الناسُ في بلداننا ومجتمعاتنا العربية عموماً وصلوا إلى ما يمكن توصيفه بحالة العجز المطلق والشلل التام عن فعل أي شيء للتأثير الإيجابي في واقعهم البائس والصعب والمحتقن، فلا قادرون على تلبية متطلبات عيشهم، ولا يوجد لديهم أية تصورات حقيقية واقعية للخروج من شرنقة أزماتهم الوجودية المستمرة منذ زمن غير قصية.. يعني، باتت خياراتهم شبه عدمية، وإمكاناتهم محدودة، يعيشون الحياة يوماً بيوم، لا يفكرون سوى بيومياتهم وحاجاتهم الأولى..
فما هي أسبابُ هذا العجز الفاضح وحالة انسداد آفاق التغيير لديهم؟! وهل يمكن النجاة منها، فيما سببته للناس من محن وكوراث وانهيارات للدول الوطنية وانتهاكات ممنهجة للإنسان العربي في حقوقه وحريته وتنميته التي تم تغييبها قصداً وقسراً؟ ثم كيف يمكن إيجاد سبل واقعية عملية لإعادة ضخ أمل التغيير في نفوس الجماهير ووعيهم، وتفعيل إرادة الحضور والفاعلية في وسلوكهم، في ظل شيوع الفقر والعنف واللا إبالية؟!..
أمامنا اليوم نحن العرب ثلاثة أمراض رئيسة، اجتمعت في الجسد وتسببت له بتقيحات ومستنقعات انتشرت روائحها النتنة في العالم أجمع، وهي ستنتشر وتستفحل أكثر فأكثر في الجسد، ما لم يتم مواجهتها وإسقاطها، ولو بعد حين، وبأثمان باهظة.. والأمراض هي، الاستبداد، والتطرف، والتفكير القبلي الطائفي.. وهي أمراض مستمرة بالحضور الاجتماعي والسياسي والتأثير العملي في واقع العرب بما يمنع من تشكل وبناء أي أمل حقيقي للتغيير والنهضة الحقيقية..
وقد لاحظنا عندما بدأت واشتعلت موجات التغيير في عالمنا العربي والتي سميت بثورات الربيع العربي، منطلقة من تونس، لاحظنا أن الجمهور العربي عموماً تفاعل معها إيجاباً وانخرط فيها وتفاعل مع مقتضياتها بل واعتبرها مقدمة لبناء دول وطنية ديمقراطية حديثة، وتأسيس سلطات حكم عربية تستجيب لتطلعاته (تطلعات هذا الجمهور) في التنمية والحرية والبناء المؤسسي المدني الحديث.. لكن للأسف تم الانقلاب على تلك التطلعات والغايات السياسية التنموية، وتحولت تلك الثورات والانتفاضات التغييرية إلى مجرد خضات بسيطة، لم تحل المشاكل والأمراض المزمنة القائمة بصورة كاملة أو صحيحة بالمطلق، وربما هي فقط أسهمت في “هزّ” واقع المياه العربية الراكدة قليلاً أو كثيراً.. فبقيت الأمراض ذاتها، بل زادت رقعتها ومساحتها، وارتفعت منسوب التطرف والإرهاب والعنف العدمي، وتدخلت الدول والقوى الإقليمية والكبرى في الداخل العربي..
لقد كان من الطبيعي جداً أن ينتهي الاستبداد العربي إلى الحائط العدمي، وأن يحول كثيراً من مجتمعات العرب إلى ساحات مستباحة للتدخل والهيمنة والنهب العاري لثروات شعوبه وجماهيره..
وفي سبيل إعادة تثبيت مواقعه، مارس الاستبداد العربي المدعوم من قوى الفساد الداخلي والخارجي، أشد وأقسى درجات وأشكال العنف العضوي والرمزي.. فمن التضليل والتزييف والنفاق إلى اللعب على عواطف البشر، وتسمية الأسماء بغير مسمياتها الحقيقية، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة… وهي كلها لم تنتج ولن تنتج عنده سوى مزيد من التّرهل والانحطاط المجتمعي والسياسي والاقتصادي العربي، مع أبقت المجتمعات الخاضعة له في ظلمات البؤس والتخلف والتبعية الحضارية، مع تأبيد التكلس التاريخي، وتكديس تراكمات الوعي الزائف والكذب على الذات قبل الآخر، ودَفْع المجتمعات لخارج التّـاريخ والعصر..
ولعلَّ الكارثة الأكبر التي نجمت عن تداعيات وآثار هذا الاستبداد العربي المقيم (الذي حول البشر إلى مجرد أدوات وظيفية وكائنات انفعالية خنوعة)، كانت في دفع كثير من الناس إلى أحضان الفوضى والعنف والتطرف، والعودة المكلفة إلى أحضان الانتماءات التقليدية والطائفية القديمة، نتيجة شعورها وحاجتها الماسة للحماية من قسوة وقمع الاستبداد ورموزه، خاصة مع رغبته الجامحة في البقاء الأعمى بالحكم رغماً عن الناس، وضد إرادتهم ونقضاً لبديهيات السياسة في الحكم التداولي الدستوري والقانوني الحديث والبناء الحداثي الفردي والمجتمعي..
نعم، لقد هيمنت العقلية الوصائية التاريخية والسياسية واستشرت ثقافة العنف، وتفشى التطرف والإرهاب العدمي المعمّم سواء في صياغتيه العلمانية أو الدينية، بما حولّه إلى ما يشبه الوباء الشامل، مما أطال في زمن بقاء المرض وتغلغله في جسد مجتمعات العرب، مكرِّساً مواقع العبودية والظلم والاستبداد، ومشتتاً قدرات المجتمعات وطاقاته الهائلة..
كما قضى الاستبدادُ على ما بقي في مجتمعات العرب من إرث الدولة الوطنية، مكرساً دولته التحديثية التي فشلت في تحقيق أدنى شعاراتها ومقاصدها المرفوعة طيلة عقود، مع أنها هي التي تحكمت بتلك الموارد وأشرفت على استثمارها والاستفادة منها.. لكنه لم يكن استثماراً ناجعاً ومثمراً بل كرس سياسات فوقية نخبوية إقصائية وإلغائية لم يتم احتضانها مجتمعياً وقبولها شعبياً.. مما كرس الانفصال بعد فرض أجندات قهرية إملائية لإنجاح تلك السياسات التنموية والاقتصادية..
لقد كان تغييب إرادة التشارك من عوامل فشل التنمية بكل مواقعها، وهذا التشارك شرط جوهري لإقلاع عملية التنمية، أن يكون للناس مصلحة فيه، بما يشعرهم بوجودهم وحضورهم وتأثيرهم.
لقد أوصل الاستبداد العربي جماهير العرب إلى وضع خطير، تداخلت فيه المأساة بالهزل، حيث يخوض هؤلاء البشر معاركهم اليومية (وحروبهم المعاشية إذا جاز التعبير) لتأمين أدنى احتياجاتهم اليومية من مأكل ومشرب، دونما أدنى قدرة لديهم على التفكير باليوم القادم، فهم يعيشون حياتهم يوماً بيوم فقط..!!.
وللأسف في ظل هكذا حصارات معيشية وحياتية قاهرة، لم يعد باستطاعة مجتمعاتنا مواجهة أمراضها الأخرى، كالتطرف الفكري والتطرف الديني والعلماني، واستعادة القليل من العقل للتفكير العلمي بقادمات الأيام وفتح النقاش حول المستقبل السياسي والثقافي والديني، ومحاولة التحرر من الطائفية والقبلية وغيرها من أمراضهم الحاضرة والتاريخية..
..نعم، الناس مهجوسة بهمومها اليومية ومحاولة ترميم انكساراتها الحياتية المباشرة الآنية، ومحاولة تفكيك بعض ضغوطاتها وتعقيداتها اللحظية.. أذهلوها وأشغلوها بجوعها ويومياتها وعيشها الآدمي البسيط، بحيث لم تعد لديها القدرة على التفكير بحقوقها المشروعة في الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية الشاملة.. فقد أعادوها للحظيرة الأولى لا تغيير ولا تطوير، بل رفض للتغيير وتأييد بقاء الحكام والتهليل لقبضتهم الأمنية، ودفعوها لأحضانهم كبديل وحيد لمنع الفوضى وانتشار الإرهاب وإيقاف تصاعد معدلات العنف ومواجهة خطر الفوضى والسيطرة على موجات الهجرة غير الشرعية.. والغرب كانت له اليد الطولى في هذه الحسابات والخيارات، فلا حريات الشعوب تهمه ولا حقوق العرب تشغله، هو فقط منشغل كلياً بتأمين مصالحه حتى لو جاءت على أكف عفاريت العرب وأبالستهم من حكام القمع والقهر..
وقد رأينا –على هذا الصعيد- أنّ كثيراً من النخب في مجتمعاتنا، كانوا (وما زالوا) مولعين وعاشقين حتى الثمالة للثقافة الغربية بكل مستوياتها ونتاجاتها ومفرداتها، معتبرين أنها خلاصهم وملاذهم، رغم ما فعلته –تلك الثقافة المركزية- في استشراقياتها (الثقافة والسياسية) من تمهيد استعماري خطير، سرق ثرواتهم ودمر مجتمعاتهم ووضع حكاماً خانعين مترفين موالين له على رؤوسهم أجمعين منذ عقود طويلة، ما فتئوا ينفذون سياسات هذا الغرب السياسي، في تفتيت قدرات مجتمعاتهم وسرقة موارد بلدانهم تحت ذرائع الحداثة، التي هي مجرد قشور استهلاكية زائفة بعيدة كلياً عن المضامين المعرفية العميقة.. فالحضارة والمدنية والحداثة لا تُشترى ولا تُباع، بل تُستنْبت بجهود أبنائها ومراكمة خبراتهم وتجاربهم وتفعيل مهاراتهم، وقيامهم هم بالدور المعرفي والعلمي المركزي في استنباتها وبنائها..
المشكلة أنّ النخب العربية الحاكمة التي لا قيمة فعلية لوجودها لولا دعم الغرب لها، تخلَّت –كما قال ابن خلدون قبل عدة قرون في لحظة تاريخية فارقة مشابهة للحظتنا الراهنة- عن معاني الرجولة والقوة، وأدمنت الترف والخمول، ثم رمتها الأمم عن قوس واحدة، من المغول في الشرق إلى الصليبيين في الغرب.. ونقول إلى الغرب الحديث..!!..
واليوم لا حديث لدى هؤلاء النّخب سوى حديث التطرف والإرهاب، وهم يريدون به أو يعنون به حصراً “الإرهاب الإسلامي”، وهم لا يتردّدون في الحديث الإعلامي والسياسي -ليلاً ونهاراً- عن “حقهم” في مكافحة “الإرهاب”، بالتعاون حتى مع الكيان الصهيوني (صديقهم الرسمي الجديد)، متناسين “واجبهم” في مواجهة التخلف، وإنجاز التنمية، وبناء أسس العدل، ومكافحة الظلم والفقر.
نعم، كثير من هذه النظم ما زالت مصرة على اتهام ناسها و”مواطنيها!!! أقصد رعاياها” بالعنف والإرهاب واتباع الأصوليات.. لكن ألم تسألْ تلك الحكومات والنظم “العاجية!” نفسها: ماذا فعلتْ على مدى عقود طويلة من امتلاكها للقرار والمصير والثروة؟! هل كافحتْ العوز والتخلف؟! وهل عملت -تلك الحكومات المستبدة- على تمكين مواطنيها بالعقل والعلم والمعرفة، وإكسابهم المهارات، وتدريبهم على ثقافة الوعي والتسامح والمسؤولية والقيم الحديثة؟! وماذا كانت نتيجة استراتيجيات التخطيط التي اتبعتها على صعيد التنمية والبناء المدني الرصين؟! هل أخفقت أم نجحت في صناعة مواطن قادر وقوي ومسؤول وحائز على حقوقه؟! وهل ترتّب على الإخفاق والفشل مساءلات نوعية ومحاسبات جدية؟! هل أعطت تلك الحكومات هؤلاء الناس (الذين تتهمهم اليوم بشتى ألوان التهم السلبية) حقوقهم وحاجاتهم وبنت لهم مقومات العيش والصمود والثبات وعدم مد يد الحاجة والتسوّل؟!.. هل اقتربتْ (تلك الحكومات) من حاجات الناس ومطاليبهم وشجونهم، وتفهُّمها واحتوائها بشكل حقيقي ملموس، أم انهمكت واستغرقت في تأمين مصالحها الخاصة، وعاشت في أبراجها العاجية بعيداً عن هموم البشر ومشكلاتهم وأزماتهم التي تكدست وتراكمت يوماً بعد يوم، وتكرست وتفاقمت، ولم تحلها حتى انفجرت في وجهها فكان ما كان من اشتعال الصراعات والحروب والنزاعات الأولى؟!!..
..هي أسئلة كثيرة تطرح من قبل الفرد العربي (الواعي مع ما بقي له من عقل ووعي)، بعد خراب البصرة..!!.
..ما يبدو أنّ الشعوبَ التي تغلي اليوم كالمراجل نتيجة نيران الحاجة ومآسي القهر والانضغاط اليومي، ستنفجر يوماً ما في وجوده قامعيها ومستبديها.. وهو يومٌ قادم لا محالة، والحالة الصفرية التي تعيشها اليوم، ستتحول في قادمات الأيام للتزايد الإيجابي، لأن القسر لا يدوم، وهو قانون مضاد للطبيعة والوجود القائم في عمقه على المعنى والغائية والعدالة الكونية..
ولا شكّ عندي أنَّ الشعوبَ والمجتمعات ستتحركُ نحو تحقيق الشّعارات والأهداف العليا والطموحة التي ما فتئت تفكر فيها (من حرية وعدالة ومساواة)، انطلاقاً من انتزاعها لحقوقها بلا منّيّة ولا مزاودة من أحد.. وإفساح المجال العام أمامها للمشاركة الفاعلة في صنع مصيرها ومستقبلها.. فالناس باتت تعرف كل الحقائق، صغيرها وكبيرها.. العلم والتقنية واستثمار شبكات التواصل الاجتماعي اخترقتْ حتى خفايا الأسرار الدفينة، وعرّت الدول والأنظمة أمام شعوبها، وهي التي كانت تفاخر دوماً ببناء كل وجودها على السر والعمل بالخفاء، وتبني كل سياساتها وترسم كل استراتيجياتها وراء الكواليس وتحت الأقبية .. لكن كل شيء انكشف وينكشف أمام الناس.. ولغة الأرقام والاحصائيات المتعلقة بكل شيء خاصة الاقتصاد والتنمية في كل دولة صارَ أمراً متاحاً، وبالتالي معروفاً للجميع.. في كل أقاصي المعمورة..!!.