التنوير او الحرب على الارهاب

الحرب على الارهاب

 سأحاول في هذا المقال اختصار كثير من الأمور إلى ظواهرها المُتعيّنة، مُبتعداً – قدر ما تسمح به شروط المقاربة – عن الإحالات التي يستلزم الوعي بها؛ وعياً بآليات القراءة السياقية. فالإرهاب أصبح حدثاً جماهيرياً بامتياز، أي أن تناوله لم يعد من أولويات وسائل الإعلام الجماهيرية فحسب، وإنما أصبح المشاركون في معاينته واقتراح الحلول له من الجماهير، أو ممن ثقافتهم لا تتجاوز ثقافة الجماهير، تلك الثقافة التي تعتمد على التوصيف؛ دونما تحليل لما هو أبعد من الظواهر في وجوده المباشر. نُضطر لذلك، وخاصة في مثل هذه المواضيع؛ لأن هذا التسطيح الجماهيري قد راج بعد توفر وسائط التعبير الاجتماعي، إذ أصبح لكل فرد منبره، يطرح فيه ما يشاء، كيفما يشاء. وفي هذا السياق، قد يروج مقال الجاهل المهرج، والأهوج المحرض؛ فيما تخبو وتتوارى وتتخصّص (تنحصر في دائرة المهتمين/ المختصين) مقولات المثقفين، فضلاً عن كبار المفكرين.لهذا، لا بد من تقريب الأفكار ولو بعرضها مُجزّأة، مجردة من وصلاتها السياقية، ومن علائقها البنيوية؛ لأن الوعي الجماهيري الذي نريد مُحاججته، والذي استولى الجماهيريون الغوغائيون عليه بجدارة، لا يستطيع رؤية الظواهر والأفكار منتظمة في سياقاتها التفاعلية/ الجدلية؛ فضلاً عن بُناها الكُليّة. إن هذا الوعي الجماهيري اعتاد على رؤية الأجزاء كأجزاء، كمعلومات أو كأوصاف مُبعثرة، كشبهات وردود، كمقولات مأثورة، كحوادث معزولة، كتأييد بالكامل أو كرفض بالمطلق. ومن هنا، لا غرابة أن يصبح الوعي الجماهيري ضد الإرهاب هنا، ومع الإرهاب هناك، مع حقوق الإنسان في الحاضر، وضد حقوق الإنسان في الماضي، ضد استبداد المعاصرين، ومع استبداد الغابرين…إلخ!.

إن ما يدعوني إلى الكتابة في هذا الموضوع (= الإرهاب) بعد كل ما كتبته عنه (أكثر من 120 مقالاً)، أن الموجة الأخيرة من الإرهاب (الممتدة منذ اثنتي عشرة سنة)؛ لم تنتهِ، بل ما زالت في نمو مُطّرد، مع كل ما يتخللها من فترات الكمون المترصد، الذي قد يُوحي بانحسار الظاهرة، بينما هي تتوارى عن المشهد العام لهذا السبب أو ذاك.

لقد تصاعد عُنف هذه الموجة الإرهابية في الأشهر الأخيرة، إلى أن وصل إلى مناطق كان يظنها معظم الناس (مِن الطّيبين الذين لم يدرسوا المنظومة التقليدية بعمق) مناطق محرمة، كالمساجد مثلاً. فلم يكن كثير من الناس/ الجماهير يتوقعون أن يأتي هذا اليوم الذي يُفجّر فيه الإرهابيون أنفسهم في المساجد. بينما الباحثون في تراث التقليدية المتطرفة يعون تماماً أن هذا أمر مشروع في أدبياتها التكفيرية، فإذا وقع (التكفير) لم يعد المسجد مسجداً، ولم يعد المُصلّون مسلمين.

بل إن قتل الأطفال، بتفجير المدارس ومستشفيات الأطفال مثلاً، وإن لم يمارسه الإرهابيون بعدُ، ليس محرماً في تراث التقليدية المتطرفة؛ ما دام – في نظرهم – يأخذ طابع الرد بالمثل، أو ما يُفتي لهم به (علماؤهم!) أنه رد بالمثل. هذه قمة الهرم الإرهابي، وهي تنظيرات تنتظر دورها في التطبيق الإرهابي. وهذا يعني أنه قد يأتي اليوم الذي يُفجّر فيه الإرهابيون في مستشفيات ومدارس الأطفال؛ دونما حرج، وحينئذٍ؛ سنفيق مذعورين، متسائلين: كيف يفعلون هذا، يقتلون حتى الأطفال الأبرياء، من أين أتوا بهذا؟. لكن، عندما نفتش؛ سنجد الجواب مسطورًا – بأدلته!- في التراث التقليدي.

الإرهاب قبل أن يكون فعلاً، هو ثقافة/ اعتقاد، وخاصة ما يتصل منه بالإرهاب الانتحاري، فلن يقتل الإنسان نفسه، والآخرين معه؛ من أجل مال أو شهرة، أو لفقر أو بطالة، أو حتى ليأس من الحياة. الإرهاب مرتبط بثقافة اعتقادية تتجاوز حدود مصالح الفرد المنتحر من جهة، وتتجاوز حدود هذه الحياة من جهة أخرى.

وإذا كانت المسألة ثقافة/ اعتقاد، فبكل وضوح نقول: هناك فرق كبير بين ثقافة/ تراث يدعو للكراهية، ويَعدّ (كراهية الآخر) المختلف عقدياً أو مذهبياً أو فكرياً، ومن ثم إيذاؤه – ابتداء بالعنف اللفظي، وانتهاء بالقتل – أسمى (عبادة)، وثقافة أخرى مختلفة، ثقافة تدعو للتسامح والتعايش، وتعد التسامح ومحبة الآخرين واجباً إنسانياً يجب تأكيده وتقريره على مستوى الثقافة العامة وعلى مستوى القانون العدلي المكتوب. الثقافة الأولى، ثقافة الكراهية، هي الثقافة الكهنوتية المتوارثة، المَبنيّة على المفاصلة العدائية بين كل المختلفين، والثقافة الثانية هي الثقافة التنويرية التي صنعت العالم الأول/ العالم الحر، حيث الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين جميع المواطنين بقوة القانون.

بكل وضوح وصراحة، نقول: هناك ثقافة تزخر أدبياتها بتكفير وتفسيق وتبديع وتضليل الآخر المختلف (ولا مشكلة، لو كان هذا مجرد رأي)، جاعلة كل مَنْ يَتّصف بأيٍّ من هذا (= الكفر، الفسق، البدعة، الضلال) محل كراهية مسعورة، وأدعية ملغومة. إنها ثقافة تقليدية تدعو – صراحة أو ضمناً – إلى إقصاء ونفي كل هؤلاء المُخَالفين، ولو بالقتل الشنيع تفجيراً أو نحراً أو حرقاً، بل إن أدعيتها الطقوسية لا تفارق دعوات الهلاك والتدمير، إلا ريثما ترجع إليها بسادية لا مثيل لها. وهناك ثقافة أخرى تتضاد مع هذه الثقافة الجهنمية، إنها ثقافة التنوير المسكونة بالهم الإنساني، إنها الثقافة التي لا تفرق بين إنسان وإنسان، إنها الثقافة التي تؤكد أن عقائد الناس للناس، ولا يحاسب عليها إلا ربُّ الناس، وأن الناس على هذه الأرض يجب أن يعيشوا مُتسامحين، مُتحابّين، مُتعاونين على كل ما يجعل الحياة أكثر أماناً وسلاماً، وأقل بؤساً وحرماناً.

ببساطة شديدة، عندما تروج في مجتمع ما، تلك الثقافة التي تُروّج للكراهية، وتتعبّد بها، وتدعو على المختلفين بالهلاك والدمار، هل تتوقع أن يكون حال هذا المجتمع كحال مجتمع آخر، تروج فيه ثقافة التسامح والإخاء حقوق الإنسان؟!. وببساطة أكثر أقول: لو أنك مكثت عشرين سنة تُربّي أولادك على أن كل الناس أشرارٌ منحرفون، وأنهم أعداءٌ بالأصالة، وأنهم متآمرون لا يكفون عن تآمرهم، وأن كل ما يشاهدونه من مآسٍ في أحبابهم وأقربائهم إنما هو بسبب هؤلاء الناس وبسبب كيدهم، وأنهم يتحينون الفرصة لقتلهم وتشريد أسرهم…إلخ، بينما أخوك يربي أولاده، ولمدة عشرين سنة أيضاً، ولكن على أن الناس مِن حولنا بَشرٌ مثلنا، يُحبّون ويكرهون ويسعدون ويألمون ويعتقدون مثلنا، وأن سعادتنا جميعاً لا تكون إلا بتسامحنا فيما بيننا وتعاوننا على أمور الحياة، وأن نترك الآراء والمعتقدات للضمائر الفردية، وأن علينا أن نُرسّخ قواعد الاحترام المتبادل فيما بيننا، وأن نحل مشاكلنا بالنظام والقانون، وأن نتكاتف لصيانة حقوق الإنسان، ومنع اختراقها بأي وسائل الاختراق. هنا، ولتكن صريحاً مع نفسك، هل تتوقع أن يتصرف أولادك مع الناس، قريبهم وبعيدهم، كما يتصرف أولاد أخيك الذين تربوا على ثقافة مختلفة؟!. أعتقد أن الأمور أوضح من أن تحتاج لجواب.

إذن، هي الثقافة، الثقافة السائدة التي تخلق الوعي الجماهيري العام، فهي التي تحدد سلوكياتنا. وهنا قد يأتي بعض السذج أو المراوغين من المدافعين عن تراث التقليدية المتطرفة، زاعماً أن الأغلبية قد تستهلك تراث الكراهية والتكفير، ولكن أعداد الإرهابيين قليلة قياساً بأعداد هذه الأغلبية!. وهنا لا بد من التأكيد على أن حقيقة مفادها، أن ثقافة الكراهية والتكفير والإرهاب تصنع كثيراً من الإرهابيين، ولكن درجة تفاعلهم مع الإرهاب تختلف، فكثيرون يُصبحون إرهابيين دون أن يعوا ذلك، وكثيرون يعون ذلك، ولكن دون أن تكون لديهم الجُرأة لفعل شيء يُعرّض مصالحهم – فضلاً عن حياتهم – للخطر. ثقافة الإرهاب تصنع دوائر، تختلف في درجة القناعة، وفي درجة الاستعداد للفعل.

وللتوضيح أكثر فأكثر؛ أضعك أمام هذا الاحتمال القابل للوقوع: لو أن جامعاً يرتاده ثلاثة آلاف مثلاً، ولسوء الحظ أصبح ميداناً لغلاة الوعاظ التكفيريين الداعين إلى التكفير والإرهاب يتناوبون عليه لسنوات، ماذا ستكون المحصلة؟. بلا شك؛ ستكون المحصلة أن الأغلبية – إن لم يكن الجميع – تأثروا بدرجات متفاوتة. منهم من أوصله التأثر إلى مجرد التسامح مع خطاب التكفير؛ فأصبح يرى التكفير حقاً طبيعياً/ دينياً للمُكفِّرين، ومنهم من أوصله التأثر إلى القناعة بخطاب التكفير، دون أن يكون لديه استعداد لفعل أي شيء؛ فأصبح مكفراتياً صامتاً، ومنهم من أوصله التأثر إلى القناعة، مع استعداد للعمل في حدود المسموح به الذي لا يُعرّضه لأي خطر، ومنهم من أوصله التأثر إلى القناعة، مع استعداد لبذل المال والدعم، ولكن دون التضحية بالنفس، ومنهم من أوصله التأثر إلى الاستعداد لبذل النفس ولو بالتضحية بها في تفجير إرهابي، وهذه أعلى درجات التأثر بالخطاب الإرهابي.

هنا، ستلاحظ أن العدد يقل؛ كلما كان المطلوب بذله أكثر، فمن ثلاثة آلاف قد يقتنع ألفان، ولكن ربما لا يوجد أكثر من اثنين أو ثلاثة يقتنعون بتفجير أنفسهم في عمل إرهابي. هكذا هو الأمر في جميع القناعات الإيديولوجية ذات الطابع النضالي، فدائماً رأس حربتها قلة قليلة تقتنع، وتتوفر فيها الدوافع القوية، وتغيب عنها الموانع؛ فتكون هي التي تتقدم بأنفس الأشياء (= الروح) في ساحة النضال.

في المقابل؛ يرتفع عدد المُتفاعلين مع إيديولوجيا الكراهية والتكفير؛ كلما كان المطلوب قليلاً. ولهذا، تجد أن المقتنعين بخطاب التكفير كثير؛ عندما لا يكون المطلوب منهم أكثر من تكفير الآخرين وشتمهم وتخوينهم في المجالس الخاصة. وسيقل العدد؛ لو كانت هذه القناعة التكفيرية تتطلب الاشتراك بمبلغ مالي مثلاً، أما لو كانت القناعة تتطلب التخلي عن نصف الممتلكات؛ فلن يتقدم إلا بضعة أفراد، وفي حال لو كانت القناعة تتطلب بذل الروح، فربما لن يتقدم أحد. لهذا، نرى كثيرين يُكفّرون ويشتمون متأثرين بخطاب التكفير والكراهية، ولكنهم لا يتجاوزن هذه الحدود، فيما هم في الحقيقة يفتحون (بتهيئة الأجواء العامة) الطريقَ لبضعة أفراد لديهم استعداد لتجاوز هذه الحدود.

من هنا، فإن الذي يقول لك – مدافعاً عن تراث التقليدية التكفيري الذي نشأ عليه-: إنه نشأ على التقليدية المتطرفة، واقتنع بمقولاتها التكفيرية، ولكنه لم يصبح إرهابياً، ولم يُقدم على القتل والتفجير، هو إما جاهل يُخادع نفسه أو كاذب يُخادع الآخرين. فأولاً: ليس صحيحاً أنه ليس إرهابياً، فهو – بمجرد اعتقاده التكفيري – إرهابي معنوياً. أما كونه لم يقم بعمل إرهابي مادي: قتل أو تفجير، فهذا خاضع لعدة عوامل، فقد لا يمتلك الشجاعة الكافية، وقد يكون مُغرماً بهذه الدنيا ونعيمها، وقد تكون قناعته ليست راسخة بحيث تُحدّد له خياراً مصيرياً على هذا المستوى من الخطورة، وقد تكون ظروفه العائلية لا تسمح…إلخ، المهم أنه في النهاية إرهابي، علم أم لم يعلم، وداعم للإرهاب على أكثر من صعيد.

مقالات أخرى

ماجد الغرباوي : سلطة الفقيه والتشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

بيداغوجيا البرهان في فضاء الثورة الرقمية

ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد