تمهيد:
يثير موضوع التربية في الفكر المعاصر إشكالات نظرية وتطبيقية متعددة. بعضها يرتبط بأسئلة المعرفة العلمية والتنظير الفلسفي في الحقل التربوي وخاصة في العصر الحديث، وكثير منها يتصل بنوعيات وغايات الممارسة التربوية كما تجري في المؤسسات التربوية والجامعات ومراكز البحث العلمية.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن التفكير في فلسفة التربية يتيح لنا صياغة الأسئلة المحفزة على تطوير آفاق التربية بربطها بغاياتها. وإذا كانت طبيعة العلاقة بين فلسفة التربية كإطار عقلاني والمجتمع كمحيط تتجسد فيه هذه العقلانية، يتداخل فيها الخصوصي والكوني، فلا يمكن أن تفهم هذه العلاقة بالعمق الكافي إلا بالمعرفة الدقيقة لمجمل الشروط التفاعلية بين التربية والمحيط في فضاء اجتماعي محدد في الزمان والمكان، وبصورة تمكن من تحسين أحوال الإنسان، والتحكم في سلوكه ومصير مستقبله كما ان خصوصية المجتمع المعاصر- مجتمع العولمة والتنظيم المعتمد على الكثير من الآليات المستحدثة للتخطيط والتدبير والترشيد والهيكلة والتوجيه- قد أصبحت تتطلب، أكثر من أي وقت مضى، ضرورة توفير شروط معرفية واجتماعية جديدة لإعادة التفكير في مسألة تحليل علاقة الفلسفة بالمؤسسة التربوية. باعتبار أن هذه المؤسسة هي، في النهاية، جزء من المجتمع. إن التربية باعتبارها عملية إبداع وخلق تعمل على تحويل المكون الثقافي إلى قوة دافعة، وقوة تملك شروط التفاعل والقدرة على الاستفادة من منجزات العلم وثورة المعلومات لتعزيز الوعي، ومواجهة ثقافة الاستلاب والدونية والاغتراب الثقافي والاجتماعي. بهذا المعنى، فإن العملية التربوية هي فعل اجتماعي واعٍ شامل يأتي في سياق إستراتجية تدرك إمكانات المجتمع والأمة، وتتعامل معها باعتبارها الاحتياط الاستراتيجي الهام، هذه الرؤية تستدعي تفاعلاً عميقاً ما بين الثقافة والتربية ومنجزات العلوم، وبالتالي تخطي مأزق الجمود والانحباس الذي تعاني منه العملية التربوية، إذ لا يمكن الحديث عن إبداع ثقافي مع استمرار تخلف النظام التعليمي، وغياب الإبداع الثقافي يعني في المحصلة الاستسلام أمام الثقافات الوافدة.
وإذا كان كل مشروع تربوي أو مجتمعي لا يمكن تصور وتكامل عناصره ومكوناته وحتى نجاحه إلا في إطار فلسفة تربوية أو اجتماعية مؤطرة للنظر والفعل، فإن مهمة تحليل العلاقة السالفة الذكر تصبح مرتبطة بمسألة الأولوية بين ازدهار النزعة الفردية أم الجماعية.