النسوية (Feminism) مفهوم إشكالي، أثار منذ ظهوره جدلاً واسعاً، بين مؤيد يتبنى مشروع النسوية دفاعاً عن المرأة وإنسانيتها. ورافضٍ يخشى انهيار النسق الأبوي القائم على ثنائيات، تضعها أدنى مستوى من الرجل. نسق ذكوري، يقصر دورها على الأمومة والإنجاب والأعمال المنزلية، الذي رسمته لها الطبيعة البيولوجية، وشددت عليه التعاليم الدينية، والقيم الاستبدادية.
إن الاعتراف بالمرأة يسلب الرجل قيمومته وسلطته الأبوية، تلك الأنثى المسخّرة لتلبية رغباته، والامتثال لأوامره. قدرها الطاعة والانقياد. لا يريد التنازل عن مركزيته وكبريائه ونرجسيته. فالاستبداد خيار وحيد لتهميشها، وضمان مصالحه. في مقابل هذا الموقف لم تترك المرأة، رغم القمع والإقصاء والتعسف، فرصة إلا ووظفتها لتأكيد ذاتها والمطالبة بحقوقها، مما يؤكد أصالة بعدها الإنساني، على الضد من الخطاب المثيولوجي والخرافي، الذي ينسبها لضلع الرجل، وأنها سيئة من سيئاته.
يشهد لذلك تصدي المرأة لمسؤولياتها، متى توفرت الأجواء المناسبة، ويشهد الكتاب الكريم لملكة سبأ، التي حكمتهم بأداء سياسي متوازن.
إنها رحله شاقة، ومكابدة طويلة، أشدها محنة الوعي الإقصائي، الذي كرّس دونيتها، ورفض الاعتراف بإنسانيتها، وتنكّر لحقوقها. لا فرق بين فيلسوف وغيره، ويكفي الانطباع السلبي الذي تبناه الفلاسفة وكبار المفكرين بدءا من سقراط وأفلاطون وأرسطو، مرورا بكبار مفكري عصر النهضة. ممن أسس لتبعية المرأة وكرّس دونيتها وسذاجتها.
ففي نظر أفلاطون، أنها خُلقت من نفس الرجل، وليس لها وجود مستقل. وكان أرسطو يطالب بوضع المرأة تحت وصاية الرجل، لتدارك عدم عقلانيتها، وهشاشة إرادتها وتدبيرها. كما يلاحظ الموقف القاسي من المرأة في فلسفة نيتشه ومختلف كتاباته، حتى وصفها بنصف البشرية الضعيف. وملخص الموقف الفلسفي من المرأة، هو رؤية سوداوية، متعسفة، تسلبها إنسانيتها، وتحملّها مسؤولية جميع موبقات الرجل. وقد بقيت منبوذة، مكروهة، يخجل الرجل البدوي من وجودها. ومازال الجدل محتدما حول أدوار المرأة في المجتمع، وثمة ارتياب في قدراتها العقلية، ومدى قدرتها على اتخاذ القرار المناسب. فلم تعد إشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة، إشكالية بسيطة، يمكن الاحتكام فيها للدين أو المجتمع بعد أن سجلت المرأة حضورا لافتاً، لا يمكن تجاهله، ونجاحا متصاعدا على جميع المستويات الفنية والعلمية، وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، تنافس ندها الوجودي / الرجل في جميع المجالات بجدارة، وقد تتفوق عليه.
فالمرأة نجحت في تكذيب فرضية الدور البيولوجي للمرأة، وبات واضحا دور الثقافة والقيم الاستبدادية في اختزال أدوار المرأة، وسلبها حقوقها بدواع لا عقلانية، سوى المنطق الذكوري السائد.
وبالتالي، فالنسوية ليست مجرد اتجاه تحرري ثوري، بل فلسفة قائمة على مبادئ إنسانية، تنطلق من وحدة النفس البشرية، ووحدة مشاعرها وطبيعتها التي تمتاز بها على غيرها من موجودات. لا فرق بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات. اتجاه إنساني يرفض ثقافة الاستبداد القائمة على مركزية الذكر ودونية المرأة. فهي تسعى إلى تشكيل وعي اجتماعي يعمل قطيعة تامة مع الموروث الأبوي، وتأسيس ثقافة، تضع الإنسان أولا. فأهداف النسوية أهداف سامية لولا دعوات التمركز حول الأنثى، ودعوات الجندر لاستغناء المرأة عنه والاكتفاء بوسائل الشذوذ الجنسي. النسوية تقصد تقديم المرأة الإنسان. فهي ثورة ضد المنطق الذي ارتهن وعيها لوعي الرجل.
ثمة حقيقة، أن مركز اشتغال النسوية كفلسفة وحركة اجتماعية هو خصوص المجتمع الغربي بكل تناقضاته، بحكم ظهورها في أمريكا وأوربا منذ القرن الثامن عشر. حيث راحت المرأة تطالب بحقوقها، وقد حققت إنجازات كبيرة في القرن العشرين وما تلاه، على صعيد السياسية، والمشاركات البرلمانية، والتعليم والإدارة، إضافة للمكاسب القانوية الواسعة التي تعاملت معها بصفة إنسان له حقوقه وعليه واجبات بعيدا عن تشظيات الهوية. وقد أثبتت كفاءتها بالإدراة والحكم والحياة العامة. بمعنى أدق أن وعي النسوية وعي جغرافي لم يأخذ بنظر الاعتبار باقي الشعوب والمجتمعات. فثمة اختلاف في طبيعة الإشكالية.
المرأة العربية والعرب – إسلامية، تنتمي لمجتمعات مغايرة، ذات ثقافة وأعراف وتقاليد مختلفة، وهذا يفرض علينا تحري إشكالية المرأة في ضوء معطياتنا الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وبالتالي لا يمكن استعارة مفاهيم النسوية الغربية، وتطبيقها على النسوية والعربية والعرب – إسلامية. وهذا لا يعني القطيعة التامة معها أبدا، بل ثمة مفاهيم إنسانية وحضارية، المرأة بحاجة ماسة لتمثّلها، من أجل وعي جديد يعترف بإنسانيتها وحقوقها دون مجافاة قيم الأخلاق والفضيلة. غير أن الخطوة الأولى يجب اكتشاف جذر الإشكالية، وما هي أسباب اضطهاد المرأة تاريخياً، هل الأمر يتعلق بالأعراف والتقاليد أو الشرائع والأديان فقط، أم أن المرأة أيضا مسؤولة عن مستقبلها؟ وما هي رهانات تحريرها؟
لا ريب أن التيارات النسوية قدمت تفسيرات مختلفة عن سبب اضطهاد المرأة ورهان تحريرها، فالليبرالية أول حركة نسوية، دعت للمساواة بين الجنسين في شتى مناحي الحياة. وراهنت على النظام الرأسمالي لمعاجلة التمايز بين النوع الاجتماعي. بينما ترى النسوية الشيوعية أن سبب اضطهاد المرأة هو تطور الملكية الخاصة وظهور مجتمع الطبقات، فالحل: إلغاء الملكية الخاصة، واضمحلال الطبقية. غير أن النسوية الاشتراكية راهنت على التغيير الجذري لنظامي الرأسمالي والسلطة الأبوية. وأما النسوية الوجودية، فقدمت تفسيرا أكثر نضجا حينما فسرت اضطهاد النساء على مفهوم الآخر، فالمرأة هي الآخر الذي يتقرر مصيره من قبل غيره. فيرتهن مصيرها لإرادته، وهذا هو سبب اضطهادها لدى سيمون دي بوفوار. بينما أرجعت النسوية الراديكالية اضطهاد المرأة إلى أنوثتها. وهناك آراء أخرى.
الملاحظ في كل هذا التفسيرات رغم صحة بعضها، وأهمية ما قُدم بهذا الخصوص، بيد أن جذر الإشكالية كما اعتقد يعود إلى وعي المرأة أولاً وقبل كل شيء، فتحريرها مرتهن لوعيها الوجودي. وعلى هذا الأساس قدمت في كتاب الفلسفة النسوية تعريفاً يأخذ بنظر الاعتبار جذر الإشكالية المتمثل في وعيها لذاتها وللآخر. فوعي المرأة رهان الفلسفة النسوية، منه ينطلق الباحث لمقاربة الإشكالية في إطار عقلاني – أخلاقي. عندي الفلسفة النسوية تعني: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة)، ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). فمشكلة التخلّف مشكلة وعي قبل كل شيء. والعلاقات غير المتوازنة بين الرجل والمرأة، سببها رثاثة الوعي المشرعَن. إن مناشئ الوعي النسوي في العالم العربي والإسلامي، تختلف عنها لدى شعوب أخرى. وهذا لا ينفي مساحات الاشتراك، فالنظام الأبوي كان سائدا في جميع أنحاء العالم، بيد أن المجتمعات الغربية تمردت ضد سلطة الكنيسة، وتحررت من تعاليهما التي كانت تضطهد المرأة. بينما يمثل الدين في مجتمعاتنا سلطة عليا. وبالفعل هناك تعاليم دينية تشرعن قيمومة وولاية الرجل على المرأة، وتدعوها للطاعة والانقياد. وتابعت نساء يستمتن دفاعا عن حق الرجل في التعدد وحقه في ضرب المرأة وتأديبها!!. فلا يمكن الرهان على هذا النمط من النساء إلا بوعي مضاد تعود معه المرأة لرشدها. وهذا مجرد مثال. والدليل على دور الوعي في النهضة النسوية أن التاريخ لم يسجل لنا انتفاضات نسوية أو مواجهات دموية لانتزاع حقوقهن، وحقهن في السلطة. إلا أخبارا محدودة، وليست ظاهرة اجتماعية يمكن رصدها ودراستها. فنضوج الوعي هو الخطوة الأولى نحو مجتمع عادل، متوازن، يراعي حقوق الإنسان، ويعتمد العدل والإحسان والمساواة العادلة.
إضافة للوعي هناك نرجسية الرجال، ومكابراتهم، وهو الأمر الثاني الذي ينبغي مقاربته لفهم إشكالية المرأة، بشكل عام. وما يؤكد الدوافع النرجسية، التي تعني الغطرسة والتكبّر والتعالي، أنهما معا، يكافحان من أجل ديمومة الحياة، واستمرار النوع الإنساني. ولا يمكن لأحدهما التخلي عن الآخر، فضلا عن الاستغناء عنه. وكما تعامل المرأة الرجل بحنان وحب، وتفتخر بقوته وشخصيته، كذلك تفعل الروح الإنسانية في أعماق الرجل، رغم مكابرته وعدم اعترافه، لكنها حقيقة بشرية، فهو يحنو عليها ويحبها ويتفقدها، كلما اقتربت من روحه، ومن هذا المنطلق يبرر سلطويته، من باب رعايتها لا لأنها في صراع طبقي معها، ولا لأن الجنس هو سبب التوترات النفسية، ولا العوامل الاقتصادية، رغم أن جميعها يؤثر على المزاج العام لكليهما. لكن لا يتخلى أحدهما عن الآخر، وتجد الرجل يستميت في الدفاع عن أهله وزوجته. المشكلة حينما تشكل المرأة تحديا لذكوريته ونرجسيته ومركزيته وغروره من خلال ضعفه أمام ارتهانه لها. وهو ارتهان إنساني تتحكم به غرائزه البشرية، وكمالها وحكمتها وهي تمارس نشاطها أمام عينيه، وتارة يأخذ بكلامها ونصائحها دون الاعتراف لها بذلك. وهنا يأتي دور الأخلاق والدين، عندما يمنحان التضحية من خلال الأخلاق الحميدة معنى، تلين به عريكته، وتحد من سطوته. وهذ سر اختلاف تعامل الرجل مع النساء. وعليه فحب الذات تجلٍ فوقي لهذه النرجسية الغائرة في اللاشعور، وتفرضها قوته الجسدية وغروره وجشعه. وما ذكر من عوامل هي الأخرى تجليات لحب الذات. وتبقى النرجسية سببا أعمق، لذا يدفعه “قلق النرجسية” لاختباره في كل مرة يقع احتكاك بينه وبين المرأة، بل ويتصرف بدافع من هذا القلق عندما يستبيح عددا أكبر من النساء، أو يضطهدهن ويبخس أجورهن. فالمرأة أمام الرجل لا شعوريا تحدٍ مرير لنرجسيته وغطرسته. لا ينجو من ذلك حتى رجل المجتمعات الراقية، حينما تُجرح نرجسيته بتحديها من خلال قوة حضورها، التي تشعره بالتضاؤل، فيثأر لنفسه بجرح مشاعرها. فشخصية الرجل مع المرأة مرتهن لنرجسيته التي هي جزء مقوّم لشخصيته. وقد فرض لنفسه حق الوصاية والتملك والتحكم بها. فكما تشكل المرأة تحدٍ لنرجسيته هي أيضا جزءا من ملكيته، فيستشيط غضبا لمنازعته وتحديه وخيانته. ويقبل على مضض آراءها، عندما يجدها صائبة، ولا يعترف لها بفضل خوفا على تصدع نرجسيته، التي تستمد حقيقتها من قوته الجسدية وغروره وقدرته على اقتحام الطبيعة. في حين تعجز المرأة بحكم وظيفتها وتكوينها الأنثوي.
لم تعُد النسوية قضية هامشية، بل قضية مركزية، وكفاح مرير في جميع أنحاء العالم، رغم أن تاريخ الحركة النسوية بات أوضح بفعل الاعلام الرقمي، لكن أتمنى أن تحظى النسوية باهتمام الأكاديميات والمعاهد العلمية في دولنا العربية والإسلامية باهتمام أكبر، وأن تبذل وسائل الإعلام والاتصالات جهدا أوسع لتثقيف الشعوب بقضية المرأة وحقوقها ومكانتها وإنسانيتها، فلا تسمع سوى انتقادات للحركة النسوية، دليل ضعف الثقافة النسوية، وأحد أسباب هذا الضعف، قلة المطبوعات والبرامج. وأما على صعيد الكتب فثمة شح في صدورها. بيد أنها كتب مهمة.
***
ماجد الغرباوي – كاتب وباحث
20/2/2024
………………….
* الورقة، تقديم لكتاب الدكتورة آمال طرزان مصطفى، بعنوان: (قضايا الأخلاق التطبيقية عند بعض الحركات النسوية). وهو أطروحة دكتوراه، ناقشتها الباحثة سنة 2023م في جامعة سوهاج / مصر.