الحركات الدينية وإشكاليات الانتقال الديمقراطي في البلدان المغاربية

 

مقدّمـة:

 قد لا نبالغ إذا أقررنا منذ البداية، بما حُظِيتْ به مسألة العلاقة بين الدين والديمقراطية من اهتمام، قد لا نجده كثيرا في علاقة أي مفهومين آخرين، إذا استثنينا مفهومي الأصالة والمعاصرة اللذين انبثقت من الجدل بينهما إشكاليةُ الدين والديمقراطية ذاتُها. وهي إشكالية متجددة، محفزة على البحث، عاكسة لصراعات فكرية أيديولوجية، تغذّت من الاختلافات في الآراء والمقاربات، والتباين في المرجعيات.

و لقد منحت -الثورات العربية- فرصة تاريخية للحركات الدينية، لتتصدر المشهد السياسي، وتضعها أمام اختبار كبير، تَقرّرَ بنتيجته موقعُها (حركة النهضة في تونس) بل وتَحدّدَ مصيرُها (الإخوان في مصر).

وإذا كانت “الثورات” قد منحت الفرصة للحركات الدينية، كي تنفض عن نفسها آثار عقود من التلجيم والتنكيل الذي لحق بها، وتُوفرَ لها شرعية انتخابية، وصلت بموجبها إلى سُدّة الحكم، فإنها منحتنا نحن أيضا فرصة المراقبة والتقييم لتجربة سياسية – دينية، كانت على غير مثال في تاريخ البلاد العربية عموما، والمنطقة المغاربية على وجه الخصوص.

المميز لهذه التجربة- فضلا عن فرادتها في تربتها – أنها وجدت نفسها مدعوة إلى المواءمة بين مفاهيم مركزية ثلاثة: السياسة/ الديـن/ الديمقراطية. و هو ثالوث لم يُقَدَّرْ له أن يجتمع عند العرب، على مدى تاريخهم الطويل في أيّ تجربة سياسية. ولذلك، كانت الانتظاراتُ– باجتماعه – كبيرةً، والرهاناتُ معقودةً على أن يكون ذلك فاتحةَ عهد جديد للممارسة السياسية، يرتقي بالعرب إلى مصاف الشعوب المتفيئة ظلالَ الحرية والديمقراطية. لكن – وبعبارة القول المأثور- ليس الخبر كالعيان، وليس التنظير كالتطبيق، فبين هذا وذاك من الفروق، ما بين المتاح والمحال، وما بين الشعار والممارسة.

إن انتقال الحركات الدينية من مرحلة الدعوة، إلى مرحلة الفعل، هو الذي مكّننا من رصد قدرتها على الوفاء بما تضمنته أدبياتها وشعاراتها من مبادئ الحرية والديمقراطية، ممارسةً حقيقيةً في الواقع. كما مكننا هذا الانتقال، من الوقوف على شكل الحكم السياسي، بمرجعية دينية تدّعي لنفسها الانفتاح، والقدرة على التعايش مع جميع الأطياف الفكرية، تحت مظلة المبادئ العامة للمجتمع المدني. لذلك، ستكون مقاربتنا لتجربة حركة النهضة التونسية ذات المرجعية الإسلامية، خلال فترة حكمها مستندة إلى إشكاليتين اثنتين:

   الأولى: الإشكالية النظرية والفكرية المتصلة بعلاقة الإسلام، عقيدةً وفكرا، بمفهومي الحرية والديمقراطية عنوانين جوهريين لملامح الحكم الرشيد.

    الثانية: الإشكالية التطبيقية للممارسة السياسية، المدعوة إلى التوفيق بين مرجعية دينية متَّهَمَةٍ أبدا بالجمود والتحجر وبين انتظارت مجتمع متنوع الأطياف لإرساء مناخ سياسي، الرهانُ الأكبر فيه متصل الديمقراطية.

      * الإشكالية الأولى سنرصد من خلالها – في اقتضاب شديد – مدى توفر النص الديني، باعتباره المهاد

النظري الأهم لكل الحركات الإسلامية – وعند بعضها الوحيد- على ما يدعم القبول، من عدمه للديمقراطية  سبيلا إلى ممارسة سليمة في الحكم.

      * الإشكالية الثانية – وهي عمدة بحثنا – سنستقرئ من خلالها تعاطي النهضة مع الشأن السياسي التونسي العام، واقفين على مدى نجاحها في إدارته، وجدّيتها في خلق التوازن بين ممارستها الحكمَ، على قاعدة الالتزام بمبادئ الحرية والديمقراطية، وبين ما تتبناه من ثوابتَ ومسلماتٍ فكريةٍ، لم نجد فيها حقيقةً، ولو بعض الرجْع لصدى هذه المبادئ، على الأقل فيما أتيح لنا الاطلاع عليه من أدبيات منظريها، ومواقف منتسبيها.

I  –  الإشكالية النظرية:

  • جـدلية الدين والديمقراطيـة

ثمّـة سؤالان مهمان، قد يمثلان مدخلا مناسبا وواعدا بالإجابة على مجمل الهواجس المرتبطة بهذه الجدلية، أول السؤالين: هل هناك مواصفات دينية للديمقراطية؟ ثاني السؤالين: كيف يمكن تطبيق الديمقراطية في مجتمع متديّن في غالبيته؟.

ينطوي السؤال الأول على افتراضٍ لوجود ما يمكن تسميته تجوزا” ديمقراطية دينية” بملامحَ ومواصفاتٍ خاصةٍ، في مقابل رأي مخالف يرى أن الديمقراطية بصيغتها المعاصرة، منظومة سياسية حداثية، ليس باستطاعتنا رصدها على النحو الذي هي عليه الآن في أي فكر سابق على زمن الحداثة[1]. أما السؤال الثاني فتتطلب الإجابةُ عليه إثباتَ وجود الديمقراطية في الخطاب الديني، أو القول بالفصل بينه وبين السياسة، على النحو الذي نراه في الدولة الحديثة.

تستدعي الإجابة على السؤالين تحديد العلاقة بين الدين والديمقراطية. ولكن أيَّ دين نعني؟ ووفق أي منظور نتفاعل معه؟

ننبّه بدءا، إلى أننا نستعمل لفظة الدين مرادفا للفظة الإسلام، لأن مجال بحثنا مرتبط بالخطاب الإسلامي تحديدا، ممثلا في مصادر تشريعه التقليدية أولا ( قرآن وسنّـة ) وأدبيات المنظرين له ثانيا،

الحديث عن وجود مواصفات دينية إسلامية للديمقراطية، يقتضي التنويعَ في زوايا الطرح للمسألة من جوانب مختلفة، والاستدلالَ عليها من منظورات متنوعة:

 أ/ من زاوية الاستدلال المنطقي الاعتقادي:

لعل نسبية الأحكام في علاقة الإسلام بالديمقراطية، تظهر بوضوح أكبر، من خلال هذه الزاوية، فالأحكام والنتائج تختلف باختلاف المقدمات الاعتقادية المختارة، فمرّة يكون هناك اتفاق بين الإسلام والديمقراطية، ومرّة يكون الاختلاف حد التناقض.

فإذا كانت المقدمة الاعتقادية، أن الله هو الخالق العادل، فمنهج الاستدلال يمكن أن يجري على النحو التالي: *الله خالق كل شيء/ *الله عادل فيما خلق/ *عدل الله في خلقه يقتضي أن يكون البشر متساوين في الحق والواجب/ *كل البشر أحرار في أفكارهم و سلوكهم، حتى يستقيمَ مبدأ محاسبتهم على أفعالهم. فالمجتمع يتكون من أفرادٍ متساوين جميعا، أحرارٍ، يملكون القدرة على اختيار أفعالهم، والسلطةُ في هذا المجتمع، يجب أن يتقاسمها الجميع في صياغة القرار السياسي، بمختلف مستوياته، بما في ذلك الأشكال المؤسسية لهذه المشاركة والإجراءات العملية المستوجبة لها، مثل الانتخابات وفصل السلطات والتداول عليها، وذلك كلّه جوهر الديمقراطية.

أما إذا كانت المقدمات الاعتقادية مثلا، هي علم الله بمصلحة البشر ممثلا في الشريعة، فالاستدلال يجري كما يلي: *الله عالم بما فيه مصلحة البشر./ *الله وضع في الشريعة كل ما يحتاجه البشر. لذلك وجب على الإنسان أن يطيع أمر الله، على أساس أن حكم الشريعة يجب أن يسود، وما على الأفراد غير الطاعة، وهذا الوجوب تكريس لحكم ثيوقراطي مناف للديمقراطية بداهة.

هكذا يمكن للاستدلال المنطقي الاعتقادي الوصول بنا إلى نتيجتين مختلفتين وفق مضمون المقدمة الاعتقادية المختارة.

     ب/ من الزاوية التاريخية:           

يذهب الكثيرون إلى تبنِّي الرأي القائل، بأن هناك فترتين وجيزتين في التاريخ الإسلامي من مجموع أربعة عشر قرنا، هما اللتان طُبِّقَ فيهما الإسلام تطبيقا جعلهما فترتين مقدستين، الأولى تنحصر في النصف الأول من القرن الأول الهجري[2]، أما الثانية، فمرحلة قصيرة في القرن الرابع الهجري، الذي شهد حركة فكرية وعلمية، مثلت ذروة الازدهار والحضارة[3]. وما سوى هاتين الفترتين انحراف عن الإسلام الحقيقي.

يبدو هذا الحكم مغاليا جدا، وينطوي على تحيز إيديولوجي واضح، وقد تتناقض بعض فرضياته مع الوقائع التاريخية، بما يدفع إلى رفض التسليم بداهة، بأن الإسلام دين ودولة، بناءً على تأسيس النبي دولةَ الإسلام، التي اندمجت فيها السلطة الدينية بالسلطة السياسية، اندماجا ربما يكون هو الأصل للمقولة التي شاعت في العصر الحديث، من أن الإسلام دين ودولة، وهي مقولة تتسم بالالتباس الشديد، لأنها لا توضح ما إذا كانت التشريعات الدينية – المعاملات – في الإسلام هي ذاتها دينا مقدسا وثابتا وملزما[4] أم أنها دنيويةٌ بحتةٌ، متغيرةٌ حسب شروط الزمان والمكان، وفي هذه الحالة، هل تعني تلك المقولةُ أن الإسلامَ يتضمن الدينَ تضمُّنَهُ شيئًا آخرَ غيرَه هو الدولةُ؟ أم أن الدولةَ، رغم أنها دنيويةٌ بحتةٌ تظل داخل إطار الدين، رغم أن البشر هم من ينشئونها وينظِّمونها ويديرونها؟

     ج/ من الزاوية الأيديولوجية:

المقصود فيها، معالجة النص من زاوية غيرِ دينيةٍ، مستمدةٍ من تصوراتٍ ومفاهيمَ ورؤيةٍ فرديةٍ للعالم والحياة، بحيث يرى في النص ما يعتقده هو، لا ما يقوله النص، فإذا كان التفسير والتأويل يلتزمان بضوابطَ لغويةٍ ومنهجيةٍ معينةٍ، فإن القراءةَ الأيديولوجيةَ تُعفِي نفسها من تلك الضوابط ، وتستنطق مفرَداتِ النص طوعا أو كرها، بمفرداتها هي. ويمكن تصور خطوات الفرادة الأيديولوجية على النحو التالي:

* تَبَنّي منظومةٍ معينةٍ من التصورات والمعتقدات، تنشأ في العادة، بعيدا عن التعامل مع النص الديني، أي في سياق معرفي وثقافي واجتماعي، ينتمي لعصر مغاير لزمن ورود النص.

* توظيفُ تلك المنظومة في تكوين تصور معين للمسألة الدينية، وِلما يجب أن يكون عليه النصُّ الدينيُ، من احتواء لمبادئَ وحقائقَ ونُظُمٍ في مختلف المجالات.

* البحثُ عما يؤيد ذلك التصورَ، فيما ورد في النص الديني من كلمات أو إشارات، ثم فصلُها عن سياقها اللغويِّ والوقائعيِّ، حتى يمكنَ تحميلُها بالمعنى المرادِ الوصولُ إليه.

يمكننا هنا أن نرصد تنوعا في المنظور الأيديولوجي، بتنوعِ المرجعياتِ الفكريةِ التي صدر عنها: فقد يكون ذلك المنظور ليبراليـا، مثلما نجد في مدرسة محمد عبده، وامتداداتها الفكرية، وقد يكون اشتراكيا، مثلما كان مع عمار أوزيجان الجزائري في الجهاد الأفضل، ولدى سلمان غانم الكويتي المعاصر، ولدى جمال البنا وغيرهم…وقد يكون المنظور أصوليا، يتبنى مبدأ الحاكمية لله، يضع التشريعَ الإلهيَّ في مواجهة التشريعِ الوضعيِّ، وأخيرا قد  يكون عَلمانيا، مثلما نجد في مواقف بعض المفكرين المحسوبين على تيار الإسلام النقدي الذي يمثله محمد أركون، وخليل عبد الكريم، وعبد المجيد الشرفي، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم.

 نستنتج إذن، أنّ زاوية النظر المرجعية، تنعكس على طبيعة الحكم الناتج عنها، ومن هنا، كان تعددُ الاجتهادات في النظر إلى علاقة الإسلام بالديمقراطية، حتى وجدنا من يُحَرِّمُها ويكَفِّرُ من يتبنَّاها[5]، وآخرَ يعتبرها هي الصورةُ المتطورةُ من نظام الشورى الإسلامي حين أطلقوا مصطلح “الشوراقراطيـة” [6]. وهناك من يصف القائلين باختلاف الديمقراطية عن الإسلام بكونه لم يفهم الإسلامَ ولا الديمقراطيةَ. وحتى على مستوى الكتاباتِ الغربيةِ، نجد من يعتقد أن الإسلامَ دينٌ ديمقراطيٌ، وأن هناك فعلا ما يمكن تسميتُه الديمقراطيةَ الإسلامية، ويستشهد عليها بالنصوص والتاريخ، ولكن هناك أيضا من يعتبر الإسلام دينا “ثيوقراطيا” حاكميتُه مطلقةٌ بطابعٍ إلهيٍّ.

   الحرية عنوانا للتجانس بين الديمقراطية والإسـلام:

لما كانت الحرية هي العنوان الأبرز للممارسة الديمقراطية الحقِّ، فإنه من المنطقي، أن نبحث عن مؤشرات وجودها في الإسلام، كأساسٍ للحديث عن قربه أو بعده عن الديمقراطية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وصولا إلى حرية اختيار نظام الحكم، باعتبار الديمقراطيةَ في أساس نشأتها، كانت على مبدإ الحقوق الطبيعية للبشر.

يذهب بعضهم[7] إلى الجزم بأن الإسلام قد جاء مؤكدا على مبدإ الحرية للإنسان، باعتبارها فطرةً فُطِرَ عليها، سواء من باب العدالة الإلهية بين البشر، أو من باب أنّ الله أعطى الإنسان قدرة الاختيار. وما دام الإسلام يعترف بأن الإنسانَ له قدرةُ الاختيار، فقد سلّم بأول مفردة من مفردات الاختيار الإنساني، بما أعطاه الله من عقل قادرٍ على أن يُكَوِّنَ لنفسه مرجعيةً أوليةً للفصل بين طريق وأخرى. إذن، في البدء كانت الحريةُ، ثم كان العقلُ. و المعرفةُ أداةُ تغذيةِ هذا الاختيار بما يصلحه أو يقوّمه على الطريق المطلوب، وهكذا، فالإسلام ينطلق من حق طبيعي للإنسان، يسبق به أي اختيار ديني أو فكري أو سياسي، ولا نجد في القرآن ولا في الحديث ما يعارض هذه الحقيقة.

هكذا، تكون الحريةُ سابقةً للإسلام في الإنسان، وبالتالي فاختيارُه عقيدةً، يأتي لاحقا لوجود هذه الحرية، بل إن الاختيارَ الإنسانيَّ الأولَ بعد خلق آدمَ كان العصيانَ لما أُمر به، فعصيانُ آدمَ لربّه، جاء بعد إعطائه الحريةَ، ومنظومةَ المعلومات حول إبليسَ وعداوتِه للإنسان، فلما آثر العصيانَ لم يكن إلا مختارا حرا في اختياره. إذن ففطرة الإنسان، كما يقررها الإسلام، كانت الحريةَ في الاختيار، وهي التي استأمن اللهُ الإنسانَ عليها، وقد رفضتها كل الكائنات، ورضِيَها الإنسانُ[8].                                                                            

وهكذا، نجد أن كل الكائنات تسجد لله، بحكم تنازلها عن الاختيار لصالح الطاعة إلا الإنسانَ[9]. فمخلوقات الله جميعها تسجد له إلا بني الإنسان، فمنهم الساجدون ومنهم الكافرون، ومنهم المطيع ومنهم العاصي، وهذا اختيار محض.

فتعريف الإنسان في الإسلام، كما يضبطه أبو حامد الغزالي، هو “حرية قبل كل شيء، قبل أن يكون موصوفا بأية صفة، ثم بعد ممارسته لتلك الحرية في اختيار عقيدته، يبدأ الحكمُ على سلوكه بالصواب أو الخطإ”[10]. واللهُ لم يشأ أن يهديَ الناسَ جميعا، لأنه أراد أن تكون طاعته بمحض إرادة الإنسان وحريته[11].

وتتأكد هذه الحرية، حين تصل إلى الدعوة للإسلام، بالتنصيص على أن يؤمن الإنسان باختياره دون إكراه في الدين[12]. وأكثرُ ما يفعله الإسلامُ في القرآن، أن يدعوَ الناسَ إلى تحكيم عقولهم، فيتدبّرون خلقَ السماوات والأرض، وأن يُغَـذَّي العقلُ بمنظومة من المعلومات، تساعده على حسن الاختيار، وحتى في الجدال مع الكفار، كان منطقُ الموعظةِ الحسنةِ هو الغالب[13]، في مقابل الرفضِ لأسلوب الإكراه[14]. بل إنه يُعطِي حقيقةً إلهيةً عن طبيعة البشر في العصيان[15]. وغايةُ ما يطالب به هو تقديمُهم برهانَ عدم إيمانهم[16].

ولمّا كانت الديمقراطية هي الجسدَ التنظيميَّ لممارسة الحرية في الحكم والنظام، فإننا وجدنا أن هذه الحريةَ في الإسلام، هي أساسُ كل اختيار، بما في ذلك العقيدةُ نفسُها، بل ويطالب الإسلامُ الإنسانَ بممارسة حريته علنا، عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يتركها حياديةً محصورةً في داخل الإنسان فقط.

 بهذا، يتجاوز الإسلام جميع القوانين الوضعية، مهما تعاظم انحيازها لجانب جانب الحرية، ذلك أن أقصى ما يذهب إليه القانون الوضعي إباحةُ الرأي دون أن يوجب إبداءه على الأفراد، في حين أن الإسلام يعتبر ذلك واجبا من واجبات المسلم، عبر أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.

إن ما يؤكّد حرية الإنسان في الإسلام، أنه يرى أن الإنسان الذي لا يمارس هذه الحرية في اختيار العقيدة، كأنه لم يؤمن، فهو يرفض الإيمان بالتقليد، أو الوراثة، أو من خلال البيئة، ويطالب الإنسان أن  يتبنى عقيدته باختيار حقيقي، فإذا كان الإسلام لا يمانع في تقليد الآخرين في أحكام شرعية معينة، فإنّه لا يقلد غيره في أصول دينه.

   II – الإشكاليّـة التطبيقيّـة:

سنتعاطى مع هذه الإشكالية، بنفس التمشّي الذي اخترناه منهجا، في طرحنا للإشكالية النظرية، ذلك أننا سننظر أولا، في المقاربة الفكرية التي تتبناها الحركات الدينية تجاه الممارسة الديمقراطية، لنصل ذلك ثانيا، بتجربة حركة النهضة في الحكم وتجليات المشروع الديمقراطي في برنامجها، ومدى نجاحها في تجسيمه.

   مقارية الحركات الإسلامية للديمقراطية ما بعد الثورات العربيـة:

    أ/    مراحـل الخطاب الإسلامـي:     

نختزل هذه المراحل في لحظتين فكريتين، وسياسيتين مرت بهما التيارات الإسلامية بتفاوت، وهما:

  • / لحظة المصالحة بين الإسلام والسياسة:

كان الجدل و التحدي السياسي الذي واجهته التيارات الإسلامية، خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، يتركز على السؤال الآتي:هل يتضمّن الإسلام -كمنظومة عقدية وتشريعية- رؤية سياسية في إدارة الحكم؟ وقد نهض للإجابة على هذا السؤال، فقهاء، ودعاة، وعلماء، سخّروا أدبياتِهم لتوضيح الخطوط السياسية العامة التي يتضمنها الإسلام، إثباتا لتوفره على نظامٍ للحكم، يعمل من أجل سيادة القيم السياسية، وأهمها الديمقراطية[17].

  • / لحظـة المصالحة بين الإسلام والديمقراطية:

انطلقت مع بداية عقد الثمانينيات، وبواكير الصحوة الإسلامية، التي عمّت أغلب البلدان العربية والإسلامية، وتوافر المناخ الذاتي والموضوعي، لتجاوز إشكالية الإسلام والسياسة، لينتقل الجدل والتحدي إلى الخوض في مسألة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وهي إشكالية مستمرة إلى الآن، ولا أفق قريبا للحسم فيها. و يمكن تحديد الجدل الفكري/السياسي في هذه اللحظة وفق المستويات التالية:

  – مستوى الجدل حول مشروعية بناء الأحزاب والمنظمات السياسية في الإسلام، ويشمل هذا المستوى كذلك، فكرة المعارضة في الرؤية الإسلامية السياسية.

  –  مستوى الجدل حول مشروع الدولة الإسلامية، من حيث أسُسُها و مرتكزاتُها وسبلُ إنجازها. وامتد هذا الجدلُ، ليصل إلى مفهوم الدولة، على أساس أن الدولة المنشودة إسلاميا، دولة مدنية لا تمتّ بأي حال، إلى أشكال الدولة الثيوقراطية، التي خبرها العرب في فترات ماضية.

  –  مستوى الجدل حول موقف الإسلام من الديمقراطية، والتساؤل حول قبول المنظومة التشريعية الإسلامية لآليات الفكرة الديمقراطية. وقد اتخذ الجدلُ في هذا المستوى، مراحلَ عدةً:

* المرحلة الأولى: عنوانها الأبرز” قال الإسلام قبل ذلك”، وهو عمل فكري، وثقافي، يستهدف خلق مقابلة بين الديمقراطية والشورى، على اعتبار أن كل حسناتِ النظام الديمقراطي موجودةٌ في الرؤية الإسلامية.

* المرحلة الثانية: ساهم في إثرائها معرفيا وفكريا، مشروع أسلمة العلوم الاجتماعية، وهي مرحلة تفكيك الموقف من النظام الديمقراطي، بحيث أصبحت رؤية التيارات الإسلامية، قائمةً على رفض الخلفية الفلسفية، والعقدية للنظام الديمقراطي، والقبولِ بالآليات والأطر الديمقراطية، والعمل على تبيئتهـا إسلاميا. وينقسم موقف التيارات الإسلامية، تجاه مقولة الديمقراطية إلى آراء متعددة، نختصرها كالتالي:

– رفض الديمقراطية، باعتبارها بضاعة وافدة من الغرب الكافر.

– التوليف بين نظام الشورى، ونظام الديمقراطية ” الشوراقراطية / الشوقراطية “

– القبول بالديمقراطية كآليات إجرائية، ورفضُها مفهوما، ومرجعيةً فكريةً وفلسفيةً.

– القبول بالديمقراطية كحمولة سياسية متكاملة، شريطة تأسيسها وتجذيرها في الثقافة الإسلامية.

* المرحلة الثالثة: هي مرحلة الانخراط في العمل السياسي، والقبول بقواعد اللعبة السياسية، وأهمها، إقرار مبادئ الانتخاب، والاقتراع السري والحر، وتكافؤ الفرص.

* المرحلة الرابعـة: تتجسد في اهتمام علماء التيارات الإسلامية، ومفكريها، بقضايا الحوار والتعددية والحريات والتحديث وحقوق الإنسان ونبذ العنف ورفض قمع الآراء وحق التعبير. وهو ما يفسر اعتناء هذه التيارات، بعلاقاتها الدولية، وانفتاحها على عديد المؤسسات الحقوقية، والمدنية الدولية، إلى درجة صدور دعوات فكرية وإعلامية تدعو إلى صياغة ميثاق إسلامي يستند إلى قيم العدل، والشورى وحقوق الإنسان ونبذ الاستبداد وكل أشكال الاحتكار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاستئثار بالحكم.

 ب/ أفق الخطــاب الإسلامي:

من البديهي، أن يكون مآل الخطاب الإسلامي، مرتبطا بلحظة تحوله من مستوى الشعارت والتنظيرات، إلى مستوى التطبيق الميداني لجملة مضامينه، عبر اقتحام الممارسة السياسية الفعلية، من موقع القرار، وهو ما تمّ بالفعل، بعد ما سُمِي” الربيع العربي”، الذي وفـّر للإسلاميين، فرصة تاريخية لإدارة الدولة (تونس ومصر). ولعل الموقع الجديد الذي وجد الإسلاميون أنفسهم فيه، مجردين من أية خبرة سابقة، كان يفرض عليهم، التنبّهَ إلى طبيعة المرحلة الانتقالية من جهة، وإلى جملة الرهانات المنتظرة منهم من جهة ثانية. ويقتضي هذا المعطى توضيحَ أمرين مهمين:

   الأول: هو أن الدولة التي تولّى الإسلاميون سلطتها السياسية، ليست دولةَ خلافة، ولا هي ولايةُ  فقيه، وإنما هي دولةٌ تعدديةٌ تشاركيةٌ، يتوجب أن يراعي الإسلاميون في إدارتها، مبدأ التعايش مع غيرهم من العائلات الفكرية، مهما كانت التباينات. وهذا يعني ضرورة، أن تنحصر جهود الإسلاميين في إطار الدولة الوطنية القائمة، وتتجاوز فكرة الدولة الإسلامية الواحدة، المنشودِ قيامُها.

   الثاني: هو أن التيارات الإسلامية، تعيش – من خلال ما رأينا من تدرج في مراحل خطابها – هاجسين: هاجس التمكُّن السياسي، والعمل على بناء حركة سياسية، قوية و قادرة على الاستقطاب والإنجاز، وهاجس العمل الفكري والنشاط الدعوي والإصلاح الديني.

ولا شكّ أن السعي إلى التوفيق بين الهاجسين، قد يوقع هذه التيارات الإسلامية في عدد  من المزالق، فالممارسة السياسية، بما تقتضيه أحيانا من تنازلاتٍ قاسيةٍ، وتعديلٍ للمواقف- انسجاما مع واقع الدولة التشاركية- قد لا تلقى السند القاعدي الكافي، بل تثير في أغلب الأحيان الكثيرَ من الاختلافات، التي قد يقود بعضها إلى انشقاقات متزايدة، إذا غاب من الزعامات الحركية، من يمتلك الجرأة الكافية، لمواجهة قاعدته السياسية، وهذا يجعل الفاعل السياسي- الإسلامي، يتوقف عن ممارسة بعض الخطوات والتكتيكات السياسية التي لا شعبية لها، مما يُفقده القدرة على المبادرة والاقتحام[18]، ويجعله في مواجهة خيارات متناقضة، بين المُضِيِّ في نزعة تجديدية، تدفعه إلى ممارسة النقد للسائد الفكري والديني، وبين حاجته إلى المحافظة على رصيده القاعدي، غير الراضي على كيفية تعاطيه مع الشأن السياسي، وإدارته للحكم.

وهكذا فإنّ هذه الازداوجية، بين مشروع الإصلاح الديني، والثقافي من جهة، وبين مقتضيات الممارسة السياسية المطالبة بالتغيير من جهة ثانية، تساهم في إرباك التيارات الإسلامية على صعيد الوفاء بتعهداتها للمجتمع المدني من ناحية، والوفاء لخطها الإيديولوجي، والتزامها التاريخي بمبادئها من ناحية أخرى.

هذه الازدواجية، هي التي سننطلق منها، في قراءتنا لتجربة حركة النهضة التونسية في الحكم، مهتمّين بتعاطيها مع المنظومة الديمقراطية فكرا وممارسة، لنقف على التحديات التي واجهتها، والرهانات التي عُقِدت عليها، في خضم واقع سياسي متنوع الأطياف، وانعدام تجربة في إدارة الشأن السياسي،  لنصل في النهاية، إلى صياغة ملاحظات حول ذلك كله، سنعرض لها في حينها.

  • حركــة النهضـة ورهانات المشـروع المجتمعي الديمقراطي:

الاشتغال على حركة النهضة، دون غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى، له مبرراته، لعل أوّلَها أنها حزب إسلامي، مارس العمل السياسي، في السر كما في العلن معارضا، ووصل إلى الحكم بانتخابات شعبية، شهد أكثر الملاحظين بنزاهتها، أما ثاني هذه المبررات، فهو أن أدبياتِها – قبل الثورة وبعدها- متاحةٌ، وهو ما مكّننا من الاطلاع عليها ومراجعتِها، وتَمثُّلِ تصوراتها للحكم تنظيرا وتطبيقا، وأما المبرر الثالث، فيتمثّل في أن الحركةَ  تصدّرت المشهد السياسي، بما يفرض تبيين واقع الممارسة السياسية، لحزب إسلامي، وجد نفسه في الحكم دون سابق تجربة ولا إسناد شعبي مطمئن، رغم إسناد الشرعية.

لا شك، أنّ وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس، قد مثّل حدثا مهما في تاريخ البلاد المعاصر غيرَ مسبوق، ولئن كان مبدأ العزل السياسي، الذي تبنّته ما يسمى بدولة الاستقلال، منذ نشأتها أواسط الخمسينيات، قد شمل مختلف التيارت السياسية، من يسارية، وقومية، وحتى ليبرالية، فإنه كان أكثر شمولا للإسلاميين تحديدا، ذلك أن كل الأطياف السياسية[19] قد وجدت لنفسها هامشا– ولو ضئيلا وغير مؤثر – في المشهد السياسي التونسي، طيلة العقود الماضية، باستثناء الإسلاميين الذين فشلوا- رغم قاعدتهم الشعبية العريضة- في توجيه رسائل الطمأنة إلى السلطة، كما للمعارضة، قصد الإقناع بجملة التطورات في أدبياتهم المرجعية، وبوَسَطِيَّةِ مشروعهـم السياسي، واعتداله في التعاطي مع الشأن العام.

لقد أتاحت ًثورة 14 جانفي 2011″، فرصةً لجميع الأطياف السياسية، وخاصة المحظورةَ للعودة إلى الانخراط في النسيج المجتمعي المدني، والفعل السياسي، وكان أن استثمرت حركة النهضة إرثها التاريخي على أحسن وجه. وكانت انتخابات 23 أكتوبر 2011، تجربة ديمقراطية فريدة في تاريخ البلاد، فقد مارس الشعب حقه في اختيار ممثليه، في كنف من الحرية والمسؤولية، واعتلى الإسلاميون لأول مرة، سُدَّةَ الحكم، فمنحهم ذلك مزيدا من الشرعية تدعّمت  بفوزهم بأغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي، وهو ما مكّنهم من تشكيل حكومة ائتلافية، جمعت لأول مــرة عَلمانيين وإسلاميين، في تحالف سياسي سيادي واحد، لقيادة البلاد في فترة انتقالية دقيقة جدا.

والحقيقة أن فوز النهضة بالأغلبية حينذاك، قد أشاع حالة من الارتياح لدى أتباعها، ولدى بعض الملاحظين الذين اعتبروا ذلك، بدايةً لعهد التداول على السلطة وتحكيمِ إرادة الشعب، لتجسيم ديمقراطية الدولة، وعَدُّوا حكمَ النهضة فرصةً لاختبارها والتثبّتِ من مدى اعتدالها. غير أن آخرين، قد رأوا في صعود الإسلاميين إلى موقع القرار، خطرا على الجمهورية، وتهديدا للمكاسب الحداثية في تونس (حرية المرأة / مجلة الأحوال الشخصية/ التعددية الثقافية) وأنذروا بأن النهضة ستسعى إلى أسلمة المجتمع بالقوة، وإلى إعادة إنتاج الديكتاتورية في لَبُوسٍ ديني، موظفةً هامش الحرية المتاح، لضرب الديمقراطية بالديمقراطية. وشكّك فريق ثالث في قدرة الحركة على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية التي عرفتها البلاد، في تلك الفترة الحسّاسة من تاريخها.

والمتتبع لمسار حركة النهضة، قبل الثورة وبعدها، يرصد جملة من الانعكاسات التي تركت أثرا في أدائها، ومقولاتها السياسية، فقد تميّزت الحركة في بداياتها بثلاث سمات بارزة:

– انتقال الحركة من جماعة دعوية، إلى حزب سياسي/ ديني.

– دخول الحركة في مواجهات مباشرة مع السلطة القائمة، بشكل ساهم في انحسار وجودها العلني في الساحة واضطرّها إلى العمل السري وتحويل نشاطها إلى المهجر.

– إسهام فترة النفي والإقصاء في تطوير الحركة لمقولاتها السياسية، مما أهّلها للقيام بدور معتبر في المشهد السياسي في تونس بعد 14 جانفي 2011، وهو ما أحدث بدوره، تحولا نوعيا في حضور الحركة داخل المجتمع، من خلال موجة من التعاطف بسبب رصيدها النضالي، ساهم بشكل كبير في توجيه النوايا الانتخابية نحو اختيارها، لا اقتناعا بفكرها أو برموزها، بل استجابةً لصوت العاطفة الدينية المتجذّرة في وجدان الشعب التونسي واستحسانا للأنشطة الاجتماعية والثقافية التي قامت بها الحركة،

والتي أكسبتها علاقةً طبيعيةً مع الناس، في ظلّ غيابٍ للتيارات الأيديولوجية والفكرية والسياسية الأخرى. ويمكن رصد هذا الحضور للحركة بالشكل الذي وصفنا، فيما يلي :

* انتقال الحركة من مرحلة النفي و الإقصاء والعمل السري، إلى مرحلة العمل السياسي العلني.

* صياغة الحركة لبرنامج انتخابي متكامل، رغم خُلوِّه من الرؤية الاستشرافية لتطبيقه.

* استعادة الحركة حيويتَها التنظيميةَ والهيكليةَ بعودة رئيسها المؤسس وتشكيل مكتبها السياسي وفق مقتضيات الواقع الجديد.

* اعتلاء الحركة سدّة الحكم، بعد فوزها بأغلبية المقاعد وتشكيلها حكومة ائتلافية لأول مرة في تاريخ تونس.

ولئن اختزلت هذه المراحل مسيرة الحركة الطويل، فإن المرحلة الأخيرة تبدو هي الأهمَّ، لأنها ستحوّلها من مرتبة الفاعل المعارض، إلى مرتبة الفاعل الحاكم من جهة، ومن مستوى رفع الشعارات إلى مستوى تطبيقها من جهة ثانية، وهي بالأساس مرحلة وضعت تجربة الحركة على المحكّ، واختبرت قدرتها على الوفاء بوعودها، خاصة تلك المرتبطةَ بالممارسة الديمقراطية.

رغم أن تجربة الإسلاميين في تونس، لم تبلغ مداها من النجاح لأسباب سنعرض إليها لاحقا- بدليل انسحابهم من السلطة- إلا أنها أفضت إلى عديد الاستنتاجات أهمها:

  • تأكيد الحركة على تحوّلها من حركة دعوية دينية، إلى حزب سياسي بمرجعية إسلامية.
  • تجنّب الحركة لكل ما يثير مخاوف مناوئيها من التيارات الأخرى، أو يزعزع ثقة المجتمع المدني في نواياها، ذلك أنها لم توظف الديمقراطية ضد الديمقراطية، ولم تسْعَ إلى أسلمة المجتمع أو عسكرة الدولة.
  • فشل الحركة ومعها الائتلاف الحاكم، في تحويل نجاحها الانتخابي، إلى نجاح تنموي وذلك لـ :

* أسباب ذاتية: قلة الخبرة بالحكم، اختلاف الأرضيات الإيديولوجية للائتلاف، المحاصصة السياسية على حساب الكفاءة

* أسباب موضوعيّة: صعوبة إدارة المرحلة الانتقالية، تفاقم الحركات المطلبية وبشكل فوضوي أحيانا…

  • لا يبدو حزب النهضة حزبا حديديا، متمترسا خلف مقولات أيديولوجية نهائية وأحكام ثابتة، بل هو حزب براغماتي، يستحضر الواقع ويجتهد في استشراف المستقبل، ويراعى خصوصية المجتمع التونسي
(التعدد الثقافي، حقوق المرأة، الانفتاح على الآخر، التعايش والاعتدال…).
  • جسّدت حركة النهضة، أول تجربة سياسية للإسلام السياسي في البلاد العربية، تأسّست على الإقرار بالآخر، والتسليم بالديمقراطية، والقبول بتحكيم الشعب، واحترام حقوق الإنسان في ظلّ مدنية الدولة. فقلّصت الهوة بين الإسلام والحداثة، وخرجت من بوتقة التنظير للاجتماع الديني إلى الاجتماع المواطني.
  • أسست حركة النهضة لتجربة توافق علماني/إسلامي، في إدارة دَفّة الحكم، مما أسهم في الحدّ من الأحادية والفردية في إدارة الشأن العام الذي عاشته البلاد طيلة عقود.
  • بدا الأداء السياسي للحركة في الحكم باهتا، بسبب حالة التردد والارتباك حيال اتخاذ إجراءات عاجلة وضرورية جدا في وقتها.
  • المهاد المرجعي للحركة، في حاجة إلى مزيد من التوضيح والتطوير والنقد مواكبةً للواقع التونسي الجديد.

لقد سعت حركة النهضة، على مدى السنتين اللتين قضتهما في الحكم، إلى أن تتفاعل مع واقعها ومجتمعها، محاولةً التأقلم مع الضغوط السياسية والسياق الدولي. وقد بدا هذا جليا في موقفها من مجلة الأحوال الشخصية، ومن مسألة تعدد الزوجات تحديدا. ولعل هذا أحدُ المؤشّرات الرئيسية التي دلّت على الطابع السياسي المدني للحركة، والذي أرادت من خلاله البحثَ عن حلول توافقية، لا تصدم المجتمع من جهة، ولا تتعارض مع منطوق النص القرآني أو الموروث الفقهي السني من جهة ثانية.

 لذلك، يَصِحُّ الاستنتاج بأن الإسلاميين قبلوا بالديمقراطية منهجا في الحكم، لكن دون أن يعنيَ ذلك تنصُّلَهم من أحكام الشريعة وقواعدها القطعية، المثال على ذلك، خطابُهم حول المواضيع المتصلة بالمرأة، وهو خطاب بدا مرتبكا بعض الشيء، فهو أحيانا يتطابق مع متطلبات المبادئ الديمقراطية، وأحيانا يتعارض معها، بشكل  دفع بعض الملاحظين -خاصة من خصومهم السياسيين- إلى القول بشكلية المواقف النظرية للإسلاميين، كلما تعلق الأمر بأحد الثوابت في منظومتهم الفكرية، لذلك تمّت مؤاخذة الحركة، على اعتبارها دخولَ المرأة إلى المجلس التأسيسي أمرا محدودا، لا يؤثر في سلطة الأغلبية من الرجال، بما يعني، أن دعوتهم إلى مشاركة المرأة في المجال السياسي، قد لا تكون مبنية على إيمان حقيقي بمساواتها للرجل، وبحقوقها المدنية والسياسية، بقدر ما هي مبنية على تكتيك انتخابي لا يتجاوز الترويجُ له، مدة الحاجة إليه.

لمّا تولت حركة النهضة مقاليد الحكم في تونس، تبادر إلى الأذهان أكثرُ من سؤال، لعل أهمها: هل ستكون الحركة قادرة على عدم استنساخ التجارب الفاشلة، التي حكمت باسم الإسلام، في كل من أفغانستان وإيران والسودان ومصر؟. ومن المؤكد أن مشروعية هذا السؤال، كانت تنبع مما اعترى التونسيين من مخاوفَ حول قدرة إخوان تونس– وهم يتولون عرش السلطة – على نحت تجربة ناجحة، تقطع  مع التجارب الفاشلة، وتؤسس لأنموذج يصالح بين الإسلام والديمقراطية، ولا يُقسِّمُ أبناء المجتمع الواحد إلى “مؤمنين” و”كفار”، بل يتِمُّ التعاطي معهم بوصفهم مواطنين، خصوصا وأن تاريخ البلاد البعيد والقريب، عُرف بانسجامه الثقافي، والإثني، و بتجذر الفكر الإصلاحي الذي يعود إلى أكثر من مائتي سنة.  وهذا يعني أن البيئة الثقافية والسوسيولوجية، مهيأةٌ لقيام حزب إسلامي ديمقراطي، لا يعيد إنتاج تجارب الدول المذكورة آنفا.

من الأسئلة السيارة على ألسنة المهتمين بالشأن التونسي خلال تلك الفترة:

 * هل ستكون حركة النهضة، بعد انتقالها من موقع المعارضة إلى موقع السلطة، قادرة على تأكيد “مبدئية” قبولها بالخيار الديمقراطي، خاصة القبولَ بالتداول على الحكم، الذي هو أساس الممارسة الديمقراطية وجوهرُها؟.

 * هل ستحافظ الحركة على النمط المجتمعي الذي يتمسك به عموم التونسيين الذين لا يقبلون الأسلمة وإقحام الدين في مسائل وقع الحسم فيها منذ زمن؟.

 * ما مستقبل التعايش بين “الإسلاميين” و”العَلمانيين” في تونس؟

لقد شهدنا حصول مراجعات للمواقف العاطفية، التي تفاعلت مع الأحداث الحاصلة في شهر جانفي 2011 في تونس، والتي فُسح فيها المجال، للحديث على أن المنطقة العربية مقبلة على تغييرات كبيرة، لعل أقلَّها سقوطُ النخب والأنظمة التي جاءت بها حركات التحرر الوطني، أو ما أصبح يسمى في ما بعد بالدولة الوطنية. في مقابل بروز نخب سياسية جديدة بمرجعيات مختلفة.

وما يعنينا من هذه المراجعات الحاصلة، هو تلك المتعلقةُ بالممارسة الديمقراطية، لأن مجالنا هنا ليس الخوضَ في الشأن الاقتصادي أو الاجتماعي على أهميتهما.

فلئن كان من الصعب على النهضة التنكّرُ للخيار الديمقراطي، فإنّ هذا لم يمنعها من محاولة تعطيل مسار الانتقال الذي شهد تمريرا سلسا للسلطة، وكان يُبشِّر بالوصول إلى بناء أنموذج ديمقراطي، هو الأول في المنطقة، لكنّ الإسلاميين اختاروا تمطيط المرحلة التأسيسية، عبر جعلها فترةَ حكمٍ طويلة، ستُفضي إلى “التمكين” لمشروعهم، بعد التغلغل في مفاصل الدولة، وبالتالي التحكم في كل انتخابات قادمة، وهذا ما لم يتحقق، بفضل يقظة الإعلام والنخب والمجتمع المدني، وبدرجة أقل الأحزاب السياسية. وهنا، لم يكن غائبا على المراقبين والمحللين وجودُ تيار “واقعي” داخل النهضة بزعامة رئيس الحركة راشد الغنوشي، رأى في خروج النهضة من الحكم “حلا قبل أن يسقط السقف على الجميع”، وهو حلّ وحيد، كان  لا بد منه، حتى تتجنب البلاد وقوع صدام بين الإسلاميين والمجتمع والدولة، على غرار ما حصل في مصر بعد إخراج العسكر للإخوان من السلطة.

 إن عدم قدرة الحكام النهضويين على المساس بالنمط المجتمعي التونسي، وإنجاح “حلمهم” أو “مشروعهم” في “أخونة” أو “أسلمة” المجتمع،  كان عائدا إلى وقع تأثير المشروع الحداثي التونسي في تكوين البنية الذهنية والنفسية للتيار الغالب لإسلاميي تونس. وهذا ما يجعلنا نتمسك حتى الآن بوجاهة المقاربة السوسيولوجية، التي عبّر عنها بعض أساتذة علم الاجتماع في تونس مثل عبد القادر الزغل وعبد اللطيف الهرماسي وغيرهما…والذين رأوا الحركة الإسلامية في تونس نتاجا للتجربة التاريخية والاجتماعية التونسية. وأن “الجماعة الإسلامية” التي نشأت في بداية السبعينيات من القرن العشرين، من منطلقات وأدبيات “إخوانية” – نسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين المصرية – سرعان ما فرض عليها مجتمعها التكيف مع خصوصياته، فانتهت إلى التسليم بمقولة “تونسة الحركة” عوضا عن “أسلمة المجتمع”، وفق التصور والمنهج الذي دعا إليه سيد قطب في كتابه الشهير “معالم في الطريق”.

 خاتمــــة:

لعل من أهم التحديات التي واجهت التيارات الإسلامية، بعد الثورات العربية- وبالذات التيارات التي وصلت إلى الحكم- عدمَ قدرتها على تحويل شوق الناس التاريخي للحرية والكرامة، إلى نظام سياسي ديمقراطي، يضمن مشاركة الناس في الشأن العام، ويصون حقوق الإنسان.

 فالنظام السياسي الذي يعبر عن حساسية الجميع ومصالحهم، هو القادر على صيانة الوحدة الوطنية في كل بلد، وإن إخفاق التيارات الإسلامية في ذلك سيؤدي – بل قد أدى فعلا – إلى فوضى وتناقض حادّ بين مصالح قوى المجتمع وتعبيراته المختلفة، ولذلك يتحتم على هذه التيارات- إن أرادت البقاء فاعلة في المشهد السياسي- أن تدرك أن هناك مفارقةً، بين توق الشعوب العربية إلى الحرية والكرامة، وبين عملية البناء، لنظام سياسي ديمقراطي تشاركي.

الديمقراطية، وعلوية القانون، وحيوية مؤسسات المجتمع المدني، والإعلام المحايد…ذلك كله، صمّام أمان يحول دون انحراف الحكام والنخب السياسية (الحاكمة أو المعارضة) عما نادت به شعارات “الثورة” من حرية وكرامة.

مراجع المقالة وهوامشها : 

*/ جعيـط (هشام ): “الفتنة الكبرى”. دار الطليعة للطباعة والنشر. بيروت . ط4، مارس2000.

    */ الجابري ( محمد عابد ): “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر. الدار البيضاء

    */ صليبـا ( جميل ): تاريخ الفلسفة العربية ، الشركة العالمية للكتاب ( د. ت )

    */ عبدالملك ( ابن هشام ): “السيرة النبوية”. مراجعة فتحي السيد، دار الصحابة للتراث. طنطا- مصر، (د.ت).

    */ العظم ( صادق جلال ): “نقد الفكر الديني” دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت/ ط2 – نوفمبر 1970.

    */ ميتـز (آدام): الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. تحقيق:محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الكتاب

                         العربي. بيروت ، ط5 ( د. ت ).

    */ النبهاني (تقي الدين): نظام الحكم في الإسلام: مكتبة ومطابع صادر ريحاني. لبنان 1951،ص 37

    */ النجار (عبد المجيد):” دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين” الدار العربية للعلوم ناشرون + المعهد العالمي للفكر الإصلاحي، بيروت 1999.

[1]/  قد يبدو هذا الرأي المخالف منطويا على نوع من المغالاة المبالغ فيها من خلال نفيه المطلق لأسبقيّة الديمقراطية-على الأقل كأفكار مجردة- لزمن الحداثة. فإذا كان الأمر كذلك أليس من الإجحاف أن نغبن شريعة حمورابي في بلاد الرافدين؟ أوليس من الإجحاف في حق أعظم فلاسفة قرن الأنوار”مونتسكيو” أن نقلل من أهمية ما ورد في “روح القوانين”.

[2] / هشام جعيط: “الفتنــة الكبرى”. دار الطليعة للطباعة والنشر- بيروت / ط4 – مارس2000- ص 34.

[3] / آدم ميتـــز: “الحضارة الإسلامية في القرن الرابع”. دار الكتاب العربي.بيروت . لبنان/ط5  ج1 – ص 203.

[4] / عبد المجيد النجـار: “دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين” الدار العربية للعلوم ناشرون + المعهد العالمي للفكر الإصلاحي- ص 92.     

[5] / يقول مؤسس حزب التحرير الإسلامي تقي الدين النبهاني(1914/1977): لا يُسمح لمفهوم الديمقراطية أن يُتَبَنَى في الدولة لأنه غيرُ منبثقٍ عن العقيدة الإسلامية فضلا على مخالفته لمفاهيمها” نظام الحكم في الإسلام: مكتبة ومطابع صادر ريحاني. لبنان 1951،ص 37

[6]/ هو مصطلح تُقصد به المواءمةُ بين مفهوم الشورى الإسلامي، ومفهوم الديمقراطية الحداثي. وأول من ابتدعه الإخواني المصري توفيق الشاوي (1918/2009) وعبّر عنه بوضوح أكثر الجزائري محفوظ نحناح (1942/2003) رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية. 

[7] / عادل العـوا: ” الحرية في أصولها الإسلاميـة: ( موقع الكتروني).

[8] / ” ِإنَا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ” الأحزاب/ الآية 72.

[9] / ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَمَاوَاتِ وَمَنْ فَي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَجَرُ وَالدَّوَابُ وَكَثِيرٌ

      مِنَ النَاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ ” الحــج/ الآية 18.

[10] / الدكتور جميل صليبا:” تاريخ الفلسفة العربية” – الشركة العالمية للكتاب د.ت / ص353.

[11] / “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاَس حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”  يونس / الآية 99.

[12] / “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ” البقرة/ الآية 256.

[13] / “اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ” النحل / الآية 125.

[14] / ” أَفَاَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ” يونـس / الآية 99.

[15] / “وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرِصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ” يوسـف / الآية: 103.

[16] /” قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” البقرة / الآية 111.

[17]  / يمكن رصد التطور الحاصل في المشروع السياسي الإسلامي، من خلال تطور فكر منظرّيه. فهناك الجيل الأول، وقد كان أقرب إلى الحسم في مسألة النظام السياسي الإسلامي، لصالح اعتماد كُلّيٍ على صريح النص، واعتبار القرآنَ دستورَ الأمة، الذي توفّر على كل ما يُغنيه عن سواه، من الدساتير الوضعية، ويمثّل هذا الجيلَ، سيد قطب، وحسن البنّا، مؤسس جماعة الإخوان في مصر، والعراقي محمد باقر الصدر، والهندي أبو الأعلى المودودي، والإيرانيان مرتضى مُطَهَّري وعلي شريعتي. أما الجيل الثاني الذي ظهر مع بداية الثمانينيات، فيمثله يوسف القرضاوي، وراشد الغنوشي، ومحمد سليم العوا، وحسن الترابي، وطارق البشري، و عبد السلام ياسين، وغيرهم. وقد ركزوا على عديد القضايا ذات الصلة بمفهوم الديمقراطية، لاسيما، تلك التي تخلق التباسا واضحا، مثل الدولة الإسلامية والدولة الدينية//الدين والسياسة في الدولة الإسلامية//الدولة الإسلامية والدستور…

[18] / الشاهد على هذا المأزق، ما تعرضت إليه حركة النهضة التونسية من انتقادات طيف واسع من قواعدها على خلفية ما اعتبروه  تنازلات تاريخية دون موجب، أهمها قبول الحركة بعدم اعتماد الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع، كذلك القبول بمبدإ المساواة التامة بين المرأة والرجل، وآخرها الانصياع لإملاءات العَلمانيين فيما تعلق بحرية الضمير…وغير ذلك من المؤاخذات التي أحدثت تململا كبيرا في صفوف قواعد الحركة، وخاصة الجناح المتشدد منها.  

/[19]    نكتفي هنا بذكر بعض الأحزاب التي منحت التأشيرة القانونية لممارسة نشاطها السياسي المعلن، بل إن بعضها قد ضمن لنفسه مقاعد في المجلس النيابي بتزكية من السلطة لدورات عديدة، أهم هذه الأحزاب: حركة التجديد وحركة الديمقراطيين الاشتراكييين ( مرجعية يسارية)/ حزب الوحدة الشعبية(مرجعية ليبرالية)/ الحزب التقدمي الوحدوي(مرجعية قومية ناصرية).  

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد