يطرح اليوم في تونس موضوع جبهة الوحدة الوطنية لإنقاذ الوطن من خطر التقسيم، ولأن الشعب التونسي الذي نجح عبر ثورته غير المكتملة أن يزيح النظام الديكتاتوري السابق، لم يستطع أن يحقق أهداف ثورته، ولاسيما أن الحكومات المتعاقبة التي تسلمت مقاليد السلطة سواء خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثرة، أو الحكومة الحالية بقيادة السيد الحبيب الصيد المختلفة نسبياً عن سابقاتها من حيث الحصانة فهي محمية برلمانياً بالنظر إلى قيمة الأحزاب التي تشكلها (180 مقعداً من جملة 217 مقعداً)، وهي حكومة شرعية منبثقة عن نتائج انتخابات تشريعية معترف بها، وهي حكومة دائمة على عكس الحكومات السابقة المؤقتة والانتقالية، ومع هذا كله ،لا تمتلك حكومة الصيد مشروعاً وطنياً ديمقراطياً لمواجهات التحديات الداخلية والإقليمية التي تعيشها تونس، في مرحلة الانتقال من الثورة إلى تأسيس و بناء نظام ديمقراطي بديل.
1-عجز الحكومة الحالية و الإئتلاف الحاكم عن تقديم الحلول
الثورة التونسية لم تكن في مرتبة الثورات الكبرى (مثل الفرنسية أو الروسية أو الصينية أو الإيرانية) التي استطاعت أن تفكك مؤسسات الدولة القديمة ، وتبني مؤسسات الدولة الجديدة. فعلى النقيض من كل ذلك، كانت الثورة التونسية أشبه بالحالة الثورية التي نجحت في إزاحة رأس النظام القديم، لكنها انكسرت أمام مؤسسات الدولة القديمة… فهاهي حكومة الصيد تبدو عاجزة عن مواجهة الفساد، لأن الفئات الطفيلية المنتفعة من النظام السابق أصبحت أكثر من أي وقت مضى متشبثة بامتيازاتها، حيث نجد أصحاب النفوذ في نظام الحكم الديكتاتوري السابق ورجال المال السياسي الفاسد وأصحاب المصالح غير المشروعة يعيدون ترتيب أنفسهم لمواجهة آثار الثورة التونسية، و المطالب الشعبية المستحقة، و إجهاضها، و العمل من أجل المحافظة على مكانتهم و ترجيح كفة القوى الدستورية التي تسيطر بقوة على حزب «نداء تونس» الحاكم، بوصفها قوى لا تهدد مراكزهم، أو ثروتهم غير المشروعة،أو نفوذهم، التي تحققت لها في ظل نظام الاستبداد و الفساد الذي سقط رأسه، وبقيت مراكز النفوذ لأتباعه، نتيجة غياب بديل وطني ديمقراطي ثوري لنظام الحكم الذي تم إسقاطه.
المتابع للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح مظاهر غياب الدولة أو الدولة المتغيبة، في ظل حزمة الأزمات المستعصية التي تعيشها البلاد، فلا نجد ثقل الدولة التي من المفترض أن تكون دولة الكل الاجتماعي، دولة كل المواطنين، وهو الوحيد القادر ليس على تعديل الموازين بل على قلبها لمصلحة كل ما هو منظم بالقانون، وكل ما يتماشى مع قوانين البلاد و دستورها. فقد أظهرت الأزمات الأخيرة التي تعيشها تونس أن الدولة لم تقدر بعدُ على فرض هيبتها بالوجه الكافي، وعلى تحقيق الانتظارات الشعبية، فبدت ضعيفة هشة رغم تركيز سلطات منتخبة ودائمة ومسنودة سياسياً.
وها هي حكومة الصيد بعد مرور قرابة الـ 100يوم على عملها تصطدم بالواقع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي الذي تعيشه تونس، إذ يعاني الاقتصاد التونسي القائم على منوال تنموي وصل إلى مأزقه المحتوم منذ تفجر الثورة، من هيمنة الدولة و البيروقراطية و الفساد، ولاتهتم السلطات الجديدة الحاكمة بإقامة منوال تنموي جديد قادر على أن ينقذ الاقتصاد الراكد. و هذا ما جعل كل المؤشرات الاقتصادية (نسبة نمو 1.7%) تنذر بمزيد من تدهور الأوضاع ، نتيجة العجزالذي يسيطر على المالية العمومية و ميزان المدفوعات، وتوقف الإنتاج في أهم القطاعات ، ووانعدام الاستثمار، و انهيار القطاع السياحي ، وضحالة الموسم الفلاحي، الأمر الذي انعكس سلباً على الصادرات التونسية التي أصبحت لا تغطي الواردات، وعلى المديونية الخارجية التي ازداد ت خطورة.
ويرى المحللون المتابعون للشأن التونسي أن هذه الأزمة الاقتصادية مرشحة للتفاقم ، في ظل انعدام برنامج إنقاذ وطني تقدمه الحكومة، مما سيقود البلاد إلى الهاوية ، ويجعل المستقبل مفتوحاً على سيناريوهات عديدة، منها إفلاس الدولة التونسية على الطريقة اليونانية ثم انهيارها، وصولاً إلى تمزيق الوحدة الوطنية، و الاتجاه نحو الفوضى و العنف، وربما نحو تحقيق ثورة اجتماعية جديدة.
وتقف حكومة الحبيب الصيد عاجزة أمام أزمة الحوض المنجمي، و بالتالي أزمة شركة فسفاط قفصة، المتوقفة عن الإنتاج بسبب الإضرابات المتواصلة ومطالبة سكان الحوض المنجمي بحقوقهم في العمل و في مشاريع التنمية لكل الجهة ، بينما لم تبلور الحكومة لغاية الآن سياسة تنموية واضحة للحوض المنجمي لا تعتمد كلياً على شركة فسفاط قفصة. فتعطل إنتاج قطاع الفسفاط ما كان له أن يحصل في دولة ذات سيادة لو كانت للحكومة الحالية منذ توليها مهامها إرادة معالجته بطريقة تضمن مصالح كل الأطراف. ويقول أحد الخبراء: إن ما حصل بالنسبة لقطاع الفسفاط في تونس لم يسبق أن حصل مثله (بالنسبة للقطاعات الاقتصادية الكبرى) في أي دولة من العالم بما في ذلك الدول التي تعيش أزمات وحروباً، لأن الدول عادة ما تبادر إلى تطويق الخطر قبل حدوثه عندما يتعلق الأمر بمصلحة وطنية عليا.
وهناك الاحتجاجات في بعض مدن الجنوب(لاسيما في معتمدية الفوار) بعد اكتشاف بئر نفطي ذي مردودية مهمة إذ يمكنه تأمين8 % من الإنتاج الوطني ،ولكن هذه الاحتجاجات لم تكن -كما زعم البعض- بهدف اقتسام الأرباح النفطية حتى قبل بدء عملية الاستثمار لكنها كانت رسالة قوية إلى الدولة حتى تفكّر في الاستثمار جدّياً في هذه المناطق التي بقيت تعامل لسنوات كـ«مطمور روما». وفي ظل غياب مشاريع حقيقية للتنمية يتجه سكان الجنوب من الفقراء والمهمشين إلى الانخراط في شبكات التهريب ليجازفوا بحياتهم من أجل بضعة دنانير يجنونها من السلع المهربة. ولكن الأزمة تزداد استفحالا ًعندما يعمد البعض وخاصّة من المهربين أو السياسيين لاستغلال ظروف الناس القاهرة لإثارة النعرات الجهوية والعصبيات القبلية والنفخ في نار الفتن.
و في ظل الاستراتيجية الجديدة للمتنفذين داخل حكومة الصيد الذين يريدون تكريس الهيمنة على المؤسسة الأمنية، وعلى تطويع القضاء، تعيش تونس على وقع صراع في داخل البرلمان بسبب محاولة لجنة التشريع العام تمرير المشروع الحالي للمجلس الأعلى للقضاء من دون إجراء تعديلات عليه، ولاسيما أن القضاة دخلوا في إضراب للتصدي لما وصفوه بالخطر المحدق باستقلالية القطاع القضائي، إذ يعدون أن مشروع القانون في صيغته المقدمة أخل بالمبادئ الجوهرية لاستقلال القضاء التي نص عليها الدستور بعد أن أفرغ المجلس من أهم صلاحياته.
ويواجه نظام التعليم في تونس أزمة عميقة ، بعد أن شهد هذا القطاع تطورات مهمة بعد الاستقلال وأسهم في تقدم البلاد، حيث كان أغلب التونسيين آنذاك 3ملايين يعانون من الأمية و قد تجاوز عددهم اليوم 11مليوناً، إلا أن نظام التعليم لم يتمكن من مواكبة عصر الثورات التكنولوجية المتلاحقة والمحافظة على نجاعته. وهو ما بات يتطلب إصلاحاً جذرياً في نظام التعليم، لكن لوبيات الفساد داخل وزارة التربية تقاوم بشدة.
وبعد أن عاشت تونس منذ أواسط سنة 2013و لغاية تشكيل الحكومة المنتخبة في بداية سنة 2015، على وقع المشاعر الودية بين الاتحاد العام التونسي للشغل ، واتحاد الصناعة والتجارة (الأعراف) بسبب دورهما المحمود في عبور ما تبقى من مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثر بأقل الخسائر الممكنة، هاهما الشريكان الاجتماعيان يدخلان مرحلة جديدة من الصراع، من جراء تضارب المصالح واختلاف الوضعيات، هذا إن لم نقل أنّها حتميّة تاريخية تدور في فلكها العلاقة بين رأس المال وقوّة العمل .ويشهد التاريخ التونسي بوضوح تفاوتاً كبيراً في ميزان القوة السياسي بين الطرفين الاجتماعيين الأبرز ولئن انحسر دور «الأعراف» في منطقة موالاة السلطات المتعاقبة لتيسير شؤون السيولة الاستثمارية والامتيازات الجبائية وأشياء أخرى فإنّ دور المنظمة العمّالية قد ارتقى في فترات معيّنة إلى مرتبة صنع الحدث السياسي إن في مرحلة «الشريك الفاعل» أو في مرحلة «الخصم القويّ» وهما مرحلتان قد تجاورتا بوضوح داخل إطار العلاقة بين السلطة وبين الاتحاد العام التونسي للشغل.
وفي ظل توجه الحكومة الجديد الليبرالي على الصعيد الاقتصادي، و عملها الحثيث من أجل خصخصة الدولة ، وبيع شركات القطاع العام ، والبنوك، وسواها، وغياب كلي لمنوال تنمية جديد قادر على أن يحقق تنمية مستدامة لتونس، من الصعب جداً أن يكون اتحاد العمال و اتحاد «الأعراف» شريكين متعاونين.
2-البديل الوطني الديمقراطي للخروج من الأزمة
لهذه الأسباب مجتمعة، تطرح اليوم في تونس تهيئة البديل الوطني والديمقراطي بعد خيبة الأمل الكبيرة التي يعيشها الشعب التونسي في هذا الطور التاريخي من عودة «الدستوريين» بقوة على صعيد الحزب الحاكم ، وبداية شرعنة عودة الدولة البولسية أيضاً، الأمر الذي يتطلب بلورة جبهة الوحدة الوطنية ، التي قوامها تقديم طرح متماسك للوحدة الوطنية الصادقة و القوية و الخالية من كل مقاصد سياسوية خفية ، تخدم مصلحة إنقاذ تونس من الأزمة الكبيرة التي تتخبط فيها، وانتشال الدولة التونسية من أوضاع التقسيم و التفكك و الضياع التي تعيشها، والانتقال بها إلى وضع يمكنها من توحيد طاقاتها و جهودها، وصهر هذه الطاقات و الجهود لتحقيق أهداف الثورة. وهذه العملية معقدة لأنها تفترض توحيد الطبقات و الفئات الاجتماعية ، من الطبقة المتوسطة، و طبقة الشغالين، والفلاحين، وطبقة الرأسماليين الوطنيين ،إضافة إلى النقابات العمالية، واتحادات الفلاحين، واتحاد «الأعراف» إذا قبل ببلورة منوال تنمية جديد يقطع مع نهج التبعية.
في هذا الطور من التأسيس و البناء لمؤسسات النظام الديمقراطي الجديد، تتمثل الوحدة الوطنية في إقامة تحالف جميع الطبقات و الفئات الاجتماعية، و القوى السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية و السياسية، من أجل العمل على أساس القواسم المشتركة لإنجاز المحاور الثلاثة الآتية:
1-تأسيس النظام الديمقراطي على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية والتسليم بأن الشعب مصدر السلطات ولاسيادة لفرد أو قلة عليه. فمفهوم السيادة يُحيلُ على معنى القدرة. فالدولة ذات السيادة هي الدولة القادرة على اتخاذ القرارات والأعمال المتصلة بمصيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي بحرية تامة أي انها «سلطة حقوقية متفوقة»، تجعل الدولة إطاراً وحيداً قادراً على امتلاك مشروعية استتباب الأمن والنظام بالداخل، وتملك حرية التعامل على صعيد العلاقات الخارجية. وينطبق المدلول نفسه على الشعب. و لايمكن للإصلاحات الديمقراطية أن تتقدم في تونس إلا بإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية بوصفها تعبيراً حقوقياً وسياسياً عن هوية المجتمع التونسي، والتي في ضوئها سيتم بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الثورة التي قوامها:سيادة القانون والحرية، وفصل السلطات، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن وتحقيق التداول السلمي للسلطة.
-2 بناء نموذج اقتصادي جديد للتنمية يعتمد على الإمكانيات و القدرات الذاتية للشعب التونسي ،و يسقط خيار التداين الخارجي لتعبئة الموارد المالية للدولة، لأن الدول الغربية تعاني من الأزمة الاقتصادية العالمية ( الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة) أما المؤسسات الدولية المانحة(صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ) التي تقدم القروض، فهي تفرض شروطها المجحفة فيما يتعلق بالخصخصة الرأسمالية المتوحشة ، وبتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الوطني الذي فتح مصراعيه أمام الاستثمار الأجنبي المباشر ومنحه الامتيازات المالية والجبائية على حساب المؤسسة الاقتصادية التونسية التي غرقت في منافسة غير عادلة وغير متكافئة في سوقها المحلية لتندثر بعد معاناة وتترك مكانها للاقتصاد الموازي الذي اتسع وعظم على حساب اقتصاد منظم.
ويقوم هذا النموذج الاقتصادي الجديد على اعتماد أنموذج اقتصاد السوق الاجتماعي ، الذي تؤدي فيه الدولة دوراً جوهرياً في رسم السياسات الاقتصادية والخيارات التنموية، وذلك عبر تأميم الثروات الطبيعة (النفط و الغاز و الفوسفاط و الحديد الخ) و كذلك القطاعات الاستراتيجية (الكهرباء و الماءن وسكك الحديد )،و القيام بإصلاح زراعي جذري ( تسوية الجوانب العقارية، و مراجعة أوضاع الأراضي الدولية، و إعادة هيكلتها بشكل تعاوني منتج)،ومراجعة خطة رسملة البنوك العمومية و إصلاح القطاع البنكي،و تكريس العدالة الجبائية الحقيقية (ضريبة على الثروة- النظام التقديري) من أجل تعبئة الموارد المالية الضرورية لملء خزينة الدولة ،و محاربة الاقتصاد الموازي و التهريب، و العمل على تحقيق الإصلاح الجذري في الجمارك ( الديوانة) باعتبارها وكراً للفساد الهيكلي في تونس،و إعادة هيكلة منظومة التجارة الداخلية و مسالك التوزيع لمحاربة الاحتكاروحماية المقدرة الشرائية للمواطن ، و الاستهلاك العام، و إعلان حرب حقيقية على الفاساد الكبير و الصغير من أجل توفير الموارد المالية للدولة، وغلق ملف رجال الأعمال الفاسدين عبر تحقيق تسوية بينهم و بين الدولة ، تقوم على تكليف كل رجل أعمال بإقامة مشروع تنموي في إحدى معتمديات الجمهورية ال(265) حسب العد التنازلي للفقر.
إن اتخاذ مثل هذه الخطوات الجذرية المتعلقة ببناء أنموذج جديد للتنمية ، يصب في عملية بناء اقتصاد السوق الاجتماعي التضامني ، الذي يجمع بين فعالية اقتصاد السوق وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية ، إذ يمكن من مشاركة كل شرائح المجتمع مشاركة فاعلة في التنمية. وللدولة دور مهم في الدورة الاقتصادية بصفتها مراقباً ومنظماً وراعياً من دون أن تحل محل القطاع الخاص في إدارة المؤسسات والمشاريع والشركات فذلك يحد من روح المبادرة، ويؤثر سلباً في الإنتاجية، ويؤدي إلى تقليص التنافسية، وزيادة الصرف المالي والتوظيف العشوائي، ويثقل الميزانية.
-3 لابد من أن تتصدى الطبقة المتوسطة باعتبارها تشكل العمود الفقري للمجتمع التونسي على وهنها، وكتلة الانتلجنسيا لقيادة المشروع الوطني الديمقراطي، وعلى مدى نجاحها في إعادة إنتاج وعي سياسي حديث ديمقراطي، وعلى مدى جسارتها، تستطيع أن تنجز عقدا اجتماعياً جديداً قوامه تعهد رجال الأعمال المنضوين في منظمة الأعراف بالخروج من دائرة الريبة و التردد، و المخاطرة بالاستثمار في الولايات الداخلية الفقيرة و المهمشة، و تحمل تبعات الإصلاح الجبائي ، و في المقابل التزام العمال بعدم تعطيل دورة الانتاج، وتشكيل كتلة تاريخية بالمعنى الغرامشي تتكون من الطبقة المتوسطة و العمال و الفلاحين والفئات المهمشة لمصلحة تحقيق تحالف ديمقراطي، ومن أجل تحقيق أهداف الثورة، في بناء الدولة الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية.