رسالة التنوير: كلام حول نقطة الصفر

رسالة التنوير

ربما لا يزال أكثر الأسئلة إلحاحاً على العقل العربي هو التساؤل من أين سنبدأ؟ وهو سؤال أصبح عمره أكثر من مائة عام ، ويكشف لك أننا لا نزال نتعامل بعقل طفولي مع حركة الإصلاح، ويتصرف كل مفكر عربي كما لو أن الإصلاح نزل عليه الليلة في غاره، وأن جبريل قد خرج للتو من محرابه الفكري، وعليه أن يكتب خريطة النهضة التي يجب أن يلتزمها الأول والآخر، ويدون فيها ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

من وجهة نظري فإن هذا اللون الطفولي من التعاطي مع مسائل الإصلاح هو الذي يعطل طاقات الأمة ويبحترها، والحقيقة أن خريطة الإصلاح قد كتبت بالكامل ولم يبق إلا وضعها موضع التنفيذ، وهناك مشاريع إصلاح عربي سياسي واقتصادي ودبلوماسي ورياضي وديني، ولهذه المشاريع آباء معروفون، ليس من مصلحة النهضة العربية أن تتجاهل كفاحهم، ونتنكر لما أنجزوه بل المطلوب أن ننسج على منوالهم ونستأنف ما بدؤوه.

إننا نقيم المؤسسات ثم ننساها ثم ننقضها ثم نفكر بتأسيسها من جديد في تراكم عبثي للطاقات المهدورة.

في أحد اجتماعات المجلس العالمي للدعوة والإغاثة تقدمت الأمانة العامة بمشروع قانون لتأسيس وكالة الأنباء الإسلامية، وبعد جدل طويل وجلسات اختصاصية مع خبراء متميزين وبعد تقارير مفصلة من الخبراء الإعلاميين والماليين، تقرر إحداث وكالة الأنباء الإسلامية، وانطلقت الوكالة ناشطة في زحمة الإعلام العالمي تحاول أن تفرض نفسها كشريك حقيقي بين البارونات الإعلامية المتنافسة في سماء الإعلام، وقدم مدير الوكالة تقريره للأمانة العامة بعد سلسلة احتفالات لإشهار الوكالة وحملة إعلامية مناسبة لتعريف العالم الإسلامي بوكالة أنبائه وصوته الشرعي.

بعد عامين اثنين وخلال اجتماع الدورة التالية للمجلس، تقدمت إحدى المنظمات الإسلامية بخطة عملها للمؤتمر وكان على رأس مطالبها تأسيس وكالة أنباء إسلامية!!

نقيم المؤسسات ثم ننساها ونتجاهلها، ثم نعود في لحظة تأمل للمطالبة بالمشروع إياه!!

بعد استعراضه لتاريخ الفكر في موسوعته العظيمة قصة الفلسفة يقول ول ديورانت : كل الأفكار العظيمة كتبت ولم يبق إلا وضعها موضع التنفيذ!!

إنها ليست فقط رؤية ول ديورانت في منتصف القرن العشرين بل هي أيضاً رؤية صوفوكليس في القرن الرابع قبل الميلاد وعلى نهجه زينون وأفلاطون وأفلوطين ولاوتسي، وهي كلمة سرمدية في الزمان والمكان.

إعلان حقوق الإنسان ليس شيئاً قد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية ولا في مطلع القرن ولا مع إعلان استقلال الولايات المتحدة ولا في الثورة الفرنسية ولا في عصر الأنوار ولا في سقوط القسطنطينية ولا في اكتشاف أمريكا، إنه أقدم من ذلك بكثير إنه شيء يمتد بصراحة إلى أول حرفين كتبتهما يد جدنا المجهول في رأس شمرا الذي قدم للعالم الأبجدية الأولى ودعا الإنسان إلى التأمل في حقوقه والتزاماته.

التجديد الديني هو أحد أشكال النهضة، ولكن علينا أن نكف عن القول بأننا نبتدع شيئا جديداً في الإسلام، ليس من منطلق الخوف من البدع فأنا أميز جيداً بين البدعة وبين الإبداع وبقدر ما كان الإسلام حرباً على البدعة فقد كان دعوة مفتوحة للإبداع، وأنا شخصياً مولع بالخروج على المألوف، ومع ذلك فليس لي أن أدعي أنني أسست للتنوير الإسلامي في سوريا بل أنا ناهج على سلف من سبقوا في ذلك، فالتجديد الديني له آباؤه ومؤسسوه، وقد تبلورت حركة التنوير الديني على يد الإمام محمد عبده، والذي كان بدوره امتداداً طبيعياً لروح الكواكبي في الشام وكان كل منهما يبحث عن مثله الأول في نهضات سابقة للفكر العربي لها آباء ورموز ومؤسسون في شخصيات رجال كبار كالإمام الطوفي والإمام الشاطبي، ومن قبلهم أبو حنيفة وابن جرير الطبري ومالك بن أنس، وصولاً لكبار الصحابة الكرام وغيرهم من أئمة الهدى والنور.

إن ثقافة استئناف مما أنجزه الأولون والبناء عليها هي ثقافة قدمها لنا في خير صورة النبي الكريم بقوله: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها إلا موضع لبنة فكان الناس إذا مروا بتلك الدار يقولون ما أحسن هذه الدار لولا موضع اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين، فهو لم يقل أنا الدار كلها، لم يقل أنا الجدران والبنيان والقبة والمحراب والمهد المفروش والسقف المرفوع، وإنما قال أنا لبنة في بنيان الأنبياء، وراح في القرآن الكريم يؤكد بلفظ واضح لا لبس فيه أنه جاء مصدقاً لما بين يديه، بل كان أكثر صراحة حين كرر عشرات المرات: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينأً قيماًً ملة إبراهيم حنيفاً ، وقال: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.

إنها شجاعة فريدة دون شك يقدمها ذلك النبي الحكيم الذي لم يرسم صورته ثائراً أزرق بيده لواء العالمين، وعلى خطاه تسلك الإنس والجن ويتزاحم الثقلان، وأن آدم ومن قبله الطم والرم ومن بعده من العالمين كان ينهج نهجه ويقتبس من كلامه ويسلك دربه، وأن من سمع به ولم يكفر بكل ما سواه فإنه خالد في نار الجحيم!!
ليس هذا الوعي محض مطالعة إنشائية بل هو ثقافة سائدة وسيجد هذا المقال من يهاجمه، فهناك فريق في بني قومي لا يزال يعتقد أن الله خلق محمداً قبل آدم، وأن نوحاً استشفع به لينال عفو الله، وأن من جوده الدنيا وضرتها ومن علومه علم اللوح والقلم، وأن داود كان يرتل القرآن قبل مبعثه بسبعة عشر قرناً، وأن إبراهيم وموسى وعيسى ونوح وأيوب وإدريس لم يخرجوا عما تخيره البخاري في الصحيح، وأن العقيدة الطحاوية هي اعتقاد أيوب وموسى وعيسى والغابر والعابر والدابر!!

إن النبي الكريم لم يطرح نفسه للعالم على أنه الأول والآخر، والماحي لما سبق والمبطل لما هو آت، وإنما طرح نفسه في صورة مرحلة من مراحل الكفاح لإنجاز العدل والتوحيد في التاريخ، فقال بوضوح أنا محض لبنة في بنيان الأنبياء، وفي خطاب ذي دلالة أكد القرآن الكريم على هذه الحقائق بقوله: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، وقال: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، وفي أربعة عشر موضعاً تكرر في القرآن الكريم قول الله تعالى: مصدقاً لما بين يديه.

وحين كان يتحدث عن الأنبياء كان يتحدث عن زملاء كرام سبقوه في الزمن، وتبعهم في الرسالة، وكان يقول نحن معاشر الأنبياء أبناء علات أبونا واحد وأمهاتنا شتى، وكان يبدأ دائماً من حيث انتهى كفاحهم، يستأنفه ويستكمله، ويؤسس عليه.

حين شاركنا في رسالة التنوير، أقول شاركنا ولا أقول أسسنا أو أطلقنا أو أنشأنا، قيل إننا نغرد خارج السرب، ولكن مؤتمر الإسكندرية ومن قبله مؤتمر عمان وقطر والرباط وهي ثلاثة مؤتمرات عقدت في شهر واحد وحشدت أصحاب الفكر التجديدي من البلاد العربية، جعلتني أشعر تماماً أن هناك أيضاً سرب للتجديد وهو ليس سرباً شاردا أو شاتاً إنه أيضاً ينبع من تراب الأرض، إنه تيار قديم ومن حقه اليوم أن يتشكل في بناء مؤسساتي، وأن يرفع صوته على قاعدة إذا أردنا أن يبقى الإسلام حياً فعلينا أن نأخذ من تراث الآباء الجذوة وليس الرماد، وهو تيار لا يبعد عن ثقافة العقل في تقرير أنه من ليس له كبير ليس له تدبير، ومن ليس له قديم ليس له جديد، ومن لا ببصر الماضي لن يرى المستقبل. 

في حفل من حفلات المولد النبوي قام خطيب شاب يمتلئ حماسة ونشاطاً، وهو كما قال جودت سعيد إن شبابنا لا يفتقرون إلى الإخلاص! إنهم احترقوا من الإخلاص!! نطحوا الجدار!! إنما يفتقرون إلى المنهج، وفي غمرة خطابه الغاضب للتعريف بأهداف الرسالة قال: إن الإسلام قام خلال نصف قرن بتحطيم حضارات العالم القديم حيث حطم الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية وأقام على أنقاضهما حضارة الإسلام!!

إنها كلمة عابرة أجزم أنك تكاد تسمعها في كل شهر مرة على أقل تقدير ولكننا لم ننتبه أن هذا اللون من الفهم يتناقض حتى النخاع مع منطق الإسلام البدهي في احترام ما أنجزه الإنسان الذي كرمه الله وأسجد له الملائكة قبل نزول النبوات، وهو بالتالي ينصب منصات الحرب بين الإسلام والآخر إلى آخر الدهر. 

قلت له بهدوء: يا صديقي ليس فخراً للإسلام أنه حطم حضارات الأمم، بل مجده في أنه أنقذ هذه الحضارات واستأنف ما قدمته من خير، وأصلح ما شوهها من مظالم، إن الإسلام لا يكفر بما أنجزه الناس وإنما يؤسس على ما أنجزوه، وإن القاعدة التي تحكم موقف الإسلام من كفاح البشرية هي قوله تعالى: نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.

 

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد