الخطاب الإعلامي الجديد وأطروحة موت الواقــع

الخطاب الإعلامي الجديد

تروم ورقتنا الموسومة بـ” الخطاب الإعلامي الجديد وأطروحة موت الواقع الإجابة عن بعض التساؤلات التالية:

 – هل الصورة الإعلامية باعتبارها تأريخا للحظة جامدة في الزمن، أو لحظة متحركة في الحاضر، خطاب محايد أم أنها خطاب غير بريء تحكمه مقصدية معينة؟

– كيف يمكن للصورة الإعلامية أن تلعب وظيفيا دورا مزدوجا، أي باعتبارها من جهة وسيلة لكل أشكال الوضوح والتجلي والحقيقة…، ومن جهة أخرى مرتعا لكل تمظهرات الغموض والخفاء والزيف والالتباس…؟

– هل صورة الواقع هي واقع الصورة؟ أم أن ميلاد الصورة الإعلامية يبدأ بموت الواقع؟

لقد أدى التطور المعاصر للتكنولوجيا البصرية إلى تحول في وظيفة الصورة، باعتبارها تمثيلا وانعكاسا للواقع، وتوثيقا بصريا للحظة زمنية ستاتيكية وجامدة، إلى عملية اختزال الواقع في الصورة عبر جزئية معينة، تكسر من خلالها مفهوم الحيادية والموضوعية والحقيقة… بمعنى آخر إن الصورة المعاصرة لم تعد تمثيلا للواقع ولا انعكاسا له، كما أنها لا تحوي الواقع كله، بل جزءا من هذا الواقع منظورا إليه من زاوية محددة، إما أن تكون زاوية إيديولوجية، أو سياسية، أو مذهبية، أو عرقية…

وعليه، فالصورة هي معرفة جزئية ونسبية بالواقع، من حيث إنها لا تنقل الواقع كله بل جزءا منه. وعملية النقل هذه، تمر عبر مصفاة إيديولوجية معينة. والمثال على ذلك ما تحاول الصورة السينمائية المكسيكية أن تروجه، من محاولة لنقل الواقع لا كما هو، وإنما كما تريد أن تبلغه الصورة وترسخه في ذهن المتلقي / المشاهد؛ أو تحاول أن تمارس عملية الانتقاء أو التركيز على جزئية من الواقع، لا الواقع كله.

فما تتناقله السينما المكسيكية مثلا من تركيز على الوجه الإيجابي للواقع المكسيكي (مناظر طبيعية خلابة، بنايات عصرية آسرة، أناس جذابون، سيارات فاخرة…) هو في الحقيقة تركيز على جزئية من الواقع لا الواقع كله.

 وما يدعم هذا البعد الجزئي في الصورة، هو اعتمادها على آلية التكرار، أي تكرار نفس المناظر والشقق والأشخاص. وفي هذا تقزيم للواقع واختزالٌ له بغية ترسيخه في ذهن المتلقي، كما لو أنه هو الواقع كله.

من هنا، يبدو أن تقليص عملية الإدراك من خلال تمثل المتلقي لهذا الجزء من الواقع، باعتباره كلا، هو ما يجعل السينما عموما، تنجح في أن تكون بؤرة للتمويه والخداع والأسر، حيث أن ما تسوقه من صور إلى العالم الخارجي، يجعل الآخر ينجذب إلى المكسيك لا كواقع حقيقي، بل كما تراهن عليه الصورة باعتباره واقعا مفترضا. وهنا يكمن البعد القصدي أو الإيديولوجي في الصورة. في هذا السياق يقول Thibault-Lauran: ” إن الصورة هي أولا تكرار وقلب”.([1]) هي تكرار لأنها تعيد إنتاج الواقع بوصفه أصلا، وهي قلب لأنها في ممارستها لأساليب التمويه والإيهام بالواقع، تقوم بقلب هذا الواقع الأصل، وإنتاج واقع جديد يتماشى ومقصدية الرسالة التي يراد تمريرها عبر الصورة.

هكذا يتضح أن الصورة السينمائية تراهن على واقع آخر غير الواقع الحقيقي، وفي هذا تمارس الصورة اللاحياد واللاموضوعية… من خلال اخضاعها لكل أشكال الحذف أو الإضافة، والتحجيم أو التقليص، وتسليط الضوء أو ممارسة التعمية… قصد جذب المتلقي (السائح المفترض) للتماهي مع واقع الصورة المروجة، لا مع الصورة الحقيقية للواقع. وهذا مكمن الإيديولوجيا.

 إن هذا التقطيع المقصود الذي تمارسه الصورة السينمائية للواقع هو نفسه، – بدرجة كثيفة وعميقة- المعمول به مع الخطاب الإشهاري والخطاب الإعلامي، حيث الصور التي ينقلها الخطابان هي صور حول عوالم مخلقة، أكثر منها صورا حول عوالم واقعية أو حقيقية، إذ لم تعد الصور تقوم على أساس المماثلة والمشابهة والنسخ المرآوي، بل على أساس التركيب والتهجين، مما جعل إمكانات التزييف والتزوير للصور قائمة.

فقد أصبح ممكنا مع الصور الإشهارية، تركيب وجوه لأشخاص على أجساد آخرين.([2])

في نفس المنحى، وبشكل أكثر إثارة وتأثيرا، نجد أن الخطاب الإعلامي لا يعكس الواقع كما كان دوره في السابق، وإنما صار مساهما في عملية بنائه وتشكيله عبر عمليات إدراك انتقائية وتقطيعية لهذا الواقع، من منظور مغاير، يتوافق مع الخط التحريري والسياسة العامة للمؤسسة الإعلامية.

 إننا هنا أمام تصور جديد، وميثاق جديد، تحاول عبره المؤسسة الإعلامية عبر خطابها أن تبرمه مع المتلقي لإقناعه بصدقية الخبر أو الحدث الذي تعرضه أمامه، باعتباره واقعا بنسخة منقحة ومعدلة.

 لقد أسقطت الصورة الدور المحايد للمتلقي، وأملت عليه مهمة أخرى ليصبح متفاعلا، إذ لم تعد الصورة تسجيلا للحظة مرئية في مكان ما، بل تجاوزت وظيفتها التقنية، ودخلت في عملية الصياغة الذهنية، ولعبة الحقيقة والزيف. فالصورة وإن باتت قادرة على فضح الحدث، إلا أنها صالحة أيضا للاستعمال، من أجل إخفاء حقائق كثيرة حين تمارس فعلا ضديا. ([3]) إنها أشبه بما يسميه هربرت شيللر – في سياق حديثه عن التضليل الإعلامي- بإخفاء آثار الجريمة. يقول شيللر: ” “لا بد من إخفاء شواهد وجوده[التضليل]، أي أن التضليل يكون ناجحا، عندما يشعر المضللون أن الأشياء هي على ما عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية. وبالتالي، فإن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا “.([4])

 وهذا ما أقرته أيضا أبحاث جان بودريار JEAN Baudrillard المعاصرة، من كون الصورة الإعلامية انتقلت من عصر المشهد / الحقيقة إلى عصر الصور المحاكية (عصر الفضاء الرقمي). وأثناء هذا التحول تمّ قلب الواقع والحقيقة وإعلان موتهما، وتم تعويضهما بكل أشكال وصور الزيف والمخادعة والتمويه.

فالواقع الذي ينقله الإعلام، ليس هو الواقع الحقيقي المباشر، بل هو واقع آخر تمت معالجته وتحريره بحيث يكون أكثر واقعية من الواقع الحقيقي( )، ويعبر عنه بودريار بمصطلح الواقع المفرط، أو الواقع الفائقHyperreality، أو الواقع المصطنع. ويصف بودريار “الاصطناع” بكونه عملية توليد نماذج لا تحتفظ بأصل، ولا تحيل على واقع حقيقي، مخلوقة من خلايا مصغرة قادرة على افتراض الواقع لمرات غير متناهية، لا يخضع لمقاييس أو إلى أية مرجعيات[5].

حيث لم يعد هناك وجود لحقيقة أو مرجع، بل فقط مكان لوجود الغموض الذي بدأ يغمر مبدأ الحقيقة.([6]). إنها إيذان بمرحلة جديدة تلقي بظلالها على أفقنا الوجودي، حيث العالم انتقل من بنية تقليدية، كان يهيمن عليها منطق الواقع، إلى بنية تلفّ وجودنا المعاصر وهي بنية الافتراضي. ([7])

والافتراضي، حسب تصور جان بودريار، هو سلب للواقعي، وإفراغ جذري لمحتوياته. لأن الواقع عندما ينتقل كمادة خام إلى مجال الافتراضي، إنما يوضع تحت رحمة عمليات الترميم والتجميل والإخراجٍ ([8]).

 فالحدث مثلا لا ينقل على صورته الأصلية أبدا باعتباره مادة خاما، بل ينقل بعد التحرير والتلوين، حيث يخضع لكل العمليات التي تخضع لها الصورة الفوتوغرافية في الغرفة السوداء، أو عبر الشاشة الرقمية من تعديل وحذف وإضافة وقلب…. ومن ثمة تغدو الصورة، وهي تبتعد عن تحقيق أي انعكاس للحدث، تولّد حدثا جديدا بامتياز، أو بتعبير بودريار أصلا قائما بذاته.

 هكذا، أضحت الصورة تمارس فن صنع واقع آخر غير الواقع الفعلي، حيث بإمكانها أن تبرز نظاما قمعيا في صورة نظام ديموقراطي. وبفضل الصورة يمكن أن نربح حملة انتخابية، ونلحق الخسارة بالخصم. وبفضل الصورة يمكن أن نضخم من الإمكانيات البشرية والاقتصادية والعسكرية، ونقلل من إمكانيات العدو. وبفضل الصورة يمكن أن نقيم الحجة وننقضها، ونرفع الشخص ونحط من قدره، ونزيد من قدسية المدنس، ومن دنس المقدس. ([9]) وبفضل الصورة، يمكن أن نلغي الصراع، أو نمارس عليه التعتيم، ونقدم بدلا منه الوفاق والانسجام، أو أن نبرز التناقض الطبقي على أنه تعددية وليبرالية….

 وعليه، فالحدث لا يتخذ قيمته انطلاقا من ذاته كواقع، بل يمتح قيمته من عملية نقله وعرضه عبر الوسيط الإعلامي. وفي هذا الوضع ينطبق قول دوبريه عن أن “ما لا يظهر في التلفزيون لا وجود له”.

 ويمكننا توضيح هذه المسألة بالمثال التالي: لنتخيل حدثاً كإضراب عمال إحدى الشركات أو اعتصام للعاطلين عن العمل. فهذا، من حيث المبدأ، يعتبر حدثاً، ولكن منطق وسائل الإعلام يقول غير هذا، فقد يتم حجب هذا الحدث وتجاهله كأنه لم يكن، فهو بهذا المنطق ليس حدثاً، أو، هو حدث عاطل وفارغ. ولكن حين يتم عرض هذا الحدث كخبر في جريدة أو إذاعة، أو حين يتم تغطيته في نشرة أخبار تلفزيونية، فإنه سيتخذ مسارات تأويلية بحسب التوجه الإيديولوجي الذي تريده المؤسسة الإعلامية ترسيخه في ذهن المتلقي، حيث يمكن عرض الحدث بعد المونتاج وتوضيب اللقطات، بصورة تجعل المعتصمين معتدين، ورجال الشرطة محاصرين أو مدافعين عن أنفسهم، وعندئذ تأتي الصياغات الخبرية بهذه العناوين الرئيسية:

 – الشرطة تنهي اعتصام المخربين.

 – هجوم أمني على مثيري الشغب

 – الشرطة تضع حداً لفوضى الاعتصامات
أو أن التغطية الإعلامية تسمح بعرض هذا الحدث بصورة متعارضة مع السابق، إذ يمكن توضيب الشريط، بصورة تجعل رجال الشرطة المدججين بالأسلحة هم من يبدأ الاعتداء على المعتصمين بصورة سلمية، وبدل التغطيات الخبرية السابقة يمكن أن تتصدر العناوين الرئيسية مثل:
– الشرطة تعتدي على اعتصام سلمي
– اعتصام سلمي ينتهي بالعنف. ([10]).

 إن هذه الأمثلة، وغيرها، تكشف أن الواقع أو الحدث ليس معطى، بل هو بناء نشكّله بالتأويل، ويأتينا من خلال الوسيط، مما يعني أن الواقع الذي يمثل مرجعية احتكام، أصبح منعدماً، وبانعدامه لا يبقى عندئذ غير الاختلاف وصراع التأويلات. وبلغة الميديا نقول، إن الواقع والأصل والحقيقة والأحداث المقصودة بالتغطية الإعلامية ليست موضوعات معطاة، بل أشياء يتم تشكيلها وإنتاجها، وبثّها، بطريقة تأويلية لا وصفية، أو انعكاسية، مما يعني أن عالم الميديا لا يتعامل مع حقائق بل مع تأويلات، وتحديدا مع صراع التأويلات([11]).

 وهذه المسألة الحتمية هي نتيجة للتحول الذي عرفه المشهد الإعلامي عموما والعربي منه على وجه الخصوص، حيث كسرت الفضائيات العربية احتكار المعلومة الواحدة والرواية الوحيدة، وأصبح المتلقي العربي أمام مجموعة من الخيارات، التي تسمح له بتجاوز الأطروحة الواحدة والانطلاق في لا نهائية من الدلالات التي تنتج مسارات تأويلية محتملة أوقريبة من الحقيقة. وهذا يعني الخلاص من الحكاية المكررة التي كانت تروجها المؤسسة الواحدة والوحيدة، قبل ظهور العولمة الإعلامية وتحرير القطاع الإعلامي، أي الفترة التي كانت تحكم فيها المؤسسة الإعلامية ذات القطب الواحد، كل أشكال الرقابة والتوجيه والحجب… بحيث كان الفرد إزاءها مقيدا ومسيجا وحبيس الرؤية الإعلامية أحادية الاتّجاه.

 في هذا السياق الإعلامي المتعدد والمختلف، وأمام هذا الاكتساح الذي تشهده الفضائيات، تصبح مهمة تسويق المقولات والتأويلات أكثر صعوبة، حيث تكون لعبة الصور والأيقونات مجالا لكل الرهانات التأويلية المحتملة، أو لصراع التأويلات. وهو صراع لم يُبْنَ نتيجة الاختلاف حول واقع حقيقي، بل نتيجة السنن الذي تكيف به المؤسسة الإعلامية هذا الواقع، بمعنى آخر إن الصورة لا تشتمل على خاصية الشيء الممثل فحسب، بل أيضا تنقل من خلال سنن خاص ترسم ملامحه المؤسسة الإعلامية من خلال مجموعة من التقنيات والإجراءات التي تعتمدها للتوجه بها إلى متلقين مفترضين.

 ومن أهم هذه التقنيات والإجراءات طريقة التأطير (cadrage)، حيث يتم تحديد المشهد(Scène)، وكذا تعيين الزاوية المراد عكسها أثناء عملية التلقي.

فقد تخلق صورتان من زاويتين مختلفتين، لمشهد واحد، انطباعين متباينين، وربما متناقضين. ومن وحي تجربة شاهد على مجاميع من المؤيدين لتيار سياسي في لبنان وهم يدلفون نحو ساحة الشهداء وسط العاصمة بيروت، وجد نفسه أمام خدعة بصرية مثيرة للدهشة حين شاهد على شاشة التلفزيون صورة أمامية لمظاهرة حاشدة في بيروت توحي بأن عدد المشاركين قد ناهز المليون، فيما كشفت صور أخرى من زوايا علوية أن الحشد ضئيل الشأن بالقياس إلى (الواقع المصور). ([12])

 وهو الشيء نفسه الذي حدث أثناء تغطية الفضائيات العربية لربيع الثورات العربية، حيث نجد تباينا على مستوى الصور المعروضة التي تراوحت بين التهوين من شأن الحدث وتضخيمه، بحسب المنظور الإيديولوجي للمؤسسة الإعلامية.

 إن هذا التوظيف المحموم للصورة من أجل طمس واقع معين، وإحلاله واقعا آخر، هو واقع الصورة، هو الذي جعل المتلقي حائرا أمام حقيقة الأشياء وصدقية الواقع، حيث يمكن للعبة الزوايا التي تتقنها الصورة الإعلامية، عبر عملية التبئير للواقع، أن تعطي انطباعا للمتلقي بأننا أمام حشود كبيرة من الجماهير(صورة أمامية) أو أمام حشد ضئيل (صورة علوية)…

 من هنا، يتضح أنّه رغم وحدة الحدث، فإنّ زاوية النظر إلى نفس الحدث تختلف من موقع لآخر. فكل موقع يحاول أن يخدم أجندة ما، ليتيه بذلك المتتبع، ويبقى أسير الصور التي تعكس الواقع، بأطياف مختلفة، اختلاف الرؤى الإيديولوجية المتبناة.

 وإلى جانب تقنية التأطير والزاوية الموظفة في الصورة، نجد تقنيات أخرى جديدة، ترسم ملامح الإعلام الجديد، منها تقنية “السيناريو”. بمعنى أن المؤسسة الإعلامية تعتمد في نقل الخبر أو الحدث على السيناريو، كصورة بدل صورة الواقع. فبعد أن كنا فيما مضى أمام “صورة الواقع”، أصبحنا الآن أمام “واقع الصورة” المنقول على شكل سيناريو، يجسد الأطراف المتنازعة والآليات المعتمدة والوسائل اللوجستيكية وأساليب التدخل وبؤر الاحتدام ونتائج الصراع…

فالحرب مثلا، باعتبارها واقعا، يتم الآن استغلالها وتوظيفها إعلاميا، لا باعتبارها مشهدا لحدث وقع في زمن معين، وفي نقطة جغرافية معينة، يتمّ نقلها بكل تفاصيلها وجزئياتها، دون نقص أو إضافة، وإنما يتمّ إخضاع صورة الواقع لكل عمليات التنقيح والتعديل والنقص والإضافة، بما يخدم مصالح الفئة المسيطرة على وسائل الإعلام. فحرب لبنان، وقبلها حرب الخليج هي حرب الصورة بامتياز. حيث لا يعاين المتلقي تفاصيل الحرب بشكل مباشر وحيّ، كما في الحروب السابقة، بل يتم إمداده عبر المؤسسات الإعلامية -الفضائية منها على وجه الخصوص- بكل السيناريوهات التي تجسد تحركات الأطراف المتصارعة. بمعنى آخر إن المتلقي لا يكون إزاء مشهد لحادث أو حرب يراه بعين واقعية، وإنما أمام نسخة وصورة لهذه الحرب. أي النسخة والصورة اللتين تريد المؤسسة الإعلامية أن يدركهما المتلقي.

فالواقع، كما تحاول أن تبينه الصور/النماذج المختارة عبر آلية السيناريو، ما عاد ظاهرا، بل “محتجبا” خلف واقع مصطنع ورقمي. افتقد فيها المتلقي ما هو حسي وحقيقي، جراء غياب قيمة الأشياء وموضوعاتها الحية، ليستعاض عنها بمتاهة مصطنعة من الصور المتخيلة والوهمية، الشيء الذي يجعله حائرا أمام صدقية الأحداث المعروضة عليه وحقيقتها.

ولعل هذا ما دفع جان بودريار إلى القول إن ” حرب الخليج لم تقـع”، لأننا -في اعتقاده- لم نعاين تحركات الأطراف المتصارعة بشكل مباشر، ولم نر دما حقيقيا ولا موتى… بل كل ما نراه هو ما تعرضه أطروحة الحلفاء، أي النسخة المعدلة في دهاليز المؤسسة الإعلامية.

فيما ” اعتبر “مانول كاستي” أن ما شاهده الجمهور في تلك الحرب هي (الواقع المتخيل) الذي فرضته تكنولوجيا الاتصال، حيث تختلط الحقيقة بالواقع المصنع صوريا، انطلاقا من مرحلة الإعداد العسكري وصولا إلى الاستعراض التلفزيوني”([13]).

 فهناك من يقول بأن الإعلام الأمريكي تعلّم درساً مهماً من حرب الفيتنام، حيث كان الإعلام الأمريكي مفتوحاً ومتعدداً، وحيث كان أكثر من 600 مراسل عسكري ينقلون تغطيات متعددة لأكثر من 100 مليون جهاز تلفزيون في أمريكا، وبأسلوب غير محرّر، وينقصه الكثير من صناعة المونتاج، مما أدى إلى انقلاب المجتمع الأمريكي على الحرب. وحين بدأت حرب الخليج، كان الإعلام الأمريكي قد وعى الدرس جيداً، حيث نقل الحرب على شاشة التلفزيون، بطريقة مقننة، حيث لا وجود لمراسلين منتشرين في كل بؤر التوتر والصراع، وليس هناك من مصدر لمجريات الحرب غير قيادة الحرب ذاتها. ولهذا انتصر الحلفاء في نقل الأطروحة والنسخة الوحيدة التي نجحت في تجنب الانقسامات وردات الفعل الرافضة للحرب كما جرى سابقا.([14])

إننا اذن، كما يقول جان بودريار حول حرب الخليج الثانية، أمام “نسخة تلفزيونية” من إخراج أمريكي بامتياز. ولعل هذا ما دفع برئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، (1993 ) إلى القول: ” إن ما نسمعه أو نشاهده هو في الواقع ما قررت وسائل الإعلام الغربية هذه أن نسمعه أو نشاهده “.([15])

إن خطورة الطرق والأساليب التي تعتمد عليها المؤسسات الإعلامية في نقل الأحداث والأخبار لا تقف عند التقنيات سابقة الذكر، بل تتجاوزها إلى تقنية، يتم بموجبها محو الوقائع الأصلية وتعويضها بوقائع أخرى بديلة. إننا أمام ما يمكن تسميته بعملية التقطيع والإلصاق (couper / coller) أو النسخ والإلصاق (coller/ copier)، أي عملية نسخ لواقع معين وتقطيعه ومحاولة إلصاقه في سياق آخر، وكأنه سياقه الأصلي. والمثال على ذلك ما وقع لصحيفة “أل باييس” (EL Pais ) الإسبانية من خلال استغلالها لصورة طفلين فلسطينيين(فرح وأحمد) أصيبا بجروح أثناء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، وإبرازها( الصورة) على أنها لطفلين من مدينة العيون المغربية أصيبا خلال تفكيك مخيم “إكديم إزيك”.

إننا إذن بصدد عملية تقطيع لصورة التقطها المصور الفلسطيني “إبراهيم أبو مصطفى” لعملية تضميد طفلين فلسطينيين في غزة أصيبا بشظايا من صاروخ أطلقته مقاتلة إسرائيلية في 21 يونيو/ حزيران 2006، ومحاولة إلصاقها وكأنها محاكاة للواقع المغربي.

في ذات السياق أقدمت القناة التلفزيونية الإسبانية “أنـتينـا3” (Antena3) على بث صورة لجثث أربعة قتلى، زاعمة أنهم ضحايا للأحداث التي عرفتها مدينة العيون المغربية؛ وذيلته، على موقعها الإلكتروني، بتعاليق وعناوين بارزة من قبيل: “صور التقطت بالهاتف تؤكد العنف الذي مارسته القوات المغربية بالعيون“. في حين أن الصورة تتعلق بجريمة تدخل ضمن نطاق الحق العام، تعرضت لها أسرة مغربية بداية سنة 2010 (26 يناير2010) بمدينة الدار البيضاء على يد احد أفرادها المختلين عقليا. وهذه الصورة موثقة بيومية (الأحداث المغربية) بتاريخ 28 يناير 2010، أي بعد حدوث الجريمة بيومين فقط.

ليبقى السؤال مطروحا لماذا عمدت “أل باييس” إلى إدراج تلك الصور في ذلك التوقيت؟ ولماذا لم تظهرها إبان العدوان الإسرائيلي؟ و”لماذا نهجت القناة التلفزيونية الاسبانية “أنـتينـا3” نفس النهج؟

من هنا تتأكد الأطروحة التي بسطنا القول فيها آنفا، من أن الصورة هي واقع منظور إليه من زاوية معينة، تخدم أجندة ما، أو إيديولوجية ما.

لذا يمكن اعتبار الإيديولوجيا نوعا من المكر السياسي، فهي حرب داخل نطاق مغاير، حيث لا وجود لأسلحة دمار، غير أن السلاح الأوحد فيها هو الصور، فكل جهة تسعى للوصول إلى مبتغاها وهو تشويه صورة الآخر وزعزعة مكانته ضمن المنظومة الدولية.

 إننا هنا أمام عملية تزييف لمسارات الحقيقة، عبر الركوب على الأرشيف الأيقوني الفلسطيني أو المغربي، من خلال اعتماد صور تعكس واقعا معينا، ومحاولة إلصاقها في غير سياقها. وكأننا بصدد عملية مفبركة أو عملية “تقطيع وإلصاق” (couper / coller)، أي قطع الجذور والامتدادات التاريخية لصور مرتبطة بسياقاتها الأصلية ومحاولة إلصاقها في مواضع وأحداث لا تمت لها بصلة.

 نحن إذن أمام عملية قلب للوقائع والأحداث وتزييفها، وعملية نسخ وقائع وإلصاقها (copier / coller) في مواضع مغايرة، هدفها ممارسة فعل التضليل والتمويه وتوجيه الرأي العام الخارجي في اتجاه مغاير لما يحدث على أرض الواقع. بمعنى أن المؤسسة الإعلامية الإسبانية تسعـى عبر “اغتيال الواقع” (واقع غزة وواقع الدار البيضاء) إلى إعادة إنتاج هذين الواقعين ونسخهما داخل مجال جغرافي مغاير، لا يمت لهما بصلة (واقع العيون).

 إننا اذن أمام ما يمكن تسميته بـ”صناعة الأحداث والوقائع”، بمعنى أن المؤسسة الإعلامية الآن تتدخل في تحوير الواقع وقلب حقيقته، إلى حقيقة أخرى هي حقيقة المؤسسة الموجهة.

 هذا يعني أن الصورة عبر لعبة الخداع والمكر، تمارس فن صنع واقع آخر غير الواقع الفعلي. وعليه، تتأكد أطروحة جان بودريار من أن:  ميلاد الصورة الإعلامية المعاصرة يبدأ بموت الواقع.

مراجع المقالة :

[1] –  محمد بلاسم : الفن والعولمة، سبتمبر 2010. (الموقع الالكتروني)

 http://balasim.net/index.php?option=com_content&view=

article&id=64:fan-awlama&catid=38&Itemid=58

[2] – في أغسطس1989 نشرت مجلة TV Guide على غلافها صورة للمذيعة المشهورة أوبرا وينفري بوضع رأسها على جسم ممثلة أخرى هي آن مارجريت كان (ص96) قد تم تصويرها في 1979، وتم الكشف عن التلاعب بالصورة من خلال مصمم أزياء الممثلة الذي اكتشف أن الملابس المعروضة هي للممثلة وليس لأوبرا .[نقلا عن : ثقافة الصورة في الإعلام والاتصال ، مجموعة من الكتاب، مؤتمر فيلادلفيا الدولي الثاني عشر، منشورات جامعة فيلادلفيا 2008 ص96] . وفي إشهار اتصالات المغرب Maroc Telecom، يتم “تركيب” وجهي الممثلين والكوميديين المغربيين محمد الجم ومحمد الخياري على جسدي ممثليين أسيويين وهما يمارسان فنون الحرب.

[3] – فؤاد إبراهيم : ثقافة الصورة.. التحدي والاستجابة، المصدر : مؤتمر فيلادلفيا الثاني عشر(ثقافة الصورة) 24-26 أبريل 2007.(الموقع الالكتروني)www. Philadelphia. edu .jo/arts. conf/papers/ 3 .doc

[4] – هربرت شيللر : المتلاعبون بالعقول، ترجمة : عبد السلام رضوان، مجلة عالم المعرفة الكويت عدد 243 / 1999 ص 20.

[5]– في ثقافة ما بعد الحداثة أصبحت الصور التي تعالج بواسطة التلفزيون أو السينما، على سبيل المثال، أكثر واقعية وجاذبية مقارنة بحياة الناس الحقيقية. وفي بعض الأحيان لا تكن للواقع بأية صلة مثل شخصيات باربـي وفلة وساندريــــلا …  إنها كائنات تلفزيونية بامتياز، لا أصول لهــــا في الواقــع الحقيقي . ومع ذلك تبدو من خلال تعاطي الناس معها، لاسيما فئة الأطفال، أكثر واقعية من الواقع.

[6] – جان بودريار: المصطنع والاصطناع – ترجمة: د. عبد الله جوزيف، الطبعة: الأولى (بيروت: منشورات المنظمة العربية للترجمة أبريل ) 2008 ص70.

[7] – جان بودريار. الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع ، ترجمة: منير الحجوجي وأحمد القصوار. الطبعة الأولى ( الدار البيضاء: دار توبقال للنشر2006) صفحة 39.

[8] – بودريار، 39.

[9] – نادر كاظم  :  كيف تتحكم أجهزة الإعلام فينا؟ 2010/09/09 (الموقع

الالكتروني)  http://www.startimes.com/f.aspx?t=25231202

[10] – كاظم  ( الموقع الالكتروني)

http://www.startimes.com/f.aspx?t=25231202

[11] – كاظم   (الموقع الالكتروني)  http://www.startimes.com/f.aspx?t=25231202

[12] – فؤاد إبراهيم .(الموقع الالكتروني).

www. Philadelphia. edu .jo/arts. conf/papers/ 3 .doc

[13] – فؤاد إبراهيم : .(الموقع الالكتروني).www.  Philadelphia. edu .jo/arts. conf/papers/ 3 .doc

[14] – كاظم   (الموقع الالكتروني)  http://www.startimes.com/f.aspx?t=25231202

[15] – كاظم   (الموقع الالكتروني)  http://www.startimes.com/f.aspx?t=25231202

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد