الملخّص
ينصرف اهتمام هذه الورقة إلى الاشتغال على إشكالية المساواة بين المرأة والرّجل وما أثارته من سجال في المجتمع التونسي المعاصر كاد يعصف بالمطالب العميقة المرتبطة بواقع الطّبقات المفقرة والفئات الشّعبية المهمّشة. وتعتبر منظّمة الإتّحاد العام التونسي للشّغل مجالا لبحثنا، وذلك عبر تتبّع بعض التّجارب الدّالة على عمق الأزمة الجندريّة وتأثيراتها المختلفة على آليات اشتغال المجتمع، وعلى القيم والتّصوّرات التي يحتكم إليها في مختلف قطاعاته. فتجارب النّقابيات مرآة عاكسة لمدرسة الاتحاد العام التونسي للشغل ودرجة تفاعل المجتمع التّونسي وتعاطيه معها بحكم التقاليد الديمقراطية لهذه المنظمة وأهمّية المسؤوليات داخلها. وتعتبر التّجارب التّاريخية في صلب الاتحاد العام التونسي للشّغل ركنا من أركان المسيرة الحقوقية للمرأة العاملة في علاقة بالقضايا الإنسانية الكبرى وبتركيبة المجتمع التّونسي الذّهنية وبالتحدّيات، إنْ في صلب النّقابات أو في مستوى الأسرة والمجتمع.
وقد توخّينا في هذا البحث منهجا تاريخيّا سلّطنا به الضّوء على أهمّ تجارب النّقابية شريفة المسعدي بوصفها أنموذجا ممثّلا لممارسة المرأة لبعض حقوقها في منظمة لها رمزيتها التّاريخية والوطنية والاجتماعية. ونعرض، إضافة لسيرة حياة زوجة محمود المسعدي، وعبر المنهج المقارن، بعض التّجارب الدّالة على درجة التغيّر في المنظومة الحقوقية للمرأة التّونسية بناء على مسيرة نقابيات تونسيات في الفترة المعاصرة نفسها.
وقد أجرينا في هذا الإطار مقابلات مع بعض النّساء اللاّتي يتحمّلن مسؤوليات نقابية، وتولّينا تحليل المفارقة الكائنة بين النصّ القانوني و”ثقافة العمل النّقابي” عبر تحليل السّقف البلّوري” الذي يحول دون انخراط النّسق القيمي في إنصاف المرأة وتعزيز منظومة الحرّيات الفردية في المجتمع. وقد توخّينا هذه المنهجية لتعقّب مختلف المحطّات التّاريخية التي مرّت بها المرأة وفهم مدى استجابة هذه المنظّمة النقّابيّة لاستحقاقات التّنمية من خلال مراعاتها للمنظومة الحقوقية الخاصّة بالمرأة، وعبر تفحّص حجم حضور العنصر النّسائي في القيادة ضمن هياكل الاتحاد العام التونسي للشّغل.
وكان الحافز من وراء كل ذلك هو البحث في ما إذا كانت لإشكالية المساواة بين المرأة والرّجل عمق مجتمعي وامتداد في النّسيج المؤسّساتي للمجتمع المدني، أم أنّها مجرّد تخمينات نخبوية، ومحض ترف فكريّ يعطّل المشروع المجتمعي الذي بدأ منذ 2011، ويبطل الأهداف العميقة لقسم مهمّ من المجتمع التونسي. أما القسم الثاني من الإشكالية فيتمحور حول البحث عن الصّعوبات الحقيقية التي تعترض إشكالية المساواة: هل في الثّقافة و”حقيبة المعيش اليومي” للمجتمع، أم في المنظومة القانونية وفي نقص النّصوص الضّامنة لحقوق المرأة وندّيتها للرّجل؟
الكلمات المفاتيح: المجتمع التونسي، الحرّيات الفردية، المساواة، العمل النّقابي، تجارب نسائية.
Abstract
This paper deals with the problem of equality between women and men, and the controversy that resulted from it in contemporary Tunisian society which almost blew the deep demands related to the reality of the impoverished classes and marginalized popular groups. The Tunisian General Labour Union considers an area of our research and tracing some experiences indicating the depth of the gender crisis and its repercussions on the logic of the functioning of society in its various sectors. The experiences of female trade unionists are a reflection of the UGTT School and the degree of Tunisian society’s interaction and interaction with it, given the democratic traditions of this organization and the importance of responsibilities within it. Historical experiences are at the core of the Tunisian General Labour Union as one of the pillars of the human rights march for working women concerning major humanitarian issues, the mental makeup of Tunisian society, the challenges they face, and the difficulties that await them at the union level as well as at the family and community level.
We considered that the history curriculum and traced the most important experiences of the trade unionist Sherifa Al-Masaadi is a feature of women’s rights in an organization that has its historical, national, and societal symbolism. In addition to the biography of Mahmoud Al-Masadi’s wife and through the comparative approach, we presented some experiences indicating the degree of change, if there is any at all, in the human rights system for Tunisian women based on the path of Tunisian trade unionists in the contemporary period.
In this context, we conducted interviews with some women who have union responsibilities, and we analysed the paradox between the legal text and the “culture of union work” by analysing the “crystal ceiling” that prevents the value system from engaging in women’s equity and strengthening the system of individual freedoms in society. The methodology for tracking the various historical milestones that women have gone through and understanding the extent of Hashhad’s response to development entitlements through its consideration of the women’s rights system and the extent of the presence of women in leadership within the UGTT structures.
The motivation behind this study is to investigate whether the problem of equality between women and men has its societal depth, or is it merely elite speculation and an intellectual luxury that disrupts the societal project that began in 2011 and nullifies the deep goals of an important section of Tunisian society. As for the second part of the problem, it is in what the real difficulty lies in the problem of equality, is it in the culture and the “daily living bag” of society or the legal system and the lack of texts guaranteeing women’s rights and their appeal to men.
Keywords: Tunisian society, individual freedoms, equality, trade union work, women’s experiences.
مقدمة:
يمثّل مبدأ الاعتراف بكرامة الإنسان، بحسب وثيقة الإعلان العالمي لحقوق، جزءًا من “الحرية والعدل” بين النّاس. ولمّا كانت المرأة فاعلاً مركزيّا في المجتمع بصفتها طاقة تعديل، ومصدرًا يغذّي الحياة الاجتماعية، وبالنّظر إلى موقعها في الأسرة وفي كل التّركيبة الاجتماعية أو الجسد الاجتماعي، كان من الضّروري العودة إلى نوع من العقد الاجتماعي يعيد إليها دورها المركزيّ، ويؤسّس لعدالة وظيفية تأخذ في الاعتبار قيمة الجنسين، ودور كلّ منهما في تقدّم المجتمع دون تمييز بينهما.
وتظهر المساواة بحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مظاهر عديدة، منها التّعليم والتّربية (حق المرأة في التعليم والتعلّم) والعمل (حق المرأة في التوظيف وتقلّدها مناصب عليا في الدولة والمجتمع) الخ… وتعود أصول هذا الحق إلى العدالة الطبيعية التي تقضي بمساواة النّاس بموجب الطبيعة لا بموجب الثّقافة، أي بما لا يتوقّف على إرادة الإنسان. وقد جاء القانون الوضعي عادلا ومحافظا على العدالة بالطبيعة، وضامنا لحقوق الأفراد بقطع النّظر عن أجناسهم ودياناتهم ولغاتهم، وأكثر من ذلك قادرا على منح الأفراد حقوقهم بالتقاضي وتحكيم القانون. وبحسب المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسّفي في حياته الخاصّة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته…”، بما يضمن احترام حقوق الفرد في حياته الخاصّة مع أسرته وضمان حقّه في إدارة شأن أسرته. ويضيف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 16:
” للرّجل والمرأة حقّ التزوّج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدّين وهما متساويان في الحقوق لدى التزوّج وخلال قيام الزّواج ولدى انحلاله”([1]).
وهكذا، فالمساواة بين الأفراد هي روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعموده الفقري.
أمّا الأسرة فتمثّل النّواة الأولى والعمود الفقري في المجتمع ويجب أن تتمتّع بحماية مجتمعية وقانونية، فلا ينبغي أن يهدّد المجتمع وجودها، ولا الدولة والقانون ينبغي لهما أن ينالا من قيمتها. وللفرد الحق في التمتّع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية في إطار أسرته سواء في ذلك المرأة والرّجل. وبالرغم من التّحامل على هذه الحقوق ذات الطّابع الخصوصي، والتّمظهرات الاجتماعية المختلفة خاصّة من جانب السّاسة، فإنّها ما تزال تحتلّ مكانة معتبرة في بنية الأسرة والمجتمع، ولها دور مركزي وريادي في الحفاظ على الجسد الاجتماعي واستمراريته وضمان فعالية أطره.
ومهما يكن من أمر، فإنّ المساواة وعدم التّمييز بين المرأة والرّجل يعدّ شرطا لا غنى عنه من أجل أن يتمتّع الجميع بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية ([2]). وبناء على ما تقدّم، فانّ مبحث الحرّيات والمساواة بين المرأة والرّجل، بالرّغم من تقييده وضبطه من زاوية قانونية بالنّصوص والمواثيق والاتّفاقات، فإنّ له في العمق جانبا اجتماعيّا يصعب التغافل عنه، وتناول الموضوع بمعزل عنه. فمسألة الحرّيات الفردية والمساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية وحرّية التّعبير والتنظّم وحقّ التظاهر الخ… هي قيم عالمية وثقافة مجتمعية معولمة يصعب تجاهلها في أي مجتمع، وهي قيم تتّسم بالعمق من جهة علاقتها بالنّسق الاجتماعي بما يجعلها مبحثا سوسيولوجيّا قبل أن يكون قانونيّا، وهكذا يسوغ القول إنّها المقاربة السوسيولوجية، قبل أن تكون قانونية تحسمها التّشريعات والاتّفاقات الدّولية.
أولا- المساواة والحرّية في الفكر الغربي:
تمثّل هذه المتغيّرات “الحقوقيّة” مركز التّفكير السّوسيولوجي منذ ظهور دستور أمريكا وصولا إلى الثّورة الفرنسية، ولكنّ هذا المكسب قد تحوّل عبر السنين إلى مصدر تفكّك وانحلال في الجسد الاجتماعي، وأداة قمع وتجاوز لبنية المجتمع و”تضامنه العضوي” بالمعنى الدّوركايمي على إثر التحوّلات العميقة التي عرفتها المجتمعات المعاصرة.
وقد كان الفكر الغربيّ منذ بدايته في العصر الحديث، كافيا إلى حدّ ما لحفظ المساواة الحقيقية بين المرأة والرّجل، واتّخاذ تدابير خاصّة من أجل حماية الفئات المستضعفة وبناء حزام آمن يحمي بعض الجماعات في المجتمع الشّمولي. وقد كانت البدايات الأولى مع وضعية السّود في أمريكا ومسيرتهم النّضالية من أجل نيل حقوقهم المدنية والاجتماعية والاقتصادية. ونعني بذلك التّدابير التي اتّخذتها السّلطات في أمريكا بقصد تمكين السّود من المشاركة في الانتخابات بعد ما عرف بـ”صيف الحرّية”، الذي كان سببا في بعث نصوص تحمي حقّهم في الانتخاب. وتمّت ترجمة هذه النّصوص في مستوى الواقع، مساواةً بحكم القانون. ثمّ تعزّزت، بعد ذلك بالتّدريج، عبر تحوّلها إلى مساواة بحكم الأمر الواقع.
وقد أبدت أغلب الدول استعدادا لتحقيق المساواة بين المرأة والرّجل في جميع الميادين، ولكن هذا الاستعداد ظلّ في مستوى الاتّفاقات والنّصوص والتّشريعات، ولم يترجم فعليّا إلى مستوى العلاقات المتساوية في الحقوق والواجبات الواقعيّة. وتفرّعت هذه الالتزامات الدّولية إلى ثلاثة مستويات مهمّة شملت الاحترام والحماية والتّنفيذ: احترام المرأة من حيث هي فاعل أساسيّ في المجتمع، لها نفس الحقوق، وعليها نفس الواجبات التي هي على الرّجل. وحماية هذه المنظومة القانونية من حيث أنّها الضّامنة للعدالة الاجتماعية وتنمية المجتمع بنفس الحظوظ بين الجنسين، وتنفيذ هذه الحقوق بما يجعل للمرأة ندّا للرّجل ومساوية له في الحقوق، والعمل على تعزيز المكاسب الحقوقية عبر الأداء والتسيير والّتنفيذ.
وقد انتشرت ثقافة تقاسم المسؤوليات في الوسط الأسري، والمجتمع، والفضاء العام انسجاما مع تطوّر المجتمعات المعاصرة. وتعقّد المعيش اليومي وأصبح متغيّر أنثى/ذكر غير ذي معنى ولا مضمون تقريبا في الأسرة التّونسية، إذ بات للمرأة الحقّ في مواصلة الدّراسة، وتقلّد مناصب مهمّة في الدّولة، وأصبح من واجب الرّجل أن يسمح لزوجته بالعمل خارج البيت من أجل مواجهة صعوبات الحياة المعاصرة، والتّعاون على تربية الأبناء وتعليمهم. وصارت المهن التي تتمتّع بها المرأة منصفة ومناسبة، وتَكْفُلُ الـتّأجير المجزي بحسب الجهد وقيمة الإنتاج بدل التقييم الوظيفي والمتحيّز على أساس الجنس، أو على أساس قيمة الإنتاج، أو على أساس مقاييس التّرقية وتساوي الفرص المهنيّة. على أنّ ذلك قد صاحبه استمرار ألوان من الحيف والظّلم في حقّ بعض الفئات الاجتماعيّة، منها خدم المنازل والنّساء في المناطق الرّيفية اللاّتي غالبا ما يُحرمن من حقوقهنّ فضلا عن المساواة في التقاعد الإلزامي، والعنف الأسريّ، والعنف الرّمزي في الفضاء العامّ عبر التحرّش أو إجبارها على العمل في مهامّ مخلّة بالقيم الإنسانية مثل عارضات الأزياء، أو الاتّجار بجمالهنّ عبر اختيار أجملهنّ وانتدابها للعمل في دكّان تجاري قصد الزّيادة في نسب المبيعات، أو تفضيل تشغيلهنّ مع خفض التأجير لضمان زيادة رأسمال المؤجّر، ودون جبر الأضرار البدنية والعقلية والوجدانية النّاجمة عن الهيمنة التي تمارس على المرأة بصفتها زوجة أو ابنة أو أختا أو غيرها، فضلا عن الحق في اختيار الزّوج تماما مثل الرّجل وعدم إجبارها على الزّواج بما يحقّق لها ضمانات النّجاح في أسرتها.
كما تشمل المساواة توفير نفس الظروف للمرأة والرّجل لمتابعة التّعليم والتعلّم، مع ضمان الحقّ في تنمية المعارف مجانا، فالمنهج التربويّ يجب أن يعزّز مكسب المساواة وأن يوفّر نفس الحظوظ بين الجنسين بدل توسيع الفارق في الحقوق والتشبّث بالتّقاليد والعادات المكبّلة لتنوّر المرأة وتعلّمها.
وبالرغم من أهمّية الإرث الحقوقي والرّصيد القانوني في المجتمع الغربي الذي يجعل الفرد يحتلّ مكانة مرموقة ضمن بنية المجتمع المتحوّل دائما، فإنّ بعض التجارب قد بيّنت العكس تماما. وأظهرت أنّ النّص القانونيّ لا يعكس بشكل آلي الوقائع في المجتمع، وأنّ هناك شرخا بين النّصوص القانونية والاتّفاقات من جهة، وبين واقع النّاس وما فيه من تفاوت اجتماعي وغياب للعدالة، وضعف في احترام الحرّيات، ومن تنام للتّمييز على أساس الجنس.
وقد شمل هذا التباعد بين النصّ القانوني والواقع الموضوعي في المجتمع حقوق المرأة، وتجلّى في أشكال عديدة من الحيف الذي تتعرّض له. ونذكر منها النّقاط الآتية:
1- حرّية تعبير المرأة عن نفسها:
إنّ التزام المجتمع باحترام حق المرأة في المساواة يجبر المرأة ذاتها على عدم القبول بالقوانين والسّياسات والتّدابير والبرامج الإدارية التي لا تأخذ في الاعتبار دور المرأة وقيمتها، وتلك التي لا تحفظ منزلتها إلى جانب الرّجل في تسيير وإدارة المجتمع في مختلف أطره. فأحقّية المرأة في التمتّع بحقوقها يتعزّز عند قدرتها على التّعبير عن حرّيتها، واختبار كفاءتها في تقلّد المناصب الهامّة في الدولة وإدارة شؤون الأسرة بندّية واقتدار.
2- تمكين المرأة:
التمكين كما عرّفه مورال ومرديث هو عملية تتمثّل في منح الأشخاص القدرة على تولّي كثير من المسؤوليات من خلال تقديم الدّعم المعنويّ، والتّدريب والتّكوين. وتعني في هذا السّياق فتح المجال للمرأة للتعلّم والتميّز والحراك المهني بما يمنحها سلطة معرفية واقتدارا مهنيّا يسمح لها بالترقّي في سلّم المهنة في إطار معقولية إداريّة تمنح الأولوية للأشخاص الأكثر كفاءة.
3- مشاركة المرأة:
المشاركة في صياغة البرامج والمشاركة في الفعل والتغيير وتنمية المجتمع هو الذي يمنح المرأة مزيدا من الثّقة في النّفس، ويفتح لها الباب على مسيرة مهنية أرحب. وهو نفسه الذي يمنح المجتمع فرصا أكثر نحو التطور والتقدّم، لأنّ المقاربة التشاركية ليست سوى تورّط ممتع لجميع أطياف المجتمع في تحمّل مسؤولياتهم التاريخية أمام تحدّيات كبيرة.
ثانيا- السّياق المجتمعي وإشكالية المساواة من خلال التّجربة التّونسية:
تتميّز حركة المجتمع التونسيّ بتسارع نسق التّغيير في مستوى بنيته ومضمونه معًا. وممّا يلاحظ أنّ السّاسة في تونس بعد “الثورة” لم يفتؤوا يحاولون البحث عن “روح للثّورة”، وعن عمق ثقافي وفكري يمنحها رونقها النّخبوي، من خلال العودة مثلا للحديث في مضمون “مجلة الأحوال الشّخصية” في الفترة البورقيبية، وعبر القيام بحفريات في تراث المجتمع من أجل تحريك أعماقه، وتفعيل عناصر الحياة فيه.
ومن نافلة القول التّذكير بأنّ لكل مجتمع هامشا تقديريّا لتبنّي التّدابير الملائمة من أجل تحقيق المساواة وضمان العدالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين المرأة والرجل، ومن أجل تصوّر الاستراتيجيات الملائمة لتحقيق تلك المطالب. وهي استراتيجيات لا يمكن أن تنفصل عن السّياسات العامّة والتوجّهات الكبرى، فتجمع بذلك بين الاهتمام بالقضاء على التّمييز على نحو يكفل اتّساقها مع ثقافتها من ناحية، وبين الحفاظ على التزامات الدول واتفاقاتها من ناحية أخرى. ولعلّ من بين أهمّ الاستراتيجيات الرّسمية المتّخذة من أجل ضمان مساواة المرأة بالرّجل، تثبيت سلطات إدارية في هذا الشّأن من أمناء المظالم والدّوائر القضائية من أجل التصدّي للانتهاكات المحتملة، غير أنّ ما ينبغي تسجيله هو أنّ معايير التظلّم والتّقاضي ظلّت هشّة مرنة غير رادعة، وقابلة أحيانا أخرى للتوظيف لضرب الأسرة، وقدسية العائلة وأحيانا أخرى لخلق شرخ في المجتمع بين المرأة والرّجل بعنوان حرّية المرأة، فيتحوّل الدّفاع حينئذ على حق المرأة في المساواة إلى انتهاك الحقوق الاجتماعية لبعض الأطر مثل تدخّل القانون في الأسرة لضبط حقوق المرأة على حساب بنية الأسرة وتضامنها واستمراريتها. بالرّغم من كلّ ما يقال من أنّ مبدأ اللامساواة يضرب بجذوره عميقا في التاريخ. من ذلك قول أرسطو Aristote)) في تبرير اللاّمساواة:
“غياب الحرّية لدى النّساء والعبيد مردّها الطبيعة، كما أنّ ثنائية السيّد والعبد هي بموجب الطّبيعة”([3]).
وهو ما يدلّ على أنّ لعدم المساواة بين المرأة والرّجل امتداد تاريخي، وأنّه يعود إلى “الطبيعة البشرية” القائمة على المعطى الطبيعيّ. وما نقصده بالطبيعة البشرية هو مرحلة ما قبل التّفكير في تصريف المعطى الطبيعي إلى معطى ثقافي، مرحلة ما قبل الإنتاج الثّقافي أو تحويل المعطى الثقافي إلى بناء حضاري يؤسس لمساواة وحرية وعدالة. فهي مرحلة ما قبل تشكّل الوعي البشري الذي يعطى لكلّ الأفراد في المجتمع بعضا من حقوقهم في المساواة ضمن إطار التعاقد الاجتماعي.
غنيّ عن البيان أنّ المقاربة التي نادت بالمساواة بين المرأة والرّجل قد استلهمت في نصوصها مدوّنات المنظّمات الدّولية وقوانينها ومبادئها دون مراعاة، أحيانا، لطبيعة المجتمع المعنيّ بالمساواة، أو محاولة فهم ثقافته والسّياقات المجتمعية المتعاقبة، وحاجات هذا المجتمع بعد عام 2011. وتعدّ هذه الحلقة المفقودة فجوة في المشروع فاقمت الخلافات حوله. وإن شكّل حلما عزيزا لدى قسم كبير من المجتمع التّونسي الذي يتوق إلى حرّية الأفراد في المجتمع، على نحو يسمح للمرأة بالنّهوض بدورها دون قيود قانونية أو اجتماعية، فإنّ الأمر لا يخلو من توظيفات سياسيّة وإيديولوجيّة، لبعض المدافعين عنه، وذلك من أجل حيازة مكان ضمن بنية الصّراع المحتدم في صلب المجتمع..
وقد لا نجافي الصّواب حين نذهب إلى أبعد من ذلك، فنرى في مبادرة الرّئيس الباجي قائد السّبسي وتقديمه لمشروع المساواة بين المرأة والرّجل محاولةً لتخليد اسمه في التاريخ ([4]) على غرار الطّاهر الحدّاد والرّئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وغيرهما، فضلا عن الرغبة في مزيد كسب الأنصار من أجل احتلال مواقع قويّة في الخارطة السّياسية عبر استقطاب المرأة التّونسية واستغلال صوتها مقدّما نفسه كما لو أّنه المدافع الوحيد عنها، وعن حقوقها في المجتمع التّونسي. ولا مراء في أنّ هذه المقاصد جميعا إنّما تمّ التماسها عبر محاولة النّبش في عمق “مجلّة الأحوال الشّخصية” بدعوى تحيين قراءتها وعصرنتها وفق ما يقتضيه تطور المجتمع التّونسي. وهو مشروع يتيح فرصة قراءة جديدة لمناخ الحرّيات الفردية والمساواة بين الجنسين، وذلك من خلال تطويع النّصوص القانونية والتّشريعات المتعلّقة بحقوق المرأة وإعادة تأويلها لمواكبة “روح الثّورة” وعمقها الشّبابيّ.
وقد أثار هذا المشروع عاصفة هوجاء من ردود الأفعال، تجسّدت في صدامات بين وجهات نظر مختلفة، بين معارض ومناصر، ولكنها عبّرت جميعها عن مواقف فئات مختلفة من المجتمع، وهكذا عبر بعضهم عن رفضه للمشروع بدعوى عدم جواز المسّ ممّا هو معلوم من الدين بالضرورة، أو بدعوى أنّ النص الدّيني واضح ولا يقتضي هذا النّوع من الاجتهاد. مثلما عبّرت فئات أخرى عن سطحية، إذ تغافل أصحابها عن مراعاة بعض خصائص المجتمع التّونسي ونموذج الأسرة فيه. تلك البنية ذات الجذور التي يصعب بناء أيّ تصوّر في مجال الحقوق والحرّيات دون العودة إليها. وقد انقسم المجتمع بين متعصّب ذي “مشروع داعشي”، ومتفسّخ و”عدو للهويّة التّونسية”([5]).
ومهما يكن من أمر، فإنّ دقّة موضوع المساواة بين المرأة والرّجل تتجلّى، في قابليته العالية للتوظيف في اتّجاهات مختلفة متباينة أحيانا، ولا أدلّ على ذلك من حضوره في “حواشي العمل السّياسوي ومناورات البلاطات“([6])، فهو مشروع قدّمه رئيس الدولة بمناسبة العيد الوطني للمرأة ([7])، وهو أمر ضاعف من إمكانيات ظهور استراتيجيات عديدة، وانخراط فاعلين كثيرين في السّجال الدّائر، ولكل فاعل، فردا كان أو فئة، رهانات مخصوصة، ونتيجة لما تقدّم، ولد المشروع مكبّلا بالمعوّقات والصّعوبات والتحدّيات. وبدا مشروع “مجلّة الحقوق الفردية” ([8])، لدى بعضهم في كثير من الأحيان، عاملا مهدّدا للحقوق الجماعية المتعلّقة بحق التّظاهر، وحقّ التنظّم النّقابي والسّياسي، وحق التّعبير عن الرّأي، وغيرها من مكاسب المجتمع التّونسي التي تحقّقت عبر مسار نضاليّ طويل.
وضمن منظور أوسع، فإنّه لا أحد يجادل في مشروعية المطالبة بالمساواة من حيث هي قضيّة نبيلة وعادلة، ولا أحد يجرؤ على رفضها جهرا، ومع ذلك فإنّه لا أحد مستعدّا لأنْ يفرّط في فردانيته وبرجوازيته و”أناه” Son moi، الذي يعبّر عنها فرانسوا دوبيهFrançois DUBET بـ”فضائل اللامساواة” La préférence de l’inégalité. وقد شاع موضوع المساواة بشدّة مع التحوّلات الدّيمقراطية في المجتمعات المعاصرة، وخاصّة بعد الثّورة الفرنسية عندما ظهر نمطان من المجتمعات: الأوّل محافظ. ويعتبر الأفراد متساوين أمام القانون، وهو تصوّر تكرّسه البنية الاجتماعية القائمة ويحاول الإبقاء عليها معتبرا إياها النّموذج الأفضل. أمّا الثّاني فطبقيّ، قوامه تفاوت مجتمعي. وقد ظهر بفعل اختيارات سياسيّة خلقت حراكا في مستوى البنية، ونشأت بموجب ذلك برجوازية مالكة، وطبقة عمّالية كادحة خاصّة مع المجتمع الصّناعي. وظهر نوع جديد من المساواة، يسمّيه فرانسوا دوبيه “مساواة في الأمكنة )[9](” L’égalité des places. فمن باب المساواة أن يكون العامل منتجا وأن يكون صاحب العمل مستفيدا من إنتاجه، وأن يكون المعلّم مقدّما للدّروس والمتعلّم متقبّلا لهذه الدّروس.
إنّ تزايد أهمّية العمل الذي يؤسّس لهذا النّوع الجديد من المساواة ويساعد في الآن ذاته على الحصول على مكانة اجتماعية، قد أتاح للمرأة حظوظا أوفر لتحسين مكانتها الاجتماعية في علاقة بالرّجل عبر العمل الجادّ والكفاءة والاجتهاد والتميّز والتفوّق.
وغنيّ عن البيان أنّ وجود المساواة من عدمه في المجتمعات المعاصرة هي جماعاتية، وليست فردية، وغيابها يفرض فرضا على الأفراد بحسب مرجعياتهم الاجتماعية وأصولهم الثّقافية. فالمرأة في المجتمع المحلّي المحافظ تُحْرَمُ، بحسب التّقاليد الاجتماعية السّائدة، من الخروج من المنزل إلى الفضاء الاجتماعي مثلما يفعل الرّجل. وهو حرمان مجتمعي بالأساس، ولكنّ هذا الحرمان يتمّ تعويضه أيضا مجتمعيا عندما يبثّ في المرأة طاقة تحدّ تعبّر عنها بتميّزها وتفوّقها في الدّراسة، فتؤكّد بذلك حقّها في الخروج من المنزل والسّفر والاندماج مع المجتمع بصورة تفوق الرّجل نفسه. ويتمثّل دور المجتمع في المساواة في التدخّل في بناء الشّخصية القاعدية للمرأة، على نحو يجعل منها فردا له قدرة على التحدّي والإصرار على النّجاح. وهذا النّوع الجديد من المساواة الذي فرضه المجتمع من خلال تنشئة جديدة للمرأة، قد كان وراء أوضاع مستحدثة لم يكن المجتمع يقبل بمثلها أو بما هو قريب منها شأنَ اضطرار الرّجل مثلا للبقاء في البيت مع الأبناء نيابة عنها، أو أن تكون المرأة مجبرة مهنيّا على البقاء طيلة اليوم في عملها.
وعلى هذا النّحو، أوجدت الأوضاع المعاصرة مفاهيم جديدة، وأكسبت القديمة منها دلالات غير مسبوقة، من ذلك تعريف فرانسوا دوبيه للعدالة الاجتماعية، بأنّها ليست عدالة في توزيع الوظائف بين الأفراد، بل هي عدالة في المساواة بين كل الأفراد للفوز بهذه الوظائف.
« La justice sociale c’est pas l’égalité des places, c’est l’égalité des chances d’accéder à toutes les places » ([10]).
1- في معنى الحرّيات الفردية والمساواة بين المرأة والرّجل
غالبا ما تحرم المرأة من حقوقها بسبب المنزلة الاجتماعية الموروثة التي تضبطها ثقافات محلّية وقيم مجتمعية وتقاليد متكلّسة، تتعرّض بسببها لتمييز صريح يأخذ أشكالا عدّة، منها ما هو صريح مثل منعها من سياقة السّيارة، ومن اختيار زوجها أو من طلاقها منه، ومنعها من تقلّد مناصب عليا في الدّولة، ومنها ما هو ضمنيّ مثل حرمانها من الإرث رغم أنّ ذلك مكفول بحكم الشّرع والقانون، ذلك أنّ المرأة في أغلب المجتمعات لا تطالب بحقّها في الإرث بسبب القيم الاجتماعية وليس بموجب القانون، مثلما أنّه لا يحق لها مجتمعيا، في كثير من المجتمعات، المساواة مع زوجها في الحقوق والواجبات.
فالتمييز الذي يقع ضدّ المرأة في التمتّع بحقوقها الاجتماعية والاقتصادية وحتى المدنية، هو في الأصل نتاج اجتماعيّ تحرسه، وتضمن ديمومته بنًى ثقافية واجتماعية معيّنة، وتكون له نتائج مخلّة بالحقوق العامّة على المدى البعيد.
وقد ازدهرت الدّراسات الخاصّة بالنّوع الاجتماعي في المنطقة العربية ولقيت الحركات النّسوية مزيدا من الاهتمام. وأصبحنا بموجب ذلك في مرحلة تعجّ بالأنشطة الحقوقية والتوسّع في التّعبير عن الحرّيات الفردية والجماعية. وباتت المقاربة الجندريّة مدخلا لإعادة النّظر في قراءة الهوّية والنّظام الأبويّ والمجتمع الذّكوري الذي لا يزال سائدا في بعض المجتمعات. وهو ما دفعنا، لا فقط إلى البحث في أشكال العنف الاجتماعي والبنيوي ومظاهر لا-مساواة المرأة في مجتمعنا التّونسي المعاصر، بل كذلك للبحث في أشكال مقاومة هذا النّوع من العنف في المجتمع، والفحص عن تبعاته في الوسط المهني وبين النّقابات المهنية في أغلب القطاعات الفاعلة. وقد فرض علينا هذا المبحث دراسة مصطلحات معيّنة، وتفكيك بعض المفاهيم وتحليل معانيها مثل المساواة والفرق بينها وبين العدالة ومسارات تطورها، وأهمّ المنعرجات التي عرفها موضوع الحرّيات.
أ- مفهوم المساواة
ساوت المرأة الرّجل أي عادلته وماثلته، والمساواة عنصر محوري في الإنصاف بما هو تجنّب التفضيل بين فردين أو أكثر. ويقال هذا لا يساوي ذاك أي لا يعادله، فهي إزالة لكل الفروقات بين الأفراد، فيصبحوا سواسية أمام القانون في الحقوق والواجبات، وهي أشبه بالمساواة المطلقة، على خلاف المساواة العادلة التي تعدل بين النّاس مع مراعاة النّصوص الدّينية وما جاء به الإسلام. ويعيب بعضهم، في إطار المقارنة بين المساواة المطلقة والمساواة العادلة، على المساواة المطلقة بأنّها تفرّق بين المفترقين وتعدّل بين المفترقين.
والمساواة، من جهة الاصطلاح، من المبادئ السّامية التي تنادي بها أغلب المجتمعات، وتعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان الضّامنة لكرامته في المجتمعات المتقدّمة التي تحترم أفرادها. وكان أوّل ظهور لهذا المفهوم في الدّستور الأمريكي حين طرحت مشكلة مشاركة السّود في الانتخابات من عدمها، ثم انتشر المفهوم، بعد ذلك، في زمن الثّورة الفرنسية سنة 1789م. وكانت المساواة محور بحث أساسيّ في الفلسفة التّعاقدية عند روسو ومونتسكيو وهوبز، ثمّ تعزّز حضورها بوثيقة حقوق الإنسان (المادة1 / الحرية والمساواة، المادة 7/ المساواة أمام القانون والمساواة في الحصول على الوظيفة).
وقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين تسارعا في عقد الاتّفاقيات المكرّسة لحقوق المرأة، ومنها تلك المتعلّقة بـالحقوق السّياسية للمرأة في إطار الأمم المتحدة سنة 1952، ثمّ جاء إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة سنة 1967، فاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة سنة 1979.ويظهر اللّبس منذ البداية في مستوى المفهوم، من ذلك أنّ للمساواة أبعادا عديدة تستدعي منّا أن نسعى إلى تبيّنها قبل متابعة حدود تمظهراتها وتجسيداتها في مستوى الواقع الموضوعي والمعيش اليومي. وتعنى المساواة عدم التّمييز بين المرأة والرّجل بحكم القانون وبحكم الأمر الواقع معا. فالمساواة بحكم القانون تعني تعامل القانون مع حقوق المرأة والرّجل بشكل محايد ووفق النّصوص المنظمة، أمّا المساواة بحكم الأمر الواقع فتعني تبعات القانون على مستوى السّلوك وتأثيره على الممارسات العملية. فالمساواة بين المرأة والرّجل هي، في الحقيقة، مطلب لن يتحقق بمجرّد سنّ قوانين واعتماد سياسات ظاهرها الحياد، وفي عمقها تمييزٌ على أساس الجنس واللّون والعرق… مثلما أنّ المساواة لن تتحقّق في ظلّ قطيعة بين القانون والواقع. الخ. وبناء على ما تقدّم، فإنّه يجب على الدّولة متابعة تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمرأة، كما يجب على “الوكالات الإدارية والمحاكم والدوائر القضائية أن تحترم مبدأ المساواة أمام القانون، وهو ما يقتضي ضمنا قيام هذه السّلطات بتطبيق القانون على الرّجل والمرأة تطبيقا متساويا“([11]). وبالرغم من ذلك، فإنّ هذا لا يعني أنّ عدم التمييز له نفس الدّلالة السّوسيولوجية على مستوى المفهوم، وعلى مستوى واقع النّاس ومعيشهم اليومي.
ب- مفهوم عدم التمييز:
لا شكّ في وجود تلازم في مستوى النتائج والمآلات، بين التمييز من جهة، وعدم المساواة من جهة أخرى، وهو، في الأغلب الأعمّ، مبدأ تكريس لمعاملة تفضيلية لشخص أو لمجموعة من الأشخاص على أساس أحد المتغيّرات التي تثير التمييز (العرق، اللّون، الدّين، الجنس…). وفق ما ورد في إحدى الاتفاقيات من أنّ “التمييز ضدّ المرأة هو استبعاد أو تقييد يتمّ على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو تمتّعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النّظر عن حالتها الزّوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرّجل“[12].
إنّ اللاّمساواة التي قد تتعرّض لها المرأة قد تمتدّ إلى كلّ ميادين الحياة كأنْ يتمّ تحييدها في توزيع المهام لسبب بدني، أو استبعادها من العمل على أساس جمالي، أو على أساس أنّها غير قادرة على تكريس كلّ جهدها في الحياة المهنية الخ… وهكذا قد يؤثّر نوع الجنس على حق المساواة بين الرّجل والمرأة في التمتّع بالحقوق، ولا تنفكّ مثل هذه الأوضاع عن توقّعات وافتراضات ثقافية متعلّقة بالسّلوك وخصائص الشّخصية وبالفوارق في القدرات البدنية والعقلية المفترضة بين الرّجل والمرأة. وبمرور الوقت تنتج عن ذلك هويّة مجتمعية تتحدّد بناء عليها العلاقة بين المرأة والرّجل، وتصبح شيئا فشيئا ضابطا سلوكيّا يتخطّى مداها القانوني ([13]). ولا أدلّ على ذلك من أنّ الصّراع الدّائرة رحاه على المساواة بين المرأة والرّجل في تونس، منذ أن أعلن الرّئيس الرّاحل الباجي قائد السّبسي عن مبادرته، قد اتخذ طابعا هوويّا/ سياسيّا.
ثالثا- مسارات مساواة المرأة في العمل النّقابي: شهادات ومفارقات وتحدّيات:
مرّت مسارات مساواة المرأة مع الرّجل في النّقابات المهنية بمراحل مختلفة وتلبّست بتلوينات عديدة. وقد بدا لنا أنّه من الضّروري عرض تجربة شريفة المسعدي بصفتها تجربة نقابية لها طابعها الخاصّ في تاريخ الحركة النّقابية من ناحية، مثلما أنّها من ناحية أخرى وجه من وجوه المرأة التّونسية التي تحمّلت الصّعاب من أجل نحت مسيرتها وافتكاك حقّها في المساواة في صلب الاتّحاد العام التّونسي للشّغل منذ بداياته الأولى.
وقد أجرينا، كذلك، مقابلات مع نساء لهنّ مسؤوليات نقابية في نقابات مهنيّة مختلفة للوقوف على أهمّ الصّعوبات التي تعرّضن لها في مسؤولياتهنّ بعد تزايد منسوب الحرّية بداية من 2011، وارتفاع عدد المنخرطات في الاتّحاد العام التّونسي للشّغل، ومدى تأثير هذه التّمثيلية في واقع المرأة وعلى مراكز القرار في الاتّحاد، وتأثير ذلك كلّه على إشكالية مساواتها مع الرّجل. وقد كانت المقابلات عشوائية، وكان شرطها الوحيد أنّ تكون للمستجوبة مسؤولية نقابية تسمح لها بامتلاك معرفة واسعة بمجال فعلها، ولها الحدّ الأدنى من المعارف بالقانون الدّاخلي للاتّحاد العام التّونسي للشّغل. وقد تقصّدنا اختيار هذا المبحث وهذه العيّنة في مجال النّقابات إيمانا منّا بأنّ موضوع المساواة بالنّسبة إلى المرأة يبدأ من الأطر الاجتماعية والمهنية القريبة منها. ونعني بذلك الحياة الأسريّة والحياة المهنية، وإن كانت جذور المساواة أو اللاّمساواة تبدأ من الأسرة، وتتوسّع إلى أن تصبح ظاهرة اجتماعية لها أشكالها وتمظهراتها في صلب الهياكل النقابية، وسائر المنظّمات والفضاءات العموميّة.
1- شريفة المسعدي والحركة النّقابية وصدى الأيام.
نعى الطّاهر الحدّاد على معاصريه في ثلاثينات القرن العشرين جعل المرأة سجينة المنزل والحجاب والجهل، وذلك في كتابه “امرأتنا في الشّريعة والمجتمع”، باعتبارها تعيش حرمانا من اختيار القرين، ومن المشاركة في الحياة الاجتماعية، ومن التّعليم والتعلّم بما يسمح لها بالتنوّر مثل الرّجل الخ… وأثمرت دعوته جيلا من النّساء اللّواتي ناضلن في مختلف المجالات والسّاحات، فكان أن تمّ مثلا استحداث لجنة “المرأة العاملة” الملحقة بقسم الدّراسات والتكوين تتويجا لمسيرة نضالية هامّة لبعض النّسوة في قطاعات التعليم، اللاتي تمدرسن في صلب الاتّحاد العام لطلبة تونس داخل أسوار الجامعة، وفي مناورات مستمرّة مع ما يعرف “بالأمن الجامعي”.
وهكذا نجد في تاريخ الحركة النّقابية في تونس تجربة مضيئة تكشف عن دور المرأة التّونسية في العمل النّقابي. ومن أهمّ ممثّلات هذه التّجربة شريفة المسعدي زوجة الأديب والسّياسيّ التونسي محمود المسعدي ([14]). فقد اضطرّت شريفة المسعدي إلى مغادرة مدينة صفاقس، مدينتها الأمّ، لتجد وسطا اجتماعيّا مختلفا عن تقاليدها الأصلية، ولكنْ مساعدا على ممارسة نشاطها النّقابي، وعلى بداية رحلة إثبات الذّات ودفع ضريبة النّضال، وقد ترمّلت وهي لا تزال شابّة. وكانت تكفل طفلين، غير أنّ ذلك لم يمنعها من أن تحضر أغلب الهيئات الإدارية في الاتّحاد العام التّونسي للشّغل بصفتها عضوا في الهيئة المركزية مع الأمين العام فرحات حشّاد متحدّية كلّ الصّعاب. وعلى إثر قيام “اليد الحمراء (La Main Rouge)” باغتيال حشّاد تعرّضت للطّرد من المنظّمة بدعوى المرض، وفي مسعى إلى إفراغ المنظّمة الشّغيلة من قياداتها. وكانت سندا لزوجها محمود المسعدي طيلة حياتها في الأسرة وفي المهنة. ورغم أهمّية تجربتها في صلب المنظمة الشّغيلة وتردّدها على مقرّ الاتّحاد في كلّ سنة من ذكرى وفاة الزّعيم فرحات حشّاد، فإنّها لم تنلْ تكريما يليق بتجربتها الثّرية إلى جانب الرّجل سواء في الأسرة أو في الاتحاد العام التّونسي للشّغل، وقد لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ ذلك يعود إلى كونها امرأة لا تلقى التّقدير وفق خيال اجتماعي معيّن، رغم أنّها مثّلت صورة للمرأة التي تتمتّع بروح من التحدّي والثّبات على المبدأ في مجتمع لا ينسب تلك القيمتين إلاّ للرّجال، لأنّه، ببساطة، ما يزال يرزح تحت هيمنة الثّقافة الذّكورية.
وهكذا يمكن القول إنّ تجربة شريفة المسعدي قد مثّلت وجها من وجوه نضال المرأة التّونسية التي لم تدّخر جهدا من أجل نيل حقوقها وحقوق بنات جنسها الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية في البلاد التونسية منذ ولادة المنظّمة الشّغيلة، مثلما عكست هذه التّجربة صورة للاتّحاد العام التّونسي للشغل الذي ظهر بمظهر الأسرة الثّانية للمرأة التّونسية رغم فيض المشاكل التي عانتها من دولة- الزّعيم، ومن بقايا الاستعمار واستغلال أصحاب العمل.
2- السّقف البلّوري والحراك السّوسيو- مهني وملامح المساواة في تجربة المرأة النّقابية
لا يزال تمكين المرأة في العمل النّقابي وتمثيلها في النّقابات المهنية ضعيفا إلى حدّ ما، وذلك بحسب بحث أجري حول “حقوق المرأة في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا 2010“. وهو بحث أصدرته مؤسّسة فريدوم هاوس. وربّما يعود ذلك إلى المعوّقات الاجتماعية التي تحول دون قيام المرأة بمهام أخرى خلاف دورها التّقليدي في البيت. فرغم ما تحقّق للمرأة من رصيد قانوني، ومن نصوص للدّفاع عنها منذ فجر التّاريخ، فإنّ النّسق القيمي التّقليدي يرى أنّ الدّور الرئيسيّ للمرأة هو الاهتمام بأسرتها وأبنائها، وهي وظيفة أهمّ، في نظر نسق القيم القديم، من العمل في المجتمع المدني والمشاركة في الحياة السّياسية والعمل النّقابي.
ورغم أنّ النّساء العاملات يمثّلن نسبة هامّة من المجتمع المدني ومن النّقابات المهنية (حوالي 54% من نسبة المجتمع العمّالي).. فإنّ تمثيلهنّ ظلّ بعيدا عن مراكز القيادة بما يجعلها، رغم ثقلها العددي، تابعة لسلطة الرّجل، وخاضعة لثقافة المجتمع الذّكوري. على أنّ محاولات معالجة الفجوة الكبيرة على صعيد النّوع الاجتماعي لم تنقطع، وخاصّة بالنّظر إلى أهمّية عدد النّاشطات في النّقابة وعدد المنخرطات بالفعل، وفي مستوى تزايد الحضور في مراكز القرار وغرفة القيادة الذي أصبح أمرا واقعا. وهو أمر ما يزال يواجه صعوبات جمّة، ومنه ضعف حضورهنّ يوم الاقتراع من أجل إعادة الهيكلة، بسبب مشاق السّفر، والخشية لاحقا من عدم القدرة على حضور اجتماعات الهيئة الإدارية القطاعية وذلك بتدخّل من الزّوج حينا، وبغضّ الطّرف من النّاخبين من جانب النّقابة من أحيانا أخرى، وهو أمر يجد صدى للنّاخبين الذين يرغبون في انتخاب رجل، ويفضّلون غياب المترشّحة بدل حضورها وعدم انتخابها، وتقول كاتبة عامّة في قطاع الصّحة في هذا المعنى:
“تمثّل الأمومة والحياة الأسرية عائقا أمام الطّموح النّقابي، فلا الأسرة تأخذ في الاعتبار إكراهات مشاكل القطاع ومسؤولياتي النّقابية، ولا المسؤولية النّقابية ومشاكلها المهنية المتنامية والجامعة العامّة في قطاعنا (والأمر يتضاعف في القطاع الخاص) لها القدرة على فهم التحدّيات التي تواجهها المرأة النّقابية والتي لها مسؤولية في الاتّحاد وفي البيت على حد سواء”([15]).
من نافلة القول التّذكير بأنّ الممارسة النّقابية عند المرأة وتفعيل دورها في الفضاءات العامّة، يعتبر أحد أهمّ أشكال مقاومتها للعنف الرّمزي المسلّط عليها من قبل المجتمع الذّكوري في تونس المعاصرة، وهو ما يجعل كلّ حديث عن الشّأن النّسويّ منخرطا ضرورة في سجلّ مقاومة ثقافة المجتمع الذّكوري واستتباعاته في مستوى مكاسب المرأة المتعلّقة بالحقوق والحرّيات رغم أنّ” مفهوم المقاومة يستمرّ بخلق العديد من المشاكل (عند الإجابة على لماذا نقاوم؟ ومن نقاوم؟ ومع من نقاوم؟ وكيف نقاوم؟ ومتى نقاوم؟)، رغم شيوعه ونجاحه في مجال العلوم الاجتماعية لا سيّما لدى محاولة رسم حدوده ([16])”.
وقد حوّل الحراك الذي جدّ في تونس سنة 2011 مبحث المرأة ومشاركتها في الفضاء العام والاحتجاجات والاعتصامات إلى مبحث ضروري لفهم مسارات الثّورة التّونسية ومآلاتها، وأهمّ الفاعلين فيها وأخطر معوّقاتها الثّقافية والإيديولوجية. وقد خلقت موجة التّظاهر التي تنامت بعد ذلك تداعيات هامّة على النّقابات المهنية، منها التحوّل في موقع المرأة، وعلاقتها بسلطة القرار سواء في إطار النّقابة، أو في علاقة بالتّفاوض مع الدّولة حول مطالب بعض القطاعات القويّة. وأدّى هذا “الزّحف الهادئ” من جانب المرأة التّونسية على حدّ عبارة آصف بيات (A. BAYAT, 2010) إلى إعادة طرح موضوع المساواة بِنَفَسٌ ثوري يروم تعزيز مكاسبها في “مجلّة الأحوال الشّخصية” زمن تونسة التّعليم والنّقابات وإرساء أسس الدولة الوطنية الحديثة.
لقد تميّز الفضاء العام في تونس بتغيير نوعي كبير في مستوى رهاناته وأهدافه البعيدة، ومخاطره بصفته محلّ مفاوضات ومساومات وصراعات. ويعتبر العمل النّقابي أحد المكوّنات الأساسية لهذا الفضاء، وكانت مشاركات النّساء فيه تخضع لوعي انعكاسي وحماسة جادّة لحيازة الفضاء وتحقيق معادلة لم تكن في الحسبان قبل 2011، وهي المشاركة الفاعلة والجادّة والندّية في النّقابات المهنية.
وبموجب هذه التحوّلات أصبح على المرأة التّونسية النّقابية لعب أوراق معيّنة في مفاصل بعينها من اللّعبة، مدارها حول تفعيل دورها النّقابي وإتقان لعبة التّفاوض والمساومة، وحذق استعمال قواعد اللّعبة، انطلاقا من وعيها بأنّ التغيير البنيوي ضرورة حتمية، لمن يروم إحداث تغيير في موقع المرأة وعلاقتها بسلطة القرار. فتعزيز مساواتها مع الرّجل، يقتضي خروج الفعل من معادلة ما: أن يقع من داخل السّلطة القائمة (هياكل الاتحاد) ومن خارجها في الوقت نفسه (في علاقتها بسلطة الدولة)، أي أنّ الفعل عليه أن يشتغل في النّسق وداخل حدوده الصّلبة وضدّه)[17](، وهو الشّرط التّأسيسي لتطوير النّسق ذاته، ما دامت المرأة مازلت تتعرّض إلى صنوف من الحيف وإلى أنواع من الإقصاء في العمل النّقابي، إذ مهما تكن أكثر كفاءة من الرّجل فانّ أغلب النّاخبين يميلون إلى الرّجل بسبب الثّقافة الذّكورية، وتقول إحدى النّاشطات النّقابيات في قطاع النّقل في هذا المعنى:
“رغم أنّني أتمتّع بحسّ استراتيجي في مسارات التّفاوض سواء داخل النّقابة ومع النّقابيين أو مع سلطة الإشراف وفي علاقة بمشاكل القطاع، فإنّ بعض الممارسات تبدو محبطة للعزائم بما يضاعف مسؤوليتي النّقابية، ويجعلني على نحو غير متكافئ مع أي رجل في النّقابة، ويجعل فعلي خاضعا لرقابة صارمة مجتمعية ومهنية مبالغ فيها ([18])”.
ورغم مناخ الممارسة النّقابية والعلاقات الجيّدة بين النّقابيين، فانّ متغيّر الجنس يظلّ حاضرا ولو بشكل غير مباشر، ولكنْ حتما بصورة مؤثّرة في المسيرة النّقابية وتضيف المستجوبة نفسها، قائلة:
” طيلة تجربتي النّقابية والمسؤوليات التي قمت بها لم أنس يوما أنّني امرأة. وقد فكّرت مرّات عديدة في الاستقالة لتجنّب مخطّطات سحب الثّقة، ذلك أنّ “عقدة” كوني امرأة، وأنّ المجتمع ينظر إليّ على هذا الأساس تسكنني باستمرار وتصادر أحيانا حقّي في العمل النّقابي، وتربك مسيرتي ولو لحين ([19])”.
إن فهم المرأة النّقابية للتّكوين البنيوي ينال من مهنيتها بالصّفة ذاتها، ويمكن أحيانا أن يؤثّر على مسار التّفاوض، وفي أحيانا أخرى يظهر لسلطة الإشراف أنّ المرأة النّقابية مجهّزة بأشكال بديلة من القوّة، وطرائق مخصوصة غالبا ما يفتقدها الرّجل، منها العمل القاعدي طويل المدى، ذي الطابع التراكمي. مثلما أنّها تتميّز بقدرة عالية على ضمّ كيانات عدّة للعمل النّقابي عبر التّعبئة والتّحشيد. وقد فرضت المرأة نفسها أحيانا حتّى في تلك الفضاءات المهنية الصّعبة مثل القطاع الخاص، خاصة منه قطاع النّسيج، والقطاع الاقتصادي غير المنظّم والعاملات بالمناولة وعملة الحظائر والبلديات والعاملات في المنازل، وفي القطاع الفلاحي المهمّش في المناطق الرّيفية المعزولة. وقد صرّحت إحدى المستجوبات بقولها:
“للأسف نجاحنا في المسؤولية النّقابية أصبح مزعجا أكثر فأكثر بسبب تجنّي بعض أصدقاء الماضي في نفس النّقابة على المرأة المتميّزة، إذ يصل الأمر بهم أحيانا إلى نعتها بأبشع النّعوت، في العالم الافتراضي، وربّما إلى عرقلة بعض الاتفاقات السّابقة وتعطيلها، وصولا إلى التّهديد بالعنف المادّي”([20]).
إنّ تغيير قواعد اللّعبة في العمل النّقابي يقتضي إلى حدّ بعيد تغيير مقاييس التّشبيك الاجتماعي والنّسق القيمي السّائد والبائد والقائم على قاعدة “الكوتا“([21]) في المشاركة النّسائية من أجل فتح قنوات الحراك الاجتماعي في وجه النّساء الفاعلات، وهكذا تنفتح طرائق وفرص جديدة للمشاركة في الفضاء العام من شأنها أن تسمح لمن هو أكثر كفاءة باحتلال المواقع المتقدّمة في الوظيفة، بضمانات أرجح لتحقيق النّجاح.
وقد ذكرت نقابيّة مستجوبة أنّ:
“مبدأ التّناصف الذي تحدّث عنه الاتّحاد العام التّونسي للشّغل ونظام الحصّة (Un quota) ([22] (حبر على ورق. وليس من السّهل تطبيقه، وهو في العمق إساءة للمرأة، وليس خدمة لها، لأنّه قانون يظهر كما لو أنه منّة على المرأة، ذلك أنّ ثقافة المجتمع الذّكوري داخل “منظّمة حشّاد” مازالت تشتغل بقوّة، وفي تقديري إنّ تطبيق مساواة حقيقية بين المرأة والرّجل هو أحد التحدّيات بعيدة المدى في منظمتنا”([23]).
لا أحد ينكر وجود هذا الشّرخ القائم بين حقّ المرأة في المساواة قانونا، وقبول المجتمع لهذا الحق فعلا، وآية ذلك التّقسيم القائم بين الفضاء العام والفضاء الخاص، وعدم قدرة المرأة على حيازة الفضاء العام مقارنة بالرّجل، وما تتعرّض له المرأة داخل الأسرة من مظالم بصفتها زوجة، وإن تقلّدت مهامّ قيادية في مجال النّقابات (حرمانها من الميراث بحسب العرف الاجتماعي، التزويج القسرى، اقتصار دورها على الإنجاب والعمل داخل البيت الخ…).
وممّا يستحقّ التوقّف في المجال النّقابي لعلاقته بإشكالية المساواة، تزايد إقدام النّساء على الانخراط في النّقابات المهنية بشكل لافت خاصّة بعد 2011، وهي ظاهرة تفسّرها بعض التّجارب لمستجوبات يتنامى في نظرهنّ منسوب المخاطر المتأتّية من الوسط المهني إلى درجة التّهديد بالطّرد والإحالة على مجلس التّأديب تعسّفا، وذلك في القطاع الخاص، وهكذا يكون الإقبال على العمل النقابيّ والانخراط فيه محاولة لتأمين النّفس، والتمتّع بالحقوق كاملة في مواجهة هذا التوجّه العام خاصّة في صفوف تلك الشرائح المهنية التي تصنّف “هشّة”. وفي هذا السّياق صرّحت إحداهنّ وهي في الأصل كاتبة عامّة في القطاع الخاصّ، نعني تحديدا قطاع النّسيج بصفاقس، بقولها:
“إن أصحاب المصانع لا يتردّدون ولو لحظة في اتخاذ قرار العقوبة بشأن امرأة تسعى إلى تعبئة أصدقائها وصديقاتها ضدّ سياسة الإدارة، ولكن عندما يعلم صاحب المصنع ببعث هيكل نقابي بمؤسّسته، فإنّه يسعى إلى التّطبيع مع أعضائه، ويقوم بإعادة توزيع السّلطة، وصياغة سياسة جديدة للخدمات داخل الإدارة بناء على هذا المتغيّر وتطبيقا لمطالب أعضاء النّقابة”([24]).
وتضيف لتعبّر بنوع من التحدّي قائلة:
“إنّ الانخراط في العمل النّقابي هو شكل من أشكال تأمين المهنة وجزء من النّجاح فيها، وهو وجه من وجوه تضحية المرأة من أجل تأمين حاجات أسرية إلى جانب زوجها والوقوف معه في مواجهة غلاء الأسعار وكلفة تدريس الأبناء ([25])”.
لقد شهدت ثورة 2011، مظاهر واضحة جسّدت استنهاض الشّباب والمرأة العاملة بشكل غير مسبوق للانخراط في الاتحاد العام التّونسي للشّغل، وبدا التلازم صريحا بين التوظيف الهشّ والانخراط في العمل النّقابي: فكلّما ظهرت مخاطر التّوظيف العشوائي والمشاكل المهنية، كلّما طلبت الطبقة الشّغيلة الحماية من “منظمة حشّاد”. ومن الدقّة القول كذلك أنّ الهزّات الاجتماعية عموما، والفترات الانتقالية والتحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة غالبا ما تكون مصحوبة بتنامي عدد المنخرطين في إ.ع.ت.ش. ويحصل هذا رغم كلفة الانخراط في النّقابة باعتبارها فضاءً ذكوريّا، يعترض الزّوج على زوجته أن تلجه غالبا، خاصّة أنّ فوز زوجته بمسؤولية نقابية يضاعف مسؤولياته هو في المنزل.
يعتبر الارتقاء المهني أو ما يعرف بالحراك المهني وإسناد المسؤوليات في الوظيفة من أكثر المهام صعوبة، خاصّة إذا كانت الخطط المتاحة محدودة، والمترشّحون يستوفون كل الشّروط. ويكون الأمر يسيرا إذا كانت من بين المترشّحين امرأة بحكم الثّقافة الذّكورية السّائدة وغياب العقلنة على أساس الكفاءة بما يجعل أغلبهنّ أمينات سرّ في الإدارات، ولهنّ وظائف تقنية بيروقراطية قاتلة لحسّ الخلق والإبداع والتّجديد في المهنة.
إنّ ذلك كلّه يفرض على المرأة أن تتميّز بملكة خاصّة “للتعويض” عمّا يتصوّره الرّجل من نقص فيها، مقابل ملفّات المترشّحين الذّكور. إنّ من شأن هذا الواقع المهني أن يضطر المرأة إلى أن تحاول تجنّب كلّ ما يمكن أن يحدث من مشاكل في المنزل، وفي الوسط المهني على السّواء، بل أكثر من ذلك، أن تضمن “فائض القيمة” في المنزل، من حيث تسديد كلفة الدّروس الخصوصيّة للأبناء، وتحمّل خلاص تكاليف الماء والكهرباء، وشراء أغلب مستحقّات البيت من المواد الاستهلاكية واللّباس، وغيرها… وذلك مقابل نشاطها النّقابي. أمّا في الوسط المهني فـيتمثّل “فائض القيمة” في العمل دون مقابل مادّي مباشر على أجرتها، وتأمين ساعات زائدة عن الوقت القانوني، إن لزم الأمر، بنفس تأجير ساعات الوقت القانوني مع كفاءة عالية لتحقيق الحدّ الأدنى من الاعتراف من جانب صاحب العمل. وكل ذلك من أجل “التّعويض عن كونها إمرأة“. وهكذا إنّ مفهوم “السّقف البلّوري” يعني حقّها في الارتقاء والعمل واحتلال مناصب عليا في الإدارة والمهنة قانونا، وحق الرّجل أن يكون على رأس القائمة بمجرّد أنّه كذلك موضوعيا.
ويحدث لبعض النّساء اللاّتي تميزن وتفوّقن في مهنهنّ أن يلحق بهنّ ضرر معنويّ كبير، بما يجعل أغلبهنّ يتجنّبن الاجتهاد، ويسعين إلى العمل في مهام بسيطة، وأقلّ مشاكل وإزعاجا لبقيّة العمّال، بما لا يترك مجالا للنّعوت المخلّة بقيمتها كامرأة عاملة أو موظّفة.
لم يعد ممكنا إذن، تجاهل دور المرأة في “منظمة حشّاد”، فهي فاعلة من حيث حضورها العددي، وفاعلة من حيث فعالية هذا الحضور ودورها في التّعبئة والتّحشيد، ولكنّها تظلّ محرومة، إلى حدّ بعيد، من المشاركة في القرار، ولا تترك لها فرص تكون لها فيها سلطة تسيير وتدبير رغم ثقلها ودورها في التفاوض. ولعلّ الشّعارات التي رُفِعَت في مناسبات عديدة في “منظمة حشّاد” لصالح المرأة تعكس واقع النّساء النّقابيات المرير، وهو ما يدعو بإلحاح إلى مراجعة دور المرأة في النّقابات المهنية، وحقّها في المساواة مع الرّجل، وتوفير نفس الفرص والحظوظ نفسها لتقلّد مسؤوليات نقابية. ومن تلك الشعارات التي رُفعت في مناسبات عديدة نذكر:
“شريكات في النّضال، شريكات في القرار”، “مساواة مساواة في النّضال والقرارات”، “حتى لا ننسى نساء الاتّحاد”، “المرأة النّقابية كفاءة قيادية”.
فرغم ما ورد في دستور 2014، ورغم مصادقة الاتّحاد على وثيقة المساواة بين المرأة والرّجل في العمل النّقابي، فإنّ البون بين الواقع وبين النّصوص القانونية والاتّفاقات الدّولية وغيرها ما يزال شاسعا، وهو ما يدفعنا إلى مراجعة المعوّقات التي تضرب بجذورها في عمق بنية المجتمع التّونسي وثقافته، وفي فعل التّقاليد فيه، لا في سطحه، وما يصادق عليه من قوانين.. فرغم أهمّية حضور المرأة في قواعد الإتحاد إلا أنّ المسؤوليات العليا في المنظّمة تكاد تكون حكرا على الرّجال نتيجة تمثّل يتغذّى من تقاليد المجتمع بصفتها التّربة الخصبة. وهو تمثّل مفاده أنّ الرّجل أكثر تفرّغا للعمل النّقابي وأنّ طبيعة المهام في الوسط النّقابي تقتضي ثقافة ذكورية ونفسا نضاليّا معيّنا يصعب توفّره لدى المرأة.
خاتمة:
يمكن القول، استنادا على ما تقدّم في التّجارب الواردة في الورقة، أنّ مسارات تحقيق مستوى عال من الحرّيات الفردية والمساواة للمرأة في علاقة بالرّجل، يتطلّب نوعا من التّعاطي المرن للمجتمع عبر محاولة تغيير الثّقافات على المدى الطويل، وفتح قنوات الحراك الاجتماعي والمهني أمام الجميع على قدم المساواة. فالتحوّلات الاجتماعية التي تسارعت بعد 2011 ستظلّ مبتورة وغير مكتملة مادامت الأسرة لا تزال تقليدية في بعض المجتمعات المحلّية المحافظة، وتعتبر المرأة مجرّد قوّة إنتاج مادّي تحافظ على التّقسيم التّقليدي للعمل (الرّجل يعمل خارج البيت والزّوجة تعمل في البيت). ورغم أنّ هذا يتضمّن شكلا تضامنيّا يحافظ على البنية التّقليدية للأسرة، ويكفل استمراريتها، ويقدّم تصوّرا مخصوصا للمساواة والحرّيات الفردية ينسجم مع المرجعية التّقليدية بالأساس، فإنّه يظلّ في حاجة إلى رفع “السّقف البلّوري” وفتح الطّريق بالفعل أمام المرأة، وتخطّي الجدل العقيم حول منحها حرّيتها من عدمه، واعتماد ما نادى به الطّهطاوي ملخّصا طرق استلهام الثقافة الغربيّة وفلسفته: “نأخذ ما في رؤوسهم وندع ما في نفوسهم”.
[1] – الأمم المتحدة: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
[2] – الأمم المتحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي: قضايا جوهرية ناشئة عن تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 16 (2005) المساواة بين الرجل والمرأة في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة3 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية). جينيف 25 نيسان / ابريل/13 أيار / مايو 2005. ص 2.
[3] – Christopher Mcall: de l’individu et de sa liberté. Sociologie et sociétés. PUM. 2009. 41(1). 177-194. (« la non-liberté des femmes et des esclaves découlant de la nature –hommes, maitres et esclaves étant des paires «naturelles»).
[4] – محمد الإمام: تقرير لجنة الحرّيات الفردية والمساواة التونسية: خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية. مؤمنون بلا حدود. فبراير 2019. ص2.
[5] – محمد الإمام: المرجع السّابق. ص 3.
[6] – محمد الإمام: المرجع نفسه. ص 4.
[7] – هو عيد يقع يوم 13 أوت من كل سنة، وهو ذكرى بعث مجلّة الأحوال الشخصية التي أنصف فيها الحبيب بورقيبة المرأة ومنحها كثير من الحقوق مثّلت أحد أهم أسس الدولة الوطنية الحديثة.
[8] – محمد الإمام: المرجع نفسه. ص5. (هذه العبارة وردت في خطاب الباجي قايد السّبسي عندما كان رئيسا للدولة ويعدّ لبعث مشروع “الحريات الفردية والمساواة في المجتمع التونسي المعاصر”.).
[9]– François DUBET: Egalité des places, égalité des chances. Etudes, 2011/1, tome 414, p :31-41.
[10]– François DUBET: égalité des places, égalités des chances. In: Etudes, revue de culture contemporaine. 2011/1(tome 414). P: 31-41.
[11] – الأمم المتحدة: المجلس الاقتصادي والاجتماعي. مرجع سابق. ص3.
[12] – اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. المادة 1.
[13] – Pierre Bourdieu: la distinction, critique sociale du jugement. Paris. Minuit .1979.
[14] – درّة محفوظ دراوي: النّساء التونسيات في الشغل والحركة النّقابية. منظمة فريدرش. تونس 2018. ص 34.
[15] – مقابلة أُجريت مع كاتبة عامة لنقابة أعوان الدّيوان الوطني للأسرة والعمران البشري في الاتحاد الجهوي بقفصة.
[16] – كتاب جماعي: المقاومة الجندرية. المجلس العربي للعلوم الاجتماعية. آب / أغسطس 2019. بيروت. لبنان. ص5.
[17] – Raymond Boudon: L’inégalité des chances. Paris. Hachette. Ed1.1973.
[18] – مقابلة أجريت مع كاتبة عامة لنقابة ديوان الطيران المدني بقفصة في مقرّ الاتحاد الجهوي بقفصة.
[19] – نفس المستجوبة، وفي نفس المكان والزّمان.
[20] – نفس المستجوبة.
[21] – التصميم من اجل المساواة: النظم الانتخابية ونظام الكوتا: الخيارات المناسبة والخيارات غير المناسبة. ستينا لارسرود وريتا تافرون. تعريب عماد يوسف. ص9. (وهي شكل من أشكال التدخل الايجابي لمساعدة المرأة على تخطي معوقات المشاركة السّياسية في علاقة بالرجال وفيها الكوتا القانونية أي التي ينصّ عليها الدستور صراحة ويعاقب عليها بحسب القانون من يخالفها والكوتا الطوعية هي ما يتم تبنيها طوعا من طرف الأحزاب وهي غير ملزمة ولا يحاسب عليها القانون).
[22] – تجدر الإشارة إلى أنّ تطبيق نظام الكوتا فيه نوعا من الحيف بما يجعل مشاركة المرأة محدّدة بسقف معيّن. فنظام الكوتا مثلما يعزّز حضور المرأة في المشهد السياسي، يحدّ من تغوّلها في المشاركة.
[23] – مقابلة مع قيادية في نقابة مهنية في الاتحاد الجهوي بقفصة بتاريخ 13 سبتمبر 2019.
[24] – مقابلة مع نقابية في الاتحاد الجهوي بقفصة بتاريخ 22 سبتمبر 2019.
[25] – نفس المستجوبة.
المراجع:
الكتب باللغة العربية:
- الحدّاد الطاهر: امرأتنا في الشّريعة والمجتمع. الدّار التّونسية للنّشر. طبعة3. 1977.
- الأمم المتحدة: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
- الأمم المتحدة: قضايا جوهرية ناشئة عن تنفيذ العهد الدّولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. المجلس الاقتصادي والاجتماعي. لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الدورة 34. أوت 2005.
- درّة محفوظ دراوي: النّساء التّونسيات في الشغل والحركة النّقابية. منظمة فريدرش. تونس. تونس 2018
- التصميم من أجل المساواة: النظم الانتخابية ونظام الكوتا: الخيارات المناسبة والخيارات غير المناسبة. ستينا لارسرود وريتا تافرون. تعريب عماد يوسف.
- كتاب جماعي: المقاومة الجندرية. كتاب جماعي: المقاومة الجندرية. المجلس العربي للعلوم الاجتماعية. آب / أغسطس 2019. بيروت. لبنان.
المقالات:
- الإمام محمد: تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة التونسية: خطوتين (كذا!) إلى الأمام وخطوة إلى الوراء؟ فيفري 2019. مؤمنون بلا حدود.
- Christopher McALL: de l’individu et de sa liberté. Sociologie et société. Vol41.n2. Pp 177-194.
الكتب باللّغات الأجنبية:
- David Hélène: Femmes et emploi: le défi de l’égalité. Institut de recherche appliquée sur le travail.PUQ. 1987.
- Castel robert: l’insécurité sociale, qu’est ce qu’être protégé ? Ed de Seuil et la république des idées.2003.
- François DUBET: Egalité des places, égalité des chances. Etudes, 2011/1, tome 414.
- Hély Matthieu: de l’intérêt général à l’utilité sociale: la reconfiguration de l’action publique entre Etat, associations et participation citoyenne. Sous la direction Xavier Engels, Aurélie Peyrin et Hélène trouvé.
- Pierre Bourdieu: la distinction, critique sociale du jugement. Paris. Minuit.1979.
- Raymond Boudon: L’inégalité des chances. Paris. Hachette. Ed1.1973.
4 تعليقات
موضوع جيد ومثير للاهتمام واصبح الشغل الشاغل حاليا ف السنوات الاخيره وليس في تونس فقط بل اصبح منتشر في دول كثيره ف العالم وتطالب به النساء
وهو حق مشروع للمرأه
يعطيك العافية دكتور طبعاً موضوع جميل وكتابتك عنه كانت الاجمل وبين بطريقة اوضح واجدد هذا يا دكتور حق من عدة حقوق للمراة ونرد طبعاً للقران في سورة النحل: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” صدق الله العظيم. المراة مجتمع بحد ذاته وتستاهل تعيش في حياة كريمة وطيبة
شكرا لمن تفاعل مع المقال وصوب ملاحظاته … ولكم جميعا خالص الشكر والتقدير أعزائي الكرام .
ألف ألف مبروووك والعاقبة لمزيد من الانجازات والنجاحات العلمية والبحثية سي حامد منجي..