الصـورة واغتيال الواقـع في خطــاب جـــان بودريـــار

 مقدمة : 

يركز الإعلام هنا على تناول الجوانب المعرفية بصورة غامضة على الأقل عند بعض المتلقيــن، وتغليف هذه الجوانب بتحولات مفرطة، وهو الأمر الذي مس الإدراك أكثر من التغييرات الظاهرة للحقائق المعرفية، وأن التشويه الذي أصاب السطح. فقد هز الذات أيضا، إن الوقائع اهتزت من خلال الإفراط الإعلامي في نظر الرؤية الإنسانية، ما وقع أنه تم الفصل بين الدال والمدلول، بإعتبار أن الواقع الحقيقي إختفى، وصرف لنا واقعا آخر خلافا للواقعية الصرفة حسب تعبير بودريار، كما نجد المحاكاة التي تقوم بها الصورة جد آسرة في عرض واقع بديل من الواقع الحقيقي وفي أحسن ثوب وبحيل مقنعة لا محيد عنها، وبالصورة التي يتعايشها الأفراد في المجتمع، وبذلك يسعى الإعلام إلى توحيد الرؤية في بوتقة ثقافية واحدة، مما أدى ذلك إلى تلاشي الحدود ورفع الإختلاف وإزاحة الخصوصيات، وهو الشيء الذي أشار إليه (ماكلوهان) بأن الإتصال يجعل من العالم عبارة عن قرية محدودة الأفق، فالتوازن البيئي تحدد مسافته بينه وبين الإنسان حسب قوة التأثير والحاجة إليه.

وإزاء ذلك ينظر إلى الفعل الاتصالي على أنه علاقة وصل بين الظروف الفردية وعلاقته بالمحيط، إذ أنه يعكس علاقة أخرى متوازنة معه مثل الخيال السوسيولوجي عند رأيت ميلز، والذي يشكل نسقا اتصاليا داخل التفاعلات كمرجعية جذرية للنسيج الاجتماعي، كما يبقى الاتصال بنية تكون بمثابة رابطة محايثة في بناء المجتمع خاضعة للنقد والتحليل، وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت أفكار بودريار التي نسفت الواقع محملا بذلك آثار القوة المهيمنة مما وصفه أحد المفكرين وهو ( فليب كوركوف) بأن رؤيته تقتصر على أحادية الإتجاه، بما ينعته أنه مثقف تلفزيوني (Frédéric.2017. 04) لذلك فإن الاتصال يغرس وهما أبديا، مثلما تكونت أسطورة الكهف الأفلاطوني، إذ يفعل الإعلام صورة مزيفة للواقع مما صدمنا بحائط كهف متعدد الألوان نظل بدورنا نراقب تلك الألوان الحائطية على أساس أنها تمثل الواقع، لكن في الحقيقة هي خيالات متراقصة مصطنعة من الوهم القائم في ذواتنا، في حين أن الواقع الحقيقي ميت لا يظهر لنا إلا حرفا، وكأن الحقيقة تنعكس على الصورة الإعلامية كما انعكست الحقيقة على جدار الكهف (الأفلاطوني)، ويعتقد الكثير أن الصدق لابد أن يمر عبر بوابة

 الإعلام، مما خلق لديهم وهما زائفا صار أغلبهم مقيدين على جدار الشاشة تماما مثلما كان أسلافهم مقيدين على جدار الكهف، وهو فعل الصورة المخادعة مما يتشكل لدينا صعوبة في تحديد مدلولات العلامة(دريج 2008/05)، بهذا سيتمكن الإعلام من إرساء دعائم الاتجاهات والمواقف، يكون في هذه الحالة بمثابة جهاز إيديولوجي حسب تعبير ألتوسير، وفي ظل هذا التفسير قد هنا يصعب تحديد انتماء شخصية بودريار وتصنيفها في إحدى الخانات المتعلقة حسب دروب الاختصاصات المعاصرة ما شكل ذلك اضطرابا شديدا في زمن اكتست فيه لعبة الزيف وتسخيف العقل مكانة متطورة مع الارتكاز البعيد على سلطة الصورة وقوتها التحريرية للوقائع والاستبداد بالحقائق.

  • سلطة الصورة في قلب الحقائق :

وبذات الوقائع يحيلنا الأستاذ علي وطفة في هذا بأن صاحب كتاب)حرب السلام( لمارك أوجيه يتكلم عن قوة كثافة المشهدي للصورة التي تتضمن بطبيعتها نصا غير محدود، وبإعتبار أن غزوها كونيا تظهر نمطا حداثيا خياليا يشكل أثرا بليغا على الوضع الإجتماعي من حيث التفكير مخترقا توازنه، حيث يثير العديد من التساؤلات التي تشكك في الهوية وبعض التمفصلات التي تربك الذات وتجعلها مضطربة أمام المضمون المؤسس والدونية في مكوناته وقدسية معطياته، معززا قوله أن هذا الإنجاز ينبئ بانبثاق وعي إنساني يتجاوز المراحل السابقة كما وكيفا، ويبشر بتحول تاريخي يكرس الخلقنة والإبداع، إذ يستمد هذا التقدم في ذلك نموذج حجم إرثه من الوعي الجمعي، مؤكدا في ذات السياق أن رسالة التربية ينبغي أن تكون مواكبة لحداثة الركب الثوري والتجديد في الفكر والوسائل، لكي تنطلق نحو أفق التطور وتكسر حواجز التقليد والتصورات الجامدة على عمود الماضي، مضيفا أنه لابد من انعكاس هذا الاستثمار في تفاعلات ثورة الاتصالات لتجاوز السقف المحدود وطرح البديل المميز، وبتعبيره فإن كوكبنا يتطور إزاء فضاءات النهضة الرقمية ليصبح كوكبا سيبرنتيا فائق التقدير والذكاء)وطفة. 2019ع79/ 101).

في هذا ترى هل كان بودريار مثقفا عضويا يجابه موجة الصراع بكل قوته المعرفية دون الفصل بين عتبات الأدبيات وهو معروف بغزارته اللامتناهية في التعبير المتداخل بين السياسي والأدبي والفلسفي، إذ يشترك في هذا التمفصل الخاص بالإنتاج المتعدد مع الكثير على تنوع مشاربهم وبإختلاف تخصصاتهم العلمية، وببلاغة صائبة أمكن لبودريار أن يتجاوز الكثير من التحفظات في السياق العام نظرا لإرتباط بعض البحوث في نسيج واحد، مثلما هو في الأبعاد الفلسفية وعلم الإتصال بالسوسيولوجيا ليخرج بنتيجة منفردة متكاملة تصب كلها في مشروع يكشف عن زيف الصورة المنسوخة و مدى سلطتها في تحوير المضمار وقلب النتائج(بودريار. 2008/ 14).

ويبدو أن سلطان الصورة عمل في حقب تاريخية عميقة أسست في مراحل مختلفة فشكلت في بعدها الماضي السحيق تثوير الحادثة، وتفعيل رموزها عبر الصورة، فمن خلالها يتم تجييش الحدث على مستوى العاطفة أو تصويره بطريقة باردة من باب إحباط نفسية المتلقي وإخفاق الحادثة إلى حد إهمالها وجعلها في صفة التجاهل كأنها لم تكشف قضية مصيرية في حياة الفرد والمجتمعات بغية امتصاص الغضب مثلا، أو تحويل الهدف عن مغزاه الحقيقي أو إبراز عكسها لكسب ود الرأي العام مثلما أشار بودريار إلى الحرب الإعلامية التي وقعت أثناء حرب الخليج الثانية التي قال عنها أنها لم تحدث واقعيا بل كانت حربا إعلامية بإمتياز(Frédéric.2017. 04)، وعلى غرار ما تنبعث من سلطة الصورة يذكر عبد الله الغذامي أن ثقافة الصورة تجلت كثقافة بشرية بصرية تأخذ نموذجا في الإرسال و الاستقبال والفهم و التأويل، وهي تقتحم إحساسنا وتضغط بصورة فعلية حقا) الغذامي2005 (07 /.والتي تشير إلى نوع من الإبادة للمعنى ( الفصل بين الدال والمدلول) فإنها تشكل قصة مضمرة تكن في مضمونها أحداثا لا يستطيع أحيانا البوح بها، فقوة الصورة في هذا الزمن تؤكد حضورها على أساس أنها هي التي خلقت الحدث وأصبح الإنسان في حد ذاته يعيش تفككا داخليا من قوة التعدد وتمشهد الحياة، وهنا قد تحجب الكثير من الحقائق إزاء تصلب العقل بعد تركيز دقيق على بعد واحد كما يحسب (بسيكولوجيا)، أي تترسب الأحداث من خلال اللاوعي مدفوعة من التأويل النابع حسب الرغبة والميولات، وفي هذا قد ينشأ زيف عقلي  يعيش وهما أبديا.  

  • التمشهد المرعب للأمن الإجتماعي :

وفي كفة التوازن بين الآراء يصف ماكلوهان (الكندي) أن الرسالة هي الوسيلة إذ يحققان الهدف معا، فيما يرى بودريار بدوره أن الوسيلة الإعلامية ليست حيادية أو بريئة عن تلوين الصورة بشيء من الاتجاهات والاعتقادات، فلم تعد الوسيلة وسيلة نقل تثبيتا لوظيفتها، بل أصبحت تشارك وبقوة في صنع الحدث أي يصبح هذا الحدث حقيقة واقعية، مما حدا بالأمر تلاشي المعنى وتفكيك أثره من صورته الأصلية، وجعله يتداول عبر الصورة متعددة الخصائص الجديدة فيتبدد المعنى الأصلي وتتحول إزائها الوسائل الإعلامية إلى احتواء لكل الرموز ( المعنوية) وتنتج في الوقت ذاته حالة مغايرة بديلة عن الحالة الأولى الأصلية المستقلة بذاتها كمعلومة جديدة تزيح المعنى وتثبت الشكل أي الصورة الأولى(بودريار. 2008/ 18)، وبهذا تعبر عن حالة بائسة تشكل أزمة اجتماعية في فهم معنى الأدوار وهي أزمة تطرح سبل متعددة لإنتاج آليات تطور المجتمع التكنولوجي، فالصورة وقوتها أصبحت ترعب الأمن الاجتماعي، وتؤثر في التمثلات الاجتماعية وفي الخيال الجماعي والفردي، وبفعلها أدى إلى كشف المحتوى وفسخ سياجه، وتبديد إطاره لتصبح العلاقة عكسية أي أن الأحداث خارج حدودها الموضوعية وأن المعرفة  أصبحت خارج الإطار المدرسي تستمدها من خارج أسوارها الإيديولوجية بتعبير بودريار في هذا تصبح الشيفرة مركزة تلعب دورا محوريا لتشويه الطابع الأصلي، يؤكد هذا علي وطفة إذ يقول إننا في عصر ثورة الشيفرات الوراثية التي بدأت تجعل من الإنسان مادة فاعلة للتصنيع المحكم) وطفة. 2003/ 39) ، في ذات البعد يطرح بودريار في كتابه ( المصطنع والاصطناع) مسألة هلاك الواقع بمعنى موت الوجود لأن عملية السيطرة لبؤر الاصطناع أخضعت الصناعة العالمية لوجود علامة مكررة كنسخة تتموقع مكان الوجه الحقيقي والأصلي، إذ أن النسخة حسبه تعود أدراجها إلى مضامين جذرية تفيد مرجعيتها بأصل ثابت، في حين أن المصطنع يخلق صفة جديدة لم تعهد من قبل، بهذا لا وجود للحيازة الأصلية كمرجع يؤكدها، وإنما يبقى الاصطناع شاهد على الزيف، و تلاشي الجذور و تماهي الواقعية في الوسط  الأصلي و بصورة أخرى فإن المصطنع في هذه الحالة يتعدد في أشكال وخصائص لا يخفي الواقع تماما إنما يؤكد وجوده متمركزا على أساس أنه حل في تموضع الواقع مزيحا تلك الفروقات ليحاكي خلقته الأصلية ولا يولي اهتماما خالصا للدال والمدلول أي يكسر قاعدة العلامة المتوازنة لغويا حيث أنه من قبيل  ذلك تصبح المرجعية متآكلة التي تضمنها الواقع (بودريار. 2008/ 21)

و من منطلق أن الإعلام يحجب الواقع متماهيا مع المصطنع الذي شكل أثره الإبداع الخارق والمتجاوز للواقع، في حين أن التمظهر الواقعي تم اغتياله وتدميره عبر آليات تزييف وعي الآخر الذي يعتبر بمثابة المتلقي للحدث أو للصورة، والذي تم توريطه في عملية اصطناعية لواقع مزيف تحركه أطراف متمكنة في المضمون والشكل المطابق للواقع الأصلي، وتكمن في هذا السياق قوة الصورة في حضورها الآني، أثناء وقائع كارثة ناطحات السحاب في 2001، التي هيمنت على أعصاب التمشهد، في هذا يحيلنا بودريار إلى لحظة الزلزال الأرضي، أو بما يسميه فعل الهزة الجوية، إذ عكس هذا الإرتطام المذبحة (اتشكوكية) والتي حدثت في الفضاء، حيث كان حدثا بمثابة الإنهيار الإمبراطوري الذي لم تستطع السلطة الفعلية الأمريكية التحكم في دواعيه، كل هذا الدمار عبرت عنه الصورة المحكمة والتي كشفت سيطرتها عن إختراق المجهول دون غيرها من الأجهزة الأخرى والتي صدمت بإضطراب تقنيات هذه الوسائل المختلفة بداية إنهيارالبرجين التوأمين (بودريار وادغار. 2005/11)

يدلي بودريار بقطيعة شكلية لنموذجه مع الماركسية رغم تبنيه تحليلات معتمدة تحيل بأن ارتباطه بالماركسية عكست أوجه الشبه تناولت مجمل ما طرحه كتابه المصطنع والاصطناع ومن بعض المساهمات تكشف ماركسية بودريار حيث أنه يسير متماهيا مع فكر جاك دريدا، كما لا ينقطع عن فضاء هبرماس في تفسيرهما لبعض الأحداث الاجتماعية والسياسية، وما اقتضى من تأويل للوقائع الإرهابية وردة فعلها إلى جانب تحليلاهما لقوانين الأخلاق، إضافة إلى عصر التكنولوجيا الذي هو ليس هدية للمضطهدين وليس انتصارا للرأسمالية دوما، فتصنيف بودريار يصعب رصده فهو مرة متأثرا بالبعد التفكيكي ومرة محددا للإرث الكلاسيكي في حضرة سارتر وفوكو، كما يغلب عليه طابع اللغة ونظرة المعنى لما حلله (بارت)، إضافة إلى اتفاقه مع الصور الإبداعية لما بعد الحداثة عكست مجانبة أفكار فرانسو ليوتار(بودريار. 2010/23). أسئلة عديدة واجهها بودريار بأن المتمثل للأوامر يعيش حرية، معتبرا ذلك أن الحرية حريات هناك صنف متمرد وهذا خارج الإطار لا سبيل لإقناعه وهناك من يخضع لشروط الدائرة، فيعيش حرية قد تبدو مقتضبة بإشارته أنه ( من يعيش الحرية هو المجبر على الامتثال) ذلك لأن السلطة ابتلعت الواقع واصطنعت حرية بشروط (الخضوع) (بودريار. 2008/17).

في هذا التحليل فإن بودريار لا يريد أن يفصل بين المضمون النظري والسلوك حتى لا يشكل ذلك استغفالا منه، إلا أن هذا الأمر جذب له ردود فعل قوية دفع ثمنها باهضا كما يقول، وإن استحسن مردودها في النهاية(بودريار. 2008/25)، وعلى الرغم من تنوع ثراء فكره وشهرته الواسعة في العديد من البلدان الأوربية والأمريكية، إلا أنه ظل مغمورا بالنسبة لبلاده ولم تشفع له الإنتاجات المتعددة والمتنوعة التي حققت أهدافها لدى مجمل مفكري ما بعد الحداثة، واعتبارا من ذلك أنه صوب جزء من طراز نقده لبعض الاتجاهات الفكرية، وكذا لبعض المظاهر الاجتماعية نظرا لأن شعار هذه الاتجاهات يخالف سلوكها تعكس نوعا من الاستغلال الفاحش، لذلك سعى إلى كشف حقيقة الواقع يستند تعاونه مع بعض المنظمات الأمريكية لرصد الفجوات الممكنة للرموز التي حجبت الواقع والتي تخفيها الشعارات الكثيرة دون أن تظهر الملامح المزيفة والتشوهات العالقة هناك، بهذا يقوم بودريار بنقد الوضع عبر الخطوط الفنية والكشف عن الوهم الدائر حول عقل المتلقي، مما انتشرت أعماله في الأوساط العلمية والإعلامية فيما بعد. وثير مسألة القوة الخارقة التي تنشأ من خلال الاصطناع للصورة ما تشكله من رعب اجتماعي تتسارع بدورها في التحولات المعاصرة قد تغرس التردد ثم الانطباق الإيماني في نفوس الأفراد والجماعات وهذا سبيل آخر لإزاحة الواقع الأصلي وتثبيت الصورة المركبة المزيفة عن الواقع،إذ يقول ماكلوهان ( Marchall.Macluhan) ” إننا نعيش في عصر التغيرات العاصفة، حيث يشكل التغير الاجتماعي نفسه الشكل الوحيد للثبات، إننا نقيم علاقاتنا وفقا لمحاور متعددة في إطار هذا التغير المتسارع” (وطفة .2003/ 38)

  • تدمير المعنى في المرجعية المغتالة :

في هذا الاتجاه يحلل بودريار الظاهرة الإعلامية وعلاقتها باختفاء الواقع وكيفية صياغة النموذج الاصطناعي للمتلقي، وصعقه بواقع بديل مجرد من المعنى الأصلي وهي أساليب اتصالية تقنية أهتم بها باعتباره سوسيولوجيا يعكس بدوره تحليلاته عن الظاهرة الاتصالية، التي أكدت على اغتيال الواقع، ويظهر حسب تعبيره لهذا المفهوم الذي تلاشىت فيه العلاقة بين الدال والمدلول نتيجة التكرار وتعدد النسخ للصور الإعلامية، مما أدى أيضا إلى اختصار البعد الاجتماعي في صورة مشفرة إعلاميا أي نسخ صورة عن نسخة أخرى دون إثبات المرجعية الحقيقية الأصلية، وفي توضيح له يشير أنه ( عندما يكتفي الرمز بذاته ويكون هو مرجعية نفسه يصبح ما يدل عليه هذا الرمز من خارج الواقع، وبذلك يختفي الواقع ويظهر ما ( فوق الواقع) (بودريار. 2008/17.18 )، وقد أثر هذا البعد على الحقل الاجتماعي، حيث أدى هذا التغيير إلى طبيعة اقتناء الأشياء التي تجاوزت وظيفتها الأصلية الحيوية والتمكن من استخدام مهمة أو غاية أخرى مضافة إلى الوظيفة الأولى وهو الشيء الذي أعطى للمقتنيات صورة ثانية بغية استهلاكها نظرا لازدواجية الوظيفة للعديد من الأشياء، منها مثلا السيارة تبقى تراهن بين وظيفتها كوسيلة نقل أو تأخذ البعد الثاني للوظيفة تتعلق بالمكانة الاجتماعية، ويحيط بذلك مولز A. Moles بفكرة ما تلعبه الصورة بأنها تدعم الاتصال المرئي وتجسد كل ما هو موجود في هذا العالم، وهنا يقسم الغذامي مراحل الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية، تعتمد على المنظور الجذري لتصور الإنسان إذ تحدد كل من المرحلة الشفاهية، ثم مرحلة التدوين، وتتبعها أشكال الكتابة كمرحلة ثالثة، ثم تختم بمرحلة ثقافة الصورة التي ارتبطت بعصر تكنولوجيات الاتصال، كما صاحب كل مرحلة من هذه المراحل آليات توظف عبرها الخصائص و المميزات تبعا لكل مرحلة، على الرغم أن الصيغ مكملة لبعضها البعض دون أن تتلاشى أثار كل مرحلة سابقة عن الأخرى، إلا أن ظهور تجاوزات فعلية حسب وظيفة كل صيغة في التمشهد البشري إزاء الحقب الزمنية المتعاقبة) الغذامي2005/ 09 ). فتقدير بودريار أن الوضع وصل إلى حد الهول زاحمت بدايته نهايته، وأن الكارثة مسحت الإرث  التقليدي والعبر الإنسانية والمنطق العقلاني، فالتغيير الانقلابي يفاجئ العقل  نتيجة السرعة في التحولات والاصطدام بالنهاية (الافتراضية) كأنما العيش في ضفة ثانية، فالتحولات عميقة زمانية ومكانية، لكن تعبر في الحقيقة عن هوة فراغ صرنا لا نعي التاريخ في هذه التجاوزات التكنولوجية باعتبار أن الواقع توقف عن التعدد بل أصبحت سمته التبدد والتلاشي والإلغاء بإزالة الفهم العقلاني للواقع وتحولاته التاريخية أي انفصال المعنى عن المبنى وتضخيم المصنع في نظر الآخر بالمقابل إخفاء أو ابتلاع الحدث وفسخ معناه وسحب تراتباته الوجودية (بودريار. 2003/13).من جهة محددة غير منفصلة عن الواقع يبين تقديريا تفسير كل من ( كريس هوروكس، زوران جيفتك) مقولة المحاكاة عند بودريار التي أصيبت بها الجامعات من خلال تزييف الشهادات العلمية فأصبحت مدمرة ومبتذلة مثل الأوراق الأخرى، وقد أصيبت هذه الشهادة في المعنى الحقيقي للمعرفة المكافئة لها، وأن فضاء التدريس أصيب هو الآخر بوعكة صحية فكل هذا الصخب صار ترديدا لحنين قد سبق يوم كان للعلم سلطان مما حدا بالشهادة أنها أصبحت ليست لها قيمة واقعية، فأجبرت كذلك على موت الواقع، وقتل الواقع يكفي تدمير المعنى الحقيقي للمعرفة المكافئة للشهادة العلمية )كريس هوروكس(2005/120 ) ، وفي المعنى نفسه ينزع بودريار إلى فكرة نهاية الإيديولوجيا ونهاية لتاريخ هذه الأخيرة أعتمد فيها على ما يطرحه كل من ليوتار وبعض الفلاسفة الماركسية، جاء هذا بعد تطور النموذج الاقتصادي وإلغاء الشروط والمعايير الثابتة كالعملة وقيمتها، معتبرا أن فرصة تجديد السببية والارتقاء عموديا مرفوضة، وهو الشيء ذاته أدى به الاقتراب من مفهوم الديمومة الذي لا يتفق مع البعد التاريخي، فنظرة بودريار نحو الواقع أكثر تدميرا للمعنى الحقيقي باحثا عن ثورة التغيير قبل حدوث النهاية المأساوية التي تعكس افتراضا غائبا أو إدراكا وهميا وهو لم يتحقق بعد رغم الأمل المتصاعد نحو المستقبل (بودريار.2008/21) ، و رغم حديثه عن الإيديولوجيات فإنه لا يمعن في الخطاب وخصوصياته بقدر ما يؤكد على السلوك لأنه يرى أن موقف الإيديولوجي يبدو أنه صعب المراس في تحديد ماهيته خصوصا في اضطراب نمط رمزيته وهو ما جاء في رده عن مفهوم الإرهاب الذي يرفض أيضا أن يربطه بدين، أو وثنية مقابل الرد على حجم الهيمنة الإمبريالية التي تتبع أسلوب السيطرة بكل الأدوات الممكنة لرضخ كل الرموز الثقافية المتعددة لقاعدة واحدة، ويؤكد بودريار مرة أخرى على أن لوسائل الإتصال ممارسة في دعم محور العنف بكل أنواعه المادية منها والمعنوية، وبفعل هذا الأخير يجعل مقاربة ثنائية في تحطيم رمزية العنفوان الذي يمتلكه النظام، فبهذه الممارسة أصبحت مادة دسمة لوسائل الإعلام تكرس هيمنتها وفعلها الرمزي وتجعل من الإرهاب موضوعا يجرم فعل خلفياته القانون، كما تؤدي بذلك دور التعرية لحجم الخسائر المادية التي إلتقطتها الصورة، وبتهويل منها لمنطق رعب الأخر كخلاصة لصدمة شهدتها المعمورة في موقعة (11 أيلول/سبتمبر2001) وتحت أنظار العالم تمت عملية الإنهيار كسابقة لكسر شوكة (القوة)والتقدير لهذا بروز ما خفي من هشاشة النظام الليبيرالي من خلال ما تعكسه وسائل الإعلام لإزدواجية أخلاقيات الأخر المختلف (بودريار2010/15)، منتقدا في الوقت ذاته مبدأ ( صراع الحضارات)، الذي يعجز عن المداولة الديمقراطية، فهو يؤمن بالاختلاف دون السيطرة على الموقف، حيث يريد أن يستولي على مرجعية الحداثة وتطبيقاتها الكونية دون أن يدفع ثمنا باهضا(بودريار.2008/21) ، ويعود بنا والتر بنيامين (Walter.Benjamin) إلى تحليله أن النسخة تحل محل الأصل إلا أن بودريار يفرق ما هو مصطنع ودرجة النسخة كما ذكرت سابقا، ما أدى هذا إلى زوال الأصل واختفاء الحقيقة ويظهر فقط الاصطناعي، وهو الشيء الذي تداوله نيتشه أيضا بأن الحقيقة تصبح كقناع عندما تنزع هذه الأقنعة يذهب الاعتبار نهائيا(بودريار.2008/26) ، ويذكر أوريش بيك كذلك في هذا المقام أنه في بداية القرن الحادي و العشرين عايشنا مولد مجتمع المخاطر العالمي متمثلا في التهديدات الكونية بدء من الإرهاب ووصولا إلى التغير المناخي، الأمر الذي يوضح لكل منا أن المجتمع سواء كان عبارة عن دول أو أفراد يتعين عليهما اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطرة من شأنها أن تحدد موقف الإنسانية في الحاضر و في المستقبل باتجاه ما يواجهها من أخطار (أوريش بيك .2003/435).

  • الرمز المنطوي على ذاته والواقع المتناقض :

من وجهة أخرى يختلف بودريار مع (ديبور) حول مفهوم المجتمع المشهدي وعلاقته بمفهوم (فوق الواقعية)، حيث يرى بودريار أن مجتمع المشهدي هو مرحلة تمهيدية فقط لما فوق الواقع، إذ نجد المجتمع المشهدي يظهر من خلال توجهه وبإمكان نقده من حيث الصور والشكل كما أنه يدرك من طابع وجوده وبذلك تتبين حالة انفصال وإبراز مسافة بين المجتمع والواقع كما يحددها حسب تعبيره، في حين أن مفهوم لما فوق الواقع راهن مكتفي بذاته دون انفصاله عن الواقع مما يتبين اعتبار المسافة في هذا المجال، وهو ما يوضح أيضا عدم إمكان البعد النقدي، وبحكم هذا التدبيج فهي تماما حسب رأيه أن فوق الواقع هو تفسير للمجتمع المشهدي، الذي لا يعي ذاته وما نعيه أن عبارة فوق الواقع ابتلعت الحدث كصورة أو مشهد المكتفية بذاتها تمكن من إبراز البعد الاجتماعي وبإقصاء أي علاقة بين الدال والمدلول أو الرمز والمرموز إليه، أي نفي أي مرجعية ثابتة، وهنا تتشابه عملية النفي مع تلاشي التناقض كما شرعها (أورويل) في روايته 84 بعنوان (الحرب هي السلم) أو الحرية هي العبودية(بودريار.2008/30) ، وهنا يثبت بودريار ما يطرحه رولان بارت حول الصورة وبلاغتها إذ يشتغل على موقع التضمينات في شبكة الدلالة من النص الموجود على الصورة، كما يهتم بواقع الرسالة وطبيعة إدراكها من قبل المتلقي (نعيمة واكد.2012/08 )، لينطلق بودريار في تحليله أن الرمز يكتفي بذاته لذلك يختفي الواقع أو يكون الرمز هو في حد ذاته الواقع، نتيجة لانعدام العلاقة بين الرمز والمرموز إليه، ليبقى فقط الرمز المرتكز ويظهر هذا المؤشر في ( اللغة… الصورة) فيصبح رمز المرجعية الأصلية الذي كان الواقع يحتويها، ومنه صار الواقع هو الرمز الذي اكتفى بذاته فهذا التفسير يسقط على مقولته المشهورة( المصطنع ليس إطلاقا هو ما يخفي الواقع، بل إن الواقع هو الذي يخفي عدم وجود واقع المصطنع الحقيقي) (بودريار.2008/27) ، يبدو أن مفهوم فوق الواقع تتحدد طبيعته من خلال القناعة الزائفة الغالبية للفئات الاجتماعية ويشير في ذلك بقوله ( الحرب هي السلام) كما طرحها (أورويل) في روايته1984 بمعنى توافق التضاد تتضمن إقناع من قبل الكثير وهو وضع مأساوي لتمييز حقيقة الواقع ونتائجه لما تفعله القوة الخارقة للإعلام، بتقدير أكثر وضوحا، فإن الواقع يذوب ويصبح متلاشيا في الإعلام، والمثال الذي قدمه بودريار في حرب الخليج الثانية التي اشرنا إليها سابقا أنها لم تقع حسب تعبيره، و إنما تبدو أنها حرب إلكترونية هدفها زرع الرعب لدى الآخر والتأثير بغض النظر عن حجم الخسائر، تلكم ميزة ما بعد الحداثة يكمن فيها التعدد الرمزي والاختلاف المشهدي والسفر نحو الإفتراضي .

في كل هذا لم يطرح بودريار مسألة أثر كل ذلك على المجتمعات خاصة النامية منها وكيفية استغلالها بواسطة الميديا باعتبار أن الافتراضي حاول أن يزيح الواقع ومشهديته ويفرض سبل اصطناعية لما تسمى ( فوق الواقع) ثم ما مدى أثر العالم الرقمي على البيئة؟ وفي تركيزه على البناء الوهمي والعيش في الخيال وأن الاتصال هو كل شيء للمجتمعات الحديثة كما لم يركز على الأشخاص والمسؤولين عن هذه الميــديا ومن يتحكم في هذه الأجهزة وإدارتها وكذا من يتحمل المسؤولية وطبيعة إيديولوجيتها؟ إلى جانب فلسفة أخرى ما مدى انفصال هذا الفهم عن البعد الماركسي الذي سيج الجهاز بطرحه للاغتراب الإنساني وأثر التشيؤ والمسائل اللامادية و سلعنة الأفكار، ترى هل بودريار يراوغ حقيقة الاستلاب بمفهومه المتحول العصري خلافا لطبيعة المفهوم الماركسي؟(بودريار.2003/82) أم أن هذا مجرد استخدام للتلوين اللغوي تتشكل بالموازاة لاختلاف الواقع الذي يعتقد جاك دريد فيه( أن النبرة في الغالب عبارة عن التحام جسدي مع اللغة بعامة، فهي تحيل إلى ما هو أبعد من التنبير في حد ذاته… إنني أجد في اللغة ملاذي الأخير..) (جاك دريد.2008/86-88) . في هذه الحالة فإن بودريار يسعى إلى توسيع قيمة المعنى ويحتفظ بالبناء إزاء المفهوم الماركسي، وعلى الرغم من تمدد الرمز قد يتعسف في إفراط الواقع، فإن بودريار يشترك مع ما ذهبت إليه الماركسية في نقدها للرأسمالية إذ يكشف عن احتواء الدلالة السوسرية وتأثرها بنسقها الرمزي، فيما كان ملمحا كبيرا لفكر رولان بارت وما تناولته الدراسات اللغوية والاجتماعية والثقافية(بودريار.2008/34).

والسؤال الذي تكرر في سياقات عدة، هو كيف يمنح الناس المعنى للأشياء التى لاصوت لها؟ وحقيقة أنه سؤال يصب في عمق السيميولوجيا الإجتماعية بغية البحث عن أنساق تتشكل من العلامات حمولتها التزاوج والتعارض بما يكتنفه المجتمع من فضاءات رمزية تفصح عما تملكه من معاني دالة، هذه المؤشرات تؤهل الباحث السيميولوجي بأن يركز على زاوية التحليل لما هو موجود من الأنسجة الرئيسية والناشئة في النص الإجتماعي حتى يبرز مطبخ المعنى، كما يرصد كذلك السوسيولوجي هنا قيمة الرمز إزاء الظاهرة الإجتماعية، فالعلامة كما يؤكدها محسن بوعزيزي أنها ليست منفردة أو ساكنة، بل هي تتساوق بين البيئات الإجتماعية، وهي كما وصفها نتاج فعل تمفصلي للزمن وسياق للمواقف المتباينة وامتداد لدور إجتماعي، تتمدد في الفضاء العمومي نتيجة لمدى فعالية الفعل الإجتماعي والثقافي، وللإشارة فإن السيميولوجيا المعنية في محور الصورة وقراءتها، هي التي تفوق حدود اللغة لتتوافق مع الظواهر أي هناك سيميولوجيا فوق اللسانيات، رغم صعوبتها بمكان على حد تعبير سوسير، وهي شاكلة من شاكلة الكشف عن البنية االنصية، التي تؤكد حالة الإرتباط بين االسيميولوجيا والسوسيولوجيا، توظف التحولات الطبيعية من النسق المغلق والمتجدد في ذاته، الى راهن التجاوز الأفقي نحو النسق المفتوح بحثا عن عقدة الربط التي تجعل من بنية الظاهرة الإجتماعية تتماهى مع سياقات إنتاجها ( بوعزيزي.2010/16/20).    

 بهذا الوصف قد أهتم بورديو بالعلامة وأعتبرها ميزة أساسية في المعترك الاجتماعي، تبرز من خلالها صفة التبادل بين الأفراد والمؤسسات وكذا بين الفئات والطبقات المختلفة، كما يعرض على لسانه أن العلامة في معرض تبادلها اجتماعيا تأخذ شكل (شبح) ويكتسي هذا المفهوم عامة نموذج النهايات المرتقبة المقموعة الجذور والأسس الاجتماعية، حيث تتباين من ظاهرها عمق الفروقات بين الحقيقة والزيف إذ ينبذ في معرضها الواقعية الفاقدة لروح الرهان، الذي اقتلعت مظانه، حيث يصف هذا الشبح الذي يظهر باختلاف أشكاله في هيئة جهاز مفاهيمي يكرس الزيف والتحريف للمعنى تصبح حينها حياة فاقدة لطعم الأشياء، وفضاء إجتماعيا فاقدا لعمق الفهم، لتبقى سمة التضليل متموقعة في سبيل خدمة المجالات الإستعراضية للقوى المنتجة ورمز الهيمنة المالية (بودريار.2003/106)، كما تبقى ظلالها تتمركز فوق الواقع لإزالة الحقيقة بغية تفكيك الروابط التي تجمع بين المفهوم وواقعه، وذلك بتحول جغرافية التصنيع والمشهديات وإزاحة التقليدية وبناء علامات الإفراط في النماذج الواقعية، ويستند في ذلك بودريار إلى المفهوم السويسري وركائزه في المكون العلاماتي، كما يقترب من أثر الاتصال في بناء عمليات العلاقات والتشكيل الرمزي الاجتماعي وإبعاد وسيلة وهو ما يعكس رأي ماكلوهان في هذا الاتجاه وهي مسألة في غاية الأهمية أين يقع إزاحة الواقعية وتغييب مشهدها،كما حدث مع البرجين عند إزالة المعمارية والهندسة التكنولوجية التي قهرت العالم بوهم المعجزات(بودريار.2005/51)، لذلك نحن نعيش هوة بين الواقعية الحقيقية وبين ما تعنيه تلك الرمزية، إذ تشير إلى  حلقة مفقودة شكلت حالة غير طبيعية للحياة غير منتهية الأبعاد منزعها المادية، مسح بذلك الواقع من الرؤية و عوض بصورة مشابهة) فوق الواقعية)  دكت العقول لرهان غير طبيعي.

  • الواقعية المفرطة والتحيز الإعلامي :

ورغم التنوع الفكري لبودريار وما يحمله من تميز، فإنه يعيب عليه أنه منح للخيال بعدا كبيرا في تشكيل واقعية متطابقة مع صيرورة البيئة الاجتماعية بواسطة الميــديا، مما كان أيضا للإيديولوجيا إنتاج وعي متعالي يهيمن عليه الاصطناع المبني على الأجهزة الإعلامية لتوحيد الرؤية الثقافية للمجتمعات، رغم ما يشهده العالم من تضاد وتعدد في الأفكار والرؤى في هذه المسألة، إذ نجد أن الرقمنة لعبت دورا مهما في قلب المفاهيم من أن يجعل حرب الخليج حربا إعلامية وليست حربا ميدانية بواسطتها، مما نشأ نوع من التضليل للرأي العام وأصبح الغموض مهيمنا على الواقع المتصارع الذي أكد على وجوب بروز التناقضات والاختلالات، فأصبح فيها ما يشكل مدارات لما فوق الواقعية خلافا للواقع الاجتماعي الذي يندر فيه الصراع  ويتسم بالوضوح وعدم الحجب عن الأنظار في حين أن الواقعية المفرطة تأخذ بعدا نزاعيا في واقع مضطرب(بودريار.2008/37).

بهذه الصيغة يستقي بودريار نصا من كتابات ماركس ليعكس هذا التوجه الذي يؤكد على الواقع المزدوج مفاده أن يكون هناك تفريق بين المسائل المادية القاضية بشروط الإنتاج وعلاقاته تحدد المسار المنهجي للعلوم الطبيعية كما يذكر ماركس، أي ما يدور في محور الأفكار التي تعكس مدى الاختلاف والنزاع الذي يتطلب من كل مناضل إعطاء حلول وبأسلوب متباين وفق إحداثيات قوة الإنتاج وعلاقتها الاجتماعية التي تعكس صورة الوعي المستمد من جوهر الواقع المادي(بودريار.2005/63).

وهذا الموضوع الخاص بالنزاع لا يمكن أن يجد حلا في ضوء العلوم الدقيقة ولا يمكن التحكم فيه بدقة في ظل البحوث العلمية والإنسانية نظرا لتشكله بصورة الوعي وطابعه الفكري، مما نحا إلى موضوع نزاعي، وبالتالي لا يظهر ما دامت العلوم لا تتحكم فيه أي أنه يسلك طريقة الحجب سواء بواسطة الطريقة التقليدية أو المعرفة أو حتى بوسائل الإعلام والاتصال الحديثة، والسبب في ذلك أنه موضوع نزاع ونضال مستمرين بين أفراد المجتمع ويظهر ذلك في العلاقات العالمية كصراع دائم بذلك تكون هذه المظاهر محل نزاع عن الرأسمال الرمزي أو المادي، وبالتالي في معرض غموض بين الحجب والإخفاء في هذا أن النظام العالمي يخفي الكثير نتيجة الصراع الواقعي في المجتمع مما يخلق أزمة، نظرا لإخفاء الحقائق بواسطة شتى الأمور خاصة بوسائل الإعلام، وباختصار فإن الواقع الذي يتسم بالنزاع الجاد والصراعات وما يشكل نضالا دائما قد يكون موضوعه غامضا أو حدثا لا يظهر عن حقيقة كدقة العلمية يمكن أن يكون في نظر الأخر مجهول أو معرض موضوعه للحجب والإخفاء بأي وسيلة كانت تقليدية أو تقنية حديثة(بودريار.2008/38)، وخاصة وأن لغة العالم الجديدة لها دور في العملية الاقتصادية والأخلاقية وتنزع نواة حقوق السيادة للدولة الحديثة، وتنفتح لتقع في قبضة المسؤولية الشاملة(أوريش بيك .2012/08). وتبقى الايديولوجيا فعلا سحريا التي يخلقها الفاعلون الاجتماعيون عبر آليات الميــديا التي تعتبر وسيلة فاقدة لذاتيتها، ويوضح بيار بورديو في ذات السياق، أنه إذا كان من الممكن اعتبار أن العلم محايد فإن استخدامات العلم وتطبيقاته ليست محايدة خصوصا فيما يتعلق بتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، حيث أن توظيف مضمون الإيديولوجي لهذه التكنولوجيا يجد أوضح مثالا له في الدور الذي يلعبه التلفزيون، وكذا مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى وهو الأمر الأخطر في نظره (بورديو.2004/54 ) . حيث أن يتم حجب الواقع بواسطة هذه الإيديولوجيا وذلك بغرس فكر مختلف عنه أو متنازع فيه من قبل حركة الأفراد الذي يبثون خلافاتهم الإيديولوجية عبر هذه الوسائط الإعلامية بصفة محكمة حسب تعبير (هيربرت شللر)، ويطرح بودريار من جهته صفة المبادرة الإعلامية أنها رغم تحولاتها السيبرنيطقية إلا أنها تنتج معنى مغاير من تلقاء ذاتها، في حين أن إدارة هذه الوسائل تتبرأ من هذه الأطروحات الإعلامية بمعنى أن بودريار يبرئ الليبرانية المتوحشة  من عدوانها كما في حرب الخليج، والأمثلة عديدة في هذا المقام.

وينكشف عبر ذلك أن مفهوم لما فوق الواقعية هو من إنتاج الإيديولوجيين وليس من الإعلام خالصا فليس هناك إعلام مستقل، و ما كل هذه الخروقات الإعلامية تعبر فقط عن تقسيم العمل، وضبط المهنية وهي رموز غير عادلة في حقيقتها(بودريار.2008/39) ، وما يستنتج من هذه المواقف لبودريار إن الإعلام ليس مؤسسة مستقلة أو حيادية إنما فعله من فعل المسيرين من وراء الستار مثلما تقوم به المؤسسات الكبرى العابرة للقارات التي تختزل سوقها في رهان السلاح وإنتاج النفط والترويج الإعلامي، وبإختصار من يملك وسائل الإنتاج المادية سيتحكم في دور الإنتاج الفكري لهذه الوسائل وعلاقاتها وما يترتب عنها من الهيمنة الطبقية السائدة عبر التاريخ، وهو ما يتطابق مع المفهوم الماركسي لمقولته المشهورة ( الوجود الإجتماعي يحدد الوعي الإجتماعي) وإعتبارا من ذلك فإن مفهوم بودريار (لما فوق الواقع) خلقته هذه الشركات الفاعلة في هذا الحقل التجاري مع التميز لوسائل الإعلام بكثافة تقنيتها في ردم المسافة بين الحقيقة والخيال(بودريار.2008/42).

  • خاتمــــــــــة:

يبدو من وجهة نظر بودريار أن عنف العالم كرس حالة حركية معاكسة أجبر على تحرر بعض القوى ناتجة عن رفاهية سطحية متعدية ومتعددة الصور والثقافات فهو ينزع بفكر نحو التجاوز أو عدم الوقوف على الأطلال لأن التكنولوجيا الحديثة فرضت تغيرا جذريا يتواكب مع التطور الاجتماعي ومتطلبات الحياة، لذلك يرى بودريار أنه ليس هناك ممارسات فنية ثقافية منطوية على ذاتها أو تشكل انعزاليا مطلقا للفلسفة الاجتماعية، إذ ساهم بودريار في البعد التفكيكي واستطاع أن يواكب التفاعل ما بعد الحداثي وأن ينزع غموضا بتأويلات بارزة وأساسية للعلامة والكشف عن تجاوزها الإطار المركزي حيث يتكون الواقع غير الحقيقي من تضاعف التشبيهات التي تعمل بطريقة آلية لتوليد الصورة المجازية الفائقة والبالغة التجاوز، والتي لها سلطة تعيد المشهد بعد حقبة زمنية في ضوء حرارة رموز الحدث، فالمتأمل للصورة التي تحدد أبعاد واقعنا، يرى أن عمق الصور يتوقف على مدى قلب الحقائق الواقعية أو مدى قيمة صدقها ورصد الحقيقة، لكن الإعلام له إيديولوجيته، يخطط بأن يخدم وجهات نظر معنية تملك أسلوب التأثير والإقناع، فتسعى في ذلك قوة الإعلام الى ححب المعلومات المضادة لهذ الإيديولوجيا، وما يزيد الوثوق في هذه الصورة وأثرها العام هو أنها تؤخذ من المجالات الإجتماعية والتثقافية، فهنا يكون توجه الصورة ليس منفردا أومنعزلا عن سياق مجريات الوقائع التي يؤلفها تفاعل المجتمع، وبالتالي قطعا أن المعالجة الإعلامية ليست حيادية عن المشهد إذ تقوم بطبع أثرها على تكوينات الأفراد والجماعات، وعند فصل الرمز عن مرموزه، يكشف عن اختفاء الواقع الحقيقي بعدما يكون هذا الرمز قد اكتفى ذاتيا، فتهيمن الصورة على العقل تبدأ بمؤشر إعلان الخبر إلا أنها لم تصبح حاملة له كحدث، بل صانعة لفعل جديد، لذلك فإن بودريار ينتقد هذه الزاوية ويكشف عن زيف أمانة الميــديا كوسيط التي تتكون من بنية شديدة القدرة على الزيف يقدر تفسيراتها إلى الحد الذي يتبدد المعنى فيها نتيجة تراكم الوقائع وتعدد مضامينها فيصبح ميدان الإعلام على حد تعبيره بؤرة ابتلاع منحى القصد وخلق معنى بديل مركب.

المـــراجــــــــــــــع:

1- الغذامي عبدالله. (2005)  الثقافة التلفزيونية، المركز الثقافية العربي، المغرب .

2-بيك أوريش (2003 ) مجتمع المخاطر العالمي، ترجمة علاء عادل. المؤتمر القومي للترجمة، القاهرة. بورديو   -3بيار بورديو.( 2004).التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول. ترجمة درويش الحلوجي دار نشر كنفان/دمشق.

4- بودريار جان (2008) المصطنع والاصطناع. مركز دراسات الوحدة العربية.

5- بودريار جان / ادغار موران.( 2005).عنف العالم. ترجمة عزيز توما. دمشق. دار الحوار للنشر والتوزيع. 6- بودريار جان (2010 ).روح الإرهاب .ترجمة بدر الدين عمر زكي. القاهرة. الهيئة المصرية العامة .

7- بودريار جان (2003 ).التبادل المستحيل .ترجمة جلال بدلة. دمشق. معابر للنشر والتوزيع.

8- بوعزيزي محسن (2010). السيميولوجيا الإجتماعية، مركز الدراسات الوحدة العربية بيروت .

9- دريد جاك (2008)..أحادية الآخر اللغوية. ترجمة عمر مهيبل.منشورات الاختلاف.الجزائر.

10-دريج محمد عثمان(2008).الواقعية المفرطة عند جان بودريار.( 1927/2007 ).نقدي.

       <http://www.naqdy.org/docs/2008/s,mohmed_osman_elfakai,3_2008,1.pdf>

11- هوروكس كريس ،(2005) زوران جيفتك..أقدم لك جان بودريار، ترجمة حمدي الجابري. المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة .

12- واكد نعيمة ، (2012 ) الدلالة الأيقونية والدلالة اللغوية في الرسالة الإعلانية، دار نشر طاكسيج، الجزائر .

13- وطفة علي (2019).التربية الإعلامية في عصر الرقمي ( البحث عن هوية في زمن افتراضي ). مجلة الطفولة العربية. ع/79. الكويت.  

14- وطفة علي ( مجموعة من المؤلفين). (2003) الثقافة العربية. أسئلة التطور في المستقبل. مركز الدراسات الوحدة العربية.

15- Frédéric Joignot (2017).بودريار: شاهد على اغتيال الواقع.( 2017/03/06). ترجمة شوق بن حسن. Alaraby.co.uk/culture.

 

 

 

                                                                     

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

1 تعليق

طارق 30 مايو، 2021 - 1:55 م
السلام عليكم
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد