أين الخلل؟

ماذا تأخّر المسلمون

يتصادى سؤال: “أين الخلل؟” مع السّؤال النّهضويّ الشّهير: “لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟”، غير أنّهما، عند التّدقيق، مختلفان. بل على طرفي نقيض.

فالسّؤال الثاني يضمر توثّبا واستعدادا للتقدّم، إذ نشأ ردّا على التحدّي الغربيّ، فكان ضربا من الاستنفار العامّ بعد لحظة الصّدمة التي حدثت باكتشاف تفوّق الآخر على جميع الأصعدة، وتهاوي أوهام الأفضليّة المطلقة بموجب الإيمان وحده.

أمّا السؤال الأوّل، ابن هذا الزّمان، فيبدو ناضحا باليأس والإحباط، مثقلا بروح الاستسلام والانكسار. ويكشف تفكيكه وسبر أغواره عن إحساس الإنسان العربي المعاصر بالحيرة أمام تتالي خيباته، وعن مرارة شعوره بالهزائم منذ فجر “اليقظة العربيّة”. وفي عمق هذا السؤال تثوي أسئلة أكثر صراحة ووضوحا من قبيل: لماذا نتقهقر باستمرار؟ لما ننحطّ أكثر فأكثر؟ لماذا خسرنا كلّ المعارك؟ لماذا نرتدّ فكريّا كلّما توهّمنا التقدّم؟ لماذا ننهزم كلّما اعتقدنا أنّنا امتلكنا أسباب القوّة والنّصر؟

لا مراء في اختلاف الشروط التاريخيّة والحضاريّة العامّة التي أثارت كلا السّؤالين، وهي شروط لها، بلا شكّ، تأثيرها في رؤية المصلحين والمفكّرين والسياسيين العرب لواقعهم بمشكلاته المختلفة وآفاق حلّ تلك المشكلات. ومن أهمّ تلك الشّروط شكل حضورُ الآخر الغربي المتقدّم المتفوّق إن في مستوى الواقع العربي أو في مستوى الوعي بهذا الحضور، حتّى أنّ المفكّر المغربي المعاصر عبد الله العروي قد جعل نقطة ارتكاز وعي الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة بنماذجها الثلاثة (التقني والليبرالي والمصلح الدّيني) في البنية الذهنية والواقعيّة في الغرب. واستنادا إلى هذه المسلّمة سنكتفي بتتبّع آثار هذا العامل في الواقع العربيّ.

يقف الدّارس على أنّ حضور الغرب في الواقع العربي قد مرّ، كما يرى كثيرون ومنهم المفكّر المغربي علي أومليل، بثلاث مراحل صاحبتها ثلاث حالات من الوعي:

 1- مرحلة الضغط من الخارج.

2- مرحلة الاحتلال المباشر.

 3- مرحلة الهيمنة النّاعمة رغم الاستقلال الظّاهر.

مرحلة الضغط من الخارج

عاشت البلدان العربيّة مرحلة الضّغط الغربي من الخارج بأقدار متفاوتة، وفي فترات زمنيّة مختلفة. ولكنّها تقع عامّة في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتنتهي في حالات نادرة في بداية القرن العشرين. وقد تجلّى هذا الضغط في صور عدّة منها التهديد العسكري، واستعراض القوة على الحدود وفي المياه الإقليميّة واحتلال بلدان مجاورة. وتجلّى اقتصاديّا في غزو بضائعه لبلدان الجنوب، واستنزاف ثرواتها، وفي استدراجها إلى الاقتراض بفوائد مشطّة أوقعتها في الوصاية على خزائنها. وبالرّغم ممّا تقدّم فإنّ استمرار الحكم بيد أمراء وملوك وسلاطين محلّيين قد سمح باستمرار الأمل في تجاوز التأخّر واللّحاق بالغرب المتقدّم، وذلك باستلهام علومه ونظمه وقيمه بعد تكييفها وفق الخصوصيّة الدّينيّة الإسلاميّة دونما حرج كبير، وفق المسلّمة التي آمن بها الفكر الإصلاحي عموما، وهي: الإسلام لا يعارض التّحديث ولا العلوم الحديثة، أو وفق المبدأ النهضوي الذي صاغه الطّهطاوي: نأخذ ما في رؤوسهم وندع ما في نفوسهم. وكلاهما قاد إلى نزعة توفيقيّة بين مرجعيّتين: إسلاميّة تراثيّة وأخرى غربيّة حديثة. وكان لهذه النّزعة مكاسب، مثلما كانت لها عيوبها التي أعاقت نجاح النّهضة العربيّة الأولى.

مرحلة الاحتلال المباشر

بدأت هذه المرحلة، بشيء من التعميم والتّجاوز، بداية من الثلث الأخير من القرن التّاسع عشر (مثلا: احتلال تونس 1881، واحتلال مصر 1882) وصولا إلى العقد الأوّل من القرن العشرين (مثلا: احتلال المغرب 1912، واحتلال ليبيا 1911). وفيها سنّت قوانين مدنيّة، وتمّ في أحسن الأحوال ظهور محاكم مدنيّة وأخرى شرعيّة، وتغلغلت الأحكام والقوانين الغربية، فلم يعد من السّائغ عند المصلحين والمفكّرين، كما يقول علي أومليل، أن ينادوا باستلهام الغرب وتقليده كما كانوا يفعلون في المرحلة السابقة، وهكذا ظهرت بصورة واضحة ملاحقة عدد من المصلحين ممّن تجرّأ على الجهر ببعض الأفكار التي كانت لا تثير من قبل ريبة ولا معارضة، من ذلك مثلا تكفير ومحاكمة كلّ من عبد العزيز الثعالبي (سنة 1904) والطاهر الحداد (سنة 1930) في تونس، وعلي عبد الرازق (1925) وطه حسين (1926) في مصر الخ… كما برزت ظاهرة الردّة عن الأفكار التّنويريّة السّابقة شأن تراجع محمد رشيد رضا عن أفكار أستاذه محمد عبده (ألّف كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى سنة 1922 الذي يعدّ كتابا- علامة على انتهاء مرحلة الإصلاح وبداية مرحلة الصحوة)، أمّا الظّاهرة الأبرز فهي ظهور حركة سيكون لها شأن في الحياة الثقافيّة والسّياسية العربيّة، وهي: ظاهرة “الصحوة الإسلاميّة” وريثة عصر الإصلاح والمنقلبة عليها. ويفسّر “انقلابها” بالحاجة إلى تحصين الذّات الحضاريّة من التفسّخ والذّوبان في ذات الغرب الظّافر المتفوّق الذي حلّ في بلاد المسلمين وبات له حضور مادّي ملموس فيه. فإذا كان مطلب المرحلة الأولى هو إغناء الذّات باقتباس ما به تكتسب قوّة ومناعة تمكّنها من البقاء واللّحاق بالآخر بل ومنافسته، فإنّ خاصّية هذه المرحلة هي المحافظة على الذّات، وصون الهويّة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه باللّجوء إلى النواة الصّلبة للهويّة وهي العقيدة الدّينيّة. واعتقد روّاد الصحوة أنّه كلّما كان هناك تمسّك أقوى بالعقيدة والتشدّد في ذلك كانت فرص المحافظة على الذّات أكبر. وبدلا من الشعار القديم: الدّين لا يعارض التقدّم، حلّ شعار جديد: ديننا يتضمّن كلّ عناصر التقدّم ولا حاجة للاقتباس من الغرب.

مرحلة الهيمنة النّاعمة رغم الاستقلال الظّاهر

حصلت معظم الدّول العربيّة والإسلاميّة على استقلالها بعد الحرب العالميّة وخاصّة بداية من خمسينات القرن الماضي، بعد أن خرجت الدّول الاستعماريّة من الحرب منهكة القوى، مرتابة في قيمها التي ادّعت طويلا صلابتها، وامتدحتها مزهوّة بمعقوليتها، قبل أن يتبيّن لها عجزها عن أن تمنع نشوب حربين مدمّرتين في قلب العالم الحرّ ذاته.

وهكذا تسلّمت قيادات وطنيّة وقوميّة زمام الحكم، غير أن الفشل في تحقيق التنمية والهزائم المتتالية أمام إسرائيل قد أنعش تيّار الصّحوة الذي كان، في الأثناء، قد زاده القمع تطرّفا، واكتسب من تجارب العقود السابقة خبرة واسعة في التنظّم والعمل والحركة. ومن اللاّفت في هذه المرحلة كثافة ظاهرة الانشقاق التي شهدتها تيارات الصّحوة الأساسيّة (الإخوان المسلمون أنموذجا). فقد كانت دائما تتكشّف عن مجموعات صغيرة أكثر تشدّدا وأكثر فاعليّة، وصولا إلى نسختها الأخيرة الأكثر عنفا وراديكاليّة: تنظيم داعش، الذي نشأ وتوسّع نفوذه بفعل عوامل عديدة، وفي مقدّمتها شكل حضور الآخر (مرّة أخرى). وهو حضور لابس دقائق حياتنا وتفاصيلها، وأصبح جزءا من الذّات بعد أن كان، مهما اقترب، “آخريّا” وخارجيّا.

وإذا كان كتاب رشيد رضا (الخلافة أو الإمامة الكبرى) كتابا –علامة أرّخ لمرحلة الصّحوة كما أسلفنا، فإنّ كتاب سيد قطب (معالم في الطريق – 1964) هو العلامة الثّانية على بلوغ التشدّد والانغلاق مراتب قصوى ضمن مرحلة الصّحوة.

 وهكذا بات السؤال النّهضوي الأوّل خارج أفق تفكير تيّارات الصحوة. وحلّت محلّه أسئلة الحيرة والضياع لماذا نزداد انحطاطا؟ أين الخلل؟…

ولنا أن نسأل بدورنا سؤالنا الخاصّ بهذه الحقبة الموحشة من التّاريخ العربيّ التي اختلطت فيها السبل وبلغ التشوّش الفكريّ مداه، ولامست الصّحوة درجة مخيفة من التّدمير العدمي لكلّ القيم والأشياء:

ما العمل؟

يبدو لنا أنّ الخروج من التيه إنّما يكون بالعودة إلى نقاط الثّبات والانطلاق منها انطلاقة جديدة واثقة. وليست هذه النقاط سوى نقد الذّات ونقد كلّ ما يتراءى لنا على أنّه بداهة أو مسلّمة من المسلّمات، واعتماد مطرقة النّقد وحدها، إذ هي الكفيلة بأن يَميز بها الخطأُ من الصّواب والغثّ من السّمين. وهو إلى ذلك مسلك في الفكر يُطلب لذاته، لما له من قدرة، متى تسلّحنا به، على جعل الفكر في حالة يقظة دائمة، وتحفّز مستمرّ إلى الخلق والإبداع على غير مثال. وذاك هو التّنوير… تنوير الأذهان بنور العقلانيّة والمرونة والانفتاح وسائر القيم الحديثة، وبالفكر المستنير الذي يقبل الاختلاف والتنوّع. وتعويد العقول على ألاّ تجد في مقدّماتها عوائق تحول دون الالتقاء مع الآخر في منتصف الطّريق، وأن تتسلّح دائما بالقدرة على التخلّص من كل ما هو ميّت متخشّب في الموروث كما قال محمد عابد الجابري. وذلك هو العقل الذي سيشعّ فيضيء جوانب الحياة ومجالاتها المختلفة. وذلك بالرّغم من التحدّيات الفكريّة والإبستيمولوجيّة المعاصرة التي ثارت في وجه التنوير ذاته. تلك التحديات التي تحدّث عنها جورج سوريل في كتابه: العقل واللغة والمجتمع. ومنها: عدم القدرة على تعقّل العالم وفهمه على النحو الذي ساد منذ ق 17م إلى العقود الأولى من ق20. وذلك بظهور نظرية النسبية التي أربكت الوعي بالزمان وبالمكان وبالمادة والطاقة، واكتشاف سلسلة من المغالطات في معقل العقلانيّة نفسها، ويعني بها الرياضيات. فضلا عن الصدمة التي أحدثتها ميكانيكا الكمّ (ميكانيكا الكوانتم) ومفادها أن الواقع الفيزيائي في أعمق مستوياته هو لا حتمي وغير محدّد، وصولا إلى نهايات القرن العشرين التي شهدت تشكيكا في معقولية العلم برمته على يدي توماس كون وبول فييرابند الخ…

وهكذا يضاف إلى الحضور الطّاغي للآخر المتفوّق وتحوّلات هذا الحضور صعوبة فهم العالم، والتشكيك في قدرة الوعي البشري على تعقّل الأحداث والظواهر الكونيّة منها والانسانيّة الاجتماعيّة، ومع ذلك فإنّ قدر الإنسان العربي المعاصر، أن يكافح ويصارع ويواجه على جميع جبهات الفكر والواقع، لأنّ شرف الإنسان هو في هذا الجهاد، أمّا ثمرة جهاده فليس مسؤولا عنها كما يقول السّيد المسيح.

وانطلاقا من هذا الاقتناع تسعى مجلّة “نقد وتنوير” إلى إفساح المجال للباحثين والمفكّرين للقيام بهذه المهمّة النّبيلة، لا باعتبارها مهمّة يقتضيها التزام المثقّف إزاء أبناء جلدته في مطلق الأحوال فحسب، بل لأنّ سمة هذه الحقبة التي نعيشها تتّسم بالضبابيّة والتباس السبل نتيجة تشابك عوامل الانحطاط والتقهقر.

 وهكذا فإنّ العدد السّادس من مجلة “نقد وتنوير” قد ضمّ بين دفّتيه فنونا من المعارف النّقدية، توزّعت بين نقد الفكر الدّيني الموروث والانفتاح على علوم التربية الحديثة، ومعالجة الأفكار الفلسفيّة الأكثر معاصرة، وتأمّل أشكال العيش الحديث وأنماط التمدّن في الحواضر المعاصرة.

مقالات أخرى

مجلة نقد وتنوير – العدد التاسع عشر (آذار- مارس) 2024

مجلة نقد وتنوير – العدد الثامن عشر (كانون الأول- ديسمبر) 2023

القرآن في التّديّن الصّوفيّ

2 تعليقات

نادر سعود نادر العجمي 30 ديسمبر، 2020 - 9:57 م
مقاله رائعه يعطيك العافيه والخلل مازال موجود في البلدان العربيه وتدخل الغرب مازال مهيمن بصوره عير مباشره واصبح الامر مسلم به
نادر سعود نادر العجمي 31 ديسمبر، 2020 - 1:11 ص
اين الخلل سؤال جيد تطرحه المقاله يدور في اذهان اغلب الشعوب العربيه معروف اجابته تدخل الغرب في الشعوب العربيه موجود ونشعر به لكن متي سيتم انهاء هذا التدخل متي ستتقدم الشعوب العربيه واثار المقال العديد من الاسئله المثيره للاهتمام لماذا نخسر دائما ؟ ومتي ستنهض الشعوب العربيه دون الاتكاء علي الغرب
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد