هل أفلح القرآن الكريم في تهذيب وضبط سلوك المسلمين، ولماذا؟!!
لا ريب أن هذا السؤال المتقدم يضمر تشكيكا بصدقية مرجعية الأخلاق الدينية، سواء مفاهيمها المعيارية، أو الممارسة السلوكية كمرجعية أساسية. وكان منشأ شكوكه الانحراف الأخلاقي لدى طيف واسع من المسلمين، خاصة سلوك الإسلاميين داخل السلطة وخارجها. وبالتالي فالسؤال يحمّل الكتاب مسؤولية عدم التزام المسلمين، إما لوجود خلل في منظومته الأخلاقية أو في تربيته، وقد مر بيان شروط الفعل الأخلاقي، وقلت إن إرادة الفرد هي التي تخرج الفعل من القوة إلى الفعل، وبدونها لا توجد قوى سحريه تجعل من سلوكه أخلاقيا ما لم يلتزم بها، بما في ذلك القيم الدينية الرفيعة التي هي قيم إنسانية أساسا، كما وضحت مسبقا. فالأخلاق تتحول إلى واقع عملي متى ما التزم بها المجتمع، وغدا سلوكا أخلاقيا في الفضاء العام.
وبشكل أوضح: القرآن كتاب ديني يشتمل على منظومة قيم أخلاقية تساهم في تشييد مجتمع الفضيلة الذي هو غاية المشروع السماوي. ترقى بالفرد إنسانيا وإيمانيا وروحيا. وتسلك به طريق النجاة في الحياة الدنيا،. تستمد شرعيتها من العقل أو من الشرع، كما يأتي تفصيل ذلك. وطالما أكد القرآن أنه كتاب هداية، يهدي للتي هي أقوم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). مهمته بيان حقائق الأشياء من خلال ما يطرحه من مفاهيم. والمفهوم كما جاء في تعريفه: “فكرة مجردة تمثل الخصائص الأساسية للشيء الذي تمثله”. أو ما ينتزعه الذهن من خصائص الشيء سواء كان له وجود خارجي أم لا. لكن المهم من أين يستمد المفهوم سلطته؟. يستمد المفهوم سلطته ضمن سلطة النص، ومن أين يستمد النص سلطته؟ “يستمد النص سلطته من مصدره، إضافة إلى طريقة بنائه وتركيبه وأدائه ودلالاته اللغوية، وما يشتمل على أوامر ونواهٍ. أي أنه يستمد سلطته ومركزيته وتأثيره من مؤلف النص، وأسلوب الخطاب في التعبير عن مضامينه”. وبالتالي لا يمكن تجاهل مصدر النص، حينما تترتب عليه حقوق وواجبات. (أنظر كتاب: النص وسؤال الحقيقة). فالقرآن استعرض منظومته الأخلاقية، وبيّن بوضوح ما يترتب على الالتزام وعدم الالزام بها أخرويا، فكانت تكملة الآية المتقدمة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). ليؤكد حرصه على الالتزام الأخلاقي في سياق مشروعه السماوي. بل أن الدين لا يتجلى في الفضاء العام إلا من خلال الأخلاق، أو يبقى مجرد مفاهيم مثالية لا تلامس الواقع. وبالتالي فالقرآن قدم منظومة أخلاقية وبإزائها خطاب تحذيري يأتي في سياق الهدف الديني، الذي هو “تنمية الوازع الذاتي وروح التقوى عند الإنسان المؤمن، من خلال الترغيب والترهيب، من أجل مجتمع عادل فاضل. فالخطابات القرآنية تستهدف عقل الإنسان ووعيه، فتحتاج الى زخم من النصوص لمكافحة النزعة المادية الشرهة عند الإنسان، واستنبات قيم الفضيلة والقيم الأخلاقية مكانها. المشروع الديني بحاجة الى وازع داخلي يردع الإنسان عن اقتراف المعاصي، ويدفعه باتجاه عمل الخير والمعروف، خاصة وأن مشاريع الإسلام قائمة على التعاون والبر والمساعدة والعمل التطوعي، وهذا بحاجة الى قوة دافعة بالاتجاهين، من هنا كان عدد آيات الترهيب والترغيب هي الأكثر في القرآن من أجل خلق شعور حقيقي لدى المؤمن، وإلا يتعذر على الإسلام مواصلة مشاريعه وتنفيذ استراتيجيته على جميع الأصعدة. وقد جاءت مشاهد يوم القيامة قرآنيا مترعة بأحاسيسها المادية، لتحقق هدفها. أي خلق وازع ذاتي رادع وفاعل باتجاه الخير والصلاح. لذا استغرقت الآيات في بعض التفصيلات لتقريب الفكرة للمتلقي. فالمشاهد الوصفية للجنة والنار جاءت لتعبر عن حجم العذاب والنعيم، فراحت ترسم صورا من زوايا مختلفة تشد الناس لها بشكل مذهل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر”. (أنظر كتاب: الهوية والفعل الحضاري). هذا كل ما قدمه القرآن ولا يخفى ارتهان مشروعه الديني والأخلاقي على إيمان الفرد، ومناشئ ذلك الإيمان، التي منها قدرة الخيال على تجسيد الحقائق النسبية من خلال قبلياته وثقافته، وإلا لا مصدر أخر لردع الفرد دينيا، سوى النصوص وإيمان الفرد. فالسلوك الأخلاقي المنضبط يتوقف على وجود وازع ذاتي. أو رادع خارجي، (اجتماعي، قانوني). وأما الرداع الديني فتارة تفرضه قيم المجتمع، فيكون سلطة ضمن سلطة العادات والتقاليد، وهذا مألوف لدى جميع المجتمعات على اختلاف التزامها الديني. أو يكون رادعا نفسيا تتوقف صدقيته على صدقية إيمان الفرد، التي تتجلى من خلال سلوكه. فيأبى سلوكه الرذيله ولو على حساب مصالحه. ويلتزم الفعل الأخلاقي على كل حال.
لذا كان من جملة مبررات تشريع العبادات خلق الوازع الذاتي أو الضمير الدين الذي يستعين به الفرد على مقاومة الرذيلة. فمثلا: ربط القرآن بين الصلاة والنهي عن الفشحاء والمنكر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى) حيث أعطى للصلاة مفهوما مغايرا أخرجها من كونها مجرد طقوس وحركات جسدية وإيماءات وهمهمات، واعتبرها ممارسة عبادية واعية ترقى لمستوى السلطة الموجهة لسلوك المصلي خارجا، فهي طقس روحي يرقى بقلب المؤمن فوق حطام الدنيا، فيصدق أن هذه الصلاة مصداق للحديث المعروف: “الصلاة معراج المؤمن”، حينما تسمو بأخلاقه وممارساته وتفتح أفاقا للوعي والمعرفة تعرج به في عوالم أرحب، يتخلى معها عن أية فحشاء ومنكر، فيأتي الفعل الأخلاقي مطابقا لقيم القرآن، ويأتي النهي عن الفحشاء والمنكر دالا على المفهوم الجديد للصلاة. وهذا اللون من الفهم العرفاني لطقوس العبادة من شأنه ترسيخ التقوى، التي تتجلى كما هو المفترض في أدائه السلوكي اليومي، حينما يترفع عن الرذائل ويحرص على عمل الخير والإحسان. بهذا الشكل تكون الصلاة، التي هي أبرز علامات الإيمان، دالة على إيمان الفرد. فالصلاة ليست علامة على إيمان الفرد والتزامه الديني، بل سلوكه الخارجي مؤشر على فضيلته، سيما أن هدف الدين تأسيس مجتمع الفضيلة، يسمو فيه الفرد ليكون مصداقا لقوله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وبهذا الشكل نقلب المعادلة المتداولة، ليكون سلوك الإنسان دالا على إيمانه ونقائه وطيب سريرته، فهو مقيم للصلاة بهذا المعنى، وحينئذٍ من حقنا محاسبته على سلوكه ومساءلة تصرفاته. أما الصلاة فلا تدل بمفردها على الإيمان، بل الصلاة بالنسبة للغالبية العظمى من المصلين ومن جميع الأديان عادة يعتادها المصلي بحكم التربية والبيئة. لذا تجد القرآن يربط الإيمان بالعمل الصالح في أكثر من خمسين آية. لكن للأسف أطاح الفقهاء بهذا المفهوم وفاء لسلطة قوانين استنباط الأحكام الشرعية، فغدت الصلاة مجرد حركات، يحكم بصحتها وعدمها وفق مسطرته الفقهية التي لا تعي شيئا من روحانيات الصلاة. فهي صحيحة إذا جاءت طبقا لآرائه الفقهية، سواء كان المصلي ساهيا أو واعيا لفعل الصلاة. الفقيه لا يرهن صحة الصلاة لقوله: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) التي تعد بالويل والثبور لمن كان ساهيا في صلاته. بل أن الصلاة الكسولة التي لا تترك أثرا على سلوك المصلي هي صلاة منافقة، لا قيمة لها بنظر الكتاب: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً). ومعنى السهو، تمرّد النفس فتفقد الصلاة قيمتها المعنوية وتغدو حركات جسدية لا تضفي معنى لقيامها. بينما يختلف المعنى فقهيا، فالصلاة تكون باطلة إذا أخلَّ المصلي بجزء ولو يسير من حركاتها وسكناتها، بغض النظر عن الطقس الروحي الذي ينبغي للمصلي أن يعيشه خلال الصلاة، لكن الحمد لله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). وهذا سبب رئيس وراء تسويف الأخلاق، إضافة لما تقدم من أسباب. فالحث على العبادات حث على فعل يغذي روح التقوى، ولازمه وعي العبادات بشكل يخرجها من طقوسيتها لتكون مَعلَماً أخلاقيا، يمكننا رصد آثارها الاجتماعية بسهولة، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أو تبقى مجرد حركات جسدية جرداء، وحينئذِ كل طقس روحي يدفع باتجاه التقوى والعمل الصالح فهو صلاة وطاعة وعبادة، تعكس الجانب المشرق من الدين. هذا الفهم للعبادات يسمح بتحري حقيقة ما يثار حول سلوك المسلمين، فهو مطالب أولا باثبات صدقية إيمانه من خلال سلوكه، لا من خلال طقوسه، التي هي غالبا ما تكون موروثة، يعتاد عليها الفرد استجابة لعوامل نفسية وثقافية.
يمكننا من خلال فهم مغاير للقرآن وآياته توظيف الدين لترسيخ قيم الفضيلة، وتعزيز قيم المحبة والسلام، وحماية حقوق الفرد والمجتمع، وعلى العكس حينما نفهم الدين وفقا لفتاوى الفقهاء التي دأبت على هدر القيم الروحية والاهتمام بمظاهر وشكليات العبادات، والانحياز الطائفي في مواقفهم وفتاواهم. وامتدادهم الحركات الإسلامية التي زجت الدين في السياسة لخدمة مصالحهم وأيديولوجياتهم. للدين وظيفية سامية حينما يفهم وفقا لغاياته ومقاصده الكبرى، والتسلح بمنهج يلتزم بالمنطق الداخلي للقرآن في فهم آياته. قادر على فهم فلسفة الحكم ومقاصد التشريع. لا يفرض قبلياته على فهم النص ويجعل منه مرجعية لفهم معالم الدين، ويصغي له، يتدبره، يؤوله، يسعى لتحري غاياته. فثمة آيات محكمات تكون حاكمة على الآيات المتشابهة. وهناك أهداف ومقاصد عليا للدين ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار. وهذا الكلام لا يلغي ما سجلناه سابقا على النص الديني، بل هو تأكيد على شرط القراءة المنتجة، أو يغدو القرآن مصدرا للعنف والكراهية والتنابذ فنخسر القيمة الأخلاقية والروحية التي نحتاجها في سياق بناء مجتمع الفضيلة، سيما شعوبنا المسكونة بالمقدس والغيب والماورائيات والسحر. وليس فيما تقدم أي تبرير سوى فهم النص في إطاره الصحيح. فعندما أقول بعدم فعلية الجهاد بعد عصر الرسالة فهذا ينسجم مع منهجي في فهم آيات الكتاب، وقد بينت أدلتي، ولم أعمد للتبرير التعسفي المجرد من الأدلة والبراهين. إن فهم الدين أفضل من نبذه بناء على قراءات مبتسرة، فيخسر المجتمع مصدرا مهما من مصادر الأخلاق، فليس كالعقيدة الدينية عقيدة قادرة على رابط الإنسان بالمطلق، وعندما تدان العقيدة بسبب سلوك معتنقيها يغدو تحري الحقيقة ضرورة ملحة لفهم أين الخلل. فليس كالأديان أيديولوجية تتمتع بزخم روحي وإيماني. الدين قادر على تعبئة الفرد والمجتمع بسهولة ويسر من خلال ربطه بالغيب والمطلق، ويمكن أن يساهم في بناء مجتمع الفضيلة، بعيدا عن التوظيف السياسية والتفسيرات الباطنية والخرافية، بل يمكن الاستفادة منه لتنمية التجارب الروحية وتعميق وازع التقوى، فيكون لدينا ضمير ديني بجانب الضمير الإنساني، يقوم أحدهما الآخر، ويتعاضد معه لدعم مسيرة الخير، بعيدا عن الظلم والجور. يجب التأني في إدانة الأديان بسبب سلوكيات معتنقيها، فما تقرأه عنها، هي قراءت واجتهادات تخضع لقبليات المتلقي، والفرد العادي لا يميز بينها وبين الدين، ويحسب الجميع عليه، وهذا خطأ. لذا ينبغي تحري الأساس الأخلاقي للقيم الدينية، وما هو مصدرها؟ وهل هي أحكام دينية أم أحكام عقلية، فتكون الأحكام الدينية إرشادا لها؟
وهنا نؤكد أن جميع الأديان تهتم بالبعد الأخلاقي للفرد والمجتمع، وجميعها يتوفر على منظومة قيمية وأخلاقية. وقد تقدم: أن الوصايا العشرة التي تعهدتها الرسالات، هي وصايا إنسانية – أخلاقية، وقد نسبها القرآن إلى الحكمة حيث ختمها: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). والحكمة مشترك إنساني: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ). (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)، ولم يكن نبيا. لذا يؤمن بها ويتمثّلها المؤمن وغيره باعتبارها قيما أخلاقية إنسانية سامية. وهذا القدر من الاستدلال غير كاف رغم أهميته، فينبغي أولا تعريف الأخلاق وتحديد دلالاتها، لنعرف جذرها التاريخية، وهل هي أصيلة أم مكتسبة. دينية أم تفرضها الأعراف والتقاليد أو انعكاسا للتفاوت الطبقي؟. وبهذا الاتجاه سأتطرق لمسألة ربط الأخلاق بالدين وبالمقدس. وكلامنا دائما عن القرآن انسجاما مع مضمون السؤال، وفي هذا السياق ينبغي لنا فهم العلاقة بينه وبين الأخلاق بشكل أكثر تفصيلا، أو بين الأخلاق والدين بشكل عام.
إن أشد ما يؤرق الوعي الديني أن تتحول الأخلاق الدينية أو الأخلاق باسم الدين، خاصة وفقا للعقل الفقهي مبررا للفساد والظلم والجور والضعف والخنوع فيصدق أن الدين أفيون الشعوب. وأداة لشرعنة العنف والتطرف والقمع، فينقلب الدين إلى جحيم، على خلاف قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). وفق منطق تكملة الآية: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)، في خطوة لسلب القداسة عن أية ممارسة، على أن تكون مفاهيم الكتاب ومنظومة القيم الأخلاقية هي المرجعية النهائية، فثمة ما يقوم سلوك الفرد والمجتمع شريطة الوعي (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). والالتزام: الذين آمنوا وعملوا الصالحات. كما ينبغي العودة إلى الكتاب مباشرة، فكل قراءة تحجب ما قبلها، وتملي قبلياتها وقناعاتها علىى النص. فمثلا تجد خطاب الضعف والاستكانة والرضوخ للحاكم مليئة في تراث المسلمين، بفعل ما نظر له الفقهاء لشرعنة سلوك الخلفاء الطغاة وتبرئتهم من أفعالهم وسلوكهم المشين، وكذا الفقه السلطاني الذي راعى مصالح السلطة، وعكس نظرة سلبية عن الدين عندما قسم الأرض إلى أرض إسلام وأرض كفر. مسلمون وأهل ذمة، تلك الثنائيات التي باتت قرآنا، كانت أحد مصادر شرعنة العنف على يد الحركات الدينية المتطرفة، وقد فعلت فعلها مع الأقليات غير المسلمة. ساقت نساءهم جوار إلى سوق النخاسة. وباعوهن بثمن بخس.
عندما تعود للقرآن تجد عكس نصوص الفقه السلطاني، فالله يحب المؤمن القوي كما في الحديث المشهور: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله”. والقوة ليست حكرا على القوة المادية بل القوة المعنوية والأخلاقية والسلوكية أهم بالنسبة للدين وأهدافه السامية. وفي هذا السياق نقرأ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا). فالقرآن يرفض أخلاق الضعف والهوان، ووصف الضعف بالظلم. ظلم النفس الذي هو أشد ظلما على الفرد. فكان سؤاله عن الهجرة باعتبارها وسيلة للتحرر من أخلاق الضعف والخنوع التي تفضي للانهيار. بينما تتحايل فتاوى الفقهاء على الحق بالتقية التي هي مفهوم استثنائي، والتي غدت تعني النفاق الاجتماعي والأخلاقي. أو بما يعرف بالحيل الشرعية، التي هي أداة للتزوير وكسب المال الحرام. أو وجوب طاعة الخلافاء ولو كانوا ظالمين، وعدم الخروج على أولي الأمر وإن كانوا سفاحين وغير ذلك.