لماذا تعليم الفهم الإنساني؟

الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي

ترجمة أ. د.  محمد بالراشد  أستاذ علم الاجتماع بالمعهد العالي للإنسانيات –الكاف تونس

مقدمة المترجم: 

منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 والذي نصّ في مادته عدد  26  (الفقرة 2) على أنّ التربية تهدف إلى “إنماء شخصيّة الإنسان إنماء كاملا، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحرّيات الأساسيّة وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصريّة أو الدينيّة وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام”، منذ صدور هذا الإعلان والبشرية تسعى إلى تنمية التفاهم بين بني الإنسان، ولكن ما تعيشه البشرية من صراعات ونزاعات مختلفة، يبيّن ضرورة التربية على التفاهم، والتي لن تتمّ إلا بتعليم الفهم، ويقدّم لنا  إدغار موران  في هذا المقال مبرّرات تعليم الفهم الإنساني الذي يشترط الفهم المتبادل والمتعالي عن معيقات ذلك الفهم. وقد صدر المقال بمجلة Synergies Espagne,n°1-2008,pp25-31

ملخص:

يجب أن يدمج تعليم الفهم الإنساني في كلّ الأنظمة التربويّة وذلك لمقاومة كلّ الأنواع الخطرة من عدم الفهم (التمركز حول الذات، اللامبالاة…) والتي  ما فتئت تحدث خرابا في العلاقات الإنسانية (كراهيّة، حروب، محارق…) وهي تتسرّب إلى كلّ المجالات و الأصعدة  في حياتنا وعلى نطاق كوني وذلك على الرغم من أنّنا في عصر التواصل والمعلومة. وبتجاوز حدود الفهم الموضوعي فإنّنا نصل إلى تصوّر غير اختزالي للكائن الإنساني الذي هو منقسم طبيعيا بين العقل والجنون.

الكلمات المفاتيح: اللافهم، الإنسانية، الثقافة

مقدمة:

نحن نعرف أنّنا في حاجة إلى فهم، نحتاج إلى فهم في كلّ علاقة لنا بالمعرفة لأنّنا إذا لم نفهم درسا يقدّم لنا في المدرسة ، وإذا لم نفهم الآخر، وإذا لم نفهم ماذا يقول لنا مترشح للانتخابات الرئاسيّة، وإذا لم نفهم بعضنا البعض، فسنكون مثل  العميان. لكنّ الفهم الذي أرغب في الحديث عنه هو أكثر من فهم الأشياء والمعارف. إنّه فهم بين البشر، بين جيران، وبين رجال ونساء وبين طبيب ومريضه. فنحن بحاجة إلى فهم الآخر، الشخص المقرّب منا والذي هو جزء من عائلتنا وكذلك الغريب الذي يبدو في ذات الوقت مختلفا عنّا ومماثلا لنا. وعلى الرغم من ذلك، فإن اللافهم هو السائد والمهيمن في العائلة وفي العمل وبين الشعوب وبين الأديان.

من الملاحظ أنّ هذا المشكل الحيوي، متجاهل من قبل أنظمتنا التعليميّة في الثانوي والجامعي. وهو مقطّع إلى أجزاء منفصلة. وأعتقد أنّه من المهمّ تجميع هذه الأجزاء لإبراز إلى أي نقطة هذا المشكل هو أساسي  للجميع.

عصر اللافهم :

إن اللافهم يومي، ومنتشر في كلّ الأماكن بل إنّه كوني (عالمي). وهو يولّد سوء الفهم الذي يثير الغضب والمرارة والكراهية والذعر والشتائم والعنف، وفي هذه الحالة صار العدوّ نجسا بعد أن تمت شيطنته وغدا خسيسا.

الفردانية الأنانية (المتمركزة حول ذاتها)

يتّسم تطوّر حضارتنا ببروز الفردانية، التي تتيح الاستقلالية والتأمّل الذاتي كما تتيح إقامة علاقات مع شخص يصير صديقا تربطنا به علاقات محبّة  لا فقط داخل الأسرة وإنّما  مع الأشخاص الذين نلتقيهم. يمكننا حينئذ أن نعتقد أن فردانيّتنا تعزّز فهم الآخرين كما  قد لا يمكنها ذلك. ففي الواقع للفردانيّة وجهان: فهي من ناحية تزيد من الشعور بالمسؤولية والاستقلالية، ولكنّها من جهة أخرى تنمّي الأنانيّة. وهذه الفردانية الأنانيّة تعزّز تمجيد الذات، وكلّ من سيحمل في ذاته هذا الميل / الاتجاه لإسناد دور جميل له وإعطاء دور سيء لغيره- للآخر- ، وخاصة عندما يكون هناك صراع أو خلاف، حيث توجد آلية نفسيّة سمّاها الانجليز “خداع النفس” وهي تعني الكذب على الذات، والذي هو أكثر شيوعا ممّا كنّا نعتقد. فعندما نكذب على أنفسنا فإنّنا لا نولي الأمر اعتبارا وننتهي إلى الإيمان / الاعتقاد في الأكاذيب التّي وضعناها. وإلى هذه الفردانية الأنانية يمكن أن تضاف “الأنانية المجتمعيّة” حيث يضع الفرد مجتمعه مركزا لكلّ شيء ، للذات، ومصدر للافهم والعمى اللذين يمكن أن يكونا كارثيين.

اللافهم العائلي:

في الحضارة التقليدية لمّا كانت الأسرة متماسكة (متّحدة) والعلاقة الزوجيّة مقدّسة، كان لدينا احترام وطاعة للأب. ولهذا لم يكن هناك هذا النّوع من عدم الفهم. إن نزع القداسة عن الأب وعن الزواج  وإرادة الاستقلال أعطيا حرّيات مفيدة، ولكن أيضا كثيرا من سوء الفهم.  والزوج (ملاذ الحبّ في عالم اللافهم) يتعرّض إلى سقم سريع يقود إلى عدم الفهم المتبادل. لقد لا حظنا أن عدم وجود الحبّ المفرط يجعلنا عاجزين عن فهم الاستقلالية التي يحتاجها ذلك الشخص لأن حبّ التملّك والغيرة كامن فينا.

الاغتيالات النفسية:

ينتشر  في أوسطانا عدم الفهم –  في كلّ مكان تقريبا-  مصحوبا باغتيالات نفسية. وعندما نقول إنّه مثقوب ، فإنّ هذه الطريقة للقتل محض نفسية. ولحسن الحظ ليست إلا نفسية، وإلا فإذا تجاوزناها إلى الفعل فستكون بغيضة وكم من قتلى كلّ يوم؟ عندما نقول في شخص ما “كم هو نذل”، “كم هو مقرف”، فمن البديهي أنّنا نختزله في حالة البراز. وعمليّة اختزال الآخر في هذا النجس توجد أيضا في الأوساط الأكثر رقيّا، والتي من المفروض أن تكون على العكس من ذلك متفهّمة جدّا.

اللافهم بين المثقفين:

من المفارقة، أن وسط المثقفين ليس نموذجا للتفاهم بين البشر. فالمثقّف يعاني من تضخّم الذات، والكاتب على سبيل المثال يحتاج إلى التمجيد، وإلى التكريس وإذا لم يحصل على ذلك فسيكون غاضبا من شهرة كاتب آخر. ويبدو الفهم بين الفلاسفة هو الأكثر غرابة. فقد بيّن موليير Molière في “البورجوازي اللّطيف” كل عدم الفهم هذا بين الأساتذة، أستاذ اللغات، أستاذ الأدب، أستاذ الفلسفة الذين يتصارعون كالقطط.

التواصل، المعلومة، اللافهم:

نحن إذا في عصر عدم الفهم المتبادل وعلى نطاق واسع، وذلك على الرغم من أن الجميع يقولون إنّنا في عصر التواصل. صحيح أن الكلّ يتواصلون، وكل شيء يتّصل : الهواتف المحمولة، الانترنت، الفاكس الخ. لكن السؤال الذي  يطرح هو ماذا يحدث بشكل جيّد في التواصل؟ إنّها المعلومة، بمعنى عدد من المعطيات: معلومات مناخية، معلومات حول البورصة، معلومات رياضيّة. معلومات حول كلّ شيء، ولكنّ المعلومة ليست هي الفهم. لهذا يمكننا  القول إنّ  كثرة المعلومات تقتل الفهم. فعندما تبدأ النشرة التلفزية بسرد الأحداث حادث بعد آخر، فإنّنا لا نجد الوقت الكافي للفهم. لماذا هناك حرب في لبنان؟ ولماذا يقومون بإضراب ؟  يمكنك بعد ذلك الوصول إلى برامج ومقاولات ومن خلالها محاولة الفهم، ولكن  آلة الإعلام التي تمنحك نوعا من سحاب المعلومات مساء تقوم بتعويضه بسحاب آخر في الغد. وإذا ما استسلمت لهذا فإنّك لن تفهم كثيرا، وتجد نفسك مضطرّا إلى طلب نجدة  ومساعدة المعلّقين الذين يمكنهم إنارتك بصورة أو بأخرى. ولكن لسوء الحظ، نحن في عصر التواصل ولسنا في عصر الفهم. ومن هنا تظهر مشاكل مترابطة:

  • كيف يمكننا فهم الاخرين؟
  • مع معرفة أنّ لا أحد يعلّمنا الفهم، فكيف نتعلّم الفهم؟

ليكون هناك فهم موضوعي، لا بدّ من معلومات (تلك المضمّنة ببطاقة الهويّة مثلا) مدمجة في عمليّة التفسير، ولكن يوجد أيضا الفهم الذاتي والذاتي المشترك. وهو يحدث عندما نشعر بالآخر بنوع من التقليد الأعمى النّافي، فنقوم بإسقاط ذاتي فنحدّد هويّتنا ونفهم الآخر من الداخل. لذلك عندما أرى إمرأة تبكي أشعر بحزنها، ويمكنني أن أفهم سبب حزنها، إذ هي تبحث عن طفلها، ولكن الطفل قُتل خلال عملية قصف. أحّس بطريقة أو بأخرى بآلامها وأتفهمّها. فليكون هناك فهم حقيقي وصحيح، لا بدّ أن يوجد دافع للتعاطف.

وهذا الفهم الذي يأتينا من الآخر، ينتج عن قراءة رواية أو في المسرح أو في السينما. فعندما ترون على الشاشة مشرّدا مثل شارلوت فإنّكم تتعاطفون معه وتفهمونه ولكنّكم إذا التقيتموه في الحياة الواقعيّة، فإنّكم ستديرون إليه ظهوركم، ذلك أنّكم ستجدونه سيّئا، وغير مرغوب فيه. خذوا شخصيات مثل تلك التي في فيلم “العرّاب” le parrain : الأب (مارلون براندو Marlon Brando) والابن (ال باسينو al pacino ) ، فمن الواضح أنّهم مجرمون، زعماء مافيا. ولكنّنا لا نشعر بأنّهم مجرمون، نحسّ تجاههم  بحبّ عائلي، أبوي، وصداقة مع أنّهم مجرمون. يقول الفيلسوف هيغل “عندما أقول في شأن أحد أنّه ارتكب جريمة، وأنّه مجرم، فإني أتناسى بقية جوانب شخصيّته”. فقد كان هيغل يعتبر أنّه لا ينبغي اختزال ذلك الشخص في تلك الجريمة لأنّه قد يكون له أوجه أخرى في حياته. يقدّم الأدب أمثلة رائعة جدّا عن أشخاص ارتكبوا إثما ولكنهم كانوا قادرين على التدارك. ففي “البؤساء” جون فالجون مثال عن ذلك، فهذا الشخص الذي  ارتكب خطيئة صغيرة في البداية -و كان على استعداد دائم لتكرارها (كما يحدث دائما لجميع أولئك الذين يدخلون عالم السجن) –  خرج من السجن، وتحوّل تقريبا إلى قسّ. و في “الجرائم والعقاب” crimes et chatiment لراسكولينكوف Raskolinkov صمّم رجل شاب على قتل مُقرضة قديمة بسبب محلّ؛ ويرى القارئ إثر ذلك المسار الذهني الذي قاده إلى فهم كيف أنّه ارتكب جريمة مخيفة.

يقول بعض المثقّفين عندما نذهب إلى السينما نحسّ أنّنا مغتربون ونائمون. وفي الحقيقة فإنّ النّاس الذين يذهبون إلى السينما يدركون أنّهم هناك لمشاهدة فيلم.  والتعاطف الذي يظهرونه مع الشخصيات ، والطريقة التي يفهمون من خلالها أنّهم شخصيات مركّبة، وغير بسيطة يجعلهم أكثر وضوحا منه عمّا يكونون عليه في وضع طبيعي بالمدينة وخارج دور السينما أين يتحوّلون إلى نيّام متمركزين على ذواتهم. يساعدنا الأدب والشعر والفنّ على فهم الآخر، لكن يجب أن نفهم أنّ علينا أن نفهم. وفي حالة المعلومة إذا كانت الجرائد تتحدّث عن هذه الشخصيات، فهي تقول “زعماء مافيا اغتيلوا”، وإذا كانت للصحافيين معلومات حول “مادام بوفاري” فسيكتبون “امرأة زانية تبتلع الزرنيخ l’arsenic  بعد أن أثقلت بالديون”، وهي عناصر موضوعيّة لا تساعدنا بالمرّة على فهم “مادام بوفاري” وعلى فهم مشاعرها. لذلك ينبغي أن يتحالف الفهم الذاتي مع الفهم الموضوعي، وعندها يشملان ويدخلان في فهم إنساني. فهم التعقيد البشري. ولذلك فإن خطأ الفكر يكمن في اختزال شخص ما في سلوك يكون في الغالب سيّئا نضعه موضع تركيز متناسين كلّ الأوجه الأخرى، فنختزل  شخصا  في ايديولجيته التّي نجدها مكروهة في حين أنّه ليس سجين ايديولوجيته كلّيا. وإذا كانت لنا هذه العقليّة فلابد أن نخلص إلى أنّ مفكّرين كبارا في القديم مثل أفلاطون وأرسطو، يمكن اختزالهم في التفكير العبودي، بما أنّ الرّق في ذلك العصر كان يعتبر  أمرا طبيعيا، ولأنّهم لم يتخّذوا مطلقا موقفا مناهضا للعبوديّة، بل على خلاف ذلك تماما كتب أرسطو نفسه “العبوديّة أداة نشيطة”. إنّ لهؤلاء المفكّرين الكبار نقائص ونقاط ضعف – ما في ذلك شكّ- ولكنّي أعتقد أنّه لا يمكننا اختزالهم في هذه الصفات غير الإنسانيّة وفي سوء الفهم.

قطبا الإنسانيّة:

يعدّ الكائن الإنساني – في تركيبته المعقّدة – في الآن نفسه كائنا عاقلا وكائنا مجنونا.  والعقل والجنون هما قطبا الإنسانيّة ولا توجد حدود بينهما، ونحن نمرّ من هذا القطب إلى ذلك. ولعالم البيولوجيا ماكلان Maclean نظريّة تظلّ صالحة في اعتقادي. فقد قال إن لنا ثلاثة أدمغة مختزلة في دماغ واحد. ففي داخلنا بقيّة دماغ الزواحف، والثدييات و الأوّليات les primates وأخيرا الإنسان. ودماغ الزواحف هو دماغ الخوف والعدوانيّة والشبق. أمّا دماغ الثدييات فينمّي فينا في ذات الوقت السلوك الذّكي و الوجدان، فالثدييات كائنات ذات أحاسيس ومشاعر كبيرة. وبتطوّر الثدييات عرف الدماغ الثالث نموّا كبيرا على مستوى القشرة العليا le cortex supérieur أين تكمن إنسانيتنا. ومع ذلك لا يوجد تسلسل هرمي بين الأدمغة الثلاثة، فالعقل لا يسيطر على المشاعر التي لا تتحكّم بدورها في الدّافعيّة والعنف والشبق. ولذلك إمّا أن نكون قادرين على مراقبة ذواتنا وإلا فستجرفنا المشاعر وحملات الغضب العنيفة، وأنتم تدركون تماما أنّه في الإنسانية يوضع عقل التقنيّيين الأذكياء الذين يصنعون القاذفات والأسلحة النووية في خدمة أفظع الجرائم وأسوأ حماقات البشر. ولهذا تجدنا في نوع من التّناوب، مارّين من مرحلة هيمنة العقل إلى طور هيمنة الغريزة. إن في شخصيتنا عديد الشخصيّات، فإذا كنّا مُحبِّين فنحن لطفاء خاضعون ورائعون. أمّا إذا كنّا غاضبين، فنحن مكروهون ومحقورون . وفي زمن الحرب والثورة يتغيّر النّاس. فلقد غيّرت الثورة الفرنسيّة من أناس شباب  كثر. فمن الذي كان محاميا صغيرا مثل روبسبييرRobespierre  وكاتبا صحافيا صغيرا مثل مارات Marat وشاعرا صغيرا مثيرا مثل سانت جوست Saint – Just ونقيبا صغيرا مثل بونابرت Ponaparte صاروا شخصيات ذات قدرات طائلة  وعبقريّة ولكن في ذات الوقت شخصيات ذات قدرات إجراميّة  . وأنا أعتقد أن الكائن البشري من حيث المبدأ له كلّ الإمكانيّات من الأسوأ إلى الأفضل، ولا تصير هذه الإمكانيّات السيّئة محسوسة إلا في ظروف استثنائيّة مثل الجندي  الفرنسي في الجزائر أو الجندي الأمريكي الذي تلقى تعليمات بالتعذيب فراح يعذّب ليس للحصول على معلومات فحسب، ولكن لإظهار رغبة حقيقيّة في التعذيب والإهانة لأنّ في داخل كلّ واحد منّا توجد إمكانيات الوحش والبطل.

فهم ثقافة الآخر:

كلّ ثقافة – مع دينها – لها ميثاق شرف، ميثاق المقدّس الممميّز لها والمغاير تماما لما هو عندنا. ففي كثير من الأحيان – على سبيل المثال – نخطئ في طقوس المداراة. فإذا التقى ياباني وغربي للحديث عن صفقة تهمّهما، فإنّ الياباني لا يتحدّث مباشرة في الموضوع، فهو  يبدأ حديثه بالكلام عن الصحة وعن المطر والطقس الجميل. وعلى العكس من ذلك، فإنّ رجل الأعمال على الطريقة الأمريكيّة، يبدأ حديثه عن المال مباشرة. ينبغي إذا تعلّم قواعد الأدب الخاصّة بالآخرين، وإلا فإنّنا سنخاطر بسوء فهم عميق.

يعني الفهم الجيّد للاختلاف الدخول الجزئي في ثقافة الآخر، وأن يصير جزء من ثقافته مدمجا في ثقافتنا، فمن الوهلة الأولى التي حوّل فيها الفرنسيّون الكسكسي إلى طبق وطني فرنسي، فإنّهم أتاحوا إمكانية فهم شيء أساسي هو الغذاء المغاربي. في خمسين سنة خلت عندما كنّا نغنّي موسيقى عربيّة،  كانت تبدو لنا غريبة وسخيفة. واليوم اكتشفنا أنّها موسيقى رائعة لا تشدّ إليها الساكنة المنحدرة من أصول مهاجرة فحسب، بل و أيضا الفرنسيّين الذين ليس لهم أي رابط مشترك مع إفريقيا الشمالية. تقتضي مسألة الآخر المشاركة وفهم من هو الآخر، والأساس في كلّ هذا ينبغي أن نفهم الاختلاف ليس الاختلاف فقط، فهناك شيء مماثل لنا وآخر مختلف عنّا لدى الآخر.

فهم اللافهم:

ما الذي يُوجد اللافهم؟ إنّها الثقافة الذهنيّة (بالتحديد ثقافة المجموعات الإرهابيّة)، فعندما نغلق على أنفسنا في منطقة جامدة من المعتقدات، فإنّنا نكون مهوسين ولنا اعتقاد رهيب حتّى  لا نرى العالم الخارجي.  يجب فهم اللافهم وليس البحث عن عذر له ولا عن تبرير له، لأنّ البعض سيقولون ذلك. “إذا فهمت كثيرا ستبحث له عن عذر” كما قال لي ذات يوم رجل سياسة. فالأمر لا علاقة له بذلك، ففهم اللافهم لا يمنعك من محاربة شخص ما، بل يتعلّق الأمر بقتاله دون شيطنته ودن التفكير في أنّه نجس. وأعتقد أنّه إذا كنّا نخاف الفهم فلأنّنا نخاف الحقيقة، والواقع. وفي تلك اللحظة بالذات علينا أن نتّجه إلى المعرفة. فلا يكفي أن نعرف نفس الوقائع حتّى يكون لدينا نفس التصوّر. لقد كتب مونانييه Montaigne في القرن 16 “في عصر الاستعمار الذي اجتاح أمريكا، ظلّ الهنود الأمريكيّون يعتبرون لفترة طويلة بلا أرواح بشريّة. وكان تدخّل برتلومي دي لا سكاس Barthlomé de Lascas لدى الكنيسة دافعا للقبول بأنّ لهم أرواحا. غير أنّ هذا الاعتراف لم يمنع من أن يتمّ استغلالهم وظلمهم. فكان يقول نسمّي برابرة، أناسا من حضارات أخرى. وفي فصل له حول آكلي لحوم البشر، يؤكّد على أنّ هؤلاء البرابرة ، كانوا يأكلون أجسام أعدائهم الميّتين خلال الحروب، وإن كان يعترف بأنّ ذلك أمر غير حسن، فإنّه في المقابل لا يتردّد في الإشارة إلى أنّه إذا كنّا نستعمر هؤلاء النّاس ونعذّبهم وندفنهم أحياء، ألا نكون نحن أكثر بربرية منهم؟ لقد كان لمونتانييه هذا الوضوح الذي تنبغي المحافظة عليه إلى أقصى حدّ ممكن، وخاصة في اللّحظات التي نشعر فيها بأنّنا الوحيدون الحاملون للثقافة والحضارة.

في الختام:

نلتقي مع روبرت أنتالم Robert Antelme  الشاعر المقاوم الذي تمّ ترحيله وهو المؤلّف لشهادة مباشرة جدّا وإنسانية جدّا عن ترحيله عنوانها “النّوع البشري” (1947) “تريد الشرطة السرّية انتزاعنا من النّوع البشري، أبدا لن تستطيع. ولكنّنا بدورنا لا نستطيع اجتثاث الجلاّدين من النوع البشري مع أنّهم معذّبونا، فإنّهم كذلك بشر”. يعطينا أنتالم درسا كبيرا في الإنسانيّة: الفهم ليس له حدود ولكنّه لا يمنع من قتال الجلّادين.

مقالات أخرى

في تآكل الفيلسوف

خوارزميات التّساؤل

هندسة الحوارات بين الأهمية والفشل: دراسة تحليلية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد