ملخص:
تقدم الدراسة الحالية رؤية تأسيسية لمفهوم التربية كضرورة إنسانية، وتركز على المضامين التربوية لهذا المفهوم وتطبيقاته في نسق الفعالية التربوية في المؤسسات التعليمية. تبدأ المقالة بتقديم فكرة عن ولادة مفهوم التربية على السلام في مرحلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد عملنا في هذه المقالة على تحرير مفهوم التربية من التعقيد الغموض الذي يحيط به وتعقيده ولاسيما فيما يتعلق بأبعاده وغاياته ومجالاته وأولياته. وقد تبين أن التعقيد والغموض في المفهوم ناجمان عن تعقيدات تطور المفهوم عبر مراحل تاريخية متتابعة تتميز كل منها بخصوصيتها وسماتها وعواملها وأولوياتها ونظرتها إلى مفهوم السلام ذاته وإلى التربية بغاياتها وأهدافها.
فالسلام كما يتضح من خلال الدراسة يشكل أحد أركان المواطنة وأحد أهم ركائز التريبة على التنمية المستدامة ذاته بوصفها رؤية فلسفية تنص على تحقيق السلام بين الإنسان والإنسان من جهة وبين الإنسان والمحيط الحيوي لوجوده. وهذا يعني أن السلام يشكل المنصة الحقيقية لمفهوم التنمية المستدامة وهو من أجل أن يكون سلاما حقيقيا يجب على التربية أن ترسخه في العقول وأن تصقله في نفوس الأطفال والناشئة. وباختصار شديد الدراسة هي بحث في جغرافية وتضاريس العلاقة بين الإنسان والإنسان عبر رابوع السلام والتربية والتنمية المستدامة، كما هي سعي إلى الكشف عن الكيفية التي يوظف فيها السلام في مواجهة العنف والحرب والدمار بأشكاله البشرية والطبيعية,
الكلمات المفتاح: التربية، السلام، الاستدامة، الحرب، الأمن، التقدم الإنساني.
مقدمة:
كان السلام، بمعانيه المضيئة ودلالاته الحضارية الفريدة، وما زال هو الكلمة “الحلم” التي تدغدغ عواطف البشر وتهزّ مشاعرهم وتناشد أحلامهم. وتاريخ الحياة الإنسانية لا يعدو أن يكون في جوهره إلا سعيا تاريخيا من أجل الأمن الوجودي ضد العنف والحرب والدمار والعدم. فالسلام كلمة تحمل في ثناياها أجمل المعاني الخلاقة في الحياة، والسلام بدوره يشكل بوتقة التي تحتضن أنبل المعاني التي تتمثل في الحب والأمن والحياة والسعادة والرحمة والتسامح، وما هذه الكلمات إلا ومضات أنسنة تتوهج في ضياء السلام الإنساني. والسلام هنا يشكل مفهوما كونيا لا تقف عند حدود السلام بين البشر في رفض العنف والحروب بل يتجاوز ذلك كله ليكون سلاما مع النفس والطبيعة والبيئة والأحلام.
ويتجلى السلام الإنساني بوصفه مشروعا تربويا اجتماعيا إنسانيا يقوم على مبادئ العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأمم والشعوب في إطار التضامن الدولي والإنساني. وهذا المشروع يناهض مختلف أشكال العنف والعدوان، مثل: العنف المسلح، والعنف الاقتصادي، والعنف ضد الطبيعة، والعنف السياسي، وهي أمور تتعارض كليا مع مشروع السلام وتناقضه. فالتربية على السلام والعدالة، تتطلب اليوم إيجاد طرائق جديدة لتحقيق مختلف عناصر السلام عبر الوعي والممارسة القائمة على تفكيك السياسات الاجتماعية والبيئية والكشف عن آفاق جديدة نحو السلام الحقيقي.
لقد شكلت الفترة التاريخية، ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، مرحلة هامة من مراحل تطور حركة التربية على السلام في مستوى المفهوم وفي مستوى الممارسة، حيث شهدت هذه المرحلة ظهور إشكاليات وتساؤلات أساسية ما زالت تحتفظ بأهميتها وحضورها الاستراتيجي حتى المرحلة الراهنة. لقد شكلت هذه الفترة المهاد الأساسي لولادة مفهوم التربية على السلام وتطوره ومن ثم تطوير المناهج والأساليب والنظريات الموجهة لهذا النمط الجديد من التربية على قيم السلام بأبعاد كونية، ولكن وفي هذه الفترة نفسها ظهرت إشكاليات تربوية من نمط جديد تتعلق بأهمية تحقيق التوازن ما بين القيم الوطنية والقيم العالمية، وتحديد أبعاد المناهج التربوية التي يجب أن تعتمد في مختلف مستويات التعليم من أجل التربية على السلام وتأصيل قيمه.
ويؤرخ لحركة التربية على السلام بالجهود الكبيرة التي بذلها المنظمة العالمية للتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة (OMEP) (Organisation Mondiale pour lEducation Préscolaire)([1]) في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث قامت هذه المنظمة بتأصيل مفهوم السلام وترسيخه في التربية المبكرة للأطفال في مواجهة العنف والحرب والتعصب والتطرف، وارتسم شعارها وهدفها في العمل على تحقيق السلام العالمي عبر التربية والتعليم. وقد تم الإعراب رسميا عن هذا الهدف في قوانينها وأنظمتها وممارساتها التربوية، وتم التأكيد على أهمية السلام بوصفه غاية إنسانية كبرى منذ نشأتها حتى يومنا هذا، وبقيت هذه الغاية (ترسيخ السلام بالتربية ) هدفا حيويا في مناهجها وأساليب عملها. وقد كرست هذه المنظمة نفسها لتعليم الأطفال منذ الولادة حتى الثامنة من العمر من أجل العمل على غرس روح السلام ومبادئه في نفوس الأطفال. وقد أوجدت المنظمة حقل مشاركة فعلية بينها وبين منظمة اليونيسكو، وساهمت في مجال اختصاصها، وأعلنت نفسها مدرسة سلام عالمية تعزز المسار التربوي وترسخ الإجراءات التثقيفية من أجل التفاهم الدولي وتحقيق السلام العالمي.
وقد ساهمت عصبة الأمم التي أُسست في فرساي عام 1920 في عملية تأصيل وتعزيز التربية على السلام بعهودها وعقودها الدولية القائمة على مبدأ التوافق بين الدول. ولكن هذا التوافق بين الأمم والدول لم يؤت أكله بسبب رفض بعض الدول التدخل في شؤونها التربوية حيث اعتبر القطاع التربوي امتيازا وطنيا يجب أن ينأى عن أي تدخل دولي مهما كان شأنه. ولذلك فإن الدول الأعضاء المعنية بالتربية على السلام تصرفت بدرجة كبيرة من الحذر والتحفظ حيث اقتصرت الجهود على عملية تطوير التعليم وفقا لمبادئ عصبة الأمم والتعاون الدولي.
وفي هذا السياق يلاحظ أن هذه الجهود لم تقف عن حدود العلاقات الدولية بل تجاوزتها إلى المنظمات والمؤسسات الدولية غير الحكومية التي تعنى بالشأن العالمي، حيث كانت الدول الأعضاء في عصبة الأمم تقوم بالتنسيق بين الرأي العام العالمي والمنظمات الدولية غير الحكومية وبين الحكومات التي توجب عليها أن تحقق طموحات هذه المنظمات في مجال العمل التربوي السلمي. ومع ذلك تجب الإشارة هنا إلى أن الحكومات الغيورة على امتيازاتها لم تسمح في حقيقة الأمر لهذا النشاط التربوي في حقل التربية على السلام أن يتجاوز حدود التوصيات والممارسات الشكلية العابرة. ورغم ذلك كله فإنه عصبة الأمم قد لعبت دورا كبيرا في التأسيس لحركة عالمية حقيقية وهامة في مجال الدعوة إلى التربية على السلام بين الأمم والشعوب، وقد اتخذت هذه الجهود صورة تعاون بين الحكومات وبين المؤسسات الدولية غير الحكومية وبين المؤسسات الحكومية.
وقد شكلت جهود عصبة الأمم في مجال التربية على السلام المقدمات الأساسية لجهود اليونيسكو في هذا الميدان نفسه. وهنا تجدر الإشارة أن اليونيسكو قد اعتمدت منهجيات في العمل مجانسة لهذه التي اعتمدتها عصبة الأمم في المراحل السابقة، ومنها الاستقصاء الذي أجرته بالتعاون مع المنظمات الدولية غير الحكومية من أجل بناء توصيات فعالة للتربية على السلام. وقد أسفر تطبيق هذه التوصيات عن وجود مشكلات لدى دول العصبة كما لدى منظمة اليونيسكو، وفي كلتا الحالتين فإن هذه التوصيات قد أسهمت في تشكيل الأصول المعيارية للتربية على السلام وبناء فعاليات تربوية يمكنها أن تسهل عملية تطبيق المبادئ التربوية للسلام.
تطور مفهوم التربية على السلام:
شهد مفهوم التربية على السلام تناميا كبيرا في مناهجه ومجالات استخدامه. وبدأ هذه التنامي الكبير مع ولادة الحركة العالمية للتربية على السلام ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد تركزت الجهود في البداية على فكرة التعاون الدولي من أجل تعزيز التربية على السلام، ولكن ومع نشأة الأنظمة الاستبدادية العرقية مثل النازية والفاشية بدأ الاهتمام بحقوق الإنسان يأخذ أولية وأهمية تفوق ما حظي به مفهوم التربية على السلام، وهذا الأمر ينسحب على مفهوم التربية على التسامح وهو مفهوم يشكل بعدا أساسيا من أبعاد مفهوم التربية على السلام. وقد شهدت الساحة جدلا حاميا حول إمكانية اتخاذ مواقف معادية للأيديولوجيات الرسمية للبلدان ذات الأنظمة الشمولية والعرقية حيث اتخذت مواقف من سياسة هذه الحكومات بوصفها سياسات غير مرغوبة ومعادية للتربية على السلام.
وفي هذا الاتجاه نشأ خلاف وجدل كبير مماثل خلال فترة الحرب الباردة حول مسألة التربية على السلام وحقوق الإنسان في المستوى العالمي. ووفقا لهذا الجدل فإن التربية على حقوق الإنسان والسلام بدأت تواجه صعوبات كبيرة في تأكيد حيادها السياسي ولاسيما فيما يتعلق بالأيديولوجيات التي تؤكد منظوماتها القيمية. وذلك لأن التربية على السلام كان عليها أن تأخذ طابعا إنسانيا نضاليا من أجل تحقيق غاياتها وأهدافها.
وقد أدى اتساع استخدام مفهوم التربية على السلام فيما بين الحربين إلى تنامي الجانب الأخلاقي لهذا المفهوم وإلى ولادة اتجاهات سيكولوجية تعززه وترسخ دعائمه. وقد تطلب هذا الاتجاه الأخلاقي الجديد ضرورة إيجاد السبل التي يمكنها أن تعتمد في تطبيق مبادئه ومفاهيمه بصورة عملية عبر اتفاقيات دولية واضحة المعالم.
وقد شهدت فترة ما بعد الحرب الثانية حدثا بارزا في هذا الميدان تمثل في اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 في هيئة الأمم المتحدة الذي تضمن اعترافا واضح المعالم بالمبادئ العامة لحقوق الإنسان وشموليتها في مختلف المستويات. وقد شكلت وحدة الرؤية إلى حقوق الإنسان – التي تضمنها الإعلان العالمي – شرطا جوهريا للمحافظة على الأمن والسلام في مجال التربية على السلام، وعززت فكرة قوامها أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التربية العالمية على السلام، وهذا بدوره شكل ركنا أساسيا للعمل على دراسة وتقصي مختلف الجوانب الإشكالية لمسألة التربية على السلام في بعدها العالمي.
لقد ساهمت المناقشات المستمرة في مختلف المحافل الدولية الحكومية وغير الحكومية في تعزيز رؤية شاملة لحقوق الإنسان، وهذه الحقوق تضمنت بالضرورة مفاهيم فرعية ولاسيما الحق في السلام والأمن، والحق في النمو، وحق الحياة في بيئة صالحة لا تلوث فيها. وهذه الحقوق الأخيرة تنضوي تحت عنوان جيل جديد من حقوق الإنسان التي ألحقت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لقد شهد مفهوم حقوق الإنسان – كما هو حال مفهوم السلام – تطورا تكامليا بأبعاد جديدة. وفي نسق هذا التطور الخاص شهد مفهوما السلام وحقوق الإنسان تفاعلا استراتيجيا وتدامجا حيويا بحيث أصبح من الصعب الفصل بينهما.
لقد أصدرت منظمة اليونيسكو وثيقة دولية في عام 1974 أكدت فيها على مفهوم السلام وعلى صلات التفاعل بين مكوناته كما أكدت على أهمية التربية على السلام بأبعاد عالمية، وتضمنت هذه الوثيقة تأكيدا على أن التربية بأبعاد عالمية تنطوي على دلالات مختلفة متكاملة مثل التعاون الدولي والسلام والتفاهم الإنساني، حيث تمّ التركيز على مفهوم التربية على التفاهم الدولي الذي فرضته أحداث الحرب الباردة وملابساتها الفكرية وتصدر هذا المفهوم التوصيات التي خرجت بها هذه الوثيقة في عام 1974. ومن أجل خفض أجواء التوتر الناجمة عن الحرب الباردة نادت الوثيقة بمبدأ بناء العلاقات الودية بين الشعوب والدول التي تنهج نهوجا سياسية مختلفة.
السلام الداخلي:
يشكل السلام يوتوبيا الأمم ونسغ أحلامها، بل هو شوق إنساني أبدي يهدف إلى بناء المشاعر الإنسانية الخلاقة، وبناء الروابط الأخلاقية العميقة بين الأفراد، كما بين الشعوب والأمم، إنه فعل استكشاف لهوية الإنسان وغاية وجوده في مسار البحث عن الأصول والجذور، وهو يشكل في النهاية طاقة خلاقة تدفع الفرد إلى ممارسة قدرته على الأخذ والتلقي والعطاء، وهذه الأمور كلها تشكل نمطا من التجارب الفردية الروحية التي تجسد قيم السلام الداخلي للإنسان في مستوى الفرد كما في مستوى المجتمعات الإنسانية.
إن القدرة على عيش التجارب الروحية بعمق وأصالة إنسانية تستمد وجودها من القدرة على تحقيق السلام الداخلي الذي نسعى إليه. والسؤال الجوهري الذي يتحرك متوهجا في عقولنا هو: هل يمكننا تحقيق السلام الداخلي في عالم يحترف المنافسة والصراع، في عام تعتصره النزاعات وتدمره المواجهات والحروب والمكائد؟ هل يمكننا أن نغلق العيون عن رصد الحقائق المؤلمة التي يجب نشهدها يوميا؟ وهل يمكننا في ظل هذه الأحوال المأساوية أن نحقق السلام الداخلي؟ ففي كثير من الأحيان يجب أن نغلق العيون ونشيح بوجوهنا عما نراه من مآسي وما نخبره من آلام، وذلك لا يمكنه أن يكون محاولة لتجاهل الواقع الذي نعيشه، بل هو نمط في فن التواصل مع الآمال والأحلام التي تسمح لنا البقاء على قيد الحياة. إذ ريما يتوجب علينا من أجل تحقيق السلام الداخلي، الاعتراف بالصعوبات والتحديات، ذلك أن السلام الداخلي سيساعدنا في نهاية الأمر في تحقيق التواصل الخلاق مع الحياة بما تضمه من أناس رائعين في دائرة الحياة المفعمة المعاني الإنسانية.
فالخبرات الروحية والمعنوية النبيلة التي نعايشها على مدى الحياة تشكل المسار الذي يأخذنا إلى حالة من السلام الداخلي. فعملية بناء الحواس والمشاعر لا تبدأ في مرحلة الطفولة بل فيما قبل الولادة وتستمر مدى الحياة وهي رهينة بالفعاليات والممارسات والخبرات اليومية التي تمدنا بمساعر العادة حينا والقلق والتوتر أحيانا.
وعندما نتأمل في مرحلة الطفولة وتجاربها نجد أن كثيرا من الأطفال يقعون ضحايا الالتزامات والواجبات الشاقة التي تفرض عليهم سواء في المدرسة أو في المنزل. ونحن في كثير من الأحيان نحرمهم من ألعابهم وأفراحهم، التي تشكل المرحلة الأهم في عملية بناء مشاعرهم ووعيهم بالمعاني التي تفرضها الحياة)، وهم في هذه الحالة يجدون أنفسهم مكرهين ومجبرين على أداء مهام لا تعني لهم شيئا. وهذه العملية المتواصلة من المكابدة والحرمان التي توظف في تربية الأطفال تجعلهم غير قادرين على الإحساس بمعنى الحياة ودلالتها وهذا يعني في النهاية حرمانهم من السلام الداخلي الذي ننشده. وهذا ما يجعلنا نولي العلاقات التي تربطنا بالوجود خلال مرحلة الحياة أهمية كبيرة، فهذه العلاقات كما آنفنا تنشأ قبل مرحلة الولادة وتستمر مدى الحياة، وليس المهم في هذا الأمر حجم هذه العلاقات ومواردها وتشابكها بل ما يهم هو نوعية هذه العلاقات والاتصالات التي تؤثر فينا على مدى الحياة، فالعلاقات الجيدة والخبرات السارة هي التي تسمح لنا ببناء روابط عاطفية وإنسانية خلاقة متينة. ومؤثرات مثل هذه العلاقات الإنسانية العاطفية تبدو بسيطة فهي منذ البداية تعتمد على الكلمات والإشارات والمعاني التي تحيط بالطفل، فالكلمات التي كنا نسمعها والرعاية التي كنا نحظى بها ونظرات العطف الحنان التي كان أهلنا يغدقونها علينا ما زالت تجسد جمال علاقاتنا مع كل من يحيط بنا من طبيعة وإنسان. وهذا كله يشكل مبعث السلام الداخلي والأمن الروحي والحب الإنساني الذي يمثل جمال تطلعاتنا إلى حياة سلام آمنة.
ففي مسار حياتنا لا نقوم بعملية بناء روابط عاطفية مع الناس فحسب مع البيئة الطبيعية والثقافية التي تحيط بنا ونشعر أننا ننتمي إليها، وهذا يعني أنه علينا منذ البداية أن نتعلم حب الطبيعة والشغف بمخلوقاتها، علينا أن نشعر بأننا جزء أصيل فيها ومنها، وعلينا من أجل ذلك أن نتعلم المزيد عن الطبيعة وأن ننشد رعايتها وحبها، وعلينا أيضا أن ندرك أن المحافظة على الطبيعية وحمايتها هي نوع من المحافظة على وجودنا وحياتنا، وهذا يعني في نهاية الأمر أن التعرف على الطبيعة والتفاعل معها يمكننا من خلق هذه الروابط الإيجابية الخلاقة العميقة مع الطبيعة ومع ذواتنا بصورة خلاقة ونبيلة تمكننا من الوجود والاستمرار في تناغم مع الكون ومع ذواتنا.
وفي هذا المسار يجب علينا نعنق شعورنا بأننا جزء لا يتجزأ جزء من الثقافة نشأنا فيها وهي الثقافة التي شكلتنا من الولادة، وهذا يمكننا الاستمرار في تعميق مسار وجودنا بأفكارنا ومعتقداتنا وأحلامنا وذلك كله يمكننا من الشعور بأننا ننتمي إلى عالم يتجاوزنا ويحيط بنا، وهذا هذا الشعور بالانتماء يساعدنا على الاستقرار ومواصلة الحياة ومواجهة تحدياتها بصبر وثبات مضمخ بمشاعر الحب والسلام الداخلي.
فهويتنا الذاتية تبنى في إطار علاقاتنا مع الآخرين، فالتفاعل مع الآخرين يمنحنا هويتنا الخاصة، فالآخرون هم الحدود والمرآة التي ترتسم بها هويتنا الذاتية، وفي عملية تشكل هذه الهوية نتلقى من الآخرين ما نشعر بأنه نحن، ونحن أيضا في الوقت عينه نوحي لهم بما هم عليه، ونرسم لهم حدود هويتهم. والهوية بهذا المعنى صلة تفاعل بين الأنا والآخر في صيرورة تبادل معنوي للدلات والمعاني التي يتباين فيها الأنا عن الآخر ويتمايز على صورة هويات مختلفة.
فتعريف الذات الخاصة ينطوي دائما على اختلاف مع القيم والخصائص الآخر ونمط حياته. فنحن نبدع رؤيتنا لأنفسنا ونحدد الصورة التي تبدو فيها هويتنا الذاتية المختلفة عن الآخر. وعلى هذا النحو تتكون إن القيمة الذاتية الإيجابية لهويتنا مع الصورة والشعور الذي نبادله للآخر الذي يحظى حكما بتقديرنا الذاتي. ومع ذلك، فمن الضروري أن نأخذ في الاعتبار أنه من غير الممكن أن نبني ونكون هويات فردية ممايزة من غير الانخراط في هويات جماعية، وهذا الأمر يقتضي صيغة متعاكسة فالهويات الجماعية لا تكون إلا من جماع هويات فردية. فنحن في النهاية ننتمي إلى مجتمع نحدد فيه أنفسنا، والمجتمع هو نفسه هوية جمعية نتقبلها ونشكلها كمجموع بشري، وفي عمق هذه الهوية الجمعية نقبل اختلافنا الفردي عن الآخر في المجموعة الإنسانية التي تشملنا، كما نتقبل اختلاف مجموعتنا البشرية عن المجموعات البشرية الأخرى المختلفة.
ومثل هذه الصيغة من وتائر تشكل الهوية القائمة على احترام الذات والاعتراف بالسمات الإيجابية للآخرين، تساعدنا على إقامة علاقات ودية مع الآخرين. وهذا ينسحب أيضا على الدول أو المجتمعات البشرية التي تأخذ بالصورة الإيجابية للهوية فتكون قادرة على الاعتراف بالدول والمجتمعات الأخرى على نحو إيجابي ويناء علاقات مميزة مع الآخر، وهذا التصور للهوية يشكل منطلقا حيويا لعملية ترسيخ علاقات السلام وقيمه الإنسانية.
وهنا يمكن للتربية والتعليم أن يمارسا دورا خطيرا في عملية بناء الهوية الإيجابية للمجتمعات والأفراد في آن واحد التي تؤصل لمفهوم السلام وقيمه وممارساته. فالهوية الآمنة المسالمة تمكن الشباب من خاصية الإحساس بالأمن، والقدرة على الاتصال والتعاطف مع الآخرين في مسار الإيمان بالسلام الداخلي كبنية من القيم والممارسات، ولكن وعلى خلاف هذه الصورة فإن الضعفاء والمعزولين والمهمشين يتحولون إلى أناس يتصفون والعدوانية والسادية. وهذا يتطلب تربويا إخراجهم من هذه الوضعيات المؤلمة ومساعدتهم في تكوين هويات إيجابية مسالمة تمكنهم من القدرة على مناشدة السلام في داخل مجتمعاتهم واحترام قيم الآخرين ومعتقداتهم.
التعليم من أجل السلام:
كان التوق إلى السلام وما زال أحد التطلعات الدائمة للبشرية، ويعد السلام أهم طموحات المجتمع الإنساني عبر التاريخ، فالسلام يشكل العمق الإنساني للحب والتفاعل والتعاون بين البشر، وقد يكون من المستحيل إنجازه وتحقيقه كاملا، ولكن البشر ما زالوا يكافحون من أجله منذ بداية التكوين. وقد بينت التجارب الإنسانية هذا النضال الإنساني من أجل السلام لن يحقق غايته ولن يصل إلى أهدافه من غير فعالية تربوية ترعاه وتوجهه نحو مآلاته الإنسانية. ومن هذا المنطلق بدأ المجتمع الإنساني يناشد السلام ويسعى إلى تحقيقه من خلال التربية والتعليم.
فالعنف ضد الإنسان يصول ويجول في مختلف المجتمعات الإنسانية، وهذا التصاعد الرهيب في العنف نجده صريحا وواضحا ومخيفا في وسائل الإعلام التي تقرع إحساسنا يوميا بأكثر مشاهد التوحش الإنساني المرعبة، وهي صور ومشاهد تفوق القدرة العقل على التصديق وتتجاوز حدود الخيال في قدرتنا على الاحتمال، وما نتلقاه يوميا من فيض صور وأخبار مؤلمة محزنة للعنف المدمر في عالم اليوم تدل على غياب كبير لقيم السلام ومفاهيم التفاهم بين البشر في عالمنا الصغير.
وفي مواجهة هول الوقائع والأحداث الدامية تناضل المجتمعات الإنسانية وتكدح ضد هذه الممارسات العنيفة والعدوانية وضد هذه الصور النمطية للعنف المروع في كل مكان، ومن أجل هذه الغاية جاءت الدورة الرابعة والأربعين للمؤتمر الدولي المعني بالتعليم الذي عقد في جنيف في تشرين الأول / أكتوبر 1994 وكرست أعمالها لبحث قضية النضال الإنساني من أجل السلام والتفاهم والتسامح، في هذا المؤتمر عرفت ثقافة السلام بأنها: “عملية تنمية اجتماعية مسالمة (لاعنفية) ترتبط بالعدالة وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية والتنمية وهي عملية لا يمكن تحقيقها إلا بمشاركة الأفراد والجماعات الإنسانية في جميع المستويات”.
فالسلام لا يقتصر على غياب الحرب أو تغييب العنف، وإنما يتمثل في مشروع مجتمعي إنساني يقوم على العدل واحترام حقوق الإنسان بما فيها حقوق الشعوب والأمم، وعلى هذه الصورة يتجلى السلام يتجلى في صورة عقيدة إنسانية تقوم على مبادئ العدل والمساواة والاحترام المتبادل والتعاون بين جميع أفراد المجتمع والجماعات الإنسانية بلا استثناء. فالسلام وفقا لهذه الصيغة الإنسانية يتجاوز مفهوم الحرب والصراعات، سواء في العلاقات الشخصية أو الشخصية أو الاجتماعية إلى حدود وأبعاد إنسانية مترامية الأطراف، وعلى هذا النحو فإن السلام يتمثل في القدرة على مواجهة الصراعات وتغييب العنف والكشف عن أسبابه، وفي القدرة على مقاومة الظلم والاضطهاد، ومواجهة الأنظمة الاستبدادية القائمة، إنه نظام معقد من القيم الإنسانية يقوم على حرية التساؤل وفعالية المقاومة وفرص التفاوض، وإحلال قيم الحوار والتفاهم، وصولا إلى تعزيز القيم الذاتية في صيغة إنسانية خلاقة تقوم على السلام والتسامح والمحبة والإيمان بالإنسان كغاية كلية.
وتأسيسا على هذا التصور لا يمكن النظر إلى حقوق الإنسان بوصفها مجموعة من القوانين أو كنظام تنظيمي دولي موجود في الدستور فحسب، بل بوصفه نظاما معقدا من العلاقات الإنسانية القائمة على مبدأ العدالة والمساواة في مجالي الحياة اليومية الاجتماعية وفي بنية الهياكل والتنظيمات الاجتماعية. وهذا يعني أن حقوق الإنسان، هي في الوقت ذاته مجموعة من اللوائح والقوانين التي تعبر عن تطلعات الأفراد والمجتمعات من أجل حياة حرة كريمة من جهة، وهي بذلك تمثل مختلف الشروط الاجتماعية والقانونية التي تتيح الممارسة الحقيقية لهذه الحقوق في الحياة اليومية من جهة أخرى، إنها باختصار عملية جدلية تقوم على قيم الاحترام المتبادل والعدالة والمسؤولية والمساواة والمشاركة الخلاقة. وفي هذا السياق يمكن القول أيضا إن مفهوم التضامن الدولي يرتبط ارتباطا وثيقا بحقوق الإنسان والسلام، وإذا كان السلام مشروعا مجتمعيا يقوم على العدل واحترام حقوق الشعوب والأمم، فإن التضامن الدولي يشكل بدوره مسارا فعالا من أجل تحقيق السلام.
عولمة السلام:
لقد أكدت الوثيقة الصادرة عن اليونيسكو المشار إليها أعلاه أن كل سياسة تربوية يجب أن تشتمل على بعد دولي وأن تتضمن رؤية عالمية، كما يجب أن تتضمن وعيا بأهمية استقلال الشعوب والأمم. وقد ارتبط هذا التوجه بالعولمة التي تمثلت بمنظومة من عمليات متكاملة ذات طابع سياسي واقتصادي وثقافي. ويضاف إلى ذلك أن الوعي بآليات هذه العولمة وفعالياتها أصبح ضرورة من ضرورات العولمة ذاتها. ووفقا لهذه الصيرورة أصبحت مسألة التربية على حقوق الإنسان والتربية على حماية البيئة تشكل بعدا أساسيا من أبعاد التنمية المستدامة(Mayor, 1992). وقد شكلت هذه التربية ضرورة حيوية تتيح للأفراد والشعوب التعرف على شروط وجودهم وتطورهم في دوائر التفاعل الإنساني العالمي بين الشعوب والأمم. وهذه التربية يجب أن تتجاوز وتسمو فوق كل عوامل الاختلاف بين المجموعات البشرية التي تعيش في شروط بيئية وإنسانية مختلفة والتي تمتلك على رؤى مختلفة فيما يتعلق بأولوياتها وعوامل نموها.
فالوصول إلى اتفاق كوني حول بعض القيم العالمية أمر ممكن تحقيقه في نهاية الأمر، وهذا مرهون بإزكاء تربية ضرورية تمكن الفرد من التعرف على طبيعة الحاجات المشتركة بين الشعوب المختلفة. وهنا تبرز أهمية التربية التي تعرف الأجيال بعوامل التجانس بين الشعوب والأمم المختلفة فيما يتعلق بمصالحها وطموحاتها وقيمها، حيث تبرز أهمية هذا التعاون الدولي في مجال التربية على السلام والتكامل بين الشعوب والأمم في الوثيقة الصادرة عن المكتب العالمي للتربية التي حددت بوضوح كبير مقاصد وأبعاد التربية بأبعاد عالمية.
فاحترام حقوق الإنسان يشكل في واقع الأمر فتحا إنسانيا في مجال السلام والتربية على السلام. والسؤال هو: كيف يمكن بناء السلام وتعزيز أواصره دون معرفة حقيقة بالآخر وحقوقه؟ ومن غير معرفة متبادلة وفهم متبادل بين الأمم والشعوب؟ وكيف إذن يمكن البحث عن السلام في الوقت الذي تندفع فيه الأمم إلى التسلح واكتناز السلاح؟
التربية على السلام في سياق أممي:
تؤكد البحوث المعاصرة على ولادة متعثرة للاتفاقيات الدولية حول معايير التربية الدولية، وهو مفهوم ينطوي على بعد عالمي وإنساني كما يلاحظ من مسماه، كما يتضمن نوعا من التعقيد والصعوبة عندما يتعلق الأمر بالجوانب التطبيقية والوسائل الممكنة التي يمكن اعتمادها في تحقيق التربية على السلام بأبعاد عالمية.
فالتربية العالمية تنطوي على أهداف تتمثل في تحقيق التناغم والسلام العالمي في مختلف أنحاء المعمورة وفي مختلف الأزمنة الممكنة، وهي في الوقت نفسه تسعى إلى بناء مناهج تربوية فعالة لتحقيق هذه الغاية التسامحية. وهذا يعني أن هذه التربية تسعى إلى استئصال العدوانية والكراهية وبناء أجواء إيجابية تؤكد أهمية الاختلاف والتباين الثقافي والإنساني بوصفه عنصرا أساسيا في الوجود الإنساني، وهذا يتضمن الإيمان بالاختلاف كضرورة من ضرورات الحرية الإنسانية ذاتها. ولهذه الغاية فإن التغيير لا يجب أن يأخذ منحى واحدا واتجاها أحاديا وذلك من أجل السماح لثقافات إنسانية أخرى بالحضور والمشاركة على مبدأ التنوع.
وهذا الاتجاه يريد أن يجمع ما بين ضرورة الاختلاف والتنوع الإنساني وبين تحقيق التجانس والوحدة التي تتمثل في اتجاهات العولمة وحركتها، وهذا الهدف يبدو ممكنا وضروريا في الآن الواحد. وهنا تجب الإشارة إلى أن مفهوم التكامل العالمي في سياق العولمة لا يشكل موضوعا متفقا عليه حيث يرفض كثيرون هذا الأمر اعتقادا منهم أن هذا التكامل يؤدي إلى خلل في توازن العلاقات الإنسانية. ومع ذلك يلاحظ أن المؤسسات العالمية الكبرى التي تشكل جزءا من الأمم المتحدة تؤكد على أولوية وأهمية التكامل الدولي وهذا يؤسس أيضا لأهمية التربية العالمية.
هذه الرؤية التي تؤكد أهمية البعد العالمي للوجود الإنساني تؤكد في الوقت نفسه أهمية التربية العالمية ودورها في تأصيل التربية على التسامح والسلام وحقوق الإنسان والديمقراطية التي قد تمّ تبنيها في المؤتمر العالمي للتربية في عام 1994 حيث جاء في هذا المؤتمر بأن الاستراتيجيات التربوية يجب أن تأخذ بعدا عالميا منظما وموجها ومؤسسا على عدد كبير من العوامل والمتغيرات العالمية.
السلام منهجا للتربية على الديمقراطية.
تمثل التربية على الديمقراطية بأبعاد عالمية توجها تربويا حديث العهد. ولكنه بدأ يأخذ مكانا مميزا وهاما في البرامج التربوية التي تعززها منظمة اليونيسكو. فأغلب التوصيات التربوية للمؤتمرات الدولية تؤكد على أهمية هذا النمط التربوي وتؤكد صبغته العالمية. وقد تأسس اليوم على أهمية هذه التربية بناء وسائل وطرائق ومناهج تربوية متطورة لتعزيز التربية على السلام بأبعاد عالمية. وقد اعتمدت منهجيات هذه التربية وأدواتها في توصيات إعلان المبادئ للدورة 44 للمؤتمر الدولي للتربية ” Conférence Internationale de l’éducation ” في عام 1994 (CIE) حيث أعطيت الأولوية للتربية على الديمقراطية كانت قد شهدت تأكيدا لها في الإعلان العالمي لنهاية الحرب العالمية الثانية وهو الإعلان الذي أكد على أهمية القيم الديمقراطية الغربية.
وفي هذا الاتجاه أيضا يلاحظ بأن التكامل بين مفاهيم السلام والديمقراطية قد سجل حضوره في إعلان المؤتمر الدولي للتربية الذي ركز على مفهوم التربية على السلام والديمقراطية، وهذا التوجه العالمي للتربية بأبعاد عالمية وجد بلورة له في مستوى المفاهيم المتعلقة بالسلام والتسامح وحقوق الإنسان.
ويلاحظ في هذا المسار أن مؤتمر عام 1994 قد تجاوز تأثير الصراعات الأيديولوجية في تكوين مفاهيم السلام والتربية على السلام والديمقراطية حيث أثر هذا الصراع الفكري الأيديولوجي ما بين الشرق والغرب ما بين الجنوب والشمال في بناء التوصيات التي خرج بها المؤتمر الدولي للتربية الأسبق عام 1974.
لقد عكس المؤتمر الدولي للتربية على السلام بأبعاد عالمية عام 1994 نسق التحولات والتغيرات التي شهدها المجتمع الإنساني منذ عام 1974 حيث يجري الـتأكيد الكبير على أهمية البعد الديمقراطي كمنطلق أساسي لتعزيز قيم السلام ومفاهيمه. وقد تجنب هذا المؤتمر نقد الأنماط التنموية القائمة في مختلف البلدان حيث يجد هذا النقد رفضا سياسيا، ولكن المؤتمر مع ذلك أشار بوضوح كبير إلى اتساع الهوة القائمة ما بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية وأكد أهمية اعتماد نمط من التنمية الدائمة أو التنمية المستدامة.
من المسلم به اليوم أن تعزيز القيم الديمقراطية يؤدي بالضرورة إلى تعزيز قيم السلام، وقد أكدت منظمة اليونيسكو في مختلف نشاطاتها وبرامجها على أهمية العلاقة بين تعزيز القيم الديمقراطية والجهود المبذولة من أجل تعزيز ثقافة السلام ويتجلى هذا الأمر في نشاطات المنظمة في عام 1994. حيث قدمت المنظمة مشروعا عالميا يتجه إلى إدانة ثقافة الحرب وتأصيل ثقافة السلام. وينطلق هذا المشروع ليؤكد قيمتي العدالة والحرية وهما المفهومان الأساسيان للديمقراطية (UNESCO, 1994^). وقد أكد هذا المشروع على أهمية تأصيل الديمقراطية وبيّن أن تضاعف الصراع الثقافي والحضاري تعبير عن سنوات طويلة من القهر والصمت والكراهية. وهي عوامل اختمرت في مرحلة الحرب الباردة وظهرت بقوة على مشارف نهاية هذه الحرب وبدأت تعطي نتائجها في مجال التعصب العرقي والثقافي والحضاري.
فالتربية تمكن من تأصيل ثقافة السلام وتعزيز مساراته حيث يبرز دورها، على سبيل المثال لا الحصر، في عملية تنقية النصوص التاريخية من دروس العنف وتقديم معلومات أفضل عن الآخر. ومثل هذه المناهج تعمل على ترسيخ مفهوم السلام وثقافته بين الطلاب والناشئة.
لقد أكد المشاركون في المؤتمر الدولي لثقافة السلام المنعقد في السلفادور عام 1994 على أهمية البرامج التربوية على السلام كضرورة حيوية من أجل ترسيخ قيم العدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية. وقد أكد المؤتمرون أيضا على أهمية مشاركة المواطنين أنفسهم في مختلف النشاطات التربوية والثقافية التي من شأنها تعميق ثقافة السلام وقيمه. وفي هذا السياق يمثل برنامج ” ثقافة السلام ” الخاص بمنظمة اليونيسكو نوعا من التطبيقات المتكاملة والمنظمة التي تأخذ بعين الاعتبار مختلف العوامل والمتغيرات التي يمكنها المحافظة على قيم السلام وتأصيلها.
إن اعتماد رؤية شاملة للسلام، ومحاولة تطبيق هذه الرؤية، يعكس توجها عالميا مشتركا لقيم السلام وثقافة السلام، ومع ذلك فإنه يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذا التوافق لا يمكنه أن يتجاوز بعض التوترات القائمة بين الأطراف السياسية المتعارضة في كثير من الحالات السياسية. وهذا الأمر قد أسس لتوصية أممية تؤكد أهمية تحقيق التوازن الذي يمكّن من تجنب التفرقة واللجوء إلى العنف والصراع حيث يجب تعزيز قيم التنوع والاختلاف الثقافي بين الجماعات كما بين الأمم (UNESCO, 1994£).
فالتوافق على القيم التي يجب تعزيزها في التعليم يجب أن تكون ذات طابع نمائي متطور وألا تتحول بذاتها إلى نوع من الفكر العقائدي الدوغماتي المتصلب، لأن هذه التوافقات يجب أن تكون وقتية وأن تعكس أوضاعا وأولويات اجتماعية مختلفة في مراحل مختلفة من مراحل تطور المجتمع.
خاتمة:
أن تطور مفهوم التربية على السلام يعكس إلى حدّ كبير تطور مفهوم السلام ذاته وأولويات الحفاظ على السلام الإنساني وتعزيز مساراته في مختلف الاتجاهات. لقد لاحظنا أنه خلال ما بين الحربين كان العمل يتمركز حول أهمية الحلول السلمية للصراعات العالمية وتأكيد التوافق بين الدول والأمم والشعوب. وهذه الإجراءات السلمية كانت تتوافق وإلى حدّ كبير مع معطيات ومتطلبات هذه المرحلة التاريخية.
وفيما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة حدثت تحولات كبيرة تتعلق بالصراع بين الشرق والغرب أو بتناقضات الجنوب والشمال واتخذت هذه الصراعات طابعا أيديولوجيا. وهذا الصراع بمختلف تجلياته الأيديولوجية وجد انعكاسا له في مجال التربية على السلام وفي مفاهيمها المختلفة. وقد تطور مفهوم التربية على السلام في ظل هذه الظروف ليتضمن عوامل ومتغيرات جديدة توجد في أصل هذه الصراعات وفي نسق العلاقات القائمة بينها.
وفي هذا التفاعل بين مختلف هذه الجوانب تجلت توصيات اليونيسكو في عام 1974 التي أكدت أهمية العلاقة والترابط الحيوي بين حقوق الإنسان والتطور العالمي، وما بين مفهوم العدالة الاجتماعية والسلام. وفي هذا المسار اتخذت التربية على السلام طابعها العالمي حيث عملت على احتواء الأولويات الأساسية للكتلتين الأيديولوجيتين المتناقضتين مع التأكيد على مبدأ التفاهم والسلام العالمي وذلك في إطار الجهود التي بذلتها اليونيسكو في هذه المرحلة.
وقد انعكست ظروف نهاية الحرب الباردة وردود فعلها في مفاهيم التربية على السلام كما في مفهوم التربية العالمية. كما وجد هذا التحول نفسه في مفهوم الصراع بين الجنوب والشمال. وظهر أيضا تحول كبير في مفهوم التربية العالمية الذي تجلى في المؤتمر الدولي للتربية ” في عام 1994 (CIE) الذي نسخ توصيات اليونيسكو عام 1974. حيث تم في هذا المؤتمر إعادة النظر في نسق المفاهيم الخاصة بالتربية الدولية، حيث رسخت أولويات جديدة للتربية السلمية ولاسيما في مجال التربية على الديمقراطية والتربية السلمية بأبعاد عالمية. وقد عمل برنامج ” ثقافة السلام” الخاص باليونسكو على تكريس هذا التحول الجديد في مفاهيم التربية على السلام والتربية الدولية. وفي نسق هذا التحول الجديد فإن مفهومي السلام والديمقراطية أصبحا أكثر تواصلا وتفاعلا وترابطا وتكاملا، حيث أكد هذا البرنامج على الرؤية الشمولية العاتلمية لمفهوم التربية على السلام، وقد فرضت هذه الرؤية حضورها على نحو عالمي وذلك من أجل الاستجابة للمشكلات الراهنة للمجتمعات الإنسانية المعاصرة ومما لا شك فيه أن هذه الرؤية كانت تتسم بالطموح التربوي.
ولكن حجم المهمة الكبير لتطوير التربية الدولية وتنمية ثقافة السلام في المستوى العالمي فرض نوعا من الشكوك والانتقادات ولاسيما عند هؤلاء الذين يبالغون في حساب المسافة بين الطموح والواقع في ظل العلاقات الدولية التي تقوم على مبدأ اللاتكافؤ حيث تهيمن مصالح الأقوى بين الدول والمجتمعات الإنسانية التي توجد في أصل الصراع والفوضى. لقد شكلت هذه الأمور ومل يماثلها من قضايا عقبات يصعب تجاوزها من أجل تحقيق الأهداف التربوية المنتظرة للتربية على السلام (Hénaire, 1995). وهنا يطرح السؤال الأساسي: هل يتوجب على التربية السلمية بأبعاد عالمية أن تعمل على تحويل الأفكار إلى حقائق ووقائع؟ وهل يجب التمييز بين التربية التي تعنى بالمشكلات التي ترتبط بالسلام والتنمية وبين التربية التي تعزز السلام نفسه؟ وذلكم هو السؤال القديم الذي يتعلق بالدور المزدوج للتربية حيث يمكن التمييز بين التربية التي تقوم بنقل المعلومات الموضوعية وبين هذه التي تعنى ببث القيم وتعزيزها.
ويستنتج من ذلك أن كيفية العمل في مجال التربية على السلام يضاهي مسألة ما يجب من عمل لتحقيق هذه الغاية حيث لا يقل سؤال الكيفية أهمية عن تحديد الغايات والإجراءات الضرورية لتحقيق هذه الغايات. وبعبارة أخرى، فإن الأسئلة المنهجية قد تكون أكثر أهمية من هذه التي تتعلق بمضمون التعليم ذاته واتجاهاته المختلفة. إن بث القيم التي ترتبط بالمفاهيم المنهجية مثل ثقافة السلام يمكن أن تجد تعزيزا لها في المنحى البيداغوجي الذي يؤكد أهمية العلاقة بين مختلف أبعاد الظاهرة المدروسة. فالترابط بين المفاهيم الأساسية للتربية على السلام وثقافة السلام يمكنه أن يؤكد نسقا من الفعاليات التربوية الضرورية التي يمكن أن تفعل فعلها في نشر القيم التربوية بصورة فعالة ورزينة.
فالتعدد الذي يوجد في أصل الحياة الديمقراطية يتطلب في الوقت نفسه نشاطا تربويا يقوم على تكريس مبدأ التعدد والتنوع، حيث يتوجب على المربين في إطار عملهم مناقشة مختلف الأفكار والقضايا المثيرة للجدل، ولكن هذا الأمر يجب أن يؤخذ مع التأكيد على أهمية الاستقلال الفكري واحترام الحس النقدي عند المتعلمين. وهذه المتطلبات الأولية يجب أن تتوافق مع عملية غرس القيم النقدية والقدرة على إصدار الأحكام الخاصة عند المتعلمين وذلك تأسيسا على معلومات موضوعية قدر الإمكان، وهذا بدوره يتطلب ممارسة حقيقة لحقوقهم الديمقراطية والإنسانية ولاسيما الحق في التعبير وإبداء الرأي.
وهنا تبرز الأهمية الكبيرة في أن يكون المعلم نفسه قادرا على التعبير عن رأيه وأفكاره وخصوصيته وأن يصان هذا الحق بالاحترام والتقدير، ولا بد من الإشارة في هذا السياق أن حرية المعلم هذه يجب أن تمارس في شروط موضوعية مناسبة حيث يتعلق هذا الحق بأعمار الطلاب ومستوى تأهيلهم لأن ممارسة هذا الحق بالمطلق يسمح لكثير من المعلمين بفرض آرائهم الخاصة وتشكيل ذهنية الطلاب وفقا لتشكيلات فكرية وأيديولوجية مسبقة تتعلق بمسألة ترسيخ عقائد ونماذج فكرية دوغماتية محددة.
إن عملية تبادل الأفكار ووجهات النظر يجب أن تكون حالة من حالات الممارسة الديمقراطية تهدف إلى تنمية الحس النقدي عند المتعلمين، وإلى تطوير قدرتهم على التمييز والكشف وتمكينهم من القدرة على تشكيل أحكامهم الخاصة تأسيسا على معلومات موضوعية ومن خلال التنوع الفكري وتعدد الآراء. وهنا تجدر الإشارة أن الموضوعية ذاتها قد تكون مصدرا للجدل ولاسيما إذا كانت هذه الموضوعية لا تتطابق مع الرؤية الخاصة للمعلم. إن عملية بث القيم يمكن أن تتم في سياق محدد يتصف غالبا بالتكتم والحذر. فعلى سبيل المثال يكون ذلك عن طريق اختيار عقلاني للمادة التعليمية بطريقة ضبابية وتجنب الخطاب الذي يعطي انطباعات دعائية.
هذه القواعد والمبادئ التربوية المحايدة – التي يجب أن تكون في موضع الاحترام والتقدير مهما يكون المنحى التربوي المعتمد – تغطي مجالا واسعا في المجال التربوي، وهي تهدف في النهاية إلى ترسيخ ثقافة السلام وتعزيز مقومات التفكير النقدي والديمقراطي عند الفرد.
ومن الطبيعي جدا أن يؤدي تطبيق هذه المبادئ في معالجة الأسئلة الحية والجدلية في العملية التربوية إلى تنمية الحس النقدي وبناء القدرة على التسامح في صفوف المتعلمين والمريدين والتلاميذ، وهنا وفي هذا المسار من الممارسة الديمقراطية لا يجب أن يعلم الطالب فن الدفاع عن أفكاره فحسب بل يجب تعليمه أيضا فن احترام الرأي الآخر وتقديره حتى وإن كان رأيه مخالفا ومناقضا للرأي الشخصي.
مراجع المقالة
Hénaire, J. (1995). L’éducation planétaire à l’épreuve du réel. Texte présenté à la session d’été 1995 du Projet «Éducation dans une perspective planétaire», Université Laval, Sainte-Foy.
Hermon, E. (1983). Éducation et vérité: aspects de la réforme de l’enseignement de l’histoire pendant l’entre-deux-guerres. Réflexions historiques, 10(2), 295-312.
Mayor, F. (1992). L’éducation au service d’un développement durable: relever le défi de Rio. Allocution prononcée le 17 octobre par Federico Mayor, directeur général de l’UNESCO, à l’ouverture du Congrès mondial sur l’éducation et la communication en matière d’environnement et de développement, Toronto (UNESCO, DG/92/43).
Montandon, E. et BIE (1983). Éducation pour la compréhension internationale, la paix et les droits de l’homme. Documentation et information pédagogiques, 57, 226.
UNESCO (1994a). Programme pour une culture de la paix — Des programmes nationaux à un projet déportée mondiale (145 EX/15, Paris, 18/8/1994). Paris: UNESCO.
UNESCO (\994b). Un sentiment d’appartenance. Principes directeurs pour l’éducation aux valeurs destinées à promouvoir la dimension humaniste et internationale de l’enseignement. Paris: UNESCO.
UNESCO/BIE (1994). Rapport final de la Conférence internationale de l’éducation (44e session), tenue à Genève du 3 au 8 octobre 1994. Paris: UNESCO.
[1]-OMEP : Organisation Mondiale pour l’Education Préscolaire (World Organisation for Early Childhood Education and Care), OMEP is an international, non-governmental and non-profit organization concerned with all aspects of early childhood education and care, and has consultative status with UN and UNICEF. http://www.worldomep.org/
60 تعليقات