الأنوار الفرنسية ومسألة التربية

الأنوار الفرنسية ومسألة التربية

“لم تطمح فلسفة القرن الثامن عشر إلى تفسير العالم فحسب، بل طمحت أيضا إلى تغييره”

Koyré, A., 1971, «Conférence sur Condorcet » dans Etudes d’histoire de la pensée philosophique, Gallimard, p107

 

لن نعرض، في سياق هذه المقالة، لإشكال التربية كما صاغته ونظرت له الأنوار الألمانية، ذلك أن الأستاذ رولي قد بين بما فيه الكفاية، أن مسألة تعميم المعرفة وتنوير العقول قد ارتبطت، في ألمانيا القرن الثامن عشر، بالمرجعية الدينية وأساسا بمعضلتي الوحي والتصميم الإلهي. في حين تجاوز المشكل التربوي، في فرنسا، القضايا اللاهوتية لعلاقته الوثيقة بالعامل السياسي بفعل الآثار القوية التي خلفها الحدث التاريخي الحاسم: الثورة الفرنسية. صحيح أن مفهوم الاستبداد المستنير، الذي أثير في ألمانيا فريديرك الثاني، يشير إشارة واضحة إلى الخلفية السياسية التي تؤثر، إيجابا أوسلبا، في جميع مجالات الحياة المدنية بما فيها مجال التربية والمعرفة. إلا أن تفكك بروسيا القرن الثامن عشر حال دون تأسيس رؤية تربوية موحدة على المستوى القومي. وبعبارة أخرى، لم تفرز ألمانيا التنوير، بفعل التمزق الذي ظلت تعاني منه، نخبة وطنية قادرة على صياغة مشروع تربوي متكامل وقابل للتحقق في إطار مؤسسة تربوية عمومية.

إن الأمر مخالف تماما بالنسبة لفرنسا، إذ سيتم، لأول مرة في تاريخ الممارسات التربوية، صياغة رؤية نسقية تربط الفعل التربوي بثلاثة معطيات أساسية: القوة العمومية أو الدولة (مؤسسة الجمهورية)، الثقافة والعلوم والآداب (حركة التنوير)، المدرسة (التعليم العمومي). فإذا كانت إرادة التعلم والقدرة على امتلاك الثقافة وفن تدبير الشؤون العامة حكرا على نخبة جاه أو مال أو سيف، فهذا معناه أن تعميم التعليم وترويج الأنوار ودمقرطة السلطة ترمي جميعها صوب غاية سامية ونبيلة: تغيير العالم.

فلم يعد الهدف من وراء مؤسسة التربية هو اكتساب مهارات وامتلاك معرف من أجل الاندماج في بؤرة المجتمع السائد فحسب، وإنما أيضا في الانفتاح على حركة التفكير المعاصرة (الأنوار) والمساهمة في ترسيخ الدولة العصرية من أجل تغيير الذهنيات والممارسات ومجاوزة النظم التقليدية التي طالما جثمت بثقلها على الذات والآخر والعالم.

لكن علينا أن لا نفهم أن هذا التصور قد تم إنتاجه من عدم. فقد كان، على العكس من ذلك، وليد صيرورة تاريخية محددة امتدت من 1753 (تاريخ نشر مقال: “إعدادية Collège” في الموسوعة Encyclopédie) إلى 1793 (السنة التي أنهى فيها كوندورصي مشروعه الخاص بإقرار التعليم العمومي). فطبيعي أن تعرف المسألة التربوية، طيلة هذه المدة، نقاشات حادة وصراعات مريرة بين تيارات أنوارية تنتمي إلى حساسيات سياسية وإيديولوجية وروحية متنوعة. وعليه يمكن تلخيص مسألة التربية، كما أشكلتها، منذ البدء، الأنوار الفرنسية في المفارقة التالية: إن الإعلاء من شأن التربية والعمل على تعميمها يؤدي حتما إلى زعزعة النظام وإحداث القلاقل الاجتماعية، في حين أن الحط من قيمتها والتقليص من دورها يرسخ الجهل والاستبداد ويسبب على المدى البعيد، انهيار النظام برمته، إن لم يفض في النهاية إلى تفشي حالة اللانظام. وبصيغة أوضح وتعبير أقرب من واقع هذه المفارقة كما عاينها الأنواريون: إن الإفراط في مدح التربية شيء مؤلم بالنسبة للبعض، كما أن التفريط فيها هو الألم في حد ذاته، بالنسبة للبعض الآخر.

كيف يمكن حل هذه المفارقة؟ لن يتأتى ذلك، كما قد يتبادر بداهة إلى الذهن، في إيجاد حل وسط أو صيغة تركيبية بين الحدين بالمعنى الأرسطي. إن الأمر يستلزم، كشرط إمكان ضروري، الوعي الدقيق بالتجذر العميق للفعل التربوي في حقل التجربة السياسية. كما أن الانتقال من الإدراك النظري للمفارقة إلى الحل الفعلي لها، يترجم في تاريخ الفلسفة الحديثة تلك النقلة النوعية، التي تمت في فرنسا القرن الثامن عشر، من الأنوار المبكرة إلى كوندورصي واليعاقبة Jacobins؛ من سلطة التاج والمنبر إلى مؤسسة الدولة الديمقراطية؛ من الإصلاح إلى التغيير الجذري.

تحاول الصفحات التالية مقاربة هذا التطور من أجل الإنصات إلى أصدائه الحداثية التي ما تزال تقرع أسماعنا بإلحاح منذ قرنين من الزمن. وسنرى كيف تطورت المسألة التربوية، في عصر الأنوار الفرنسية، من موضوع للنظر والتأمل والسجال والمناظرة (I    )، إلى مشكل عيني يتطلب حلولا عملية ملموسة (II)، لكي يصبح، في النهاية، عاملا جوهريا من عوامل المواجهة السياسية، وبالتالي مؤشرا دالا على مواقف واختيارات محددة من الإنسان والمجتمع والحضارة(III).

ـ I ـ

لقد عرف القرن الثامن عشر الفرنسي نفسه بأنه عصر الأنوار Âge des lumières، الشيء الذي جعله يحتل مكانة خاصة في التاريخ البشري برمته. وما كان لهذا القرن أن ينفرد بهذا الوضع المتميز، لو لم يقدم نفسه على أساس أنه كيان موحد ومنظم ومتجانس، يتمتع بمشروع هادف يدعو إلى قطع الصلة بالمراحل السابقة عليه لكونها عصور انحطاط وظلمات وأحكام مسبقة. من هنا جاء شغف مفكري الأنوار بالتربية. ذلك أن إصلاح العالم وتغيير المجتمع والذهنيات يشترط، لا محالة، تكوين أو إعادة تكوين الإنسان، وذلك بتهييئه منذ صباه لامتلاك القدرة على التفكير وإصدار الأحكام وممارسة الأفعال وفق مقتضيات ومبادئ العقل الكافي المستقل.

صحيح أن الاهتمام بدور التربية في الحياة بشكل عام لم يغب عن الأذهان في العصور السابقة. إلا أن هذا الدور كان محدودا جدا. فانشغالات القرن السابع عشر، مثلا، انصبت، امتدادا للعصر الوسيط، على تكوين الخاصة المكونة من الأمراء ورجال الدولة وعلماء اللاهوت والقضاة والأطباء. لذا كان من اللازم على مشروع الإصلاح الأنواري أن يعمل على نقد الطابع النخبوي للتربية الذي ساد وترسخ منذ العصر الوسيط حتى يصبح التعليم حقا شعبيا تتمتع به جميع فئات المجتمع.

لكن، وبإمعان النظر، يتبين أن مفكري الأنوار اهتموا، في البداية، بالتربية الخصوصية Education privée في أفق أدب التكوين Le Roman de formation كما رسم معالمه الأولى فينلون Fénelon في نهاية القرن السابع عشر (تم نشر مغامرات تيليماك Les aventures de télémaque سنة 1699). وفي هذا السياق ألف روسو سنة 1740 مشروعه لتربية السيد دو سانت ماري Projet d’éducation de M.de Saint-Marie، كما كتب سنة 1762 إميل أو حول التربية Emile ou sur l’éducation. وهذان العملان ينتميان حقا إلى القرن الثامن عشر من الناحية الزمنية، إلا أن علاقتهما به، من الناحية الروحية، تبقى، في تقديري، مثار نقاش. فبتدقيق النظر، يتبين أن إميل، خلافا للاعتقاد السائد، يندرج ضمن الكتابات ذات النفس الرومانسي (Les rêveries, les confessions, la nouvelle Héloïse). والمطلع على هذه المؤلفات الأدبية سيدرك لا محالة أنها تصف برقة الانطواء على الذات resserement والحنين إلى الطبيعة وتمجيد الحساسية والحلم. وهي حبكات وجودية أكثر منها مضامين معرفية، ترسم للذات آفاق الانفلات من واقع بئيس. فلا غرابة إن كانت هذه الموضوعات Thèmes تردد أصداء رومانسية، الشيء الذي يجعلها تتعارض مع التصور الأنواري للتجربة السياسية، كما نظر له روسو من خلال مفاهيم المواطنة الفاعلة والإرادة العامة والعقد الاجتماعي. وعبثا حاول أحد الباحثين الجادين أن يثبت مرجعية أنوارية لإميل مما جعله يضني نفسه لإثبات علاقة معدومة أصلا، ويهدر قواه لتكسير أبواب هي في الواقع مفتوحة على مصراعيها.

وعلى أية حالة، فإنه لا يمكن تأويل الاهتمام بالتعليم الخاص Préceptorat ، خلال فترة الأنوار الأولى، تأويلا سوسيولوجيا؛ كأن نرى فيه هيمنة النماذج الأرستقراطية في التربية، بل إنه يعود أساسا إلى خلفيات واعتبارات ببيداغوجية صرفة. بمعنى أن التعليم الخاص شكل بالنسبة للحداثيين مناسبة للخروج من الجمود والرتابة التي ظلت تتميز بها الإعداديات الدينية، سواء سهر على تسييرها اليوحنيون Jansénistes (نسبة إلى اللاهوتي الهولندي Jansénius الذي أسس مذهبه على الاعتقاد المتشدد في قضاء الله الأبدي Prédestination)، أو اليسوعيون (نسبة إلى الجمعية الكاثوليكية المسماة بصحابة يسوع Compagnie de Jésus التي أسسها الإسباني إنياصيو دو لويولا Ignacio de Loyola، والتي تقر بمبدأ العهود الثلاثة: الزهد، العفة، الطاعة).

لقد كانت البرامج الدراسية تتمحور إجمالا، في هذه الإعداديات، حول الخطابة اللاتينية والفلسفة السكولائية كما هو الحال في العصر الوسيط. ورغم بعض الانتقادات الخجولة، فقد ظل هذا التقليد ساريا حتى منتصف القرن الثامن عشر، حيث بقيت اللاتينية هي لغة التكوين الرئيسية لأنها لغة النصوص المقدسة التي يطلب من الدارسين استضمارها وتأويلها. وكرد فعل على هذا الوضع، خصص دالامبير D’Alembert جزءا من مقاله حول “الإعدادية”، الذي نشر بالموسوعة سنة 1753، للدعوة إلى فصل رجال الدين من المعاهد الدراسية واستبدالهم بمدرسين تشرف على تكوينهم وتعيينهم سلطات حكومية علمانية. وهذا معناه أن القضاء على الركاكة والانحطاط الفكري والثقافي، لا يتحقق إلا بفضل التكوين العقلاني لهيأة التدريس. لذا لم يكتف دالامبير بالنقد والدحض والرفض، بل قدم، في نهاية مقاله، بديلا متناسقا يمكن اعتباره طلائعيا بالنسبة لعصره. فقد دعا إلى دراسة معمقة للغة والنحو الفرنسيين، وإقرار إنشاء النصوص، نثرية أو شعرية، بالفرنسية عوض اللاتينية، مع اعتماد هذه الأخيرة في قراءة النصوص الكلاسيكية في لغتها الأصلية. كما أكد على دراسة التاريخ ومعرفة اللغات الأجنبية، وإثبات أسبقية الفلسفة على الخطابة، علما أنه “يلزمنا ممارسة حسن التفكير قبل إتقان فن الكتابة”. لينهي اقتراحاته بالدعوة إلى تدريس الأخلاق الرواقية وتلقين مبادئ الهندسة والفيزياء.

وعلى الرغم من أن هذا البرنامج الإصلاحي يبدو، من أوجه عديدة، متقدما بالنسبة لعصره، فإن صاحبه يبقى مثقفا يصر على تفضيل التربية الخصوصية في مقابل التربية العمومية. ذلك أن هذه الأخيرة تعاني، في نظر دالامبير، من سلبيات عديدة يمكن تلخيص أهمها في اثنتين أساسيتين: الأولى بيداغوجية، وتكمن في أن المعلم ملزم، لكي يستفيد منه أكبر عدد ممكن من التلاميذ، بأن يلجأ إلى التبسيط والتكرار. الشيء الذي يتم على حساب الأذكياء. والثانية أخلاقية واجتماعية، لأن الإعدادية تعمق الاختلاف بين الفقراء والأغنياء، الأمر الذي يرسخ لدى أبناء النبلاء “مشاعر الكبرياء تجاه الآخرين”.

وسنكون مجحفين إذا ما نحن نعتنا دالامبير بالنخبوية، وجائرين إذا ما نحن اتهمناه بمغازلة الأرستقراطية لكونه يحط من قيمة التربية العمومية. الظاهر أن الإدراك الدقيق للدلالة الاجتماعية والسياسية والثقافية للتعليم العمومي، لم يتم إلا بعد الثورة الفرنسية ونشأة مفهومي الأمة والوطن. وبصيغة أوضح، فإن التعليم العمومي بكونه مؤسسة وطنية تعمل من خلالها الدولة العصرية على تعميم المعرفة في إطار تكافؤ الفرص بين مواطنين متساوين، شيء لم يتم التفكير فيه من قبل الموسوعيين، ولا من قبل فولتير كما سنرى فيما بعد.

ـ II ـ

لقد تعامل رواد حركة التنوير خلال سنوات طويلة مع الإعداديات كما لو كانت كبش فداء لأخطاء التربية الدينية بشكل عام. الشيء الذي جعل الشهادات تتعدد وتتنوع حول الوضع السيء والطابع العقيم للدراسة بين الجدران العتيقة لهذه المؤسسات. وهكذا في رد على رسالة من السيد كولنو Collenot، يلتمس فيها هذا الأخير من فولتير استشارة حول أحسن المعاهد التربوية، أجاب فولتير قائلا: “إن الاجتهاد والصحبة الطيبة هما أحسن المربين على الإطلاق. إن التربية السائدة في الإعداديات والأديرة كانت دائما سيئة للغاية، حيث كان يتم تدريس الأشياء نفسها لمائة طفل يتمتعون بمواهب مختلفة”. ومما لا شك فيه أن كلاما مثل هذا لا يجدي فتيلا من الناحية العملية، مما حدا بالأستاذ مورني Mornet إلى التأكيد على أن نقد المناهج التربوية ظل طيلة هذه الفترة عموميا وفضفاضا. إلا أن حدثا حاسما سيقلب “المعطيات العملية للمشكلة رأسا على عقب”. ويتعلق الأمر بحل جمعية اليسوعيين وحظر نشاطاتها في مجموع التراب الفرنسي سنة 1762، ثم طردهم من الإعداديات سنة 1764.

لقد اعتبر هذا الحدث بالغ الأهمية، في تاريخ الممارسات التربوية، لأنه أخرج المشكلة التربوية من غياهب التأملات المجردة من ناحية، وساهم في إبراز أبعادها العملية من ناحية أخرى. فتوقيف اليسوعيين عن التدريس طرح، لأول مرة، مشكل تكوين المدرسين. فكان على الحداثيين إذن أن يكفوا عن النقد والدحض والرفض ويقدموا حلولا إجرائية قابلة للتحقق.

لقد قرب التفكير في الآليات العملية، التي من شأنها أن تساهم في إصلاح الوضع المادي والبشري للإعداديات، الحداثيين من إدراك الدلالة العصرية للتربية العمومية. وهكذا لم يعد الأمر متعلقا بإيجاد الطريقة الناجعة من أجل ضمان تربية متينة، وفي أحسن الظروف، لنخبة من المحظوظين، وإنما في البحث عن صيغة تمكن من إرساء قواعد تكوين جيد لأكبر عدد ممكن من التلاميذ. وفي هذا السياق، عرفت السنوات الممتدة من 1762 إلى 1775 سيلا من الكتابات التي تقدم مقترات إصلاحية في شكل مشاريع أو برامج أو تصاميم. وكان أهم هذه الكتابات كتاب تحت عنوان مبحث في التربية الوطنية Essai sur l’éducation nationale لصاحبه لا شالوطي La Chalotais.

وسنتوقف قليلا عند هذا الكتاب لأنه  جذب انتباه فولتير Voltaire  وأثار إعجابه، الشيء الذي سيمكننا من التعرف على آراء واختيارات هذا الأخير فيما يخص قضايا التربية. فنحن نعلم أن علامة القرن الثامن عشر (فولتير) كان غزير التأليف، حيث مارس فن كتابة الشعر والأدب والتاريخ والفلسفة بموهبة ونجاح قل نظيرهما. إلا أننا نستغرب لكونه لم يخصص حيزا، ضمن مؤلفاته الكثيرة، للتربية. ولا يتسع المجال هنا للنبش بحثا عن العلل، الظاهرة والخفية، التي تسببت في التزام هذا الصمت المدهش. لكن فولتير الذي عرف أيضا بيقظة الذهن وحب الاستطلاع، كان على علم دقيق بكل ما يحدث في عصره، وخصوصا على مستوى السياسة والثقافة. وقد راسل معاصريه من الأصدقاء والمقربين حول الأحداث التي أثارت انتباهه. وهكذا فلا مناص إذن من العودة إلى مراسلات فولتير، إذا نحن شئنا التعرف على اختياراته التربوية.

لقد صفق فولتير لصدور “المبحث”، واعتبر لاشالوطي فيلسوفا أكثر منه وكيلا عاما ببرلمان مدينة رين Rennes، لأنه عبر في مبحثه عن الرغبة في علمنة التعليم وفصله فصلا مطلقا عن سلطة الكنيسة. كما هاجم فيه الطابع الأولترامانتني Ultramontain للحياة الفرنسية. إلا أن ما يثير دهشتنا ويدفع بنا إلى إعادة النظر في الأحكام السائدة حول فولتير كـ”وكيل للأنوار”، هو كونه يشاطر آراء لاشالوطي المحافظة بشأن تعميم التعليم ليشمل الفئات الشعبية. يؤكد لاشالوطي في مبحثه أن “مصلحة المجتمع تشترط ألا تتجاوز معارف الشعب حدود انشغالاته”. ويجد هذا الاقتراح أذنا صاغية لدى فولتير، حيث بعث له توا رسالة بتاريخ 29 فبراير 1763، يقول فيها: “أشكركم سيدي لمنعكم الدراسة بالنسبة للفلاحين. فأنا الذي أحرث الأرض، ألتمس منكم الحصول على عمال يدويين، لا علماء مقصوصي الشعر”.

ويعلل الأستاذ مورتيي هذا الموقف السلبي من إمكانية تنوير الفئات الشعبية على النحو التالي: “ما يخشاه لا شالوطي وفولتير ودالامبير –وهم جميعهم محافظون سياسيا- هو تعميم التمدرس بدون أن يكون لذلك منافذ اقتصادية ملائمة، الأمر الذي ينجم عنه إفراغ القرى واكتظاظ الأديرة.

الحاصل أن موقف فولتير من تعميم التعليم مقلق ومستفز للغاية. فكيف يجوز للعلامة المتنور، الذي ما يزال يكنى إلى يومنا بوكيل الأنوار بلا منازع، أن يعبر عن هذه الرؤية المحافظة فيما يخص التربية؟ هل يجوز أن نكون علمانيين حداثيين على المستوى العقائدي وتقليديين محافظين على المستوى التربوي؟ ما الذي جعل فولتير يتنكر لمبادئه وقناعاته ساقطا بذلك في النخبوية؟ من السهل بالنسبة لنا اليوم أن نحاكم موقف فولتير السلبي من إمكانية تعميم التعليم والمعرفة، وأن ندينه بشدة معتمدين في ذلك على مرجعية حقوق الإنسان الكونية كما صاغتها لاحقا الثورة الفرنسية. إلا أننا سوف نكون متسرعين، لا محالة، في إصدار هذه الأحكام –المشروعة أصلا- ولن نكون سوى مستبقين للأحداث. علينا أن نتأنى، في البداية، من أجل إدراك أصل خيبة أملنا في موقف فولتير. إنه يعود بالأساس إلى تصور ذهني مسبق هيمن على تمثلاتنا لصورة فولتير الليبرالي ذي النزعة الإنسانية. وهي صورة روج لها مؤرخوا الثقافة الفرنسية في القرن التاسع عشر عندما اعتبروا أن أعمال فولتير تشكل كلا موحدا ومتجانسا، وأنها ترمي جميعها إلى تغيير الأوضاع وتعميم الأنوار على جميع مستويات الحياة. إلا أن الأمور ليست على هذا القدر من الوضوح، وهي بالتالي لا تتحمل تفسيرا إما بالأبيض أو بالأسود. ففولتير الذي اكتوى بحرقة الأسئلة العظمى (ما أصل الشر في العالم؟ Candide)، ودافع بشجاعة مذهلة عن ضحايا التزمت الديني (قضية كالاص L’affaire Calas)، وأرهفت مشاعره، بصدق، عذابات البشرية أمام فواجع الطبيعة (زلزال لشبونة)، ففولتير التسامح والسخاء والدفء، يتناقض مع فولتير المحافظ، الذي يحتاط من النتائج السلبية التي يمكن أن يفضي إليها تغير مفاجئ في الأوضاع.

بيد أن مساندة فولتير للموقف الداعي إلى عدم تعميم التربية بالنسبة للفئات الشعبية إيجابي من الناحية المنهجية. ذلك أنه سيمكننا من أن نضع اليد على متغير جديد دخل مجال السجال حول قضايا التعليم. ويتعلق الأمر هنا بنشأة البعد الاقتصادي والثقافي للتربية. وهذا معناه أن إصلاح التعليم لا يمكن أن يتحقق فعليا إلا بفضل تحول ديني واقتصادي جذري. إن تحديث التعليم وتعميمه لا يتعلق، في نظر فولتير، بتوفير الشروط اللازمة على مستوى الموارد المادية أو البشرية، وهو لا يستلزم حلولا تقنية محضة. إن الأمر يتجاوز هذا بكثير لأنه يطرح مسألة الغاية والمآل. فنحن، وإن نجحنا في توفير الإمكانيات ومحاربة الأمية الطاغية على الفئات الشعبية، سنبقى، مع ذلك، محاصرين بالسؤال الجوهري: أي شيء نريد تحقيقه؟ ونحو أي مصير نريد السير؟ وإذا كان فولتير يقترح علينا قياس الغاية والمآل بمقاييس الاقتصاد والعلمانية، فكيف سيتم ذلك؟

يدعونا فولتير بعقلانيته المألوفة إلى وضع النقط على الحروف وتحديد المفاهيم وتوضيح الرؤية قبل التسرع في اقتراح أجوبة واهية. المقصود ضمنيا وراء تعميم التعليم هو ترويج ودمقرطة الأنوار حتى تستفيد منها جميع فئات الشعب. إن طرح الإشكال بهذه الصيغة مغلوط، في نظر فولتير؛ إذ علينا، بداية، أن نحدد مفهوم الشعب ومفهوم الأنوار. يقر فولتير أن الشعب لا يشكل وحدة متجانسة، بل هو مكون من مجموعة من العمال البائسين الذين يعانون من ضعف في التأهيل، ونخبة من الحرفيين المختصين الذين يتمتعون بشيء من الثقافة التقليدية، وأغلبية ساحقة من الرعاع والأوباش populace التي غالبا ما تسقط طريدة سهلة في أيدي الشعوذة والتزمت. ولذا يعتقد فولتير أنه من اللازم الإبقاء على يد عاملة غير مثقفة وغير متعلمة، فهو يخشى أن يؤدي تعميم التعليم على هذه الفئة إلى إخلاء القرى من الفلاحين وإفراغ الأوراش من الحرفيين. وهكذا فنحن الآن أمام حجة ديموغرافية واقتصادية “صادرة عن أحد كبار الملاكين العقاريين”، كما يؤكد الأستاذ مورتيي.

وفي هذا السياق الداعي إلى تجنب تعميم التعليم مخافة الوقوع في أزمة اقتصادية، كتب فولتير بتاريخ فاتح أبريل 1766 إلى داميلافيل Damilaville يقول فيها: “أظن أننا لا نتفاهم في موضوع الشعب الذي تعتقدون في أنه أهل لأن يتعلم. فأنا أعني بالشعب الرعاع التي لا تملك شيئا سوى سواعدها للاشتغال. أشك فيما إذا كان هذا الصنف من المواطنين يقوى على امتلاك الوقت أو الإرادة لأجل التعلم. إنهم سيموتون جوعا قبل أن يصبحوا فلاسفة. ويبدو لي أساسي أن يكون هناك معوزون جاهلون. فلو شئتم أن تستصلحوا مثلي أرضا بورا، وكنتم تمتلكون محاريث للقيام بذلك، فسيكون لكم رأي مماثل لرأيي، حيث ستدركون أنه لا يلزم تعليم العامل، وإنما البرجوازي الطيب، قاطن المدن.

لم نعد الآن أمام مفكر أنواري يدافع عن المنبوذين (Calas) ويتمرد على سلطة الكنيسة (اسحقوا الخزي Ecrasez l’infâme)، وإنما أمام مالك أرض يصر على أن يحتفظ لنفسه بيد عاملة وفيرة ورخيصة الكلفة. ولقد أكد هذا الموقف الأرستقراطي في رسالة بعث بها إلى السيد لانغي Linguet بتاريخ 15 مارس 1767: “لنميز داخل ما تسمونه شعب، بين المهن التي لا تتطلب سوى عمل السواعد وللإرهاق الدائم. فهذه الطبقة كثيرة العدد، وهي لا تعرف شكلا آخر من أشكال التسلية والبهجة سوى الذهاب إلى القداس والملهى الليلي، حيث الناس يغنون وحيث بإمكانها هي أيضا أن تغني. لكن الحرفيين الأكثر سموا، والملزمين دواما، بفعل مهنهم، بالتفكير وإتقان أذواقهم، فهم مدعوون إلى توسيع ونشر أنوارهم. لذا أصبحوا اليوم يمارسون المطالعة في مجموع أوروبا”.

على تقسيم العمل أن يبقى إذن قائما، حتى لا نقع في الفتنة والعنف بفعل القلاقل والأزمات التي يمكن أن يقود إليها انفتاح مفاجئ وغير منظم على المعرفة والثقافة. إن الهرمية الاجتماعية ومقتضيات الحياة العملية، بشكل عام، تشترط أن يبقى الفلاح في وضعه والبرجوازي في موقعه، لأن في ذلك خير المجتمع وسعادة البشرية. ودفاعا عن هذا الموقف، كتب فولتير إلى الكونت دار جانطال Le Comte D’Argental رسالة بتاريخ 11 مارس 1763 يقول فيها: “إن الذي يستصلح حقلا بورا، يسدي نفعا للبشرية أكثر من كل ملطخي الورق في أوربا”.

صحيح، إن هذه الأحكام القاسية في حق الفئات العريضة من الشعب لا يمكن أن تفسر إلا تفسيرا طبقيا. لكن هل يلزم، كما يرتئي الأستاذ مورتيي، “الرمي بفولتير بين المنظرفين المنشغلين بالبحث عن الوسيلة التي تمكنهم من الإبقاء على الشعب في الظلمات من أجل الحفاظ على امتيازاتهم الاقتصادية والاجتماعية؟”. يجيب مؤرخ القرن الثامن عشر بالنفي القاطع. ويدعونا من أجل فهم هذه المبررات النظرية التي حدت بفولتير إلى اتخاذ موقف سلبي من تعميم التعليم على الشعب، إلى معرفة مصادراته الكبرى في فلسفة التاريخ. ذلك أن فولتير قد دافع عن تصور خاص للتقدم في التاريخ، مفاده أن التغيير حركة بطيئة تتم وفق منطق خاص ومعقد. لذا، يجب علينا ألا نعمل على تسريع حركة التاريخ وألا نستبق الأحداث، لأن ممارسة مثل هذه من شأنها أن تؤثر سلبا في مسيرة التقدم وأن تعطل حركته. إن زمن الأنوار آت لا ريب فيه، لكنه آت عبر لحظات متلاحقة يكمل بعضها البعض، تبعا لنموذج الدوائر المتداخلة. وهل معنى هذا أنه يجب أن نبقى مكتوفي الأيدي؟ لا، بل يجب أن نعمل على تنوير الجماهير دون تعليمها. وبعبارة أخرى، يجب إصلاح الذهنية قبل تكوينها، وذلك لأن الجماهير لا تحسن استعمال العقل لهيمنة التزمت واستيلاء الشعوذة عليها. لا بد إذن من إقرار إصلاح ديني يخلص الجماهير من مخالب الكاثوليكية المتعصبة. وهذا معناه أن الجماهير لن تصبح أهلا لتلقي المعرفة إلا عندما تصبح دهرية Déises تدين بدين “أكثر إنسانية وتسامحا واعتدالا”. يبقى إذن فولتير مصلحا هادئا أكثر منه ثوريا متحمسا. إنه يعتقد في إمكانية الإصلاح من الأعلى إلى الأسفل، وفاء لشعاره المحبب الداعي إلى فضح الدناءة والخزي اللاهوتيين. ومع ذلك، فإن الحركة الثورية المتطرفة، أعني اليعاقبة وروبيسبيير Robespierre، ستلومه بقساوة على موقفه النخبوي من الشعب. ولم يفلت أيضا من نقد أهل السماحة والصفح؛ أعني الرومانسيين. فالسيدة دو سطايل Mme De Staël منظرة الفكر الرومانسي الأولى، التي لا تمت بصلة إلى التطرف واليعقوبية، تقول بصدد موقف فولتير من الشعب:”ذلقد كان فولتير يحب الأسياد العظماء، وكان يحب الملوك. كما كان يرغب في تنوير المجتمع بدل تغييره”.

وسيطرح مشروع التغيير هذا مع منظر المدرسة العمومية، كوندورصي، بعد الثورة الفرنسية.

ـ III ـ

مع اليعاقبة وكوندورصي سندخل فضاء “البيداغوجيا الثورية”، أي مجال التصور التربوي الذي تولد عن ثورة 1789. إنه مجال شاسع من النظريات والتجارب المرتبطة بمرجعيات متعددة ونزعات متعارضة. ورغم التضارب في الرأي والاختلاف في المقاصد، فإن المحاولات البيداغوجية التي تنتمي، بشكل أو بآخر، إلى الحركة الثورية تلتقي وتتقاطع في مجموعة من القناعات والاختيارات الجوهرية التي يمكن أن نختزلها في مبدأين أساسيين: أولهما، يركز على علاقة الثورة الفرنسية بحركة الأنوار بشكل عام. وثانيهما، يحدد موقع المؤسسة التربوية –التعليم العمومي- ضمن مؤسسات الدولة الديمقراطية: السلطة الدستورية، الاقتراع العام، العدالة الاجتماعية.. فهذان المبدءان متكاملان على مستوى الرؤية والأهداف، لأن اعتبار الثورة وارثا موضوعيا للأنوار يربطها بأسلاف محددين. ومن ثمة يمنحها شجرة أنساب وشرعية ثقافية وفكرية. الشيء الذي يتضمن واجب ترويج الأنوار ومحاربة الأحكام المسبقة وتزويد عامة الشعب بالمعارف، علما أن حرمانه من هذه المعارفة خطأ يتحمله، بالطبع، العهد القديم كنظام استمد قوته من الجهل، شأنه في ذلك شأن كل نظام يبني قوته وسلطته على الامتيازات والطغيان.

نحن الآن أمام تصور ثلاثي الأبعاد: السياسة، التربية، الثقافة، بمعنى: الدولة الديمقراطية (الدستور)، المؤسسة التربوية (التعليم العمومي)، فكر الأنوار (ثقافة العقل في العلوم والآداب والفنون).

كيف يمكن تحقيق هذه الثلاثية؟ يقر اليعاقبة أن ذلك لن يتحقق إلا بالمذهبة Endoctrinement والحراسة Surveillance، وإن اقتضى الأمر الرعب Terreur. في حين يرى كوندورصي أن الغاية النبيلة تستلزم، من أجل تحقيقها، وسائل أنبل. لذا يجب اعتماد العقل السليم المستقل والحوار الديموقراطي وتجنب، ما أمكن، إكراهات السلطة. إن ما يبرر الاختلاف الجذري بين هذين التصورين هو الانتماء الإيديولوجي. ذلك أن اليعاقبة شكلوا قوة فاعلة داخل التيار الجبلي المتطرف Montagnard، في حين كان كوندورصي قطبا من أقطاب التيار الجيراندي Girondins المعتدل. ولسنا في حاجة إلى عرض التصورات البيداغوجية التي حاولت جمعية اليعاقبة تطبيقها خلال ديكتاتورية الجبليين، التي امتدت من 1793 إلى 1794، والتي ساد فيها الرعب تحت قيادة روبيسبيير Robespierre. فقد بينت البيداغوجيا اليعقوبية، خلال هذه الفترة الوجيزة والدامية، أن لها ميولات كليانية، إذ لم تتردد في استعمال الوشاية والرقابة والعنف. الشيء الذي ساهم في إفقادها كل مشروعية ومصداقية.

وقبل أن نعرض إلى نظرية كوندورصي في ضرورة التعليم العمومي، تلزم الإشارة إلى الأسئلة  الكبرى التي دار حولها النقاش المذهبي بين اليعاقبة وكوندورصي. ويمكن أن نسوق هذه الأسئلة على الشكل التالي: هل يجب على التعليم أن يخاطب الكبار أم الصغار؟ وعلى أية وسائل يجب أن نعتمد لتحقيق ذلك؟ ما هي حدود تدخل الدولة في مجال ظل تقليديا يهم الأسرة دون غيرها؟ ألا يعد إقرار التعليم الإجباري سطوا للدولة على الصلاحية التقليدية للأب؟ هل يجب التركيز على التربية بكونها تكوينا للمشاعر المدنية وترسيخا للحماس، أم يلزم التشديد على التعليم بكونه جهازا بيداغوجيا صرفا، يعمل على تحسين الكفاءات وتنمية الحس النقدي الضروري بالنسبة لمواطنين مطالبين بالقيام دواما باختيارات سياسية؟ هل يجب على الدولة أن تقوم بضمان التعليم الأساسي الأولي للجميع أم يلزمها أيضا أن تأخذ على عاتقها مسؤولية تكوين نخب جديدة وأن تساهم، بالتالي، في تطوير العلوم والآداب والفنون؟.

سنحاول تلخيص وجهة نظر كوندورصي لأنها تقوم أساسا على تبني الموقف الديمقراطي دعامة من أجل ترسيخ قيم التعليم العمومي، وذلك اعتمادا على مبادئ العدل والمساواة واحترام الحريات الأساسية احتراما تاما.

فلا يمكن أن يكون التعليم إلا عموميا في نظر كوندورصي، بمعنى أنه يجب أن يدخل في إطار واجب الدولة تجاه مواطنيها، وأن يكون بالتالي مفتوحا في وجه الجميع، فالتعميم وحده قادر على جعل المساواة المصرح بها قانونا مساواة واقعية وعينية، من خلال التمتع بكل الحقوق المنصوص عليها في الدستور: “لو كان تفاوت الناس في القدرات الأخلاقية يمنح أكبر عدد منهم التمتع بهذه الحقوق كاملة(…) فلا طائل من وراء الإعلان عن امتلاكهم جميعا الحقوق نفسها”.

ولتبرير هذا الطرح، يقول كوندورصي: “من لا يعرف الكتابة ويجهل الحساب، لا يمكن أن يكون مساويا للذين أمدتهم التربية بمعارف. ولا يمكنه أن يمارس الحقوق نفسها وبالاستقلال ذاته”. “بمعنى أن الشخص الذي لا يمتلك ثقافة حول القوانين الأولى المنظمة لحق الملكية، لا يستطيع التمتع بهذا الحق بالطريقة نفسها التي يتمتع بها الشخص الذي يعرف تلك القوانين. فإذا اختصما، فإنهما لن يتحاربا بأسلحة متكافئة”. وعلى هذا الأساس، يجب على التعليم العمومي أن يكمل العمل الدستوري، وذلك بمنحه جوهرا فعليا ودلالة عينية، إذ ماذا سيكون مصير الحرية والمساواة في أمة شعبها أمي؟!

الظاهر إذن أن مشروع كوندورصي يدور حول نقطة محورية هي سيادة الشعب. وإذا كانت هذه السيادة تعود أصلا إلى الشعب، فإنه يتعين على هذا الأخير أن يكون متنورا. ولا يتم التنوير إلا بفضل مدرسة عمومية ديمقراطية. بمعنى أن الحرية تقتضي الأنوار المعرفية، والعكس بالعكس. ويؤكد كوندورصي: “استنفذوا جميع الترتيبات الممكنة لضمان الحرية. وإذا لم تشمل هذه الترتيبات وسيلة لتنوير جميع المواطنين، فإن جهودنا ستذهب سدى”.

إن الجهل هو الذي يسبب الفوضى ويهدد النظام بالانهيار.

لقد حاولنا جهد المستطاع، خلال هذه الصفحات، أن نبين كيف أن النظر في مسألة التربية، لدى الأنوار الفرنسية، قد ارتبط ارتباطا تصالبيا بالتفكير. فالحديث عن التربية كان ملازما، بالنسبة للأنواريين، لرؤية معينة للإنسان والمجتمع والعالم، ملازمة الشيء لظله. ولقد سبق للأستاذ بيلافال أن لخص مميزات فكر الأنوار على الشكل التالي: الدقة والصرامة، المعرفة والتنوير، والشغف الكئيب بأعماق الأشياء. فما أحوجنا إلى العمق في زمن أصبحنا نطفو على السطح لفراغ عقولنا. فقد ساد الاعتقاد عندنا في أن التربية مسألة تقنية خالصة تؤهلنا لكسب قوتنا وتؤكد انتماءات هي من قبيل تحصيل الحاصل: العروبة والإسلام. فكأن الآخرين لا يعرفون ذلك، أو كأننا لسنا على يقين من ذلك

صحيح أننا نتعلم لكي نصبح عمالا أكفاء أو أطباء مختصين أو موظفين سامين أو دلالين ببورصة القيم. لكننا نتعلم أيضا لأننا نحدس، بشكل من الأشكال، أن جميع شهادات ومهن الدنيا لن تشبع رغبتنا في المعرفة، ولن تعالج قلق وجودنا في هذا العالم. إننا نتعلم لأن شيئا ما في الأفق يبقى دائما لغزا محيرا بالنسبة لنا. فنحن لا نتعلم فحسب من أجل كسب قوتنا اليومي أو مراكمة الثروة، أو امتلاك تلك القدرة النرجسية التي تؤهلنا للمساهمة في دردشة عالمة حول فن غويا أو أدب المهجر. بل إننا نصر، عندما نقترب من إدراك مغزى كوننا كائنات تتعلم، على أن نعرف من نحن وأية دلالة نريد أن يكتسبها وجودنا في هذا العالم. إننا نصر على أن نتعلم لكي نبدع.. نعم، لكي نبدع فكرة واحدة من أجلها نريد أن نحيا أو نموت”.(كيركجارد)


المراجع :

Raulet, G., 1979, L’idée d’éducation dans les lumières Allemandes,  Archives de Philosophie, N°42, p421-437.

Le même, 1996, Aufkl?rung. Les lumières Allemandes, G.F., p343-355.

عدم ذكر مدينة النشر، يعني ضمنيا أن الأمر يتعلق بباريس.

 Philonenko, A., 1996, Introduction à la réflexion sur l’éducation, (Kant), Vrin, p14-17.

Mortier, R., 1969, Esotérisme et lumières, dans Clartés et ombres du siècle des lumières, Genève, Droz, p60 sq.

راجع في هذا الصدد:

Belaval, Y., 1948, Au siècle des lumières, dans Histoire des littératures,T.III, La Pléaide, p550 sq.

Mortier, R., 1969, Unité ou scission du siècle des lumières, dans Clartés et ombres…, op.cit, p114sq.

Gal, R., 1953, Histoire de l’éducation, PUF, p78sq.

Mortier, R., 1969, Les philosophes français et l’éducation publique, dans Clartés et ombres…, op.cit, p104.

Baucaud-Maënen, F., 1998, Le Roman de formation au 18ème siècle en Europe, Nathan, p35sq.

راجع في هذا الإطار:

Fabre,J.,1963, Lumières et romantisme : énergie et nostalgie de Rousseau à Miechiewez, Klincksieck, p I-XI

Delon, M., 1988, L’idée d’énergie au tournant des lumières, PUF, p321sq.

Baczko, B., 1997, Job, mon ami. Promesses du bonheur, Fatalité du mal, Gallimard, p177-198.

Todorov, T., 1985, Frêle bonheur. Essai sur Rousseau,  Hachette, p43sq.

Kahn, P., 1990, Emile et les lumières, dans l’éducation. Approches philosophiques, PUF, p173-209.

Mornet,D., 1967, Les origines intellectuelles de la Révolution française (1715-1787), Armand Colin, p319-342

Gal, R., 1953, op.cit, p74-77.

Guillermou,A., 1961, Les Jésuites, PUF.

Voltaire, 1973, Correspondance, The voltaire Foundatiuon, Thorpe Mandeville House, Banbury Oxford Shire, Vol. XXVIII, D 12338, p342.

 Mornet, D., 1967, op.cit, p338sq.

 Mortier, R., 1969, Les philosophes Français… art.cit, p107.

 Guillermou, A., 1961, op.cit, p60 sq.

Ultramontain: حرفيا ما وراء جبال الألب حيث مقر الفاتيكان، مجازا: التيار اللاهوتي الذي يقر بسلطة البابا المطلقة في شؤون الدين والدنيا.

عنوان الكتاب الممتع الذي صدر مؤخرا حول فولتير:

Walterlot, Gh., 1996, Voltaire, le pocureur des lumières,  Michalon.

La Chalotais, Essai sur l’éducation nationale,cité dans Mortier, R., 1969, Les philosophes français.., art.cit., p109

Voltaire, 1973, Correspondance, op.cit., vol.XXVI, D. 11052, p.182-183.

Mortier, R., 1969, Les philosophes français…, op.cit., p110.

Le même, 1990, La pensée des lumières ou suivre les traces dans le silence de la pensée, dans La raison et le coeur, Bruxelles, ULB.

حول مواقف فولتير المحافظة على المستوى السياسي، راجع:

Mornet, D., 1967, op.cit., p28-32.

Waterlot, Gh., 1996, op.cit., p88 sq.

 Mortier, R., 1969, Les philosophes français…, art.cit., p110.

حول تصور فولتير للشعب، راجع:

Mortier, R., Voltaire et le peuple, dans Le coeur de la raison. Recueil d’études sur le XVIIIè siècle, Bruxelles, Université Libre de Bruxelles, p94, sq.

Ibid, p95.

Voltaire, 1973, Correspondance,  op.cit., vol.XXX, D.13232, p155-156.

تلزم الإشارة إلى أن تعميم التعليم مع الجمهورية الثالثة لم يمنع فرنسا من أن تصبح قوة صناعية في مجال الزراعة.

Ibid, Vol. XXXI, D 14039, p433-435.

Ibid, Vol. XXVI, D 11084, p112.

Mortier, R., 1990, art.cit., p97.

Mortier, R., 1990, art.cit., p100.

Voltaire, 1966, Eloge historique de la raison, (p601-609), Aventures de la mémoire, p691-699, dans Romans et contes, G.F.

Waterlot, Gh., 1996, op.cit., p77sq et 88 sq.

 De Stael, G., De la littérature, cité par Mortier, 1990, op.cit., p103.

 Baczko, B., Les Jacobins pédagogues. Education et politique, in Job mon ami…, op.cit., p334sq.

نحيل القارئ المهتم بالثورة الفرنسية وبالصراعات الإيديولوجية داخلها على:

(جزء مخصص للرعب) Thiers, 1867, Histoire de la révolution française, Furne T.II.

Gaxotte, 1928, La révolution française, Fayard, p324-384.

Baczko, B., Comment sortir de la terreur. Thermidor et la révolution, Gallimard, p135-164.

Le même, 1997, Les Jacobins pédagogues. Education et politique, in Job mon ami…, op.cit., p334-353.

Ibid, p335.

 Condorcet, 1847, Mémoire sur l’instruction publique,  Oeuvres complètes, T.VII, Arago O’Conor, p169.

 Ibid, p170.

 Ibid, p171.

 Ibid, p38.

نحيل القارئ على الكتابات التالية حول كوندورصي:

Crampe-Casnabet, M., 1985, Condorcet. Lecteur des lumières, PUF.

Coutel, Ch., 1996, Condorcet. Instituer le citoyen, Michalon.

Le même, 1996, 1996, L’école de Condorcet, Ellipses.

Kintzler, C., 1984, Condorcet. L’instruction publique et la naissance du citoyen. Folio.

Belaval, Y., 1948, op.cit., p565.

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

2 تعليقات

فجر علي العازمي 6 فبراير، 2021 - 10:47 م
مقال رائع للتربية في فرنسا والأنوار الفرنسية، كما أنه أُؤيد ذكر فولتير في هذا المقال حيث أنه فيلسوف ومفكر له مكانته وخاصة في الثورة الفرنسية، ولكنِ اعترض على مسألة عدم تعليم جميع الرعاع من الفلاحين وغيرهم لأنهم إن تجهوا للتعليم واهملوا حرفهم التقليدية سوف يموتون قبل أن يصبحوا فلاسفة، فأنا أظن بعكس ذلك حيث يمكن أن يوازنوا بين العمل والعلم لأن لا يوجد انسان غني عن العلم أو لا يحتاج إليه.
نجلاء حسن علي مفرح 5 أغسطس، 2021 - 3:28 م
للتربية دورٌ مهمٌ في حياة المجتمعات والشعوب، فهي عماد التطوّر والبنيان والازدهار، وهي وسيلةٌ أساسيّةٌ من وسائل البقاء والاستمرار، كما أنها ضرورةٌ اجتماعيّةٌ تهدف لتلبية احتياجات المجتمع والاهتمام بها، كما أنها أيضاً ضرورةٌ فرديّةٌ من ضرورات الإنسان، فهي تكوّن شخصيّته وتصقل قدراته وثقافته ليكون على تفاعل وتناسق مع المجتمع المحيط به ليسهم فيه بفعاليّة، ومن هنا شغلت التّربية الكثير من الباحثين والدّارسين على مر العصور، وكان لها قدرٌ لا يُستهان به من الدراسة والتحليل.
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد