الازدواجية اللغوية في العالم العربي: التضافر والتنافر بين العامية والفصحى

رضت الازدواجية في اللغة العربية نفسها على نحو إشكالي في صيغ وتجليات مختلفة تباينت بتباين العصور والمراحل التاريخية للأمة. فالازدواجية اللغوية بين العامية والفصحى في العصر العباسي ليست مثلها في العهد العثماني، وليست كحالتها في مرحلة الركود الحضاري الشامل الذي نعيشه اليوم. ففي مراحل الازدهار كانت الازدواجية اللسانية تعبيرا عن حالة تقدم حضاري، حيث فرض حضور اللغة العربية المظفر وتوسعها في البلدان الإسلامية ظهور مستويات لغوية تتباعد أو تتقارب من اللغة العربية الفصيحة. أما اليوم فإن هذه الازدواجية تبدو أكثر عمقا وخطورة، وهي تعبر عن حالة انكسار حضاري شامل يفرض ثقله على الأمة العربية ليشكل أحد أكبر التحديات الممانعة لحداثة الأمة ونهضتها.

وإذا كانت الازدواجية اللغوية تشكل حالة طبيعية في مختلف لغات العالم فإن هذه الازدواجية تشكل ظاهرة مرضية في مجتمعاتنا العربية، وتعبر عن حالة التردي والهزيمة الحضارية التي تعيشها هذه الأمة في حاضرها نظرا لاختلال العلاقة بين الفصحى والعامية. لقد فرض الانكسار الحضاري الذي تعيشه الأمة حالة من التردي اللساني، وأدى إلى اهتزاز العلاقة بين اللغة والحضارة، ففقدت العلاقة بين الفصحى والعامية ذلك التوازن الخلاق الذي كان يتميز بقوته وخصوبته، وتحولت تلك العلاقة إلى ظاهرة مرضية خانقة تفرض نفسها اجتماعيا وأخلاقيا وسياسيا في مختلف طبقات الحياة والوجود في المجتمعات العربية االمعاصرة.

ونظرا لخطورة هذه القضية وعمق ارتباطها بالإشكالية الحضارية للأمة، تناول الباحثون والمفكرون العرب هذه الظاهرة بالدراسة والبحث والتحليل، وفي سياق هذا التناول اختلفوا في رؤيتهم لهذه القضية، فعكست مواقفهم منظومة الاتجاهات الأيديولوجية والفكرية السائدة في المنطقة العربية بين الاتجاهات الليبرالية والأصولية والقومية والتغربيّة والانفصالية.

وتشكل تلك المواقف والاتجاهات الفكرية من إشكالية الفصحى والعامية بدورها قضية تستحق الاهتمام والتفكير، فهذه التيارات الأيديولوجية المتغالبة تعبر في ذاتها عن واقع التخلف الحضاري الذي تعانيه الأمة. فالبلدان التي حققت حداثتها تركت خلفها منذ أمد بعيد مثل هذه الصراعات والخلافات – – الأيديولوجية حول إشكاليات الازدواجية في اللغة، وبدأت تتجه إلى خلافات من نوع جديد تتعلق بالفاعلية الحضارية اللسانية لهذه الأمم والدول. وتتمثل هذه القضية في الدول المتقدمة في فرنسا وبريطانيا وغيرهما من البلدان في استراتيجيات لسانية تهدف إلى وضع اللغات القومية في مركز المنافسة والهيمنة والسيطرة، وتحقيق أكبر نفوذ لساني في العالم المعاصر. ونحن اليوم ما زلنا في طور الصراع والانقسام بين مؤيد للفصحى ومنتصر للعامية. ويدرك جمع المهتمين بقضايا اللغة العربية حاليا أن الصراع الفكري ما زال على أشده بين فقهاء اللغة وعلماء اللسانيات حول طبيعة العلاقة بين الفصحى والعامية. فقد دأب علماء الأمة على افتعال الصراع في كل صغيرة وكبيرة، وغفلوا عن المقاصد الموضوعية للبحث العقلاني النقدي الذي لا يترك للأيديولوجيا مكانا في هذا الصراع والخلاف الدائر.

ولا تزال المواقف الفكرية من ازدواجية اللغة العربية متضاربة متداخلة متراكبة، تبدأ من التناقض الكلي إلى التوافقات الجزئية، فهناك من يرفض العامية رفضا مطلقا ويعلي شعار الفصحى والفصيحة، وهناك من ينتصر للعامية ويدعو إلى إلغاء الفصحى ووضعها في متاحف التاريخ، وهناك من يرى ضرورة تفصيح العامية بتعميم الفصحى، أو تعميم الفصحى بتفصيح العامية، وهناك من يريد الارتقاء بالعامية وتقعيدها على منوال الفصحى. وهذه المواقف المتناقضة والمتضاربة تدل في جوهرها على البعد الأخلاقي والإنساني والسياسي والحضاري لإشكالية الازدواجية اللغوية في ثقافتنا المعاصرة.

الازدواجية-اللغوية-في-العالم-العربي-مخرجة-إصدار-خاص-إصدارات-1

مقالات أخرى

في جدل الدّيني والثقافيّ

التنوير الآن : في الدفاع عن التنوير

صراع القصديّات: نقد براديغم الاستشراق

11 تعليقات

فجر مساعد الرشيدي. 26 ديسمبر، 2020 - 8:04 م
موضوع رائع ، مبهر و بديع ، فعلاً لقد اصبح الكل يتوجه للغه العاميه و التخلي عن الفصحى ، فقد اصبح الكثير من العرب ليسوا عرب ! حيث انهم لا يجيدون اللغه العربيه الصحيحه ! بل ادخلوا عليها مفاهيم اجنبيه و تعابير عاميه ، فلو امسكت طفلاً في العاشره من عمره و اخبرته ان يعبر باللغه العربيه عن اي موقف حصل معه فانه سيتكلم بالعاميه او بالعربيه المخلوطه ، و هذا ما نأسف عليه حيث ان كثير من الناس تخرجوا من افضل الجامعات و لا يعرفون اسس و لا قواعد الفصحى ، و انهم يرون من يتكلم بالفصحى انه انسان ذو تفكير رجعي وقديم و هذا خاطئ فهذه لغتنا و من واجبنا ان نأديها بالوجه الصحيح و ترك كل المفاهيم الدخيله على اللغه ، فما اجمل من ان تعبر بالفصحى فان لغتنا لديها صفات و كلمات من ابلغ ما قد يعبر عنه الشخص عن موضوع معين ، فإني ارجوا ان يعود الناس للفصحى وترك العاميه ، فعندما استمع لقصائد عنتره او المتنبي او ابو فراس الحمداني اتعجب من كم الفصاحه الذي كانوا عليه العرب سابقاً و يزيد اسفي على حالنا الحاضر حيث تم هجر اللغه العربيه الفصحى و تم الاعتماد الكلي على العاميه في كثير من امور الحياه ان لم يكن جميعها ، فاني اشكرك معلمي ، على هذا الموضوع و انصح الجميع بقراءته.
رهف محمد المطيري 13 أبريل، 2021 - 12:33 م
اللغة العربيه هي لغه القرآن واللغة الأم ، لذا يجب علينا ان نحرص على الحفاظ عليها فلابد نشر الوعي بأهميه التمسك باللغه العربيه الفصحى وغرس محبتها في قلوبهم،فالكثير من العرب لايفهم بعض معاني الكلمات بالفصحى فيجب العمل على تثقيفهم بلغتهم ومعانيها الجميلة ،ففي مجتمعنا نرى اندثار الفصحى والاعتماد الكلي على التحدث بالعامية ، فأرى انه من الضروري تكثيف حصص اللغه العربيه في المدارس وتدريبهم على التحدث باللغه العربيه الفصحى فهي تعتبر هويه العرب.
ليالي محمد الهاجري 17 أبريل، 2021 - 3:06 م
اللغه العربيه هي لغة القرآن الكريم فيجب على كل مسلم ان يفتخر باللغة العربيه الفصحاء ويتحدث بها في حياته لكي يعززها لابنائه ومن حوله ويذكرهم بأن قدوتنا رسولنا الكريم ورسله كانو يتحدثون بالفصحاء فهي سنه عن الرسول ولاكن الاسف بعض معلمين الذي يتأثرون منهم طلبتنا قليل مايتحدثون بها فهم يدمجون العاميه بالفصحاء بهذه الطريقه سوف تندثر اللغه وتصبح من التراث اذا لم يكن هناك تعزيز للغتنا الاولى فالجيل الحالي اصبح يميل للغات اخرى يتعلمونها ونسو لغة الام فهذا يأثر سلبًا على الاجيال القادمه.
حوراء ابراهيم بارون 16 مايو، 2021 - 5:05 ص
الموضوع جدا اعجبني فاللغه العربية هي لغتنا الام لو كنا من اي بلد فنحن المسلمون لغتنا هي العربية الفصحى فأصبحوا الجميع الآن يتكلمون باللغه العامية نادرا جدا ان تصادف شخصا يتكلم العربية الفصحى فانتشرت اللغات العامية بشكل كبير في المجتمعات العربية فأصبحت اكثر استخداما من اللغة الام حيث تم نسيان اللغه الاساسيه واللغه العاميه اصبحت لله سهله الجميع يستطيع فهمها حيث ادخلوا عليها الكلمات من المجتمعات الاجنبيه والمجتمعات العربيه الاخرى فلكل بلد لغه عاميه تجمع بين هذين العنصرين ايضا هناك مشكله تواجهنا نحن العرب وهي كتابة الجمل والنحو والاعراب فنسبه كبيره جدا لايعلمون اسس هذا العلم فلم نتأسف بشكل صحيح حيث اعتمد الاغلب على مبدأ التخطي فالدراسه كانت فقط لتخطي الامتحانات وكلامي ينعكس على جيلي وما شاهدته لكن الاجيال القدم لغتهم جدا جميله والاعراب والنحو جدا سهل عليهم فعلينا نحن العرب ان نجدد هويتنا وان نرجع الى حقيقتنا وان نطور من لغتنا وننشرها وان لانستبدلها بلغة اخرى
ساره ذياب الفضلي 16 مايو، 2021 - 9:34 م
شكراً لك دكتور على المقاله الرائعه ارى ان اللغه العربيه هي لغه العرب الام وفي عصرنا الحالي ومع هذه التطورات الحاصله نجد ان اطفالنا يجدون صعوبه في كتابه تعبير باللغه العربيه الفصحى حتى في قراءه مقاله بالفصحى وهذا يشكل خطر كبير على هذه الاجيال وعلى مستقبلهم فاللغه العربيه لغه القراءن الكريم فا نجد الان اخطاء لغويه كثيره عند قراءه القراءن فا واجب علينا تعليمهم اللغه العربيه الفصحى وافضل الاوقات هي السنوات العمريه الاولى لاكتسابهم معرفه كافيه حتى لا يجدون صعوبه عند بلوغهم وكبرهم وايضاً القراءه الاطفال تساعدهم كثيراً علينا الان الحرص على اخذ خطوه تجعلنا نرفع مستوى التعليم في مؤسساتنا
نرجس خالد البناي 26 يونيو، 2021 - 8:10 ص
لاشك ان اللغة العربية شهدت خلال تاريخها فترات من الازدهار و الانتشار تخطت فيها حدود مجالها العربي الى افاق و مناطق واسعة وذلك في عدد غير قليل من البلدان خارج نطاق العربية و خاصة في بلدان القارة الافريقية،ولقد تمتعت اللغة العربية بوضع و مكانة متميزه على الخريطة اللغويه و تحدت بها عدد كبير من اللغات الاخرى وقد ترسخت هذه المكانه بشكل خاص بغالبية دول شرق افريقيا و غربها و في هذا الانتشار الواسع للغه العربيه كان للاسلام الدور الابرز حيث سارت العربيه مع الاسلام جمباً الى جمب و حلقت معه اينما حل و حيثما ارتحل ادى هذا الارتباط الوثيق بين اعتناق الاسلام و تعلم العربية الى انه جعل للعربية درجة من الانتشار في كل المناطق التي تضم جماعات مسلمه مع الاحتفاظ بالغة الام وهي لغة البلاد الاصلية مما ادى الى ازدواجية اللغة في الكثير من هذه البلدان ولكن على صعيد اخر و في الاونة الاخيرة عانت اللغة العربية من المهانة و الاعراض و الاحتقار لا من قِبَل اعدائها فحسب بل الادهى و الامر ان تعاني ذلك من قِبَل ابنائها كذلك فكانت عرضه لتحدي ازدواجية اللغات الداخله عليها مما اضعف وجودها فأصبحنا لا نجد للغة العربية اثر في الوقت الحاضر الا في اوراق الامتحان الكتابي و الكتب المقرره، فكيف تكون لها قيمة علمية و عملية تذكر و اهلها يحتقرونها في بلدانهم و يفضلون عليها اللهجات المحلية و يفرضون تعلم هذه اللهجات المحليه على الاجانب القادمين الى بلداننا لدراسة لغتنا القومية؟!
أمل عيسى الرشيدي 26 يونيو، 2021 - 4:03 م
اللغة العربية هي لغة الضاد و هي التي اختارها الله لكتابه القرآن الكريم فهي أساس جميع اللغات في العالم، ومما لا شك فيه أن في وقتنا الحالي أصبح الجميع يتجرد من هذه اللغه بحكم التقدم و التطور، وهناك خطأ كبير و تجرد من الفصحى حين تكون العامية هي اللغة التي تتحدث بها الأمة العربية الإسلامية، ولا سيما أن هنالك من يُخطِئ في قراءة العديد من الكلمات العربية الفصحى و يُخطِئ أيضاً بكتابة بعض الكلمات والعديد من الأشخاص يجهلون معاني الكلمات و مترادفها وليست لديهم حصيلة و ثروة لغوية.
ندى إبراهيم العجمي 26 يونيو، 2021 - 6:30 م
محزن ان نرى الكثير من العرب لا يجيدون التحدث بلغتهم ! فاللغة العربية هي لغة الحاضر والماضي ، لغة القران الكريم ولغة الضاد تعتبر اللغة العربية من اللغات السامية ومن إحدى اكثر اللغات انتشاراً حول العالم وهي اللغة الحضارية الأولى في العالم وأقدمها، فيتحدث بها حوالي 423 مليون شخص، ويتوزّعونَ فِي مناطق محددة في الوطن العربي يقول الرافعي في كتابه وحي القلم" وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطت إلا كان أمره فى ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبى المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيه.
أوراد ناصر المطيري 27 يونيو، 2021 - 11:07 ص
نعم الازدواجيه في اللغه بدات عندما توسعت رقعه الدولة الاسلامية واختلط اللسان العربي بالفارسي وباهل الروم فبعدت اللغه الفصحى وحل اللحن فيها ولكن كان ذلك سبياً في تدوين علم النحو والشعر وغيرها وجاء هذا بسبب تطور الامه الاسلاميه اما الان فهذا الضعف وهذه الازدواجيه بسبب التقليد الاعمى للغرب حتى وصل بنا الحال ان نركب جمله خليط بين العربيه والاجنبيه، نعم كانت العاميه تسير مع الفصحى في خط مستقيم ولكن الان اختلط الحابل بالنابل الفصحى ضعفت جداً والعاميه المبتذله طغت وسيطرت. ومن ينادي ترك الغصحى لا يعلم باننا ان فقدنا لغتنا فقدنا كل شيء فهذا ليس وقت للصراع ولكن يجب ان نعي خطوره الموقف ونضع الفصحى لغه القرآن في موضعها الصحيح فنحن بدونها نفقد كل شيء
الجازي عمر الهاجري 14 أغسطس، 2021 - 11:51 م
نعم فاللغة العربية الفصحى تأن من اللغة العامية ومدى انتشارها في بلدان العالم العربي ويجب اخذ بالاعتبار ان اللغة العربية هي لغة الاعجاز ولغة خير الكتب السماوية القران الكريم وبذلك حافظ القرآن الكريم على لغة عربية فصحى ومنع دخول الألفاظ الأعجمية والعامية عليها وأصبحت هي كأساس لزيادة مصطلحات باقي اللهجات العربية الأخرى. واللغة العربية بشكل خاص تحمل تميّزا بين اللغات بصفتها المُعبّر الوحيد عن التراث الديني وتشريعه القرآني للأمة العربية، مما أكسبها نوعا من الصلابة في مواجهة التغيرات الحادثة عليها وقدرا أكثر من الأهمية للناطقين بها أو من يعتنقون الإسلام بشكل عام. ولكنها على هذا لم تسلم -كغيرها- من حالة الازدواج اللغوي وتحوّل النطق العامي بها عن كتابتها الفصحى، بما في ذلك من آثار أو تخوفّات عليها وعلى متحدّثيها على حد السواء.
ساره سيف العجمي 13 سبتمبر، 2021 - 10:59 م
تعتبر الازدواجية اللغوية مشكلة عويصة حلًت بالمجتمعات العربية، إذ يجتمع فيها مستويين من اللغة الأول فصيح والآخر عامي، حيث نجد هذه اللهجة العامية تسير جنبا إلى جنب العربية الفصحى تزاحمها وتتماشى معها في مختلف القطاعات وخاصة قطاع التربية والتعليم، ومقابل الازدواجية اللغوية نجد الثنائية اللغوية والتي بدورها تعبر عن وجود لغتين في مجتمع واحد فهي عكس الإزدواجية اللغوية التي تعبر عن اللغة الأصل وعامياتها المتعددة .
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد