متاهات الحقيقة / قراءة في كتاب “الفقيه والعقل التراثي” لماجد الغرباوي

في عصر جديد وايقاع التجديد فيه سريع، وفي زماناً مختلفاً عن زمن الفقهاء الأوائل الذين كتبوا وأبدعوا مدونات فقهية بلغة عصرهم وأولوياتهم. في زمناً مختلفاً في المأكل والمشرب، والملبس، وفي علاقات الإنتاج، وفي نمط التعليم، والخدمات الصحية، والعلاقات الاجتماعية، في السفر والمواصلات، حيث إيقاع الزمان اختلف، فهل اختلف فهمنا للزمان وأحواله؟، وهل نحن بحاجة إلي فقه جديد غير ما كُتب وُدون في القرون الماضية؟، وإذا اعتمدنا علي ذلك وحده فكيف، نجيب عن أسئلة زماننا التي لم يعرفها راود تلك العصور ولم يشهدوها؟.

إن سؤال الفقه الجديد سؤال قديم جديد كلما مر الزمان ظهرت أسئلة جديد، وأحوال جديدة وتحديات جديدة، وليس أكثر من زماننا اختلافاً عن أزمنة القدماء، وليس أكثر من إجاباتنا على هذه الاختلافات تنوعاً واختلافاً قد يصل إلى حد التضاد.

في هذا المقال نحاول أن نعرض إجابة الأستاذ المبدع  “ماجد الغرباوي” من خلال كتابه الذي صدر خلال الأيام القليلة الماضية وهو بعنوان ” الفقه والعقل التراثي”، وفي هذا الكتاب أراد ماجد الغرباوي أن يجيب عن إجابة أبناء الفقه القديم على أسئلة العصر الجديد لنرى مدى استجابة ذلك الفقه لتحديات العصر والمتمثلة في : هل التجديد يكون في القوالب والأساليب والأمثلة ؟، أم أنه تجديد في مناهج النظر والاستنباط ؟

في هذا الكتاب وجدنا الغرباوي يحاول أن يقيم فرضية مهمة كما اعتقد، تعول على أن الفقه هو الفهم، ومنذ لحظة الوحي الأولى بدأ الفقه ومعه الخلاف. بيان النبي صلوات الله وسلامه عليه واجتهاده، وفقه أصحابه وتابعيه وتابعيهم، أجيال من العظام، تركوا لنا ميراثاً ضخماً من الفهم والوعي، ثروة من التجارب، وتفاعل فريد بين النص والواقع، حيث تغير الزمان، وتغيرت لغته ومفرداته، فماذا نفعل بميراثنا، هل نجدده أم نبدده؟!، نتجاوزه أم نتجاوز به؟!.

في القرن التاسع عشر كان أول لقاء بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، حيث الصدمة الأولى عندما اكتشف العرب أنهم بعيدون عن زمانهم، غارقون في ماضيهم، كانت البداية عند الشيخ “حسن العطار”- ( شيخ الأزهر الشريف وشيخ المجددين ورائدهم) أول من نادى بتجديد الخطاب الديني، وأول من نادى بتجديد العلوم الإسلامية، كما ساهمت علاقته الوطيدة بمحمد علي باشا، في أن يكون أول صحفي في تاريخ مصر، والمؤسس الأول لتاريخ أول جريدة رسمية؛ وهي جريدة “الوقائع المصرية”، والدافع الرئيس لمحمد علي لتبني حركة التحديث والترجمة عن الغرب في كل العلوم ؛ يقول حسن العطار :” إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سمت همته به، إلى الامتناع عن غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة، من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم.

أودع العطار ثورته في تلاميذه، وكان أشهرهم وأقربهم إليه ” رفاعة الطهطاوي”، الذي سافر بدوره إلى فرنسا، وألف عنها، واهتم بتجديد منظومة التعليم، ثم تلاه آخرون في شتى أرجاء الأمة العربية والإسلامية من أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، ومحمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، وإبراهيم بيوض، والعربي التبسي، وأبي اليقظان.. وغيرهم كُثر؛ جميعهم تركوا سؤال التجديد والتحديث، وحاولوا فهم دينهم بدنياهم، وإصلاح دنياهم بديهم، سواء بسواء.

والآن فالقرن الحادي والعشرين ما زال السؤال مطروحاً، فقهاً جديداً لعالم جديد ولكن كيف؟!

البعض يرى قراءة توفيقية بين زماننا وأزمنة القدماء، يعتمد أصولهم، ويجدد في فروعهم (يوسف القرضاوي ومحمد عمارة) وآخرون ينتقلون مباشرة من النص إلى الواقع بلغته وتحدياته ومناهجه العديدة (حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد) وفريق ثالث يحاول التوسط بين هؤلاء وهؤلاء والإجابة أيضاً في ضوء مستجدات واقعنا المعاصر (ماجد الغرباوي.

حاول ماجد الغرباوي في كتابه الذي بين أيدينا، وهو كما قلت كتابه الأخير الذي صدر منذ أيام قليلة وهو كتاب ” الفقيه والعقل التراثي”، الذي صدر في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق – سوريا، 2020م، حيث يقع الكتاب في 408 صفحة من الحجم الكبير، وقد تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح، منها: الفقيه ومنطق العبودية، فلسفة التشريع، منهج التأصيل العقلي، الذي طرحه الكاتب بديلا للاتجاهات الاصلاحية الخمسة المعروفة، والتي لم تحقق شيئاً ملموساً. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي، وهي رؤية للباحث لمعرفة ملاكات الأحكام ومدى فعليتها للخلاص من جمود المدونات الفقهية. علاقة الواقع بالتشريع، والأهم دور مضمرات العقيدة، والنسق العقدي المألوف في استنباط الأحكام الشرعية، حيث ركز البحث على مجموعة مقولات كالعصمة، والولاية، وغيرها للخروج من متاهات العقل الفقهي وتداعياته الخطيرة، إلى رحاب العقل، واشراقة الدين بآفاقه الإنسانية والرحمانية.

وقد جاءت إجابة ماجد الغرباوي في هذا الكتاب ليؤكد أنه ما كان للفقيه أن يحقق مركزيته، ويحتكر سلطته لولا تداخل الديني بالسياسي، والمقدّس بغير المقدس، والإلهي بالبشري، فالتبس على الناس التمييز بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه، التي هي اجتهادات ووجهات نظر، وفهم للنصوص المقدسة، وقراءة تتأثر بقبلياته ومرجعياته وثقافته وبيئته ومصالحه. فتسبب انعدام الفواصل بين المتعالي والمحايث في تعميق مركزية الفقيه وفرض سلطته، باعتبارها تجلٍ لسلطة الدين أو سلطة الشريعة التي هي سلطة إلهية، فترى المكلّف هلعا يخشى مخالفة الفقيه حتى وهو يستهزئ بعقله، ويسلب إنسانيته. فهيمنة الفقيه التفصيلية تركت تداعيات خطيرة، نشير لها لاحقا. تداعيات لا يمكن تداركها ما لم نتحرَ أولاً مدى صدقيته وحدود شرعيته. وما لم نتقصَ جميع العوامل التاريخية والسياسية والطائفية التي ساعدت على تعضيد مركزيته وفرض سلطته.

وهنا يتساءل ماجد الغرباوي : هل الفقيه ضرورة؟، وهل يتوقف على وجوده شيء من الدين ومصير الإنسان؟، ومن أين استمد شرعيته وشرعية سلطته وولايته؟، ومن أضفى صفة القداسة على فتاواه وآرائه؟، وأساسا هل من حقه أن يصف الشيء بالحلية والحرمة أو الجواز وعدم الجواز، ونحن نعلم أن الأحكام توقيفية.  أي تتوقف على وجود دليل صريح من الله تعالى؟. وهل صدر ما يؤكد سلطة الفقيه، واحتكاره للحقيقة الفقهية؟. وأسئلة جديرة تمس واقعه، ضمن سياقاته التاريخية والمعرفية. فنبدأ بتفكيك العقل الفقهي لتقصي جذوره، ويقينياته، ومدى تأثره بنظام القيم، ومنظومة الأخلاق التي كانت سائدة قبل وبعد البعثة. فثمة سياق تاريخي مهّد لدوره الخطير يجب مقاربته لفهم الحقيقة.

لم يكتف الغرباوي بذلك، بل أخذ يلح في السؤال فيقول فمن هو الفقيه إذن؟

وهنا يجيبنا فيقول الفقيه، بدأ من الصحابة، سليل نظام اجتماعي، يكرّس روح التبعية والانقياد لشيخ القبيلة، ويمنحه سلطات مفتوحة، فهو نظام طبقي بامتياز، يصادر حرية الفرد ويختزل وعيه إلى طاعة مطلقة للقبيلة وشيخها. فهو يلغي خصوصية الفرد، ويمنح الأب / الشيخ ولاية وقيمومة، يعتبره الجميع ضرورة لضمان وجود القبيلة ككيان يخضع الجميع لقوانينه وأعرافه وتقاليده .فثمة تماهٍ تام بين الفرد ومنظومة القيم القبلية، وهناك أخلاق تستبد بوعي الفرد وتلازم سيرورته، تمهّد لقبوله، مهما اختلفت تمظهراته. فالنظام القبلي ساعد لا شعوريا، على قبول النظام الديني، المتمثل بالنبوة آنذاك، حيث فرض الكتاب الكريم للرسول سلطات، أعادت لمنظومة القيم الجاثمة في أعماق الفرد العربي توازنه واستقراره. فثمة ولاية مطلقة للنبي هي ذات ولاية شيخ العشيرة وفقا لنظامها، وكرست روح التبعية والانقياد في نفوس المسلمين، وهو جوهر النظام القبلي. لذا حسمت رواية الأئمة من قريش الموقف السياسي لصالح قريش نهائيا وإلى الأبد بمساعدة قيم النظام القبلي، وقد مرّ بنا مفصلا بيان هذا النظام ودوره الخطير في مصادرة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تجلت بإقصاء الأنصار من السلطة رغم مكانتهم في الإسلام وعند رسول الله. ولا ميزة للشيعة عن السنة فكلاهما ينشدان نظاما قبليا قائما على قدسية شيخ العشيرة. ويؤمنان بالوراثة نظاما للسلطة والحكم، هذه هي الحقيقة التي يتستر عليها الجميع بواسطة مصفوفة روايات لا يمكنه الاستدلال على صحة صدورها، أو يلزم منها الدور، فتفقد قيمتها الاستدلالية.

ثم يستطرد الغرباوي فيقول : فالفقيه يحمل في أعماقه نواة النظام القبلي، ويقوم بتعزيزه لا شعوريا بعد اكتسابه صفة دينية وقدسية. وطبيعة النظام القبلي نظام عبودي، سيّد يخطط ويأمر، وعبد يتلقى وينفّذ. وكلاهما لا يحقق وجوده إلا من خلال الآخر، فيكون بالنسبة له ضرورة يتوقف عليها وجوده وتحققه خارجا، بمعنى رسم حدوده من خلال وعيه ومشاعره. لا من خلال كينونته. فلا يوجد صراع طبقي، ولا توجد إمكانية للثورة على أساسه، لتوقف تحقق وجوده على الآخر / السيد / الشيخ. فأغلب قادة الانتفاضات عبر التاريخ الإسلامي شخصيات قبلية قوية، لا تنتمي لطبقة العبيد. ولا أقصد بالعبيد العبودية الظاهرة أو الرق، وإنما أقصد به روحا ووعيا ونظاما أخلاقيا جاثما في أعماق الفرد، ومهيمنا على العقل الجمعي. فلا وجود لقاعدة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم) فعلا، بل الأحكام محدودة، غير أن متطلبات النظام القبلي يستدعي الاستغراق في التشريع، لضبط سلوك الفرد، والإمساك بوعيه، مع تعزيز مكانة الشيخ / الخليفة / الإمام / السلطان / الفقيه. وبالتالي فدراسة جذور الوعي لدى الفقيه، وتحديد منحدراته يساعد على فهم سيرورة سلطته. فالدين الجديد استبدل الاسماء من شيخ القبيلة إلى نبي / خليفة / إمام / فقيه. وهذا قد لا يكون واقعا بالنسبة للنبي، لكنه استقر في وعي الناس، أن سلطة النبي هي سلطة شيخ القبيلة زائدا قدسية إلهية وأسطورية. لأن معنى الشيخ في الوعي الجمعي، هو صاحب السلطة، المتسلط، الذي يحتكر الامتيازات بفعل خصائصه العنصرية، فهو من طينة أخرى، ومن أقوام وسلالات بشرية خلقوا ليكونوا أسيادا على العالمين، وبهذا المنطق خضعت جميع القبائل لسلطة قريش، وتسيد رجالها على مقدرات المسلمين، بذات السلطة هيمنة الخلافة الراشدة ومن بعدها سلطة الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية، ولما وصلت النوبة للسلطة العثمانية استعانت بالفقيه ومنصب مشيخة الإسلام. ولعل هدف الآية الآتية تذكير الشخص العربي بقيمه التي على أساسها منح شيخ قبيلته ولاء مطلقا، فأرادت أن تقول له أن الأنبياء أحق بالولاء إذا كنت تنظر لنقاء العنصر البشري: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)..

إن هذا الكتاب من الكتب التي تركت بصمة واضحة في فكرنا الفلسفي المعاصر، حيث يشرع الغرباوي في هذا الكتاب بمقدمة عامة تتناول العناصر الخمسة لضوابط الرواية الدينية: معرفة الروايات، وشواهد الوضع، ومناهج التوثيق، وحجية السنة، ثم أخيراً القيمة المعرفية.

ومن المفيد – قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة.

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له أنه ليست المسألة هي رغباته أيديولوجية أو مذهبية، فقد كان أحد أهداف الجهاد أن يكون الدين كله لله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) بمعنى تحريره، وسلب شرعية الأديان التي تتحكم بمصائر الإنسان ولو بالقوة. والدين هو العقيدة والشريعة. فالرهان على ما طرحته يتوقف على تسوية إشكاليات، ترتبط بفهم الدين، ودور الإنسان في الحياة، وتحديد مهمة الأنبياء الرسالية، وحدود تأثر الفقه بالمتغيرات الزمكانية. ومدى وعيه بها، وقدرته على التحرر من قبلياته التي تفرض محدداتها وسلطتها. فرغم دعاوى الإجتهاد، غير أن الفقيه أسير قواعد تم تأصيلها عقلياً لضبط منهجه في استنباط الأحكام الشرعية، فهو يخضع لها ويقدسها وينسى أنها صنيعته، المرتهنة في صدقيتها لقبلياته، وما يؤمن به من يقينيات دينية وعقلية وفلسفة. فهي قواعد تم تأصيلها لتلبي رغباته التي تنسجم مع عقيدته وفهمه للدين والتشريع، يظهر هذا واضحاً من خلال استدلاله عليها، فبعض يميل بطبعه للاحتياط فينعكس على موقفه الأصولي من القضايا المشكوكة، بينما يميل الثاني للبراءة والسعة.

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أن الرهان في بعده الآخر، يتوقف على نقد المرجعيات الفكرية والعقيدية والأصولية للفقيه، وتشكيل وعي جديد وفق فهم مختلف للدين، وإعادة النظر بالمقدس، وقدسية التراث والسلف الصالح، والعودة المباشرة للكتاب الكريم، نتدبره وفقا لحاجاتنا وتطلعاتنا، كمرجعية نهائية في مجال تخصصه. فهو ” تبيان كل شئ”، وفيه ” تفصيل كل شئ”، و” وما فرطنا في الكتاب من شئ”. وهو أمر ممكن، رغم وجود روايات تشترط وساطة التراث والسلف في فهمه وتفسيره. لكنها روايات ضعيفة، لأنه بيان للناس، فلا يمكن احتكار فهمه وتفسيره، فيكون القرآن حاكماً عليها حتى وإن كان بعضها صحيحاً.

أما التوجه الثالث فيتمثل في نظر المؤلف على أنه ثمة فرق جوهري بين اتجاهين ومنطقين في فهم الدين وفلسفة الأحكام الشرعية، منطق العبودية، ومنطق الخلافة. يتوقف عليهما فهم أسباب تضخم الأحكام، وطوفان الفتاوى الشرعية. إن فلسفة الحكم تكشف عن سبب التشريع وحكمته ودواعيه وطريقة تأثيره، كما أن تاريخ الحكم يكشف عن البيئة الاجتماعية والدينية والثقافية التي انبثق عنها السؤال. حيث جاءت الأحكام الشرعية في الكتاب الكريم ردا على أسئلة السائلين، ولا يوجد حكم ابتدائي أو لم يكن مسبوقا قبل البعثة، كالعبادات وتفصيلاتها، سوى بعض الاختلافات. فالحكم مرتبط بموضوعه. غير أن جل الفقهاء إن لم يكن جميعهم يعتقدون أن فعلية الأحكام منقطعة عن اسباب تشريعها، فلا يدرسون تاريخها وفلسفتها. بينما تاريخ التشريع يؤكد وجود أسباب وراء تشريعها، وقد تنتقي فعليتها بانتقائها.

على أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: احداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية. أما الأولى من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن: الأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون في الكتاب والسنة مشكوك في حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآني، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية، وعند الشك فالأصل حاكم، وهو القدر المتيقن منها، أي الأحكام الشرعية القرآنية. غير أن الفقهاء اضطروا لشرعيتها من خلال قواعد عقلية، يمكن مناقشتها وتفنيدها. وليس هذا محلها. كما وظف الفقهاء خطاباً أيديولوجياً صارماً، يقمع أي تمرد على سلطتهم. بشكل أصبح الفرد لا يفرق بين الحكمين الشرعي القرآني، والحكم الشرعي الفقهي. فالجميع بالنسبة له مقدس، رغم تداعياتها على حرية الفرد.

وأما التوجه الثاني فتتبدى لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب في دعوته لإنقاذ الدين من سطوة الفقهاء، حيث يقول الغرباوي:” ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الإسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع فيها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم.. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيداً عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرس اللامعقول وتحرض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والإرهاب، أو يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلب الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الإرهاب ديناً، والخداع ديناً، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلاً عن الكراهية والتنابذ والاقتتال “.

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاة من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة. ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلى الجمود والإنغلاق. ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاماً لنا مشروعة في التغيير إلى ما هو أفضل.

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤى المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج ماجد الغرباوي في معالجته لقضية “الفقه والعقل التراثي” خلال محاور وقضايا هذا الكتاب، منهجا تحليلياً – نقدياً في كل محاور وقضايا الكتاب، حيث ارتكز المؤلف في كتابه إلى دراسة النصوص الفقهية، وفلسفة أخرى في فهم الحقيقة الفقهية التراثية. وتعمـّد المؤلف طوال البحث إلى تفكيك العقل الفقهي، الفقيه ومنطق العبودية والخلافة، غير مكترث لأى ممنوع أو محرم. ولا ينسى التأشير على الدوافع الشخصية والايدولوجية في فهم النصوص الفقهية. والمحاولات المتكررة من قبل المذاهب والأديان ورجال الدين لاحتكار الحقيقية وتوظيفها لخدمة العقل التراثي، بعد تكفير المختلف والمعارض.

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 408 صفحة موزعة على مجموعة من القضايا والمحاور، وذلك على النحو التالي: بدأ المؤلف بالحديث عن الفقيه ومنطق العبودية، حيث تناول منطق العبودية بأنه ضد الحرية والاستقلال، وأن منطق العبودية دينياً هو اتجاه يختزل دور الإنسان بالفتنة والامتحان والاختبار ويقصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية، مع سلبه حرية الحركة خارج ما هو مشروع منها. ثم تحدث المؤلف عن بعد ذلك عن ملاكات التشريع، فلا يحق في نظره لأي شخص كائن من كان تشريع الأحكام سوى الله تعالى لأنه القادر على إدراك الملاك الحقيقي، وليست الملاكات الظاهرية، كالفوائد الاجتماعية مثلاً. كذلك يتحدث المؤلف عن الفقيه ومنطق الخلافة الذي يختلف جوهرياً في رؤيته للإنسان وللدين وأحكام الشريعة، حيث يؤكد هذا الاتجاه على مركزية الإنسان، ودوره في استخلاف الأرض، وبقيم علاقته بالخالق، وفق ثنائية الخالق والمخلوق، فتاتي علاقته مع الله منسجمة مع فهم مختلف للدين والحياة، بشكل يشعر الإنسان باستقلاليته، وتمكنه من وعي الذات.

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن مهام الرسالة قرآنياً، حيث رأى أن رسالات السماء تواكب مسيرة الإنسان حتى بلوغ هدفه، فهي من جهة تربطه بالخالق، ومن جهة أخرى تخوله خلافة الأرض، فدور الأديان هو دور حاضن للإنسان، حتى يتقوم عوده، فلا يعقل أن يطارده من خلال الفقيه وفتاواه التي تنأى من المشاعر الإنسانية حينما تتعامل معه كآلة تقتصر مهمته على تطبيق ما يملي عليه من فتاوى وأحكام اجتهادية. وهذا دليل آخر على عدم حجية أي حكم ليس له جذر قرآني، ما لم يدل الدليل الشرعي الصريح، وهو مفقود بالضرورة.

كذلك ينتقل الغرباوي للحديث عن كون ” الحرية قدر الإنسان “، حيث إن الحرية في نظره بمعنى الاستعداد فتكون سابقة على التفكير بمعنى وعي الذات، ولو من حيث الرتبة لا من حيث تعدد العلل، أي أن لحظة وعي الإنسان لذاته هي لحظة وعيه لإرادته، فتكون الأصالة لحريته دائماً.

ومن جهة أخرى يتحدث الغرباوي عن الفقيه والعقل التراثي من خلال قضايا كثيرة يطول شرح تفاصيلها هنا في هذا المقال؛ مثل: الأحكام والاعتقادية وشمول القاعدة، والإيمان والعقيدة، والعقيدة الضابطة، والعقيدة والمعجزات، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث عن تجديد مناهج التوثيق، ومصداقية علوم الحديث، وتجديد المنهج، وخشية الراوي وضعف الرواية، كما يناقش أيضا الفارق بين العقدية والدين، وتعدد الأديان، واتجاهات الإصلاح، حيث يرى أن تلك الاتجاهات تحتوي علي ما هو سلفي وإصلاحي، وسياسي وتجديدي وتنظيري، ثم التأصيل العقلي.. ثم يتحدث عن مقاصد الشريعة فيبين أنها تشمل مركزية العدل، والسعة والرحمة، والواقع الموضوعي.. مقتضيات الحكمة في التشريع.. ملاكات الحكام.. مبادئ الحكام الشرعية.. مقاصد مرحلة الجعل الشرعي.. علاقة الواقع بالتشريع.. حدود الشريعة في القرآن.. مفهوم الحدود.. ملاكات الأحكام القضائية.. الاجتهاد تاريخياً.. والتشريعات الإلهية وخصائصها.. الفقيه وجذور الاستبداد.. والفقيه واستلاب الوعي.. والفقيه والتكوين العاطفي.. الفقيه وقيم التفاضل.. الفقيه والاصطفاء.. الفقيه والولاء.. الفقيه ومبادئ الحكم.. الفقيه ومفهوم العصمة.. تفكيك العقل الفقهي.. النص والاستبداد.. وهلم جرا..

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب ” الفقه والعقل التراثي” لماجد الغرباوي، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي نقف من خلالها مع الغرباوي على تلك الأجوبة التي جاءت من خلال موسوعته الحوارية المسماه بـ (متاهات الحقيقة)، التي تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثية تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازية جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفية، ومذهبية – سياسية.

فتحية طيبة للأستاذ ماجد الغرباوي التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي استطاع أن يعيد لنا كتابه العلوم الدينية في صيغة عصرية، كما أعاد لنا أيضا تأويل موقف الشريعة من قضايا المرأة، خاصة فيما يتعلق بحقها في تولي القضاء والفتوى والشهادة، والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والمدنية؛ علاوة على أنه صاحب رأي معلن بجرأة ووضوح في قضايا الدولة والمجتمع المدني وحرية الرأي والديمقراطية ومواجهة الفساد والتطرف، خاصة في كتابيه الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي، وجدلية السياسة والوعي.. قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق. ويؤسس فلسفيا أطر جديدة لمفهوم الفقيه والعقل التراثي من خلال مشروعه الفكري في تجديد “العقل الديني” والقائم على مجموعة من المهام العاجلة التي شكلت رؤيته نحو عصر ديني جديد، مثل تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل النقلي، وفك جمود الفكر الدينى المتصلب.

المصدر : الأوان . 

مقالات أخرى

قراءة في كتاب: البينيّة في الأكاديميا العربية والإسلاميّة من الاختبار التقني إلى المسؤولية الحضارية

الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي في المنظور التربوي عند علي وطفة

تقديم كتاب:”خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات” لنجاة قرفال

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد