الدّين والتحوّلات الثّقافية في الغرب، أيّة علاقة؟

 

ملخّص:

تحاول هذه الدراسة مقاربة التاريخ السياسي للدين الذي تنا وله مارسيل غوشيه بعد تلك القراءات الكلاسيكية الرائدة لكلّ من دوركهايم وماكس ويبر ورودولوف أوتو… التي كانت سائدة. اقترح مارسيل غوشيه منظورا مغايرا حيث تناول الدين في بداياته الأولى النقية واعتبره البداية. كما اعتبر أن المسيحية لعبت دورا مهمّا في جذور التطور الغربي. ميز مارسيل غوشيه مستقبل المجتمعات المعاصرة من تطوير التقنيات إلى ترسيخ الإجراءات الديمقراطية بوصفها حركة نحو مجتمع خارج الدين. ولا يمكن تفسير العالم اليوم إلاّ من خلال الخروج من الدين، وأن خصوصيته تتمثل في نزع السحر عن العالم. فمن الدين الراديكالي في البداية إلى عودة الديني إلى الفضاء العمومي، حيث انغلقت مرحلة عظيمة يمكننا أن نفهمها الآن كتاريخ. تبنى مارسيل غوشيه المنظور الفيبيري لكنّه أسماه بـــــــ “تعب عهد اللامرئي” كما أضاف فكرة أنّه ستكون هناك ثورة أنثروبولوجية حقيقية يعيد الناس من خلالها بطريقة ما بناء إقامتهم على الأرض بعيدا عن التبعية الإلهية.

الكلمات المفاتيح: الدين ــــ للديمقراطية ـــــ التبعيّة ـــ نزع السّحر عن العالم ــــــــ المتعالي.

Abstract:

This article is an attempt to approach political history of religion of Macel Gauchet which comes as an alternative to the classical Reading of Durkheim, Max Weber and Radolf Otto … which has prevailed for a long time. Marcel Gauchet has therefore suggested another view, different from the previous studies, as he goes back to the pure origin of religion. Al though he admits that Christianity has participated in the development of western societies, he believes that modern societies’ development and democracy is a movement which has nothing to do with religion. In his approach, Marcel Gauchet has adopted Feber’s view and considers that period as” the period of the unseen/abstract ” and added that there will be a real anthropological revolution based on a complete divorce from religious creeds.

Key-words: Religion – Democracy – Heteronomy – Disenchantment of The Word – Transcendent.


1- مقدمة:

يشكل كتاب “نزع السحر عن العالم: تاريخ سياسي للدين” لمارسيل غوشيه، بلا شك، عملاً مهما. قد يكون ذلك مرتبطا بمجال تخصصه، ومع ذلك، فقد عرف انتشاراً واسعاً، واعتبر أيضا أحد الأعمال الرئيسة في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين. هذا ما تأكّد منذ صدوره وحتى اليوم، فلا يزال بالإمكان الاعتماد عليه. ومهما كانت الظروف، فهو يفرضُ على أولئك الذين عانوا من صدمة قراءته، أن يفكروا في أهميته التي فاقت أكثر من ثلاثين سنة. ما الذي قاله ويقوله لنا مارسيل غوشيه عن الدين الذي لم يسبق الحديث عنه من قبل؟ إلى أي مدى يجدّد التاريخ السياسي للدين فهمنا للظاهرة الدينية؟

يساعدنا هذين السؤالين على مقاربة إسهام مارسيل غوشيه بدقة لإثبات ما يمكن أن نسميه نظرية عامّة للدين. وهذا ما سيضعنا بالضرورة في مواجهة مشروعه، ليس فقط مع المقاربات المتميزة للدين التي ميزت تاريخ الفلسفة الحديثة (كانط، هيجل، فيورباخ، ماركس، شلايرماخر، نيتشه، ترويلتش، إلخ)، ولكن أيضا مع التفسيرات المطروحة منذ قرن من الزمن على الأقل على العلوم الإنسانية والاجتماعية (دوركهايم، ڤيبر، إلخ). بالمقارنة مع هذه المهمة التي تتمثّل في إثارة بعض الأسئلة المتعلقة بنقد كتاب نزع السحر عن العالم. لقد جمعت هذه الأسئلة تحت أربعة موضوعات (Thèmes)أساس:

 1) تعريف الدين الحقيقي، مع تقليل/تقليص الغيرية الدينيّة الّتي يبدو أن هذا التعريف يعنيها.

2) الدولة باعتبارها “محولا مقدسا” ومحركا للتاريخ.

 3) الدور الحاسم والمتناقض الذي لعبته المسيحيّة في سيرورة الخروج من الدين.

 4) فكرة وجود متعالٍ في التاريخ.

2- الدين الحق واختزال الغيرية الدينية:

تكمن الصعوبة الأولى للنظرية الغوشوية للدين في تعريف الدين ذاته الذي ينبني عليه. لنتذكر أولاً، حسب غوشيه، أن الدين الحقيقي، بعيدًا عن كونه تتويجاً لتاريخ طويل للدين، فهو على العكس من ذلك، يوجد في بداية هذا التاريخ داخل تلك المجتمعات القديمة أو البدائية التي تتميز أساسًا بـ «التجريد الراديكالي للبشر بشأن ما يحدد وجودهم»[1] وبــ «الاستمرارية غير الملموسة للنظام الذي يجمعهم»[2]. باختصار، يقوم الدين الحقيقي على رفض مزدوج: رفض التاريخ ورفض الدولة؛ أي السلطة. وبالتالي، فإنّ المجتمعات الدينية الأصيلة هي الوحيدة فقط التي تعود بالفعل إلى “ماضٍ خالص”، وإلى “الأسباب التأسيسية” للكائن-الجماعة، وذلك بهدف غير واعٍ والمتمثل في تحييد الصراع ومنع الانقسام الاجتماعي.

يطرح هذا التعريف للدين في المقام الأول مشكلة ابستيمولوجية، من حيث إنّه يستخدم -حتى لو كان لإعادة تفسيره فقط – كلمة من أصل لاتيني، وهي كلمة “الدين”، لتحديد ما، عكس مفهوم المقدس، لا يكاد يكون له أي معنى مكافئ دلالي في المجتمعات البدائية. لم يكن غوشيه أوّل من استخدم على نطاق واسع كلمة “دين”. لم يبق أمام المرء إلاّ أن يتساءل، مع جان غريش، إذا ما كان “المسار غير العادي للكلمة اللاتينية” لم يؤد إلى “نزعة عرقية”؛ ضارة بشكل خاص “والذي يتمثل في إدخال مفهوم الدين في «قالب كلمة “الدين”»[3]. سوف يدافع غوشيه عن نفسه بقوة، فقد أدان بشدة ودون مواربة التمركز العرقي لمعظم النظريات الحديثة للدين، بما في ذلك العلوم الاجتماعية المعاصرة [4]. ومع ذلك، ليس من المؤكد أن الشمولية الابستيمولوجية التي تبناها غوشيه في مفهومه عن الدين لا تندرج ضمن هذا الشكل الأكثر خبثًا ومكراً من المركزية العرقيّة التي يشك فيها بول ڤالاديير، فالنزعة العرقية «للعقلاني الذي فهم كل شيء باستثناء افتراضاته الخاصة وتلك التي ينقلها في تحليله الاجتماعي»[5]. يعود الفضل وفقًا لڤالاديير إلى المجتمعات البدائية لنجاحها في شلّ احتمالاتها في أن تصبح حديثة، فلا يُظهر غوشيه نفسه أقل عرقيا في حالات أخرى من الإثنلوجيين الذين رأوا في المجتمعات البدائية تشكلات مسبقة للمجتمعات الحديثة، لأنّ، في كلتا الحالتين «يتمّ الحكم عليها دائما قياسا بالحداثة»[6]. لكن أليست هذه النزعة العرقية حتميّة في نهاية المطاف، كما أدركت ذلك علوم الدين؟ في الواقع، يعلن هؤلاء اليوم في أغلب الأحيان عن النسبية الثقافية التي تجعل، إن لم تكن عفا عليها الزمن، على الأقل إشكالية عالمية لمفهوم الدين. ودون إنكار هذه العالمية، تم تصميمها في أفق البحث، باعتبارها المهلة الزمنية النهائيّة. باستثناء ذلك مع غوشيه – وهذا ما جعله شخصية مثيرة للجدل في برامجه النظرية- تم طرح عالميّة مفهوم الدين في نقطة بداية البحث، باعتباره بداية المصطلح. جعلت هذه الشمولية المعرفية لمفهوم الدين، غوشيه يدّعي اكتشاف النموذج في المجتمعات البريّة المهيكلة أساسا عبر الدين. وهذا ما دفع ڤلاديير إلى التساؤل عمّا إذا كان غوشيه «لا يلازمه بالأحرى التصور الدوركهايمي الذي وفقاً له يكون الدين أطر المجتمع، أو ما يسميه غوشيه الدين الأول«[7].

سيرد غوشيه أنّه خلافا للنزعة الطوطمية التي رأى فيها دوركهايم أبسط أشكال الحياة الدينية، فإن الدين الأول عنده يتوافق مع شكله الخالص والأكثر كمالا. هذا لم يمنعه من البقاء مخلصا لاثنين من المسلمات الدوركهايمية، القائلة بأن الرغبة في إمكانية فهم ما هو مشترك بين جميع الأديان – جوهر الدين –انطلاقا من تحليل تجربة دينية معينة، والثانية التي بموجبها يوجد تطور للدين، وتحوّل له من أصل واحد. إن تصور غوشيه لهذا التطور التاريخي للدين، ليس باعتباره تطوراً بمعنى التقدم أو تحولا من البسيط إلى المعقد، ولكن بالأحرى باعتباره موضع تساؤل طويل للدين الأول، ومع ذلك، فإنّ الفكرة هي فكرة التاريخ السليم فلسفيا للدين. لابد من لفت الانتباه إلى عقلانية غوشيه، وهي عقلانية تدّعي أنّها كذلك تماماً. هنا نتوقف على سبيل المثال عند رد غوشيه على بول ڨلاديير قائلا: «هل أحتاج إلى ضمان أنّني لا أنوي إنكار مصلحة وشرعية التحقيقات التاريخيّة الدقيقة والمفصّلة تجريبياً قدر الإمكان؟ أنا أؤمن فقط بوجود بحث آخر محتمل، وفقا للمسلمات الفلسفية التي تنتمي بالفعل إلى تقليد عقلاني لا أخجل من الاشتراك فيه»[8].

 بعبارة صريحة: رغم كونه مثيراً للإعجاب، ألا تجد النظرية الغوشوية للدين نفسها معرضة للخطر منذ البداية بسبب العقلانية التي سيطرت عليها؟ ما الذي حدث، في المقام الأول، للغيرية من منظور غوشيه، حيث إن الآخر الديني ليس سوى نتاج هذا المكر اللاواعي الذي نجح به الناس على مدى أطول فترة في تاريخهم من عدم العيش في عنصر التاريخ، وعدم تحمل أنفسهم؟ إنه المكر اللاواعي، لأن «اختيار امتلاك الذات عبر الموافقة على نزع ملكيته»[9]، فيما يتشكّل، حسب غوشيه، “الدين في جوهره”، يقابل «فعلا غير واعٍ، حيث يتطلب تنفيذه أن يُفهم من أجل توضيح لغز شكل الموضوع دون موضوع الجماعة»[10].

 مهما كان التوضيح المأمول، فإن السرّ المعني، بمجرد الكشف عنه أو الاعتراف به على هذا النحو، لن يعني شيئا أقل من نهاية الآخر الديني في المجتمعات الغربية ذات التقاليد الغربية. ومع ذلك، لن تكون هذه أقل قابلية للحياة بسبب غيريتها المحايثة، المتأصلة في سيرورتها، وحيث إن الغيرية الدينية لم تكن أبدا في الواقع سوى انعكاس للمتعالي. لقد دافع مارسيل غوشيه، من خلال التأكيد على تفكك الغيرية الدينية، عن الرغبة في القضاء على الغيرية. يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الغيرية الوظيفية، ذاتية المرجعية وذاتية التنظيم، والتي سيكون مقرها الوعي أو «اللاوعي الدماغي»[11]، تشكل غيرية تستحق هذا الاسم. هذه هي القضية المركزية للنقد الذي وجهه بول ڨلاديير إلى مارسيل غوشيه على صفحات مجلة الجدل “Le débat” في سنة 1984: «بعد قراءة انتقاداتك للشمولية، كنت أنتظر منك أن تأخذ على محمل الجد الغيرية، بما في ذلك شكلها الديني، على الأقل من أجل تأسيس مكانها والإشارة إلى ملاءمتها، حتى كشكل فارغ. والحال أنك أعدت إنتاج مسلمات فلسفة فيورباخ لإعادة التملك، وبعض من الهيغيلية من أجل قراءة خطية […] لآلية التاريخ. ومع ذلك، فأنت تعلم إلى أين تقود هذه الفلسفة»[12]. أجاب غوشيه بشكل واضح ودون سخرية: «لا أرى […] أين هي “شفافية” مجتمع أعتبره ممزقا بسبب تضارب الآراء والمصالح والعمل عبر التمييز الصريح بين السياسي واللاسياسي. كيف أنّه عندما لم يعد عهد الغيرية (الدينية)، فإنّه مع ذلك ليس عهد الهوية، والدناءة و”التجانس” نفسه، و “وجود الذات”، ثم الذئاب الأخرى الشريرة التي عانى الأطفال الخوف منها في تفكير الستينيات»[13].

لكن هل من المؤكد تماما أن “التمييز بين السياسي واللاسياسي يمكن أن يحلّ في حد ذاته محل الغيرية أو التعالي في مجتمع ما؟ يبدو أنّ غوشيه نفسه لم يعد مقتنعا تماما بهذا، أو بالأحرى أنّه بينما استمر في الرهان نظريا على التمييز لتأسيس مكان للغيرية، فإن الأحداث، إذا جاز التعبير، أجبرته على إدراك هشاشة أو عدم كفاية المعيار الخاص. هذا، على الأقل، هو الاستنتاج الذي يبدو أنه مستمد من كتابه “الدين في الديمقراطية” الذي نشره سنة 1998، فقد أشار غوشيه، دون قلق، إلى أنّه «وبموازاة تهميش الكنائس، أصبحت العلمانية شيئا فشيئا حدثا بلا مبادئ»[14]. لكن ما هي العلمانية دون مبادئ، إن لم تكن تلك الخاصة بمجتمع لم يعد يتشكل بالتحديد من خلال التمايز الواضح بين السياسي واللاسياسي؟ ولماذا لم يكن كذلك، وإلا فالعلمانية نفسها انتصرت أخيرا على الآخر من الدين؛ لأن الإنسان، بعبارة أخرى، كان سيخرج بالتأكيد «من القصور الذي يتعين بوصفه مسؤولا عنه»[15]. وهكذا، حدث كلّ شيء كما لو أنّ انتصار العلمانية، الذي لا يمكن لمارسيل غوشيه إلّا أن يحتفل به، قد أدى إلى عواقب لا يمكن للمواطن والمفكر السياسي مارسيل غوشيه إلاّ أنّ يأسف لها، أو، بشكل أعمق، كما لو أن «الولاء التام [غوشيه] لإيمان بنيامين كونستانت[16] بإمكانية تكوين مجتمع مدني ذاتي يتعارض مع التزام غوشيه النظري الأساس بعدم تطابق أي مجتمع ومصدر مؤسسته. إن تشكيل المجتمع المدني أمر مستحيل، لأنّ أيّ مجتمع يدين بمعناه للمؤسسة الرمزية، كما ينبغي أن يظل المصدر الرمزي للمعنى خارج المجتمع نفسه»[17]. كيف فكّك غوشيه إذن هذا الصراع؟ من خلال جعل الخارجانية أو الغيرية هي الرهان والتحدي المستمر للعلمانية، بمعنى أنّ أيّ مجتمع ما بعد ديني مدعو للحكم على نفسه انطلاقا من مزاياه الخاصة. ولكنّ كيف سيحكم عليه، على وجه التحديد، ومن أيّ مكان رمزي ومن أي معيار (معايير) أو من أي مبدأ معياري؟ أين سيجد الأفراد المشتتون في المجتمع المدني الآن مبدأ الخارجانية أو الغيرية القادرة على توحيدهم وإعطاء معنى لوجودهم معا؟ وهذا ما أشار إليه موين في النص التالي: «كما يوضح الإصدار الأخير لمقالاته في مجلة “الجدل” للسنوات العشرين الماضية” [أي الديمقراطية ضد نفسها]، فقد توصل غوشيه إلى الاعتقاد بأنه إذا اعتبرت الديمقراطية أفضل نظام حتى الآن، فإنّها مهددة بمفارقات مزعجة، لا سيما خطر السلبية الذي حذر منه كونستانت. يصاحب انتصار الأفراد الأحرار خطر دائم يتمثل في أن هؤلاء الأفراد ينسون أنّ تشتتهم يفترض مسبقا ارتباطهم وأن خلق ذواتهم الخاصة يتطلب جماعتهم العامة»[18]. كما أضاف موين بعد ذلك بقليل أن استنتاج غوشيه للرشد/للنضج – كما هو مبين في المقالات الأخيرة التي شكّلت كتابه الديمقراطية ضد نفسها– تبين أنه أكثر تشاؤما.  يعلن غوشيه، أنّ «الوعود الليبرالية والديمقراطية تؤدي على ما يبدو إلى أشكال من السلب أسوء من الخضوع القديم»[19]. اعتبر موين هذا الاستنتاج مثيرا للسخرية، لدرجة أنّه على وجه التحديد من أجل وضع حدّ لـــ “الخضوع القديم” الذي حوله مارسيل غوشيه إلى النزعة الليبرالية، بعد أن أصبح على دراية/ مدركا لمآزق فوضويته. وهذا ما توصل إليه صمويل موين قائلا: «لا يسع المرء إلا أن يأمل في كون غوشيه قد توصل إلى هذا الاستنتاج المتشائم نتيجة المسار الذي اتبعه للوصول إلى ذلك»[20].  فما هو، إذن، المسار الذي قاد غوشيه إلى مثل هذه الاستنتاج المتشائم؟ إن المعرفة، بيأس منعزل، بقدر ما يمكن أن تقود المرء، قد “لا تضعنا في شراكة مع الآخر حقا”، فالمعرفة «عبر الماهية هي علاقة مع ما هو معادل ومشمول، مع ذلك الذي أرجأ الغيرية، ومع ذلك الذي أضحى محايثا»[21]. لم يبتعد مارسيل غوشيه أبدا عن المسار الصحيح للمعرفة، وترك جانبا ما أسماه ليفيناس “الاجتماعية” في معناها الأخلاقي، باعتبار التجربة غير الشاملة للمعرفة. نستحضر هنا نصا من كتابه “نزع السحر عن العالم. تاريخ سياسي للدين” حيث يقول فيه: «إن علاقة الناس قابلة للإدراك وممكنة بدون الآلهة»[22]، ومن هنا تساءل بول ڨلاديير مرة ثانية: «هل هذا بدون إتيقا؟ من خلال الإتيقا، ألا يكون للدين دور ممكن آخر بخلاف الدور الذي ينسبه إليه كتابه [غوشيه]؟»[23]  هل يجب الاستغراب من عدم تلقي ڨلاديير إجابة على السؤال الذي وجهه شفهيا إلى مارسيل غوشيه سنة 1986؟ ألا يخون هذا الصمت حدود المقاربة العقلانية الليبرالية للدين، والتي من أجلها لا يمكن للديني بعد الدين أن يقيم إلا على هامش المجتمع، كتجربة فردية للآخر في ذاته ولذاته، وبمعنى ما «أيتشكل بغرابة؟»[24]. بالنسبة إلى غوشيه، يبدو أنه لا توجد هناك علاقة أخرى ممكنة للدين بالاجتماعي أكثر من الهيكلي والشمولي والاغترابي، فبمجرد أن تتوقف أية علاقة عن لعب دورها السياسي، وبمجرد ظهور الدولة الليبرالية، لم يعد الدين أساس الرابطة الاجتماعية، وسيتقلص بالضرورة ليتحول إلى مجرد شأن خاص، وفقا للمكانة التي أعطتها الفردانية الليبرالية للدين منذ هوبز. باختصار، وكما أشار ڨلاديير «عندما تفقد المسيحية قبضتها/نفوذها الاجتماعية والسياسية، لا يمكنها إلا أن تتراجع، حسب غوشيه، إلى الذاتية الفردية دون أي مهام إتيقية»[25].

كما لاحظ فرناند دومون، فإنّ صمت غوشيه بشأن الإتيقا، ليس من باب التنديد بها، بل لمواصلة التساؤل حول مسألة الخروج من الدين. إذا كان صحيحا أن الدين «سلبي للحالة الإنسانية»[26]، فإن السؤال برمته هو ما إذا كان بإمكان الجماعة وكذلك الفرد تجنب هذه السلبية التي سمحت لهم، تحت اسم الدين، «بتأويل محايثتهم عن طريق انحرافها عن عالم آخر»[27]. يبدو من وجهة نظر غوشيه أنه ليس هناك خيارا، وأنه ينبغي بشكل جماعي إن لم يكن فرديا، أن يتعلم الإنسان الحداد على هذه السلبية الدينية، وهذا الحداد هو بطريقة ما فدية لـــ«أصالة عالمنا مقارنة بذلك الذي سبقه»[28]. ومع ذلك، هناك احتمال آخر يوضحه دومون باقتباس من ڨلاديير والذي قد يتمثل في تحويل السلبية الدينية بحرية إلى إيجابية إتيقية. ومع ذلك، فمن المدهش أن فرناند دومون – الذي كان مع ذلك مؤمنا – يرفض الاختيار بين هذين الاحتمالين، وبين “هاتين الشهادتين”: «لن أحكم لصالح أي منهما؛ لأنّه من المهمّ الاقتناع بأن مهمة الحفاظ على الانفتاح على التعالي والدين هي مهّمة جدليّة. لا تتسع الحجج مع هذا الجدلي إلا بالبقاء أقرب من المتطلبات التي توحي بها الثقافة»[29]. أليس المشروع مثيراً للجدل؟ عندما لم يعد التعالي، في مجتمع علماني معطى، ينبغي أن يصبح التحدي رهانا في معركة من أجل خوضها «في التاريخ نفسه، من خلال تأكيد المجتمعات وأصالة ممارساتها»[30].

تشير ملاحظات فرناند دومون هذه إلى تحول في النقاش حول الدين الحقيقي من الماضي إلى الحاضر، ومن الابستمولوجيا إلى الإتيقا الاجتماعية أو المجتمعية. قد يكون هذا الانتقال المزدوج للموضوع الذي له مصلحة الرجوع مرة أخرى إلى ليڨناس، حول “الاجتماعية”، بعيداً عن الخلط مع الدين بالمعنى الغوشوي. ليس لهذا اللغز محتوى ابستيمولوجي أو معرفي. لا يتعلق الأمر بـشكل الموضوع دون موضوع للجماعة العزيزة على غوشيه، «كما لو كان الزمن، كما يقول ليڨناس مرة أخرى، التعالي هو، بامتياز، الانفتاح على الغير وعلى الآخر»[31]؛ كما لو كان الزمن، إذا جاز التعبير، هو الجوهر اللامرئي للجماعة. ومع ذلك، فهو جوهر هش يعتمد واقعها على الاعتقاد بأن الناس يضيفون إليها من خلال ممارساتهم الاجتماعية وإخلاصهم لـ «الأسباب المشتركة»[32]. لكن قد يعتقد المرء أن هذا الاعتقاد سيظل “دينيا” للغاية، ويتميز أيضا بالتبعية بالنسبة لغوشيه.

3- الدولة والدين والتاريخ:

ستكون نشأة الدولة، حسب غوشيه، التي تمتد إلى أكثر من خمسة آلاف عام هي الأكثر حسماً، تلك «التي قسمت التاريخ إلى قسمين وجلبت المجتمعات الإنسانية إلى حقبة جديد تماماً […] على وجه التحديد في التاريخ»[33]. مع الدولة، فإن “الآخر الديني”، الذي كان يُنظر إليه سابقا على أنّه سابق للمجتمع وخارجه، سيخترق تدريجياً المجال الإنساني. وأن “الانقطاع الديني” – الذي كان في المجتمعات البدائية هدفاً (لاشعوريا) لمنع ظهور الانقسام داخل المجتمع بانفصال الناس إلى الأبد عن أصولهم – سينتقل إلى داخل المجتمع نفسه، وينقسم الناس فيما بينهم. فإنّ ما خلقته الدولة هو سلطة القلة باسم الآلهة، وكذلك التراتبية والتقسيم الاجتماعي اللذان لم يكونا موجودين على هذا النحو في المجتمعات ما قبل الدولة، فرغم الاختلافات في الحظوة، فقد سادت المساواة السياسية المطلقة. وربما كان الأمر الأكثر جوهرية هو أن ما بدأ مع الدولة ومع هذا الانقسام للسلطة داخل المجتمع نفسه، هي تلك العملية البطيئة ولكنها سيرورة حضورية للرابطة الاجتماعية واستقلاليتها التي لا تقاوم.

تدين هذه الأطروحة حول الدولة لأعمال الأنثروبولوجي بيير كلاستر خاصة كتابه المنشور في عام 1974، المجتمع ضد الدولة [34]، الّذي لم يخف مارسيل غوشيه إعجابه به أبداً [35]. لكن ما لم يذكره هو أنه قبل كلاستر نفسه، طرح أنثروبولوجي آخر، وليس أقله أهمية، أطروحة مشابهة، وهو كلود ليڨي شتراوس. في الواقع، ما هو “المجتمع ضد دولة” لكلاستر وكذلك غوشيه، إن لم يكن المجتمع البدائي كما وصفه كلود ليڨي شتراوس في مقابلاته مع شاربونييه[36]، أي باعتباره “مجتمعا باردا”؟ على عكس المجتمعات الدافئة، فإن “المجتمعات التاريخية”، التي «استوعبت التغيير لجعله محركًا لتطورها»[37]، أكد ليفي – شتراوس أن المجتمعات البدائية «عملت بدرجة حرارة صفرية»[38]، و «أحدثت سائلا تاريخيا تسعى جاهدة للبقاء فيه منغلقة»[39]، لأنها «ليست لديها هدفاً آخر، -كما أضاف-، سوى الاستمرار في وجودها، والمواصلة على ما أسس أسلافها»[40]. لكن لماذا وضعت هذه المجتمعات لنفسها مثل هذا الهدف؟ هنا مرة أخرى، تجد إجابة ليڨي شتراوس وهي التي استعارها غوشيه من بيير كلاستر: إنها «تسعى، بوعي أو بدون وعي، لتجنب حدوث هذا الانقسام بين أعضائها، الذي سمح أو شجع ظهور الحضارة الغربية»[41]. ما يثير الانتباه هي عبارة “بوعي أو بدون وعي”، التي تعكس الفكرة الغالية على غوشيه عن “الاختيار اللاواعي” الذي يهدف إلى تحييد الانقسام الاجتماعي. أما بالنسبة للانتقال من المجتمعات الباردة إلى الدافئة، فقد وضعها ليڨي شتراوس في نفس الوقت الذي شهد فيه غوشيه ولادة الدولة والتاريخ، أي «في حوالي 3000 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين ومصر»[42]. بلا شك يصرّ ليڨي شتراوس أكثر على حقيقة أن المقطع المعني تزامن مع “اختراع الكتابة”؛ لكن تبين أن هذا الاختلاف في النهاية غير مهمّ بمقياس، بالنسبة إليه كما هو الحال بالنسبة إلى غوشيه، أن اختراع الكتابة يهدف إلى أن يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بـ «تكوين المجتمعات التراتبية، أي المجتمعات التي تتكون من سادة وعبيد»[43]، لهذا كانت «الاستخدامات الأولى للكتابة هي تلك السلطة»[44]. وبالتالي، يمكن للمرء أن يتابع، مع قدر كبير من الاقتباسات، وأن يواصل الموازاة مع ليڨي شتراوس. ما يثير الدهشة مرة أخرى، هو أنّه لا يوجد في أيّ مكان في كتاب “نزع السحر عن العالم” أدنى إشارة إلى الحدس الأنثروبولوجي والسياسي الواضح والقوي لـليڨي- شتراوس، الذي ليس من غير المعقول الاعتقاد بأن الأنثروبولوجي بيير كلاستر قد تناولها وطورها. هل يمكن أن يكون غوشيه لم يطلع على المقابلات مع ليڨي-شتراوس التي أجراها شاربونييه؟

قدم غوشيه نفسه الإجابة عن هذا السؤال، في مقابلاته مع أزوڨي وبيرون، عندما أدرك في تمرير الشخصية “الثاقبة بشكل ملحوظ” والثاقبة لبعض ملاحظات ليڨي-شتراوس التي «تجاوزت البنية لإشراك المحتوى»[45]، وقبل كل شيء تلك الموجودة في” المجتمعات الباردة والساخنة “، حيث كان أب الأنثروبولوجيا البنيوية قد تطرق إلى «نوع الآليات التي تجعل أن هناك ميلا سوسيولوجيا للتغيير أو كبح التغيير»[46].

إلا أن كل هذا يجعل مسألة علاقة غوشيه بليڨي شتراوس أكثر إشكالية: ما الذي يدين به الأول حقا للثاني، وهذا ليس فقط في مستوى الأفكار، ولكن أيضا في مستوى المنهج ربما؟ نلاحظ هنا، النقطة المظلمة للانتماء الفكري لمارسيل غوشيه. فاسم ليڨي شتراوس غائب عمليا عن كتاب “نزع السحر عن العالم”. لقد اعترف غوشيه بقوة ليڨي شتراوس حينما ذكره في العرض التقديمي من كتابه هذا، حيث اعتبر أن «منهج ليڨي شتراوس يقدم توضيحا مدهشا على ذلك: من ناحية، فإن تحديث القواعد العمليّة ببراعة يفرض الاعتراف في الفكر الأسطوري بفكرة الممارسة الكاملة، ولكن استيعابها مع ذلك من ناحية أخرى، بالفكر في الحالة البرية، التي تم ضبطها في عفويتها الطبيعية، قبل أن يؤدي تقييد النتيجة إلى تدجين العمليات»[47].بصرف النظر عن حقيقة أن هذا الحكم لا ينصف فكر ليڨي شتراوس من خلال اختزاله إلى نوع من التطور الثقافي، سيكون من المناسب التساؤل عن الدوافع (ربما الاستراتيجية، والتمييزية والرسملة الفكرية بالمعنى الذي فهمه بورديو)، التي دفعت غوشيه إلى أخذ مثل هذه الإجازة السريعة منه ليقول، بعد خمسة عشر عاما: «يحافظ على مشروع علم موحد للإنسان واللغة واللاوعي والتاريخ […]»[48].

قبل الانتقال إلى الموضوعة الثالثة، ثمة سؤال أخير يطرح نفسه: ما الذي يبرر لغوشيه معارضة الدين والسياسة بشكل قاطع، وبالتالي نزع الطابع السياسي عن مفهوم الدين؟  قد يعتقد المرء أنه بالاستناد إلى المسيحية نفسها يميّز بين مفهومي الدين والدولة. فبمجرد أن أصبحت المسيحية دين الدولة الرومانية، اعتقدت الكنيسة في الواقع أنّه من الضروري التمييز بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، وبين مدينة الله والمدينة البشرية؛ ستجد حلا أخيرا مع نهاية الدور السياسي للمسيحية؟ من هنا جاءت الأطروحة المزدوجة القائلة إنّ المسيحية ليست فقط «دين الخروج من الدين»[49]  ولكن «الدين المحتمل لمجتمع ما بعد الدين»[50]. بالطبع، فالمسيحية على استعداد لأن توافق على الالتزام بالدور اللاسياسي الذي يرغب غوشيه أن تلعبه، وهو دور تسعى الليبرالية المنتصرة إلى احتجازه واحتكاره. ولكن هل يمكن للمسيحية أن توافق على لعب دور الدين في مجتمع ما بعد الدين، أي في مجتمع محايث وظيفيا، ومتحرر تماما، دون التخلي في الوقت نفسه عن هويته، لهذا التوتر الجوهري للكائن المسيحي، بين الإلهي والإنسانيوبين ثم بين التعالي والمحايث؟ يبدو أن هذا غير ممكن بالنسبة إلى غوشيه نفسه، لأنّه هو نفسه يصرّ على حقيقة أن المسيحية هي قبل كلّ شيء دين التجسد، وبالتالي، “دين التأويل”. وهذا ما أشار إليه مارسيل غوشيه في النص التالي: «وهذا، كما يحدد، هذا التمفصل التأويلي الذي يختفي عندما يتم محو التدخل الجذري للوسيط المسيحي بين الله والناس بطريقة أو بأخرى، إما بالتذلل تجاه الإنسان، أو بالارتقاء إلى الإله»[51].

 في الواقع، ماذا ستكون المسيحية دون هذا “التمفصل التأويلي”، ودون وساطة مسيحية؟ إلاّ أنّ هذا ليس تجريدا. وكما لاحظ فرناند دومون أنه لا يمكن للمسيحية أن تنفلت من نهاية المسيحية بالارتقاء إلى سماء الإيمان الخالص أو الدفاع عن حقوق الإنسان. سيتعين عليها، تحت تهديد الاختفاء، أن تشكل مرة أخرى «مرجعية تعيش وتشترك يومياً في الممارسات التي تشكل ثقافة ما»[52] وتجعل المؤمنين «شركاء ومعارضين للثقافة الأخرى»[53].  هذه المرجعية المسيحية الجديدة، التي من شأنها في الوقت نفسه استعادة البعد العام للمسيحية[54]، تعتمد على مستقبل الإيمان المسيحي نفسه، وعلى أصالته. لكن هذا المستقبل ربما لا يمكن تصوره إلا لمسيحي منخرط في تقلبات التاريخ. لا يعني ذلك أنه يجب بالضرورة أن يكون المرء مسيحياً حتى يتمكّن من التحدث عن المسيحية؛ فتبقى الحقيقة أنّه لا يمكن للمرء أن يعتبر حقيقة كونه مؤمنا أو ملحدا غير مبالٍ بطريقة فهم مستقبله أو الإمساك به.

4- الخروج من الدين أو سؤال التعالي:

إذا كان “الخروج من الدين” يشكل الموضوع التوجيهي والتركيبي لــــلمُؤَلف “نزع السحر عن العالم. تاريخ سياسي للدين“، ألا يمكن الاعتقاد أن هذا الخروج قد تم فعليا بظهور الدولة ونهاية الدين الأول الذي ينطوي عليه هذا الخروج؟ باختصار، ألم تكن مقاربة غوشيه حتمية، أو بشكل أكثر دقة، ألا تنطلق، كما يخطر ببال ڨلاديير، من «هيغلية مقلوبة يكون الكلّ والكمال من حيث المبدأ وليس في الأجل النهائي، لدى البدائيين وليس في المسيحية؟»[55] مرة أخرى، دافع غوشيه عن نفسه جيدا، رغم أنّه يعترف بالجزء المتعالي الذي يتضمنه التاريخ. في الواقع، يعتمد المنهج الغوشوي على رهان: «للجمع بين منظورين يُعتقد عادة أنهما لا يمكن التوفيق بينهما: وحدة الصيرورة البشرية ووحدة الوجود بداخلها الانقطاعات الجذرية»[56]. هذا الرهان المنهجي يعني أن الخروج من الدين؛ أي خروجه الكامل الذي لا رجعة فيه كما اعتقد غوشيه، تم ملاحظته اليوم في الغرب، أي أنه لم يتم القيام به مسبقا، منذ نشأة الدولة، وأنّه لم يكن من الممكن إنجازه إلا بفضل “الانقطاعات الجذرية” الأخرى، التي لا يمكن اختزالها، مهما كانت حيوية، التي تعمل بها الدولة. كان من الممكن أن يكونا انقطاعين حاسمين بشكل خاص حسب غوشيه. أوّل ما يشير إليه، مستعيرا الصيغة من كارل ياسبرز، “الحقبة المحورية”، التي كانت قد أحدثت في الألفية الأولى قبل الميلاد، عندما تشكل التمثيل الجديد للإله المعروف باسم المتعالي الراديكالي في كل مكان تقريبا (في بلاد فارس والصين والهند واليونان وفلسطين)[57]. هذه الديانات الجديدة (اليهودية والزرادشتية والبوذية والكونفوشيوسية والطاوية وحتى الأفلاطونية)، التي علمت الناس أن ينفصلوا عن عالمهم من المظاهر والأوهام، وخلق ما أسماه نيتشه “العوالم الخلفية” امتيازًا لليهودية، وباعتبار أن التوحيد ظهر معها، سعى غوشيه لإظهار أنه بعيدا عن سحق الناس، فإن الإله الوحيد، هذا الإله فوق الآلهة الأخرى، وهو المتعالي بامتياز، يميل على عكس ذلك إلى تحريرهم بالفضيلة وبحكم تعاليه ومن خلال بعده عن النظام الإنساني والاجتماعي. لأن الخروج الكامل وغير القابل للإلغاء من الدين ربما لم يكن ليتحقق أبدا، حسب غوشيه، بدون هذا الانقطاع الآخر الجذري الذي أدخلته المسيحية وعقيدتها المركزية للتجسد، والتي سمحت بظهور عالم إنساني مستقل عن العالم الديني. إلى أي مدى تعتبر أطروحة الخروج من الدين أصيلة/جديدة؟ سيكون هناك ثلاثة مؤلفين بمثابة حجر الزاوية: نيتشه وهايدغر ولويس دومون.

إذا كان هناك مفكر في كتاب نزع السحر عن العالم يتجلى من خلال غيابه في عمل غوشيه، فهو بالفعل نيتشه، الذي اعتبر أيضا المسيحية على أنها دين الخروج من الدين، وهذا ما نستشفه من نص نيتشه التالي قائلا: «نرى هنا إجمالا الشيء الذي حققه مفهوم الصدق الذي أُخِذ بمعنى صارم أكثر فأكثر، دقة الشعور المسيحي الذي طوره المعرفون، مُتَرْجما إلى شعور علمي ومتساميا فيه حتى الوضوح الفكري بأي ثمن»[58]. في مقال يرسم تشابها مثيرا للاهتمام بين العالم المحبط لغوشيه والعدمية النتشوية، وهذا ما دعمه هربرت فراي قائلا: «إن مفهوم نزع السحر عن العالم الذي بدأ، حسب غوشيه، بنشأة الدولة والذي يمثل بداية تراجع/تدهور المجتمعات الأصلية، مطابق للمفهوم النيتشوي للسيرورة العدمية»[59]. لقد اختلف غوشيه عن نيتشه، وفقا لفراي، في تأويل نتائج سيرورة الخروج من الدين قائلا: «يكمن الاختلاف في أطروحة غوشيه القائلة بأن عناصر هذه السيرورة ذات صلة بتطور الحداثة بينما ينظر إليها نيتشه على أنها أعراض للتراجع/التدهور»[60]. ومع ذلك، فإن تراجع الدين، الذي وصف غوشيه الشرور في نهاية نزع السحر عن العالم، لا يخلو من استحضار مرحلة “الرجل الأخير”. كما يبدو أيضا أنه بالنسبة إليه، سيتعين على الناس تعلم العيش في الحياة الدنيوية دون عزاء في الحياة الآخرة، على الرغم من أن هذا التعلم ربما لا يتضمن، كما هو الحال مع نيتشه، هذا المطلب المأساوي للتغلب بحيوية على العدميّة من خلال خلق أساطير جديدة. (العودة الأبدية للشيء نفسه) أو الآلهة الجديدة (سوبرمان) من أجل جعل موت الله محتملاً.

أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّه قبل كلاستر، وقبل ليڨي شتراوس وقبل هايدغر نفسه وبفترات طويلة، كان نيتشه هو أول من تناول ما أسماه غوشيه «الإشكالية الدقيقة للغاية»[61] لـلاختيار، و«لكن الاختيار غير المتداول»[62]، من «القرارات بدون المقررين الذين يعيدون توجيه سير الأشياء»[63].وبالعودة إلى كتاب “ما وراء الخير والشر”، نقف عند ذلك قائلا: «إن الخوف المرتاب العميق من تشاؤم لا يمكن شفاؤه، ذاك الذي يلزم دهورا كاملة بأن تتشبث بأسنانها بتأويل ديني للوجود: إنه خوف تلك الفطرة التي تتوجس من أن يدرك المرء الحقيقة قبل الأوان، قبل أن يكسب ما يكفي من القوة والقسوة والفن … ومن ينظر من هذه الزاوية […]، سيبدو له ذلك […]، (و) بمثابة إرادة قلب الحقيقة وإرادة اللاحقيقة بأي ثمن»[64].

وهناك غائب كبير آخر عن كتاب “نزع السحر عن العالم“: هايدغر. ومع ذلك، فقد ربط أيضا، وحتى بشكل أوثق من نيتشه، نزع السحر عن العالم بقدوم المسيحية. يجدر الاستشهاد هنا ببعض التفاصيل، حيث يبدو أن المخطط الهايدغري يتوقع الكثير من أطروحات غوشيه حول المسيحية: إن تجريد الآلهة هو سيرورة ذات وجهين حيث تم من خلالها، إضفاء الطابع المسيحي على الفكرة العامة للعالم (صورة العالم)، لدرجة أن أساس العالم يتمّ طرحه على أنّه لانهائي، ولا مشروط ومطلق. وحوّلت المسيحية نموذجها المثالي للحياة إلى رؤية للعالم (الرؤية المسيحية للعالم)، وبالتالي تم تحديثها. فالحرمان من الآلهة هو فراغ بالنسبة إلى الإله والآلهة. كانت المسيحية هي المسؤولة الرئيسة عن نشأته. ومع ذلك، فإن تجريد الآلهة استبعد قليلا التدين بحيث تحولت العلاقة مع الآلهة إلى تجربة دينية فقط. فعندما يتعلق الأمر بذلك، تختفي الآلهة[65].

لا يرى هايدغر في المسيحية فقط «دين الخروج من الدين»، الذي، من خلال إرساء أساس العالم لا نهائي ولامشروط ومطلق، كان من شأنه أن يكون مسؤولاً عن نزع السحر عن العالم، وظهور العصر الحديث؛ لكن المسيحية هي أيضا بالنسبة إليه، كما هو الحال بالنسبة إلى غوشيه، الدين المحتمل لمجتمع ما بعد الدين، وهو الدين الذي يستوعب/ ويتكيف مع الحداثة بشكل أفضل من خلال تحويل العلاقة مع الآلهة إلى “تجربة دينية” حيث، «تختفي الآلهة. ثم يتم ملء الفراغ الناتج عن طريق الاستكشاف التاريخي والنفسي للأساطير»[66]. أما بالنسبة إلى حالة التردد بالنسبة إلى الله أو الآلهة، التي يتم فيها وضع التأليه، حسب هايدغر، فمن المدهش أن غوشيه (ربما بدافع منهجي) قد يلجأ إلى الفكرة نفسها. في الواقع، رغم أنّ سيرورة الخروج من الدين تبدو له أمرا لا رجعة فيه، إذ «لا شيء يمنع تماما، -كما يقول-، أن يعود [الجنس البشري] غدا إلى طاعة الماضي والاستسلام لما هو أعلى منه»[67].

رغم أنّ نيتشه وهايدغر لا يزالان غائبين بشكل غريب عن كتاب نزع السحر عن العالم“، إلا أن هناك مفكرا يكون وجوده ملحوظا جدا. لا شك أن غوشيه يعرف جيدا عمل لويس دومون، وخاصة مقالاته الشهيرة عن الفردانية، التي ظهرت لأوّل مرّة في مجلة “جدل” التي كان يديرها مارسيل غوشيه، منذ 1981 حتى توقفت أخيرا[68]. وقد أشار غوشيه على وجه التحديد إلى هذا المقال بالاسم في الصفحة 182 من كتاب نزع السحر عن العالم، وهو أمر مضلل إلى حد ما، نظرا للمساحة الكبيرة التي شغلتها مناقشة أطروحات لويس دومون حول المسيحية، سواء في الفصل الثالث من الجزء الأول أو، أكثر من ذلك، في الفصل الأول الطويل من الجزء الثاني حيث استعار غوشيه الكثير من لويس دومون، لا سيما مفهومه «للفرد خارج العالم»[69].  مع الاعتراف بما هو “صحيح بشكل أساس” بشأن هذه الصيغة، انتقد غوشيه مؤلفها لحذفه من الصيغة الرئيسية، وهي التوتر الديناميكي الملازم في هذا التمفصل الفرداني بين الحياة والآخرة، إنّه التوتر الذي كان سيخرج الفرد الحداثي، أي لم يعد الفرد خارج العالم بل في العالم. يبدو في الحقيقة أنه عتاب غريب. لأن لويس دومون لا يأخذ فقط في الاعتبار الديناميكية المسيحية الخالصة للخروج من الدين، ولكن، عند الفحص الدقيق، فإن التفسير الذي قدّمه لها بدءا من “الانقسام المنظم” أو “التكامل التراتبي” الخاص بالمسيحية بين الكلية والفردانية، بالكاد تختلف في الواقع عن تلك التي اقترحها غوشيه. لم يحاول لويس دومون أن يؤسس ديناميكية التغيير البنيوي بالمعنى المتعالي. لا يعني ذلك أنّه اعتبر هذا المشروع التأسيسي مستحيلاً أو حتى عديم الفائدة. كما كتب في مقدمة مقالاته عن الفردانية، فإن «التاريخ الاجتماعي لفئات الروح البشرية»[70]  لا يزال ذلك دائما على جدول الأعمال؛ باستثناء أن هذا المشروع بدا له «على أنه أكثر تعقيدا وتعددا وشاقاً مما هو عليه أكثر من الدوركهايميين المتحمسين في بداية القرن»[71]. ومع ذلك، كانت بالفعل هذه المهمة المتعالية التي قام بها مارسيل غوشيه، دوركهايمية متحمسة في نهاية القرن العشرين.

سنتطرق في ختام هذا البحث إلى تيمة، يمكن أن تكون بمفردها موضوع مقال طويل. لقد صرح غوشيه أن «هناك تعالٍ في التاريخ»[72]. يعني بالتعالي تلك التجربة التاريخية غير الصحيحة، ولكنّه مثل شرط إمكانية حدوثه: مجموعة من العناصر الثابتة أو البنيوية الدائمة التي تشكل نظاما فيما بينها. في ضوء هذه الفرضية للمنهج، اجتذب مشروع غوشيه أشد الانتقادات. خلال النقاش حول “نزع السحر عن العالم” بالمعهد الكاثوليكي بباريس سنة 1986، تساءل الفيلسوف هوبير فايس[73] عما إذا كان «الجانب الأكثر إثارة للجدل في مشروع غوشيه ليس في الطريقة التي ينعكس بها هذا المشروع فلسفيا، لا سيما مع هذا اللجوء إلى التعالي […] وأضاف أن عمق المشكلة يتمثل في الوضع الذي يجب التوفيق بين العموميات التي استخدمها غوشيه»[74].

يبدو أن السؤال برمته يدور حول وضع هذه العموميات. هل تتوافق هذه، كما يبدو أحيانا مما كان يقترحه غوشيه، مع النماذج التجريبية، التي تم إنشاؤها من خلال أخذ عناصر من واقع بحد ذاته شديد التعقيد لفهم ماهيته، أم هل يصفون، كما كان يعطيها غوشيه غالبا للتفكير، وضوحا محايثا في التاريخ والتي من شأنها أن تندرج تحت «تفكير لاشخصي؟»[75]  هذا بلا شك هو الغموض الأساس لمشروع غوشيه. غموض يدّعي مع ذلك أنه يهرب منه من خلال وضع نفسه بين “ما قبل التشكل” و”الخلق”. ولتلخيص حجته (التي دافع عنها خلال نقاش 1986)، ستكون هناك “حرية معينة للاختيار في التاريخ”، والتي من شأنها أن تستبعد الانتقال الضروري والميكانيكي من تشكل تاريخي إلى آخر، حيث كان هذا هو الحال بشكل ملحوظ مع الماركسية. ولكن، في الوقت نفسه، ستمارس هذه الحرية التاريخية دائما وفقا لنموذج من الاحتمالات أو الاختيارات، والتي سيكون عددها محدودا. ومع ذلك، من خلال توفير مكان في التاريخ لـ “حرية الاختيار” و”النية” و”المحتوى”، يعتزم غوشيه اقتراح طريقة غير قابلة للاختزال للبنيوية: «يبدو لي أن إحدى الفوائد العظيمة لمقاربتي، مقارنةً بالمقاربة البنيوية على غرار ليڨي شتراوس، تكمن في إعادة إدخال بُعد المعنى»[76]. لكن كان ليڨي شتراوس يميل أيضا إلى إعادة تقديم بُعد المعنى، وهذا صحيح مع جميع التحفظات العلمية، دون الانخراط حقا في الطريقة البنيوية. مهما كان الأمر، فإنّ المعنى الذي يدّعي غوشيه إعادة تقديمه من خلال مقاربة تثير نفس الصعوبات مثل العموميات المتعالية. هل يجب تصور هذا المعنى على أنه محايث في التاريخ؟  في هذه الحالة، ربما لا يكون منظور غوشيه للدين – كما رأينا مع ڨلاديير، لا يتردد في التأكيد سوى على إعادة إصدار لفلسفة التاريخ الهيغيلية، وهي فينومينولوجيا الروح جديدة أغنتها اكتشافات الإثنولوجيا، وإسهامات المنهج البنيوي.

هل سيشارك غوشيه مع هيغل في ادعاء فهم كلّ ما هو على المحك في تاريخ البشرية؟ نعم ولا. نعم، بما أنه يعترف بـ ” إعادة كتابة تفكيره في أفق الكل”، فإنه يهدف إلى مجمل التاريخ البشري. لا، لأنه، كما لاحظ هو نفسه، “لا يعني إدراج تفكير المرء في أفق الكل ادعاء تفسير كل شيء. ومع ذلك، فإن العملية تنطوي على مخاطر يبدو أن غوشيه يدركها تماما: «لسنا غافلين تماما عن أن الأمور أكثر تعقيدا مما نقدمها، فنحن نتصور عدم الثقة في مواجهة نوع من فلسفة التاريخ، نملك نعم، للكلام عن شرور الأفكار الكاملة. يتم أخذ المخاطر في الاعتبار، دون أي حجة غياب أخرى غير الحاجة إلى الفهم، وفي الاقتناع الراسخ ليس فقط أنها تستحق التصميم، ولكن من غير الممكن عدم أخذها. إنه لا يستسلم لصفات التكهنات، إنه يطيع بشكل حاسم شرط المعنى الذي هو أكثر الضحايا سذاجة»[77]. وبالتالي، فإنّ أيّ فلسفة للتاريخ تنطوي على خطر بسبب التعدي على حدودها من خلال الادعاء بمعرفة التاريخ في معناه النهائي.  لكن ستكون هذه المجازفة الغائية في الوقت نفسه حتمية، على الأقل طالما يفكر الإنسان بالمعنى الكنطي للمصطلح، لأن التفكير هو دائما تفكير كلي. إنه التفكير في معنى التاريخ والعالم والإنسان، مع الخطر بقول الكثير والتظاهر بمعرفة أكثر مما يعرف في الواقع، باختصار، الخضوع لما أسماه كنط الوهم المتعالي. ومع ذلك، سيكون من المحتمل، حسب غوشيه، التقليل من هذا الخطر من خلال كونه، “حداثيا صارما”، وهو ما لم يكن هيغليا، حيث كان من الممكن أن تؤدي نظريته للمعرفة الماقبل النقدية والماقبل كنطية إلى الانجراف الثيولوجي لفلسفة التاريخ، وهو نفسه المسؤول عن الشمولية في القرن العشرين. بالنسبة إلى غوشيه، كان العيب الكبير الذي أصاب هيغل هو تناول «تراث الثيولوجيا، مما سمح الله باستعادة نوع المعرفة التي يحظرها العلم»[78]. وهذا التراث الثيولوجي، كان هايدغر نفسه قد وسعه في محاولة أخيرة «لإعادة اكتشاف الفكر الذاتي»[79] للتاريخ. ومع ذلك يقول غوشيه، سنكون «معتمدين إلى حد ما على التفسير الذي قدمه [هيغل] للصيرورة»[80]، والمشكلة برمتها هي «التعامل بالمصطلحات الكنطية مع الاكتشاف الهيغلي [للتاريخية] فيما ينطوي عليه من الجدة (الحداثة) غير القابلة للاختزال»[81]. بالنسبة إلى هذه المشكلة بالتحديد، ادعى غوشيه الرد عليها بــــــ”أنثروبوسوسيولوجيته المتعالية” Anthroposociologie transcendantal.

5- خاتمة:

نود، في الختام، أن نطرح بعض الأسئلة في اتجاه أنثروبوسوسيولوجيته المتعالية هذه:

أولاً، هل صحيح حقا أن الفكر الكنطي يمكن أن يحمينا من مخاطر الفلسفة الهيغلية للتاريخ؟ إلى حد ما، بلا شك. دعونا لا ننسى أن هناك أيضا فلسفة كنطية للتاريخ، وبالتأكيد أقل تأملاً وأقل تفاؤلاً من الهيغلية، ولكنها مع ذلك تفترض عملية مجهولة، وخدعة طبيعية[82]، أسماها غوشيه التفكير الذاتي في التاريخ.

لكن هل يمكننا التفكير تاريخيا في الحداثة، دون إشراك بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل هذا الافتراض المسبق؟ لدرجة أنه، رغم كل الجهود الفلسفية التي بذلها غوشيه منذ كتابه “نزع السحر عن العالم. تاريخ سياسي للدين لتأسيس مشروعه الفكري بشكل أفضل، فإن السؤال الذي أثاره جان غريش خلال مناظرة سنة 1986 ظل قائما: إلى أي مدى وبأي معنى تختلف “الأنثروبوسوسيولوجية المتعالية” لغوشيه عن الفلسفة الهيغيلية للتاريخ؟[83]. عبثاً هل يكرّر مارسيل غوشيه أن “ترك المدار الهيغلي نهائيًا”، هذا الخروج – مثله مثل الدين -ظل وسيظل بلا شك محل نقاش لفترة طويلة. لكن ما هو مؤكد هو أن «سؤال التاريخانية الرصين ظل كما هو»[84]، و«أكثر فعلية من أي وقت مضى»[85]. من هذا المنطلق، لا يسعنا إلا أن نتفق مع غوشيه في الحاجة إلى إجراء نقد العقل التاريخي غير القابل للاختزال من وجهة النظر الوحيدة للتاريخ، كما لو أن التاريخ كان «العنصر الحصري والأخير للإنسانية؟»[86] كيف يمكن التغلب على التاريخانية؟ هل يمكن للأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية أن تفعل ذلك دون حلّ لغز التاريخ في كتاب «الأنثروبولوجيا في غياب الإنسان»[87].  لإفساح المجال للإيمان، أليس هذا وسيلة لإدراك أن التعالي ضروري حتى يتمكن الإنسان من التفكير في تاريخه والحكم عليه وتفسيره؟ ألا يستدعي هذا الاعتراف بدوره لحاجة إلى فهم ثيولوجيا التاريخ جيدا؟ لم يعد يفهم في شكل العناية الإلهية الذي سيشق طريقه في التاريخ – وهي فكرة تكون الفلسفة الحديثة في التاريخ هي في الواقع مجرد ترجمة علمانية فقط-، ولكن كإعلان عن حدث وقع بالفعل، فإن الوصول الذي يتعرض دائما لخطر عدم الوقاية منه لأنه أولاً وقبل كل شيء صلة، لأنه يشهد على لانهائية الصلة. من هذا المنظور – حيث بدا لي (على الأقل) أن فرناند دومون وإيمانويل ليڨيناس يلتقيان معا – ربما لا يعني زمن “الخروج من الدين” موت إله الديانة اليهودية- المسيحية بقدر ما يعني احتمال إعادة اكتشافه، بخلاف صورته الدينية، بالمعنى الذي أعطاه غوشيه لكلمة “دين”، بما يتجاوز التدين الذي لا يزال عتيقا ومجتمعيا، ومع ذلك يحتفظ الإنسان الغربي بالحنين إلى الماضي.

قائمة المراجع:

المراجع بالعربية:

  • غوشيه، مارسيل، الدين في الديمقراطية. مسار العلمنة، تر. د. محسن شفيق، بيروت، لبنان، الناشر المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، نونبر
  • كنط، إمانويل، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير، “جواب على السؤال. ما هي الأنوار؟“، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، صفاقس، تونس، الناشر دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى، 2005.
  • كلاستر، بيار، ” المجتمع اللادولة”، د. محمد حسين دركوب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 1991.
  • نيتشه، فريدريش، ما وراء الخير والشر. تباشير فلسفة المستقبل، ” الفصل الثالث. الحالة الدينية”، ترجمة جيزيلا فالور حجاز، مراجعة موسى وهبة، بيروت، الطبعة الأولى، دار الفارابي، 2003.
  • نيتشه، فريدريش، العلم المرح، ترجمة وتقديم حسان بورقية – محمد الناجي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، أفريقيا الشرق، 1993.

المراجع الأجنبية

  • Charbonnier, Georges, Entretiens avec Claude Lévi- Strauss, Paris, éd. Plon, 1961;
  • Clastres, Pierre, La société contre l’Etat, Paris, Eds. Minuits, 2011.
  • Dumont, Fernand, Raisons communes, Montréal, éd. Boréal, 1995.
  • Dumont, Fernand, L’institution de la théologie, Montréal, éd. Fides, 1987.
  • Dumont, Luis, Essais sur l’individualisme. Une perspective anthropologique sur l’idéologie moderne, Paris, Eds. Seuil, 1983.
  • Frey, Herbert, The disenchanted world and Nietzsche’s nihilism”, Method and Theory in the Study of Religion, N°.14, année 2002
  • Gauchet, Marcel, La condition historique. Entretiens avec François Azouvi et Sylvain Piron, Paris, Eds. Stock, 2003.
  • Gauchet, Marcel, La démocratie contre elle-même, Paris, Gallimard, 2002.
  • Gauchet, Marcel, «Religion, éthique et démocratie», sous la dir. De Denis Müller, in L’éthique et la religion à l’épreuve de la démocratie : dialogue avec Marcel Gauchet, Revue de Théologie et de philosophie, n°. 4, pp. 455-464, Paris, 2001.
  • Gauchet, Marcel, L’inconscient cérébral, Paris, éd. Seuil, 1992.
  • Gauchet, Marcel, Un monde désenchanté ? débat avec Marcel Gauchet, sous la dir. De P. Coline et O. Mongin, Paris, les Eds. Du Cerf, 1988.
  • Gauchet, Marcel, Le désenchantement du monde : une histoire politique de la religion, Paris, Gallimard, 1985.
  • Greisch, Jean, Le buisson ardent et les lumières de la raison. L’invention de la philosophie de la religion, tomme 1, Paris, Cerf, 2002.
  • Heidegger, Martin, l’époque des « conceptions du monde », in chemins qui ne mènent nulle part, Paris, idées/Gallimard, 1980.
  • Levinas, Emmanuel, Ethique et infini, le livre de poche, Biblio Essais, 2 -ème éd. Paris, Librairie Arthème Fayard, et Radio – France, 1984.
  • Moyn, Samuel, « Savage and moderne liberty. Marcel Gauchet and the origines of New French Thought », European Journal of Political theory, 4, 164-188, 2005.
  • Robert, Mager Le politique dans l’Eglise. Essai ecclésiologique à partir de la théorie Hannah Arendt, Montréal, Eds. Médiaspaul, 1994.
  • Valadier, Paul, Chrétien, tournez la page. Entretien avec Yves de Gentil-Baichis, Paris, éd. Bayard, 2002.
  • Valadier, Paul, «Sur la religion. Un échange avec Paul Valadier ». Dans La démocratie contre elle-même, Paris éd. Gallimard, 2002.

[1]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde : une histoire politique de la religion, (Paris, éds. Gallimard, 1985), p.13.

[2]– Ibid., Id.

[3]– Jean, Greisch, Le buisson ardent et les lumières de la raison. L’invention de la philosophie de la religion, tomme 1, (Paris, éd. Cerf, 2002), p.16.

[4]– Voir Marcel Gauchet, le désenchantement du monde, une histoire politique de la religion, Op. Cit., p. XII.

[5]– Paul, Valadier, «sur la religion. Un échange avec Paul Valadier». Dans La démocratie contre elle-même, (Paris éd. Gallimard, 2002), p.72.

[6]– Ibid., p.72.

[7]– Paul, Valadier, Chrétien, tournez la page. Entretien avec Yves de Gentil-Baichis, (Paris, éd. Bayard, 2002), p.123.

[8]– Marcel, Gauchet, La démocratie contre elle-même, (Paris, éd. Gallimard, 2002), p.89-90.

[9]-Marcel, Gauchet., le désenchantement du monde, Op. Cit., p. VIII.

[10]– Ibid., p.21.

[11]– Marcel, Gauchet, L’inconscient cérébral, (Paris, éd. Seuil, 1992).

[12]– Paul, Valadier, «sur la religion. Un échange avec Paul Valadier». Dans La démocratie contre elle-même, Op. Cit., p.77.

[13]– Marcel, Gauchet, La démocratie contre elle-même, Op. Cit., p.83.

[14]– مارسيل، غوشيه، الدين في الديمقراطية. مسار العلمنة، تر. د. محسن شفيق، (بيروت، لبنان، الناشر المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، نونبر 2007)، ص. 47.

[15]-إمانويل، كنط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير، “جواب على السؤال. ما هي الأنوار؟”، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، (صفاقس، تونس، الناشر دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى، 2005)، ص85.

[16]– Benjamin Constant (1767-1830).

[17]– Samuel, Moyn, «Savage and moderne liberty. Marcel Gauchet and the origines of New French Thought», European Journal of Political theory, 4, 164-188, 2005, p.181.

[18]– Ibid., p.182.

[19]– Marcel, Gauchet, La démocratie contre elle-même, Op. Cit., p. 377.

[20]– Samuel, Moyn, «Savage and moderne liberty. Marcel Gauchet and the origines of New French Thought», Op. Cit., p.182.

[21]–  Emmanuel, Levinas, Ethique et infini, le livre de poche, Biblio Essais, (Paris, 1ère édition : Librairie Arthème Fayard, et Radio – France, 1982, 2 -ème éd. 1984), P.53.

[22]–  Marcel, Gauchet, le désenchantement du monde, Op. Cit., p.290.

[23]– Marcel, Gauchet, Un monde désenchanté ? débat avec Marcel Gauchet, sous la dir. De P. Coline et O. Mongin, (Paris, les éds. Du Cerf, 1988), p.26.

[24]– Marcel, Gauchet, «Religion, éthique et démocratie», sous la dir. De Denis Müller, in L’éthique et la religion à l’épreuve de la démocratie : dialogue avec Marcel Gauchet, Revue de Théologie et de philosophie, n°. 4, pp. 455-464, Paris, 2001, p.463.

[25]– Marcel, Gauchet, Un monde désenchanté ? débat avec Marcel Gauchet, Op. Cit., p.26.

[26]– Fernand, Dumont, L’institution de la théologie, (Montréal, éd. Fides, 1987), p.208.

[27] – Ibid., p.210.

[28]– Marcel Gauchet cité par Dumont Fernand, ibid., p. 209.

[29]– ibid., p.210.

[30]– Ibid., p.184.

[31]– Ibid., p.48.

[32]– voir Dumont Fernand, Raisons communes, (Montréal, éd. Boréal, 1995).

[33]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op. Cit., p.28.

[34]-Pierre, Clastres, La société contre l’Etat, Eds. Minuits, Paris, 2011, p.185.

– عربه وقدم له د. محمد حسين دركوب تحت عنوان ” المجتمع اللادولة”، (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 1991).

[35]– Voir Marcel Gauchet, Le désenchantement du monde, Op. Cit., p. 33.

[36]-Georges, Charbonnier, Entretiens avec Claude Lévi- Strauss, (Paris, éd. Plon, 1961), p.188.

[37]– Ibid., p.44-45

[38]– Ibid., p.45.

[39]– Ibid., p.58.

[40]– Ibid., p.50.

[41]– Ibid., p.40.

[42]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op. Cit., p.VI.

[43]– Georges, Charbonnier, Entretiens avec Claude Lévi- Strauss, Op. Cit., p.32.

[44]– Ibid., p.32.

[45]– Marcel, Gauchet, La condition historique. Entretiens avec François Azouvi et Sylvain Piron, (Paris, éds. Stock), p.71.

[46]– Ibid., p.72.

[47]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op, Cit., p.VIII.

[48]– ibid., p.46.

[49]– Ibid., p.II.

[50]– Ibid., Id.

[51]– Ibid., p.106.

[52]– Fernand, Dumont, L’institution de la théologie, Op. Cit., p.222.

[53]– Ibid., Id.

[54]– Voir Mager Robert, Le politique dans l’Eglise. Essai ecclésiologique à partir de la théorie Hannah Arendt, (Montréal, éds. Médiaspaul, 1994), p.331.

[55]– Paul, Valadier, «sur la religion. Un échange avec Paul Valadier». Dans La démocratie contre elle-même, Op. Cit., p.74.

[56]– Gauchet, M., Le désenchantement du monde, Op, Cit., p. XVIII.

[57]– Ibid., p.42.

[58]– فريدريش، نيتشه، العلم المرح، ترجمة وتقديم حسان بورقية – محمد الناجي، (الدار البيضاء، الطبعة الأولى، أفريقيا الشرق، 1993) ص 223.

[59]– Herbert, Frey, The disenchanted world and Nietzsche’s nihilism”, Method and Theory in the Study of Religion, N°.14, année 2002, pp. 120-128, p. 125.

[60]– Ibid., p.125.

[61]– Marcel, Gauchet, La condition historique, Op, Cit., p.66.

[62]– Ibid., Id.

[63]– Ibid., p.67. 

[64]– فريدريش، نيتشه، ما وراء الخير والشر. تباشير فلسفة المستقبل، ” الفصل الثالث. الحالة الدينية”، تر. جيزيلا فالور حجاز، مراجعة موسى وهبة، (بيروت، الطبعة الأولى، دار الفارابي، 2003)، ص93.

[65]– Voir Martin, Heidegger, l’époque des « conceptions du monde », in chemins qui ne mènent nulle part, (Paris, idées/Gallimard, 1980), Pp.100-101.

[66]– Ibid., p.101

[67]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op, Cit., p.XIX.

[68]– توقفت عن الظهور في شهر شتنبر/ أيلول 2020.

[69]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op, Cit., p.182.

[70]– Luis, Dumont, Essais sur l’individualisme. Une perspective anthropologique sur l’idéologie moderne, (Paris, éds. Seuil, 1983), p.15.

[71]– Ibid., Id.

[72]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op, Cit., p. XIV.

[73]– هوبير فايس Hubert Faes من مواليد 1947 بشمال فرنسا، فيلسوف مسيحي. تابع دراسته في الفلسفة بالجامعة في ليل وباريس. حصل على التبريز والدكتوراه في الفلسفة. درس بالتعليم الثانوي الخصوصي وبعده بالعمومي. كما مارس التدريس بالمدارس العليا بالثانوي، وكان يعطي درسا أو محاضرة دورية بكلية الفلسفة بالمعهد الكاثوليكي بباريس. عمل عميدا للمعهد ما بين 2006 و2009 حتى تقاعد من المعهد سنة 2012 وتقاعد من التعليم العمومي سنة 2007. له العديد من المؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر:

Peiner, Œuvrer, Travailler. Sur le travail et la condition humaine (2003), le politique et les religions. Penser avec Stanislas Breton le défi de l’unité (2018) sous sa direction.                                     

[74]– Marcel, Gauchet, Un monde désenchanté ? débat avec Marcel Gauchet, sous la dir. De P. Coline et O. Mongin, Op. Cit., p.20.

[75]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op, Cit., p.16.

[76]– Marcel, Gauchet, Un monde désenchanté ? débat avec Marcel Gauchet, sous la dir. De P. Coline et O. Mongin, Op. Cit., p.76.

[77]– Marcel, Gauchet, Le désenchantement du monde, Op, Cit., p. XIX.

[78]– Marcel, Gauchet, La condition historique, Op. Cit., p. 57.

[79]– Ibid., Id.

[80]– Ibid., Id.

[81]– Ibid., p.58.

[82]– Voir Hannah, Arendt, La vie de l’esprit. T. 2. Le vouloir, Trad. Par Lucienne. Lotringer, (Paris, PUF, 1983), p. 179.

[83]– Marcel, Gauchet, Un monde désenchanté ? débat avec Marcel Gauchet, sous la dir. De P. Coline et O. Mongin, Op. Cit., p.21.

[84]– Marcel, Gauchet, La condition historique, Op. Cit., p.58.

[85]– Ibid., p.59.

[86]– Ibid., Id.

[87]– Fernand, Dumont, L’anthropologie en l’absence de l’homme, (Paris, PUF, 1981).

مقالات أخرى

La Consommation Equitable Du Point de Vue de Rousseau

دور الحيوان في الدين الروماني

من تنوّع الاختصاصات إلى تقاطعها

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد