيان العربي وبعض الشواهد الحاضرة في التوراة.
2 _ الشعر والشعراء:
في هذا الجواب، حديث عن ماهية الشعر عند اليونان والعرب والعبرانيين، حيث يتداخل مفهوم الشعر بمفهوم النبوة، ثم يميز الشعر والنظم عند العرب والعبرانيين ليتطرق إلى المفاضلة بين النثر والشعر عند العرب فقط، ليختم كلامه عن آفة التكسب بالشعر دون الإشارة إلى العرب أو العبرانيين، بمعنى أن الأمر ينسحب على الجميع.
3 _ الطبع عند العرب والتطبع عند غيرهم:
يستهل هاته المسألة، بالحديث عن الخصوصية الطبيعية والجغرافية لجزيرة العرب، وأثرها المباشر في صقل مواهب القول الشعري عند العرب، ليتناول بعد ذلك:
العلاقة المعجمية بين الشعر والبيان.
الاستناد إلى جالينوس وأبو قراط في رأيهما حول الطباع والأهوية والبلدان.
الاستنارة بالآراء المستمدة من علم النجوم وخاصة (رسالة المداخل إلى علم النجوم) لإخوان الصفا.
استشهاده بالمسعودي في معرض حديثه عن دور الطبيعة في إصلاح اللسان.
تأثر اليهود بالطبيعة واللسان العربي.
التأكيد على الأصل العربي لشعراء اليهود.
الاستشهاد بكتاب القمر “لأرسطو طاليس” في معرض حديثه عن تأثير الموقع الجغرافي لجزير العربية في علاقته بمواقع النجوم، وتمجيد قدرات العرب في معرفة طالع النجوم والقافية، وكذلك الاستشهاد بكتاب الأفضاء لأبي حنيفة.
ثم يركز على خصوصية العبرانيين المتمثلة في تحلي علومهم بطابع نبوي وشرعي ليفرع الحديث من قداسة ملتهم العبرانية، مستشهدا بالملك جبريل في هذا الشأن (ص33 _ 34 _ 35 عبري)، لينبري إلى معارضة أبي العلاء المعري للجمل القرآنية في كتابه (الفصول والغايات)، ثم يحاول تفسير تقارب اللغات (العربية والعبرية والسريانية) على ضوء تقارب الأمصار، بالاستفادة من آراء السلف العبري ص 138 … ، ثم يتعرض إلى تمجيد (جالينوس)للغة اليونان، في مقابلتها بردود الرازي الواردة في كتابه الشكوك “ليستطرد إلى لمناقشة مسألة الترجمة، ودائما في الإطار الجالينوسي والعبري، ص 43.
4 _ هل سُمع لملتهم شعر؟
في هذا الجواب إشارة إلى غياب ظاهرة نظم الشعر عند العبرانيين باستثناء بعض الأراجيز والأمثال الواردة في تثنية الأسفار (ص45) مستشهدا بالحكيم “عاليس” الذي يجزم بغياب النظم بطريقة العرب مبررا ذلك بتمزيق شملهم، حيث يتحول الحديث في هذه المسألة إلى بسط القول في الهوية اليهودية المتفرقة خاصة بعد الجلاء البابلي وجلاء خراسان.
5 _الجالية الأندلسية وعلاقتها بقرض الشعر:
يتحدث هنا عن خصوصية الجالية العبرانية قبل الفتح الإسلامي وبعده، وعن تمرسها بأصول اللغة العربية، حيث يستشهد ببعض الأسماء المشهورة مثل “الفاسي ص (56) المنبوز””روائع الجياني” والفاسي القرطبي، إلى جانب أسماء أخرى برعت في توظيف اللغة العربية، أما عن الشعراء العبرانيين، فأشار إلى ضيق أفقهم، وسذاجة قصائدهم التي غالبا ما كانت تأتي خالية من البديع.. ليتطرق إلى ما لحق قرطبة من خراب، حيث يجدها فرصة للحديث عن الشاعر العبراني القرطبي النشأة أناكاد صمويل (ص61) متوقفا عند شهرته التي طالت الآفاق شرقا وغربا، وما تعرض له من نقد لاذع.
والملاحظ في هذا السياق، أن أبا هرون لم يتح لنا فرصة الإطلاع على خصائص شعره، أو على بعض نماذجه، كما أنه لم يتعرض إلى طبيعية السقطات الشعرية التي وجهت إليه، بينما نجده في المقابل يأسى لهلاك العبرانيين.
بعد ذلك يتطرق إلى ذكر ابن خلف الأنصر (ص 68) وغيره من أعلام الأدب في الأندلس، مركزا على محاسن الإيجاز دائما “قليل كاف خير من كثير غير شاف” وعلى امتداد الصفحات (65 _ 71).
يتوقف عند طبيعة اللغة الموظفة في التمييز بين الشعراء وبين إنجازاتهم للاستفادة من أقوال الفلاسفة في العقل والسياسة وصفاء الروح معرضا بضعاف القرائح والمدعين (ص84) وفي هذا الإطار نجده يُعلي من فضل العقل على فضل اللسان ويوضح نخبوية الكلام العالي وجهل العامة بمستوياته، ليتوقف عند مفاهيم السفسطة كما هي واردة عند اليونان والعرب والعبرانيين إلى جانب التمويه والمدارة النقدية.
6 _ علاقة الكلام بالطباع النبيلة.
يتحدث في هذه الفقرة من جديد عن علاقة الكلام بالطباع النبيلة وعن العقم الأدبي في زمنه، ومفهوم التكسب بالشعر، وعلاقته بخاصية الصدق والكذب الحاضرة بأشكالها المتعددة في فن الشعر.
7 _ قرض الشعر في النوم:
الملاحظ في هاته النقطة أنها تضم خليطا لا متناهيا، من القضايا ذات الصلة الوثيقة بالنظم وأحوال النفس والعلاقات المتشابكة بين الذات الشاعرة والآخرين، ودائما ضمن تداخل وتقاطع المرجعيات العربية واليونانية والعبرانية، وسنحاول من جهتنا أن نقدم إضاءات مكثّفة لهاته النقطة نظرا لتعدد تفاصيلها وأطروحاتها.
قبل الحديث عن قرض الشعر في النوم يعرج بنا أبو هرون إلى التنظير لطبيعة النوم واليقظة وانتعاش الروح عند النوم، وآراء جالينوس في أجوال النفس عند النوم وآراء أرسطوطاليس في علم الرؤيا والعبارة والحواس وملكة التصوير، ونفس الشيء عند “عاليس” وبعض علماء ملّتهم استنادا على شواهد (135_136_137) شعرية عبرية.
1]– أحمد شحلان،الثرات العبري اليهودي في الغرب الإسلامي التسامح الحق، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2006، ص 12.
[2]– يهودا الحريزي: تحكموني، مطبعة توبورفسكي، تل أبيب، 1952.
[3]– نفسه.
المراجع باللغة العربية:
- أحمد شحلان، الثرات العبري اليهودي في الغرب الإسلامي التسامح الحق، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2006
- الحريزي يهودا: تحكموني، مطبعة توبورفسكي، تل أبيب، 1952
- المراجع بالعبرية:
- אביבה דורון: והשמש כמו לבי שתודה על שיה תשמיך.
- אברהם שטאל: שירת ישראל בספרד הקיבוץ המאוחד תשרייד.
- אהדון מירסקי: שירי הספרדים משער היתוד של ספר חובות הלבבות בחיי מחקרי לשון תשמייג.
- בן אור: תולדות השירה העברית בימי הביבים הוצאת יזרעאל בעים.
- דוד ילין: תורת השירה הספרדית מהרורה שלישית ירושלים תשלית.
المراجع بالأجنبية:
- Anderson،W: Acritical introduction to the old testament.
- Baron، salowittmayer: Yehuda Halevi An Answer to an Historic challenger 1941. J.S.O.S
- Driver،R: An Introduction to the literature of the old testament. 9 the edition, Edinburgh. T and T. Clark
- Halpera، Jodeph: History of our people in rabbinic times. Shapiro Vollemtine and co. London 1939.
- Hartwing Hirshfeld: literary History of Hebrew Grammarians. Ox 1926
- The Interpreter Dictionary of the bible Supplementary volume. Abingdon 1976.
- James Parkes: A history of the Jews. Fifth Edition N.Y.1973.
- Paul Berchasenius: The history of Spanish Jews. London Ruskin Hause 1963.
- Waxman، M: The History of the Jewish literature N.Y 1930.
- Stern، Samauel Miklo: Hispano – Arabic Strophic poeatry. Oxford 1974.
1 تعليق
مقاله توضح لنا حقائق لا يمكن التغاضي عنها وهي التمازج القوي بين الشعوب اليهوديه والشعوب الاسلاميه بسبب حكم عيش اليهود في ظهران الشعوب الاسلاميه واتقان اللغه العربيه
وحقيقه اخري وهي تفوق الشعر اليهودي علي الشعر الاسلامي