من الذي جَعَلَ الشباب التونسي يَنْخَرِطُ في الإِرْهَابِ الْمُعَوْلَمِ؟

من الذي جَعَلَ الشباب التونسي

تعكس الأهمية التي اكتسبها التوجه التكفيري لدى الجهاديون التونسيون وحضورهم الدموي في أفغانستان والعراق وسوريا  وإيطاليا وإسبانيا وتونس ،   قطيعةً بين هذا الجناح المتطرف من الإسلام السياسي الذي أصبح مرتبطاً بتنظيم «القاعدة »، ولا حقا بتنظيم «داعش»،و الإسلام التقليدي الراسخ في تونس منذ ما يربو على 14قرناً. فقد أكد انخراط الشباب التونسي في المواجهات المسلحة في العديد من البلدان، و منها تونس، منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن ،  عجز النظام الديكتاتوري السابق عن تأطير الشباب وحمايته مما يسميه  التطرف الديني و الإرهاب ،و عن تجديد الخطاب الديني ، وتطويره، وإثراء مضمونه من خلال مواصلة تأهيل رجال الدين والأئمة الخطباء حتى يكونوا ملمين بأنجع تقنيات الخطابة والتبليغ والإقناع ، في ظل انشداد الشباب للفضائيات الدينية، و خضوعه لتأثيراتها في الدعاية الأيديولوجية.

إن السبب الجوهري لعودة قسم كبير من الشباب التونسي إلى الإسلام باعتباره الملجأ الروحي الحصين للقيم الأخلاقية، وتنامي النزعة المحافظة في داخله، ولاسيما في أوساط الطبقات والفئات الشعبية التي لا تتمتع بمستوى تعليمي متقدم، يعود في جزء أساسي منه إلى وصول النموذج البورقيبي إلى أزمته البنيوية الشاملة، ومن بعده بن علي، الذي كان يمثِّل جيل الذئاب الشابة داخل المدرسة البورقيبية عينها، والذي استعاد النظام البورقيبي في صورة نظام بوليسي تسلطي صرفٍ لكنه مغلف برداء حداثوي بورقيبي تقليدي عام.

ورغم أن النظام السابق دخل في معارك عديدة مع حركة النهضة في عقد التسعينيات من القرن الماضي ، ومع ما يمكن تسميته بمعركة الحجاب «الأزلية» و معركة المساجد و معركة مظاهر التدين عامة، و في كل تلك المعارك  أظهر الحزب الحاكم سابقاً (التجمع الدستوري الديمقراطي) وحكومة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي،  عجزاً فاضحاًعن كسب تلك المعارك التي خاضوها باسم الدين ،الأمر الذي قاد الشباب إلى تبني الفكر السلفي الغريب عن الثقافة الدينية التونسية، فكانت هجرة الشباب نحو هذا الفكر في أحد أبعادها نقمة على السلطة التي أغلقت جميع منابر الحوار العمومية أمام مناقشة المسائل الدينية فلا التلفزة و لا منابر الشباب فتحت نقاشات في العمق حول تلك المسائل و لا هي استدركت و فتحت نقاشات مماثلة حول الظواهر الدينية الجديدة التي بدأت تستقطب الشباب مطلع الألفية الراهنة و بدأت تجلياتها تبرز في المظهر و في طريقة التفكير و تناول القضايا.

وخاض حزب« التجمع الدستوري الديمقراطي »الحاكم سابقاً،خلال العقدين الماضيين  معارك عدة باسم الدين، بدأت بالأساس منذ مواجهته مع حركة النهضة في تسعينيات القرن الماضي حيث سعى إضافة إلى المواجهة الأمنية إلى إبراز انه متدين و محافظ على الدين أكثر من خصومه الإسلاميين و لم تقتصر معارك النظام الدينية على مواجهة خصم سياسي بل تجاوزتها إلى بعض الرموز الدينية من ذلك ما اصطلح على تسميته بمعركة الحجاب “الأزلية” و معركة المساجد و معركة مظاهر التدين عامة، و في كل تلك المعارك عجز النظام على إنتاج خطاب ديني مقنع يستمد قوة إقناعه من قراءة النص الديني ذاته بل حتى من استنجد بهم من شيوخ و أساتذة مختصين في الشريعة كان واضحا أن أداءهم اكتفى بشرح الخطاب السياسي الرسمي مع عجز بين عن توظيف النص الديني و إقناع الجمهور بالموقف الرسمي لذلك عادة ما يعوض الإقناع بالتدخل الأمني الزجري بما هو استعراض لقوة السلطة.

في ظل السيطرة المطلقة من جانب حزب«التجمع الدستوري الديمقراطي » الحاكم سابقاً على الفضاء العام، و احتكاره لكل جوانب الحياة الفكرية و السياسية بالبلاد، التجأ الشباب التونسي إلى الفضائيات الدينية العربية كملجأ روحي جديد، مع ما تعطيه تلك الفضائيات من تفسيرات دينية تقليدية لم تكن موجودة في المجتمع التونسي .ولم يعالج  النظام السابق تنامي ظاهرة التوجه  السلفي من جانب الشباب التونسي،باعتبارها ظاهرة تعكس أزمة التصارع حول الدين في المجتمع التونسي ، من خلال التخلي عن سياسة الانغلاق ، والانفتاح على مختلف القوى المعارضة بما فيها حركة النهضة الإسلامية، والعمل على تفعيل دور المجتمع المدني، وفتح فضاءات العمل أمامه من دون قيود، و السماح له بالنشاط في كنف الحرية المنظمة والتعبير المسؤول عن الأفكار والمساعدة على خلق خطاب عقلاني جديد يواجه خطاب الانغلاق والتشدد.

من الواضح أن لجوء الشباب السلفي التكفيري إلى استخدام العنف،  يأتي في سياق ردّة الفعل على العنف السلطوي، الذي طبع الدولة التونسية منذ نشأتها، لا سيما  في مرحلة الصراع المسلح الذي نشب بين جناحي الحزب الحر الدستوري (جناح الحبيب بورقيبة، وجناح صالح بن يوسف) حول مضمون الاستقلال السياسي للبلاد التونسية .و كــان أسلوب إدارة هذا الخلاف بين جناحي الحركة الوطنية التونسية قد قام منذ بداياته على أساس العنف والتصفية الجسدية بمعناها الثأري في غياب التنظيم والخبرة والجاهزية للأجهزة المعدّة لذلك.وهذا ما طبع الدولة الناشئة بمنطق العنف كأداة مثلى لحسم الخلافات السياسية؛ وأرسى ثقافة سياسية تنبني على هذه المقوّمة.

و أسهم الفراغ السياسي لدى شرائح الشباب التونسي لكي يعتنق  الأفكار السلفية التكفيرية  وحتى الإرهابية ، بعد أن أظهر الشباب التونسي عزوفاً حقيقياً عن  المشاركة في الانتخابات السياسية ، و النشاط السياسي في الأحزاب القائمة ، نظراً لانعدام الثقة في الأحزاب والمنظمات السياسية في البلاد ،لأنها لا تعبر في أغلب الأحيان عن هموم الشباب الحقيقية مثل البطالة. لابد من الإقرار بأن واقع عزوف الشباب عن العمل السياسي والجمعياتي أمر مفزع وخطير على اعتبار أن الانخراط في الأحزاب والمنظمات ضمانة تحصن الشباب من كل مظاهر التهميش والتطرف والانحراف..و لم يعمل النظام الديكتاتوري السابق على معالجة ظاهرة عزوف الشباب عن السياسة  من خلال وضع برنامج لإصلاح الإخلالات الموجودة وتفادي المخاطر التي يمكن أن تنجم عنها .ففي ظل غياب الحرية السياسية ، و تكميم الأفواه ، و قمع مكونات المجتمع المدني من أحزاب سياسية و نقابات ، لم يجد قسم من الشباب التأطير الكافي لكي يشارك بصورة مسؤولة وفعالة في الحياة السياسية في البلاد.

كان للهيمنة الأحادية المطلقة من جانب حزب«التجمع الدستوري الديمقراطي » الحاكم سابقا،  على المنظومة التربوية (المدارس والمعاهد والجامعات)، تأثير بالغ الخطورة على تكوين الوعي الثقافي، و مسألة الهوية لدى الشباب التونسي ، فغابت التعددية بمظاهرها المختلفة من فكرية و دينية و سياسية و ثقافية و لغوية و عرقية.فانحصر الجهد الأعظم للنظام الديكتاتوري السابق في تأدية  الوظائف الأمنية ، وعدم اكتراثه بحل جبال المشكلات الأخرى من التنمية  المستدامة، و تحقيق التعددية السياسية، و بناء دولة القانون.و بغياب التعددية بمظاهرها المختلفة الفكرية و السياسية و الدينية با عتبارها الفضاء العام القائم على حرية المعتقد الديني و حرية الفكر في عالمنا المعاصر، والقادر على تلقين الصغار والشباب ضرورة الاهتمام بالشأن العام عبر الهياكل القانونية وأبرزها الأحزاب السياسية ،حُرِمَ  الشباب التونسي  من حمولات تربوية وثقافية،هي ووحدها ما يُعَدُ الشباب للحداثة السياسية.فأصبح الشباب التونسي يعيش حالة من التهميش ،والفراغ ،وهاجس الخوف من الانخراط في العمل الحزبي والجمعياتي.

و فيما اتجه قسم من الشباب إلى  تلقي الثقافة الاستهلاكية السطحية والسقوط في الانحرافات والمزالق الخطيرة ، اتجه قسم آخر من الشباب نحو العزوف الكامل عن السياسة ، و العمل على تلقي الثقافة الدينية السلفية من خلال مرجعيات إسلامية مغايرة تماما للمرجعية الإسلامية السائدة في تونس، لا سيما التي كانت تقوم بها الجماعات السلفية المتشددة، التي راحت تملأ الفجوات المتعاظمة الاتساع بين الشباب و النظام، عبر نشر تيارالسلفية الجهادية، الذي فرض نفسه فكرياً و عددياً في الطيف الإسلامي  بعد التجربة الأفغانية،  والمواجهات التي حصلت بين بعض الأنظمة العربية وحركات الإسلام السياسي في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبعد الغزو الأميركي للعراق.فكان لجوء الشباب التونسي  «إلى تقنيات الاتصالات الحديثة الفضائيات الجديدة، من الفضائيات الدينية إلى الأنترنت، الأثر الحاسم لهذا الانتقال البشري و الاقتصادي و السياسي  أو الثوري، حيث ضخمت جميعها و سرّعت من إيقاع العلاقات المتبادلة هذه، التي ساهمت في تحديد مدى الخصوصيات القومية، و إعطاء الإسلام السياسي صبغته «المعولمة».

يؤكد علماء الاجتماع، و المحللون المتخصصون في دراسة الحركات الإسلامية، أن  القاعدة الاجتماعية التي تستند التنظيمات الإرهابية ،غالبا ما تكون من الفئات الاجتماعية الفقيرة ، التي تعاني من تدني مستوى تعليمها،   ومحدودية تكوينها الثقافي،  و من التهميش الاقتصادي.و في مثل هذه البيئة الفقيرة والمهمشة، انبثقت الظاهرة الإرهابية ، التي لا تطرح  محاربة الولايات المتحدة الأميركية و الكيان الصهيوني، بل إنها تطرح محاربة الأنظمة العربية الحاكمة، با عتبارها أنظمة كافرة ومرتدّة  حسب زعمها.

وفي عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، انتهج النظام سياسية اقتصادية قوامها اندماج الاقتصاد التونسي في نظام العولمة الليبرالية مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي ،  وعمادها تحرير التجارة مع بلدان الاتحاد الأوروبي  في نطاق الشراكة التي أبرمتها تونس في 17يوليو/جويلية 1995.فتعزّزت القيم الاستهلاكيّة مع غزو سلع، كانت تُعدّ من الكماليّات، للأسواق التونسية . وكان من مظاهر سياسة الانفتاح هذه،تعمق الفوارق الاجتماعية بين الطبقات الاجتماعية، وتركز التنمية في المناطق الساحلية الشرقية  مثل (المنستير وسوسة والمهدية،وصفاقس) ،كما في الشمال (بنزرت) ، أي في المناطق ذات التقليد التجاري الكبير،حيث تترجم في المقابل  أسماء العائلات والانتماءات الاجتماعية الدور الرئيسي للروابط المهنيّة القديمة.وأهملت السلطة التونسية  العديد من المحافظات الداخلية الواقعة في الشمال الغربي (باجة جندوبة الكاف)،والوسط الغربي(القصرين سيدي بوزيد) ، و الجنوب(قفصة ومدنين).

إنها الخاصية التي تتميز بها تونس المنقسمة مناطقيا ًوجهوياً،والخاضعة لقانون التطور اللامتكافىء على صعيد التنمية، وعلى صعيد التوزيع غير العادل لفوائد النمو والتنمية، بين المناطق الشرقية، الواقعة على الشريط الساحلي، والمناطق الداخلية، إذ ظل هذا التفاوت الموروث من فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1956 – 1987) يتعمق طيلة العقدين الماضيين. وبهذا المعنى نفهم لماذا انخرط الشباب التونسي في الإرهاب، الذي أصبح مستوطناً بصورة غير مسبوقة من الوسط الغربي، إلى المناطق المحرومة التي تُعاني من التهميش. وفي أجواء الشعور بالحيف الجهوي والغبن الساري بين أبناء تلك المحافظات المنسية، ترعرعت مُسوغات التمرد الجماعي، و نمت الجماعات الإرهابية من أحياء الصفيح في المدن التونسية الكبيرة، مثل تونس العاصمة، وصفاقس، وبنزرت، و في المدن الداخلية التي تعاني من البطالة.

لقد أسهم  اشتداد الظلم الاجتماعي ،وتكريس التفاوتات الشديدة في الدخل والثروة بين الفئات الاجتماعية، وبين المناطق الساحلية والمحافظات الداخلية الممتدة من الشمال الغربي إلى الجنوب، في تنامي الظاهرة الإرهابية في تونس . فقد اقترن حكم بن علي البوليسي بحالةٍ حادّة من الإخفاق التنمويّ الذي كاد يقضي على الكرامة الإنسانية للغالبية العظمى من الشعب التونسي. ويتجلّى هذا الإخفاق في عددٍ من الظواهر السلبيّة، مثل تفشّي البطالة في أوساط الشباب الحاصلين على شهادات جامعية، أو الذين تخرجوا مبكراً من المعاهد الثانوية ولم يلتحقوا بالجامعات، واستشراء الفقر، وما يترتّب عليهما من تفاقم الظلم في توزيع الدخل والثروة.

مقالات أخرى

ماجد الغرباوي : سلطة الفقيه والتشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

بيداغوجيا البرهان في فضاء الثورة الرقمية

ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد