أزمة الإبداع الفلسفي في العالم العربي

الإبداع الفلسفي

يرتبط الإبداع في فلسفة حسن حنفي وفي مشروع “التراث والتجديد” بالثقافة في العالم العربي والإسلامي المعاصر، وبهمومها وأزماتها وبأحوال الفكر وظروفه خطاباً وإنتاجاً. ومن كبريات أزمات الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي أزمة الإبداع، وهي “مسؤولية فردية وجماعية وتاريخية في آن واحد”.[1]

فالإبداع في جوهره عملية فردية، وإن كانت من إفراز الظروف البيئية، المجتمع والجغرافيا، وحتى لو كان المجتمع يعيش على النقل والتقليد، وحتى لو كان المجتمع يعيش مرحلته كاملة على الحفظ والتدوين والتكرار. إن الذات الفردية لها استقلالها عن الوجود الاجتماعي وعن وعي هذا الوجود، والفرد قادر على صنع ظروف الإبداع وعلى إيجاد أسبابه وشروطه ولو في أوضاع غير مواتية، والمرحلة يشدها النقل أكثر مما يشدها الإبداع. فالمبدع قد يتجاوز عصره ويعبر عنه، وقد يحصل الإبداع في ظروف تاريخية مفلسة، فالأزمة تلد الهمّة.الإبداع أنواع ومجالات، والإبداع الفلسفي واحد منها يتميز بالتعقيد بالقياس إلى غيره مثل الإبداع في الأدب والإبداع في الرياضيات والإبداع في الطبيعيات وغيره. وذلك ما عرفه مسار الإبداع منذ انطلاق النهوض العربي حتى الآن حيث عرفت فنون الأدب ازدهاراً كبيراً، في حين بقيت الفلسفة على حالها، بل متأخرة عن غيرها من فنون الأدب والعلوم الأخرى. إلا أن غياب الإبداع الفلسفي لا يعني غياب الإبداع في الثقافة والحضارة بشكل عام بل يعني تحكّم الإبداع في الخطاب الفلسفي كلون من ألوان الفكر والثقافة.الإبداع في الثقافة وفي الخطاب الفكري والفلسفي يصعب الفصل بين شروطه من جهة ومظاهره من جهة ثانية، فهو عملية واحدة لا يمكن التمييز فيها بين الصورة والمحتوى، بين المظهر والدافع وبين المؤشر الخارجي والدافع الداخلي، “كما أنه يصعب التفرقة بين أزمة الإبداع الفلسفي وشروط الإبداع الفلسفي، فكلاهما خطاب واحد مرّة بالسلب ومرّة بالإيجاب في جدل الغياب والحضور. فالأزمة نتيجة لغياب الشرط، وحضور الشرط هو الطريق لتجاوز الأزمة”.[2]
 
يصعب في عملية الإبداع التمييز بين ما هو موجود ودراسته دراسة وصفية بعيداً عن تدخل الذات ومحدداتها، وبين ما يجب أن تكون عليه الأمور من خلال جملة المعايير التي تتحدد بها الأزمة، فيمكن الجمع بين ما هو موجود وما يجب أن يكون في جدلية الفكر والواقع، جدلية الإخبار والمعيار، وليكن النموذج مصر في الوطن العربي إذ “يصعب أيضاً التفرقة بين أوضاع أقسام الفلسفة في مصر، مقرراتها ومناهج التدريس فيها وتكوين أساتذتها وبين الإبداع الفلسفي النظري في حد ذاته. فالأولى الأساس المادي للثانية. والثانية النتيجة الطبيعية للأولى. ويمكن أيضاً الربط بين الاثنين في تفاعل جدلي بين العوامل المادية للإبداع وعمليات الإبداع ونتائجه”.[3]
 
وفي مصر دائماً يصعب التمييز كذلك بين التجربة الذاتية في عملية الإبداع الفلسفي وبين أزمة الإبداع الفلسفي ذاتها، أي ما هو موضوعي. والموضوع هنا هو أزمة الإبداع الفلسفي ذاتها، فهو يمثل تجربة ذاتية خاصة حيّة في الوطن العربي، وإذا صارت الذات واعية بهذه الأزمة يمكن اعتبار ذلك تجارب حيّة، تتكشف فيها الجوانب الذاتية والموضوعية معاً من خلال منهج تحليل التجارب والخبرات الحيّة وفي إطار نظرية التفسير المحكمة.الإبداع الفلسفي في عصرنا مرتبط بثقافة العصر وبروافدها ومصادرها، وثقافة العصر مركبة من موروث ووافد، من عناصر الأنا وعناصر الآخر، تركيب علاقة جدل الذات والغير. الذات هو الموروث الثقافي والحضاري عن الآباء والأجداد، هو التراث الذي ما زال يطبع الحياة الفكرية واليومية في المجتمع العربي والإسلامي، يعيش في الوعي الفردي والجماعي، أما الغير فهو الغرب وثقافته ومنجزات حضارته التي لم يجد الأنا سبيلاً سوى الإقبال عليها فوقع في الحداثة والتحديث والتغريب، وصار الآخر مصدراً من مصادر الثقافة والفكر في مجتمعنا العربي والإسلامي المعاصر.وصار الباحث في الجيل المعاصر وبالنسبة لروافده العلمية يعتمد واحدة من الطرق الثلاثة: فالأولى تستخدم الآخر وحده وتنهل منه احتياجاتها العلمية، “وما أكثرها في الفلسفة المعاصرة في علم الهرمينوتيقا. وقد قام الباحث بذلك مرّات عديدة في كتب مستقلة أو في مقالات خاصة… وإن كانت مادته العلمية وبعض صياغاته الأولى موجودة في كل تراث ديني وفي كل حضارة غربية أم شرقية، ولكن عيب هذه الطريقة هو الابتسار الحضاري، أي جعل علوم التفسير مقصورة على التراث الغربي دون غيره… وتكون نتيجة هذا الابتسار الحضاري هو إطالة مرحلة النقل وتأخير مرحلة الإبداع طالما أن معدل الإنتاج الثقافي في الغرب أعلى من معدل نقله إلى خارج الغرب، وتصبح حضارة واحدة هي المبدعة والرائدة والمركز والحضارات الأخرى الناقلة والتابعة والمحيط”.[4]
 
أما المسلك الثاني فيعتمد أصحابه على تراثنا القديم وما فيه من مادة علمية تكشف من جهتها عن اتجاهات وأساليب في التفسير لكن المشكلة أن هذه الطريقة توقع الباحث في التكرار والاجترار لما خلّفه القدماء بغير قراءة جديدة. وقد يستخدم علوم التفسير المعاصرة فيسئ تأويل التراث. “وهذا من شأنه أن يجعل النقل مجرد إضافة معلومات على واقع لم تنشأ منه وبالتالي لا تؤثر فيه، كما يجعل الدراسة الجديدة مجرد مراجعة للأدبيات القديمة أو الحديثة، عرض أو نقد لها، وربما إضافة عليها دون التعامل مع الواقع ذاته الذي يظلّ في حاجة إلى تنظير مباشر ينبع منه ويقدر على التأثير فيه”.[5]
 
وعبر المسلك الثالث يعتمد الباحث على العقل وحده وتحليل التجارب الإنسانية المشتركة في الاشتغال بالنص التراثي أياًّ كان هذا النص دون ربطه بالأنا أو بالآخر، بتراثنا القديم أو بالتراث الغربي، هذه الطريقة قد تفقد البحث الوحدة الفكرية وتجعل صاحبه مجرد ناقل أو مجرد شارح وعلى الأكثر ناقداً، يتجاوز حضارة الأنا وحضارة الآخر بدون إحالة وبدون مراجع وبدون هوامش. المرجع الوحيد هو شعور الباحث ووعي القارئ، والعلاقة بين الاثنين هي التجربة المشتركة.في كل طريقة من الطرق الثلاث يغيب الإبداع، وهي عند حسن حنفي تعبر عن الموقف الحضاري الحالي وجبهاته الثلاث، “إذ يمكن إلى حد ما الإشارة إلى بعض المصادر حتى لا يشعر القارئ أنه في فراغ وحتى يمكن ربط الإبداع بالنقل والحاضر بالماضي والبنية بالتطور على الأقل كمرحلة متوسطة بين النقل التام والإبداع الخالص، يصعب إيجاد موقف متوازن ومتعادل بين هذه الطرق الثلاث، ومع ذلك تظل الطريقة الثالثة هي المثلى وهي الطريق الأفضل في مرحلتنا الحالية”.[6]
 
بالسقوط في أحضان الآخر واقتباس فكره وثقافته بشكل أعمى بالإضافة إلى ظاهرة الابتسار الحضاري تكون التبعية للمركز دوماً ويغيب الإبداع وتكون الحياة بالنقل التام لا من تراث الآباء والأجداد بل من الغير مما يزيد المشكلة تعقيداً بين الموروث وبين الوافد وأتباعه. كما يعتبر السقوط في النقل التام من التراث القديم مانعاً للإبداع الفلسفي. وعند حسن حنفي يمثل منهج تحليل الخبرات “هو النظرية الوحيدة الممكنة في التفسير… إن العود إلى الطبيعة هو الكفيل بردّ الاعتبار إلى الشخصية الإنسانية وذلك بالتعرف على مكوناتها وبالحرص على تكوينها السويّ، ورفض الازدواجية والثنائية معاً وما يتبعها من عمليات للتعويض والنفاق والمداراة والتستر”.[7]
 
فالإبداع الفلسفي ليس مصدره النقل التام، نقل الوافد أو نقل الموروث. لذا يجب الانتقال من النقل إلى الإبداع عن طريق منهج تحليل الخبرات المشتركة والانطلاق من التراث وتحويله إلى طاقة متفجرة تصنع الجديد. وتوظيف الوافد ليس لذاته بل اعتباره وسيلة للإبداع. وهذا ما أكّد عليه حسن حنفي في محاولته إعادة بناء علوم الحكمة في مؤلفه الضخم “من النقل إلى الإبداع”.إن الإبداع الخالص الخالي من الموروث والوافد لا تعطيه الطريقة الأولى ولا الطريقة الثانية، فهو “يعني وجود نصوص فلسفية لا تعتمد لا على الوافد ولا على الموروث. إذ يستقل العقل بذاته ويضع نصاً قائماً بذاته اعتماداً على العقل الصريح وبنية الموضوع”.[8]
 
يتجرد النص المبدع من السببية الداخلية والعلّية الخارجية كي يظهر ويتبلور. فالعقل بإمكاناته الخاصة صار يملك القدرة على بناء الفكر ونسج الخطاب بعدما تمثّل الوافد ونظّر الموروث. استطاع مفكرو الإسلام أن يقوموا بتنظير الموروث وتمثّلوا الوافد، وبان ذلك في أساليب كل عملية من العمليتين ووسائلها، ومن هذه الوسائل الترجمة والشروح والتعاليق وبالتالي الإضافات الجديدة. وفي هذا يقول حسن حنفي: “ولقد استطاع الشُرّاح العرب أن يتحرروا من صرامة النص بفضل الشرح الذي أضافوه للنص اليوناني وبالتالي أخرجوه من أحادية الرؤية، وتُخوم التصور الأحادي إلى تنوع واختلاف جديد”.[9]
 
والتعليق من جهته “يُخرج النص من المحاصرة وبالخصوص تلك المتعلقة بالمعنى فقط والأطر التي أنتجته ليفككه ويجزئه بما يخدم المعنى والإطار الذي وجد فيه النص”.[10]
 
والتعليق بهذه الصورة “يجمع كل جزئيات النص من المصطلح إلى الفكرة إلى المعنى إلى الأفق، إنّه بداية للإبداع والتأليف”.[11]
 
يفضّل حسن حنفي دراسة موانع ومعيقات الإبداع قبل معرفة دوافعه فيقول: “إنّ تحليل موانع الإبداع يسبق معرفة شروطه ومقوماته. فالسلب يسبق الإيجاب، والقضاء على المعوقات شرط للتقدم والنهضة. وقد يكون أحد موانع الإبداع في العالم الثالث هو وضع الإيجاب قبل السلب، والبناء على أسس واهية، ومحاولة السير والقدمان مقيّدتان. فسرعان ما ينهار البناء أو يتوقف السير في المكان، أو يتم بخطى وئيدة، أو يقع السائر إذا ما حاول الإسراع. إنّ تجارب الاستقلال والنهضة لدى شعوب العالم الثالث تثبت ذلك بعد أن تحوّل الاستقلال إلى تبعيّة والنهضة إلى تأخّر”.[12]
 
وأصبح فريق من المفكرين يحنّ إلى عصور التراث الزاهية كما يحنّ دعاة التقدم والحداثة إلى مراحل وتجارب التنوير التي جاءت قبل حركات التحرر الوطني، وذلك للفساد والاختلال الذي استشرى في الفكر والسلوك وغياب الإبداع وبذور الأمل وبوادره فيه.أصبح الجميع يعيشون في حسرة على ما فات في كافة ميادين الإبداع الفكرية والفنية والأدبية والتاريخية والسياسية والاجتماعية. ولما كانت شعوب العالم العربي والإسلامي تاريخية تراثية وقع الصراع بين دعاة القديم والتمسك بالتراث وبين دعاة الجديد والتمسك بالوافد. لذلك قصُر عمر النهضة وقصُر عمر التحرّر الوطني، وغاب التقدّم المنشود. وفي المقابل نجحت المحاولة الأوروبية. وربما كان من عوامل نجاح التجربة الأوروبية أنها انطلقت في بداية عملها النهضوي ليس من الإيجاب كما فعلت شعوب العالم الثالث وشعوب العالم العربي والإسلامي، بل من “السلب والنقد، والتحول من القدماء إلى المحدثين، ورفض الكنيسة وأرسطو كمصدرين للمعرفة، والتوجه نحو العقل والطبيعة لنشأة العلم، والعقد الاجتماعي لنشأة السلطة. بدأت التجربة الليبرالية الأوربية أصيلة من حيث النشأة، وراسخة من حيث البنية، وممتدة من حيث التكوين من عصر النهضة حتى الآن”.[13]
 
يتضح مما سبق أن من موانع الإبداع ومعوقاته الانطلاق من الإيجاب قبل السلب. ومن هذا المانع يظهر مانع آخر في المجتمعات الكلاسيكية التراثية وهو التبعية للتراث. ليس فقط تمثلّه فكراً وسلوكاً في حياة الفرد والجماعة بل تقديسه وتعظيمه إلى حد تُعتبر فيه أدنى معارضة أو مخالفة كفراً. فالإبداع يصبح محظوراً حينما يعيش عصرٌ على تراث عصر آخر سابق عليه دون إعادة النظر فيه وقراءته ثم نقده وإنتاج تراث جديد مواكب للعصر الذي وجد فيه. فإن التقديس يجعل الماضي أحسن من الحاضر والسلف أفضل من الخلف ويصعب الخروج عمّا تركه الأوّلون فيصعب الإبداع، لأن الإبداع هو ظهور الجديد من القديم والخروج عن الواقع إلى ما هو أفضل منه. ولا يظهر الإبداع بارتباط القوى الإبداعية الشعورية والنفسية وحتى الاجتماعية بالقديم وقبوله وتبريره من دون مراجعة أو نقد، فتكثر التبريرات وتتصارع الاتجاهات وتتسابق على السلطة باسم الدين أو باسم السياسة لكي تضفي الشرعية عليها. ولا يحصل الإبداع مادام هناك ما هو محظور في “الثقافة الوطنية المتكونة من الموروث الثقافي مثل الدين والسلطة والجنس. والبديل عن الإبداع هو التسليم والطاعة والانقياد، وإنما كانت هذه المقدّسات هي أهم دوافع التحرك الفردي والجماعي، ولا يجوز الاقتراب منها. توقّف الإبداع فيها إلا سرّاً ورمزاً وبحركات التواء دون مباشرة… إنّ شرط الإبداع هو التعبير عن المكبوت، وتفجير الطاقات، وإطلاق القوى الحبيسة دون خوف أو ترقب من أجل القضاء على الأوثان، الكشف عن زيف الآلهة”.[14]
 
إن منطق الإطلاق، منطق الشرط المنفصل، إما… أو، في الثقافة الوطنية في البلاد العربية والإسلامية، منطق يستبعد طرفاً ويأخذ بآخر، يمنع الإبداع لا محالة. فالمعادلة واحدة، كل الأطراف فيها أساسية ومهمة، وإبعاد طرف فيها يجعلها مختلة وفاسدة، والفساد والاختلال في التصوّرات والمعادلات والسلوكات، لا يسمحان بقيام شروط وأسباب الفعل الإبداعي في أي مجال كان، لأن الحياة صراع بين الأضداد وليسَ إقصاء لجهة دون أخرى. “فشرط الإبداع هو الإبقاء على التوتر بين العقل والنقل، بين الحرية والضرورة، بين الفرد والمجتمع، بين الحاكم والمحكوم، بن التحرر والتقليد، بين التقدم والمحافظة، كما هو الحال في الجدل الصيني، دون الوصول إلى مركّب بين النقيضين بالضرورة كما هو الحال في الجدل الهيجلي. الحوار الوطني هو شرط الإبداع والمواجهة الحرة، بين الإخوة الأعداء في ألفة الوطن”.[15]
 
كما يرتبط الإبداع بالتحرر من التبعية، فالحرية الفردية شرط الإبداع، حرية الفرد في ضميره وفي إرادته وفي موقفه، وذلك أضعف الإيمان، دون الانقياد والاستسلام للأمر الواقع أو حتى القابلية للاستسلام. فالإبداع إذا كان نتيجة للحرية فهو كذلك عامل من عوامل التحرّر.إذا كان الإبداع غائباً عند الفريق الذي لا يقبل سوى التمسك بالتراث، فهو ممتنع عند الفريق الذي لا يقبل سوى تقليد الغرب والتبعية له نتيجة للانبهار بعلومه وتطبيقات هذه العلوم وبما نتج عن ذلك من تكنولوجيا حققت للإنسان رفاهيته. ومن جهة أخرى نتج الانهيار عمّا يملكه الغرب من تنوير في العقل والحرية والمساواة والتقدم، فوجدت حضارة المركز بما لها من تقدم علمي وتكنولوجي وتنوير فكري وسياسي وازدهار اقتصادي، وأوضاع الشعوب المتخلفة المليئة بالخرافات والاستبعاد والتخلف. وأصبح المركز يُنتج ويُبدع والأطراف تتأثر وتستهلك بدون إبداع، فتقع لا محالة في التغريب. فيصبح الإبداع ممتنعاً أكثر فأكثر عندما يتحوّل التقليد والنقل إلى تمثّل النمطية الواحدة. في حين “أن الإبداع الفردي والجماعي لا يتم خارج العصر أي المراحل التاريخية التي تمر بها الشعوب، بل يتم في العصر وفي المرحلة. لا يمكن القفز على المراحل أو التعبير عن مرحلة ولّت وانقضت أو عن مرحلة أخرى مازالت قائمة… أن الإبداع لا يتم إلا بالثقة في النفس ودون إحساس بالنقص تجاه الآخر أو تجاه التاريخ… الثقة في النفس ضرورية للإبداع. فإنجازات الأنا في التاريخ لا تقلّ عن إنجازات الآخر، ولكنها مؤامرات الصمت وتزييف المعلومات أو غيابها هي المسئولة عن ضياعها”.[16]
 
وإذا كان الإبداع يصدر من المبدع الذي يعيش في واقع متأزّم، فإسقاط الواقع والانعزال عنه والعيش خارجه يمنع الإبداع، لأن الإبداع يوجد في الواقع كتجربة حيّة في شعور المبدع وفي حياته عامة. فالواقع إذ ما سقط كلياً لحساب منفعة شخصية، ظهر مصطنعاً بعيداً عن النضال والمواجهة، وعن قيادة الوعي القومي، وظهر من خلال ازدواجية في الخطاب، المدح والقدح، السالب والموجب، سالب في السرّ وموجب في العلن، تبرير السلطة، سلطة الدين أو السياسة أو إبراء الذّمة أمام الناس، يسقط الإبداع مع كل هذه الموانع، ومع غيرها، وهي كثيرة. فالإبداع “لا يكون إلا بالالتحام بالواقع وبمعرفة مكوناته ومساره، والقوى المتحكمة فيه من أجل فهمه وحشد قواه ثم تغييره إلى ما هو أفضل. الإبداع فردي وجماعي، إنساني وتاريخي، إرادي وطبيعي، حر وحتمي. يبدأ بالقضاء على موانعه قبل وضع شروطه. فالتقدم سلباً هو شرط التقدم إيجاباً. خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الأمام أفضل من خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء”.[17]
 
يؤكد حسن حنفي كما لاحظنا من قبل على القضاء على موانع الإبداع قبل الشروع في إيجاد شروطه وأسبابه. وشروط الإبداع عديدة مختلفة من وضع إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر ومن شعب إلى آخر وحتى من موقف حضاري إلى آخر. وهو نماذج متعددة كنموذج الارتباط بالقديم مثل الإبداع في الحضارات الشرقية، ونموذج القطيعة مع القديم مثل الإبداع في الغرب الحديث، ومنها نموذج التجاور مثلما هو الإبداع في اليابان المعاصر. ويشكل الوعي بالموقف الحضاري الشرط الأول للإبداع، والموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة: بُعد الماضي ويعني التراث القديم وهو البعد الأول، والمستقبل ويعني التراث المعاصر وهو البعد الثاني، والحاضر ويعني الواقع المباشر الذي يعيش فيه المبدع وهو البعد الثالث. ويتحدد الموقف الحضاري حسب أبعاده بثلاثة أقسام أو ثلاث جبهات هي الموقف من التراث القديم، الموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع المباشر.لا يتم الإبداع إذا ما كان الموقف من التراث القديم في الجبهة الأولى موقف نقل وتقليد وتكرار واجترار. كما يسقط الإبداع إذا ما أصبح الموقف من التراث الغربي في الجبهة الثانية موقف نقل وانبهار وانقياد وتبعية، ولا يظهر الإبداع البتة إذا ما سقط الواقع المباشر من الحساب في العملية الإبداعية، والواقع المباشر هو مصدر كل مادة علمية في تنظير الموروث وتمثّل الوافد بعد إعادة بناء الاثنين. ويصبح الإبداع أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً عند التعاطي مع جبهة واحدة دون البقية وعندما يتعاطى مع التراث الغربي بمفرده وكذلك في حالة الانطلاق من الواقع المباشر بمفرده. إنّ “الماضي بلا مستقبل موت متحفي، والمستقبل بلا ماضي مجتث الجذور، والحاضر ما هو إلا ماض حيّ متطلّع إلى المستقبل”.[18]
 
إن طابع الجبهة الأولى والثانية نصّي، وطابع الجبهة الثالثة واقعي مباشر. ومحاور الإبداع تختلف من جبهة إلى أخرى لكنها تجتمع في وعي المبدع وفي موقفه الحضاري، فالجبهة الأولى يمكن أن تقوم على تفسير التراث بردّه إلى أوضاعه التاريخية القديمة، وإعادة بناء النص الشعبي من خلال إعادة الاختيار بين البدائل، وإبداع نص جديد على أساس ظروف هذا العصر في غياب بدائل قديمة أو عدم قدرتها على تحقيق المطلوب. أما الجبهة الثانية فتقوم على رد النص إلى حدوده الطبيعية وإثبات تاريخيته بعيداً عن المزايدة بل بناء النص على العقل الصريح أو الواقع المباشر وتحويل النص إلى موضوع بحث ودراسة لاكتشاف بنيته والعقلية التي أنتجته. أما الجبهة الثالثة فمحاورها تقوم على الرصد الإحصائي للعلل المؤثرة في مسار الإنتاج والتوزيع وما يتصل بذلك، وتحديد الفاعليات الاجتماعية القادرة على تغيير المجتمع، ومعرفة النصوص التراثية المؤثرة فيه سلباً وإيجاباً.فالتفاعل بين الجبهات الثلاثة هو تفاعل بين نصين في واقع متفاعل معهما. وهو تفاعل بين خطين حضاريين، خط الأنا وخط الآخر، بكيفية تقوم على تحديد مواطن التداخل بين الاثنين، ومعرفة نقد مسار الوحي المسيحي والمصادر الإسلامية لنشأة الحضارة الغربية، والمحاولة الأوربية في العصر الحديث الرامية إلى تحقيق اتفاق الوحي والعقل والطبيعة. “تلك خطوط عامة تحدد محـاور الإبداع، وشرطه الأول وهـو الوعي بالموقـف الحضـاري… والحضارة ممكنة فقط من حالة تساوي الثقافات. أما في حالة ثقافة المركز في مواجهة ثقافات الأطراف، فإن العلاقة تكون علاقة تحدّ ومواجهة. صحيح أنه لا يوجد طريق واحد للإبداع ولكن هناك شروطاً ضرورية له. أوّلها الوعي الشامل بالموقف الحضاري للشعوب”.[19]
 
وشرط الإبداع الفلسفي القدرة على الوصول إلى الموقف الفلسفي، ومانع الوصول إلى الموقف الفلسفي هو حضور العرض التاريخي والاكتفاء بذلك. ففي الحالة المانعة للإبداع، يقوم الباحث بالتحليل والتأريخ للموضوع وهمّه الموضوعية ومنهج البحث العلمي. أمّا في الحالة الثانية فيقوم الباحث بتأويل الموضوع والمادة العلمية والتعبير عن اللاّمنطوق: “هنا يتحول الباحث من مؤرخ للفلسفة إلى فيلسوف، ومن عارض لبضاعة غيره إلى مشارك في صنعها، بالرغم من الاتهام الشائع بالذاتية والشخصية. والنماذج عديدة من التاريخ على ذلك”.[20]
 
وللإبداع شكل عام. إذا كان الشرط الأول للإبداع الفلسفي إمكانيات تجاوز مرحلة العرض التاريخي إلى مرحلة اتخاذ موقف فلسفي، فهناك شروط عرضية لا يتمّ الإبداع الفلسفي إلاّ بها. هذه الشروط مرتبطة بتخصيب الثقافة المحلية بعناصر القوة في ثقافات أخرى، وبتفاعلات جديدة بين تيارات التراث القديم، مثل نقد الفقه القديم وتطويره، “ونقله من فقه النساء والعبيد والغنائم والصيد إلى فقه الثورة والعدالة الاجتماعية والتنمية والعلاقات الدولية“.[21]
 
ومرتبطة كذلك بالتأويل ودوره في تحقيق التحرر من النص، وبتوفر المصادر الأصلية والمراجع الأساسية. ثمّ “يتطلب الإبداع التركيز على النفس والتأمل الذهني وقلب النظر والتفكير في الموضوع كتجربة حيّة لإدراك ماهيته”.[22]
 
ومرتبطة بالظروف الاقتصادية المؤاتية، وبظروف علمية وفلسفية توفرها المؤسسات العلمية مثل الجامعة وغيرها والمجتمع. وإذا كان النموذج لدى حسن حنفيهو مصر، فإن أزمة الإبداع الفلسفي تقوى وتشتد “كلما ضعف النظام السياسي، وكبا المشروع القومي الذي كان مرّة ليبرالياً وطنياً منذ القرن الماضي ثم أصبح قومياً اشتراكياً في النصف الثاني من هذا القرن، ثم أصبح لا هذا ولا ذاك في مطلع القرن الجديد حيث تغيب الرؤية، ويضعف الأمل، ويسود الإحباط ويطول الانتظار“.[23]
 
وهو الحال نفسه في بقية البلاد العربية إن لم يكن أسوءاً.صحيح إن أزمة الإبداع في الفكر العربي الإسلامي المعاصر مرتبطة بظروف هذا الفكر في الماضي والحاضر والمستقبل، هذه الظروف التي قام حسن حنفي بتحليلها بإسهاب وبدقة وبتفصيل، وهي ظروف أزمة وليست ظروف إبداع وتجديد. والحياة الفكرية جزء من الحياة العامة، والإبداع فيها مرتبط بظروف الحياة ككل، فلا إبداع فكرياً أو علمياً إن لم تسقط موانعه وتقوم شروطه الفردية والاجتماعية رغم الطابع الفردي للإبداع. والبدء بإزالة موانع الإبداع هو في جوهره تأسيس لشروطه وعوامله، والانطلاق من تثبيت الشروط هو إزاحة المعوقات، كما أن الوقاية من أزمة الإبداع تتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات والتدابير على المستوى الفكري والسلوكي والنظري والتطبيقي تحافظ وتزكي باستمرار شروطه وعوامله، مثل عامل الحرية. فالإبداع “يبدأ عندما يقف الواقع أمام حرية الإنسان في العقل وفي التعبير. من خلال هذا التوتر تفسح الحرية مجالا لحركتها وتزيح موانعها، وينشأ الإبداع كتعبير عن هذا الصراع بين الحرية الذاتية والضرورة الاجتماعية، وتظهر في المواقف وفي السلوك قدر ظهورها في الفكر والتعبير، تكون بالفعل والقول، بالموقف والكلمة. فالكلمة موقف والسلوك فكر”.[24]
 
وبالحرية لا تتهيأ الظروف لموانع الإبداع ومعوقاته. والإبداع في صلته بالشروط أو بالموانع تختلف وضعيته من مجتمع إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى على الرغم من وجود عناصر مشتركة بين الحقب التاريخية وبين الشعوب والأمم وبين المفكرين والعلماء، أي بين المبدعين. وحلّ أزمة الإبداع الحضاري عامة وأزمة الإبداع الفلسفي بصفة خاصة له جذوره ومادته وأساليبه في الماضي والحاضر لكن ليس بالضرورة من خلال مشروع “التراث والتجديد” بجبهاته الثلاث، خاصة تلك المحاور التي يطرحها صاحب المشروع على مستوى كل جبهة، مثل محور الترجمة ومحور نقد الأنا لمسار الوحي في القرون الميلادية السبعة الأولى بالنسبة للمسيحية، ومحور ردّ النص الغربي إلى حدوده الطبيعية وتحجيمه. فالإبداع في الحضارات السابقة الشرقية أو اليونانية و حتى الحديثة، هل أنتجته تلك المحاور ومرجعياتها؟ وهل مشروع “التراث والتجديد” قادر على حلّ أزمة الإبداع في عصرنا؟ خاصة إذا عرفنا بأن أزمة الإبداع في المجتمع العربي والإسلامي المعاصر عميقة جداً، وتزداد عمقاً من وقت إلى آخر إلى درجة اليأس والقنوط. والمشروع التراثي التجديدي فيه ما فيه من المثالية – حسب رأي البعض – الفكرية والنقدية والأخلاقية، وبحسب التطلع إلى الأفضل. فهل أفكاره تبقى حبيسة الحياة الفكرية النظرية أم تتحول إلى تطبيقات عملية في الواقع، تغيّره وتحوّله من واقع متأزمٍ متخلفٍ خالٍ من الإبداع، إلى واقع منفتح على الإبداع يعرف كيف يصنع التاريخ وكيف يبني الحضارة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:[1] حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص81.[2] المرجع نفسه : ص82.[3] المرجع نفسه : ص82.[4] حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص523-524.[5] المرجع نفسه : ص524-525.[6] المرجع نفسه : ص526.[7] حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص180-186.[8] حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، المجلد الثاني، الجزء الثالث، دار قباء، القاهرة، مصر، سنة 2001، ص289.[9] حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، المجلد الأول، النص، الترجمة، المصطلح، التعليق، دار قباء، سنة 2000، ص302.[10] المرجع نفسه : ص316.[11] نخبة من الأساتذة: حروف الحكمة العلمية، ص109.[12] حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص179.[13] المرجع نفسه : ص179-180.[14] المرجع نفسه : ص181.[15] المرجع نفسه : ص181-182.[16] المرجع نفسه : ص184.[17] المرجع نفسه : ص186.[18] المرجع نفسه : ص191.[19] المرجع نفسه : ص195.[20] حسن حنفي: حصار الزمن، الجزء الأول، إشكالات، ص83.[21] المرجع نفسه : ص87.[22] المرجع نفسه : ص88.[23] المرجع نفسه : ص91.[24] حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص611.

مقالات أخرى

الحرّيّة في الحقليْن الثّقافيّيْن العربي والغربي عند عبد الله العروي

في لاهوت الأخلاق

دوائرُ اللّامعقول

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد