تمرد ماجد الغرباوي.. قراءة جمالية

لا شكّ إنّ الذي ينعم النظر في نصوص الكاتب ماجد الغرباوي يجد أنّ هناك مساحةً واسعةً من الجذب الجمالي بين النصّ والقارئ، وخير مثال على ذلك القصة القصيرة جدّا التي بين أيدينا، والجذب الجمالي يتحقق في أمرين:

الأوّل أنّك يمكن أن تقرأها بصفتها نصّا قصصيا، فهي على وفق المقاييس الأدبيّة قصة قصيرة جدا.

        الشاعر قصي الشيخ عسكر

الثاني: أنك يمكن أن تقرأها بصفتها خاطرة أدبية أو فكرة جاءت بهذا الشكل الفني الرفيع.

الثالث: يمكن أيضا أن تُقْرَأَ بكونها مزيجا بين القصة والخاطرة حسب ذوق القارئ.

أي أن الكاتب وضع المتلقّي بين أمرين وخيّره أيهما يفضّل، قصة اللمحة أم النصّ وتخيير القارئ معناه مشاركته الجماليّة وتحفيزه على التفاعل مع النص بعدّ المفهوم الوارد فيما هو مكتوب يُعدّ همّا مشتركا بين المؤلّف والمتلقي.

لقد ورد في البداية: تمرّدت ذاكرتي فساورتني شكوك بلهاء.. جملتان جاءتا بتفاوت واسع مركزه ضمير المتكلّم

الذاكرة + التمرد + ياء المتكلّم

في البدء كان التمرد الذي يأتي هو السبب وهو النتيجة. والذاكرة مركز وسبب للشكوك. والشكوك تتساوى في قوتها الوجودية مع أسلها الأوّل التمرد فهي قوة فاعلة موازية

شكوك + تساور + بلهاء + ياء المتكلّم

أربع كلمات تقابل ثلاثة في حركة متوازية ليكون عدد الكلمات في التركيبة المتوازية سبعا  والكلمة التي صاغت التفاوت وميّزت الحركة القادمة هي الصفة (بلهاء) والحقّ أنها ليست تُعنى بالبله إنها صفة إيجابية وردت بصيغة سلبية فلو وضعنا بعدها أية صفة لصحت أن تكون:

شكوك عارمة

شكوك خلاقة

شكوك صامتة قديمة.. ناطقة.. لماحة..

لأنها احتلت قمة الرقم الهرمي وحرّكت الحدث الذي هو التمرد. إنّ التمرد حدث فاندفعت الشكوك التي ترتدي ثوب البله بعنف وبلهها هو عين الذكاء والتخمين والعبرة والاستنتاج والتأمل والتفاعل.

لكن كيف حدث التمرد؟

من خلال عمق النص وتراصّه المتين ندرك أن التمرد حصل في اليقظة والمنام وفي النهار والليل وفي الحاضر والماضي في الوقت نفسه يصبح الفرد ذاته هو الكون في لحظة انفجاره العميقة وقد استند النص الى الترادف الفعلي المتمركز بقوة عند الحركة وتداعياتها

وتسللتُ خلسة أطوف

أتصفح عوادي

عبر هذه الأفعال الثلاثة وهي التسلل والطواف والتصفح  يصل إلى هدفه حيث بدأ بحركة بطيئة يتطلبها واقع التسلل ثمّ تزداد الحركة شيئا ما بالطواف وهو أسرع لتحلّ بعدئذ حركة موضعية أبطأ من الفعلين السابقين وهي حركة التصفّح التي لا تعني أن نقلّب كتابا أو ورقة بل تحتلّ محل التأمّل العميق والتفكّر والبحث عن خلق وابداه وهو ما حدث من أجله التمرد الذي بدأ به النص

حتى نجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة جديدة نعرفها ولا نعرفها:

دنوت حذرا يستبد،

باغتني

 حاولت تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة

الأفعال السابقة تثبت نفسها من دون حرف عطف فلا الواو ولا الفاء ولا ثمّ الترتيبية إنها تترادف وتتوالى كأنها تكمل بعضها بعضا بشكل دوائر وهنا يأتي هذا الفعل الرابع ليصل بنا إلى القمّة. لاشك أن هناك أفعالا أخرى تداخلت لكنها أفعال مساعدة اشتركت لتضفي على تلك الحالة بعدا أعمق حتى نجد أنفسنا عتد ذروة الحدث. إن نفس المتكلّم تناثرت في دوائر ورسمت ذاتها  فانقسمت إلى عدد والمعرفة الحق تكون حين نتذكّر أن الدائرة هي الشكل المتكامل لذلك نجد أن الكون نفسه يتخذ وضعا دائريّا فقد انشطرت تلك النفس أو الذات على وفق الفعل الأخير بالرسم إلى سبع دوائر، ونذكّر أن أجدادنا السومريين اكتشفوا علّة الكون في الرقم (7) بينما يرى الفيثاغوريون أن العالم عدد ونغم والذي يطّلع على الديانات التوحيدية يجد أن العوالم السبعة من أراضٍ سبع وسماواتٍ سبعٍ تكاد تشغل مساحة واسعة من الفكر القلسفي والروحي والصوفي لأتباع هذه الديانات.

أقول الذي  يطلع على ذلك يدرك من النصّ أنّ الانشطار حدث في الواقع وفي الحلم أي في الزمن واللازمن هو ليس بواقع ولا حلم فقد تجردت الحالة عن كلّ مدلول ولم تته ولم نته فيها لأن المتكلّم بوعيه تجاهل الدوائر الأخرى وانشغل بالدائرة السابعة. فهل كانت الدوائر بمستوى أفقي واحد أم أنها عموديّة مثل برج بابل أو القبالة اليهودية أم بعموديّة إسراء النبي محمد (ص)

أيضا في هذه الحالة يتحقق التوازن

ممكن جدا أن تتبادل الدوائر حسب الترتيب من الرقم (1) إلى الرقم (7) في الموقعين الأفقي والعموديّ من غير ما نشعر بالزمن نفسه والمكان، أهم ما يميّز الحالم الواعي النائم الصاحي أنه لم ينشغل قط بالدوائر من (1) إلى (6) بل كان مشغولا ومندمجا بالدائرة السابعة (ربما وفق القراءة الصوفية تلك التي عندها سدرة المنتهى) ومن خلال هذه العبارة عبارة الانشغال ندرك أن الدوائر انقلبت بعد عمليّة الرسم من وضع أفقٍ متساوٍ إلى وضع ٍعمودي فالضمير المتكلّم في حالة ارتقاء لقد تركنا نحن المتلقين في أية دائرة كانت وغادر إلى الأفق الواسع حيث الدائرة الأخيرة التي تتموضع في القمّة. تأتي بعد ذلك أفعال التفاعل مع المرحلة السابعة. لقد كانت ثلاثة أفعال تمثل في البدء الاقتراب وهناك أفعال الاندماج التي تتحقق بأربعة فنجد التفاعل وفق الترتيب التالي:

 شغلتني السابعة ..

راحت تطوف ببطء،

 تأخذني نحو عوالم غريبة،

ثم تقودني الى نفق مجهول،

تسرح فيه بقايا ذكريات،

 تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس،

 فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها

كلها أفعال منسوبة إلى الضمير المؤنّث التي راحت تنشطر إلى أشلاء والتي رسمت دوائر فكان الجزء السابع أو الأخير وفق التسلسل الرقمي هو المحرك كونه دائرة احتلت رقما خلّاقا فحركت الأشياء، الدوائر بلغتنا أناث وأقواهن أثرا وفق الموروث الديني والفلسفي السابعة ولعل الدوائر درجات ولعلهن أرواح لكن الذي يميّز الأخيرة هو تلك الحركة الفعالة أنها تستأثر بالخلق الفعلي والأبداع لتترك لنا أثرا يخص نمط حياتنا المادية والروحية:

تسرح مادة

الذكريات معنى

وتسرح مضارع ومستقبل

والذكريات ماض، اسم ماض

وفي ذلك جمع للتناقض وهو دمج الفعل بالاسم والماضي بالحاضر وفق ما ترتأيه حركة الكون الأفقية والعموديّة.

هناك ملاحظة مهمّة بقيت حول النص وهي أنني قلت :

إننا يمكن أن نقرأه كونه قصة قصيرة جدّا لها مقومات الومضة الجميلة. ويمكن أيضا أن نقرأه بصفته نصا مركبا من أنواع أدبية مندمجة مع بعضها أما أنا فأنصح القارئ أن يقرأ هذا النص قراءتين: الأولى قصة لمحة والثانية قراءة نص مفتوح .

تمرّد : ماجد الغرباوي

          الأديب ماجد الغرباوي

 تمرّدت ذاكرتي، فساورتني شكوك بلهاء، أناخت بأحلامي المتعبة .. ليلا عقدتُ العزمَ وتسللتُ خلسة أطوف في أرجائها .. أتصفح عوادي الأيام حتى عثرت على أشلاءٍ موشّاة بحمرةٍ، أو بقايا بقع دمويةٍ .. أشلاء تعلوها ابتسامةٌ بليدة، بينما تَمَوَّجَ ظلُها فوق أرض رخوة، تصافح مطرا غاضبا.

كأني أعرفها، او التقيتها على قارعة الحياة. لا أدري أين؟ .. حاولت جاهدا لعلي أتذكر أطراف الحكاية.. هل قابلت تلك الأشلاء حقا؟ متى وكيف؟

دنوت حذرا يستبد بي رعبٌ مزلزلٌ، كأني على مشارف كابوس باغتني وأنا في نشوة حلم جنوني. حاولت ألمس تلك الأشلاء، تناثرت رمادا بين أناملي الذابلة، ثم رَسَمَتْ سبعَ دوائر تدور حول بعضها .. شغلتني السابعة .. لماذا راحت تطوف ببطء، تأخذني نحو عوالم غريبة، ثم تقودني الى نفق مجهول، تسرح فيه بقايا ذكريات، تُومئ نحو أفق بعيد حيث مطلع الشمس، فاستدير برأسي لعلي أتذكر أين التقيتها .. أي حزن يراود عينيها؟ كيف تجمّدت فوق شفتيها الباردتين ابتسامة باهتة؟ أي خطب ألمّ بها؟ أي فقدٍ أصاب أوصالها الممزقة؟.

حالت ظلمة الليل دون معرفة تفاصيلها، وظلت دوائرها السبع لغزا محيرا، أقترب في حلها تارة وأخرى أتيه في دلالاتها. وكلما دَنوتُ من السابعة شعرتُ بثقل جسدي يترنح على أرصفتها، حتى نفد صبري، وخارت قواي، وتبددت طاقتي، فرحتُ أندب حظي، لعل أحدا ينتشلني .. لكن أين التقيت تلك الأشلاء؟.

فقت قليلا ، أو كدت ..

ثم تذكرت فصرخت في عمق الليل

إنها أشلائي !!!!!

في 5 – 12 0 2013

سيدني – أستراليا

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

1 تعليق

ماجد الغرباوي 13 ديسمبر، 2020 - 3:16 م
أتقدم بجزيل الشكر للأخ الأستاذ الروائي والناقد الجدير الدكتور قصي الشيخ عسكر، قراءته لنصي الأدبي: (تمرّد). كانت سياحة نقدية من نوع مختلف، وقراءة في ما وراء دلالات الافعال ومدى تأثيرها على النص وحركة تدفقه، وهي كما جاء في عنوانها تأمل جمالي في مضامينها. كما اشكر نقد وتنوير نشر المقال، سيما سعادة الاستاذ الدكتور علي أسعد وطفة. له خالص محبتي واحترامي
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد