ملخّص:
تخوض هذه الدّراسة في دلالات السّرد النّسوي العربيّ وتبحث عن خطاباته الاجتماعيّة المضمرة، وتعتبر أنّ كتابة الفضاء قد تأخذنا إلى خبايا هذه الكتابة ونواياها. وقد اخترنا فضاء البيت باعتباره فضاء اجتماعيا متواترا في القصص المكتوبة بأقلام نسائيّة ولا تخلو كتابته من لمسات إيديولوجية ليكون برهانا على هذا التّصوّر. فالكاتبة العربيّة تضفي على البيت مواقفها ورؤاها الاجتماعية وكثيرا ما ربطت ذلك بالأطروحات النسوية. ولعلّ هذه الصور التي خلصنا إليها تحمل في نهاية المطاف رؤى ومواقف هؤلاء الكاتبات ونظراتهن إلى المجتمع، بين رؤية خاضعة للمجتمع والبيت وراضية به وأخرى تشعر بقمعها وتعتبره فضاء معاديا وقامعا.
الكلمات المفاتيح: البيت – النسوية – الألفة – الذاكرة – القمع.
Abstract:
This study delves into the connotations of the Arab feminist narrative and searches for its implicit social discourses, and considers that space writing may take us to the mysteries and intentions of this writing. We have chosen the space of the house as a social space that is frequent in the stories written by women’s pens, and its writing is not devoid of ideological touches, to be proof of this perception. The Arab writer adds to the house her social stances and visions, and she often linked this to the feminist demand. Perhaps these images that we concluded ultimately bear the visions and attitudes of these writers and their views on society, between a vision that is submissive to society and the home and satisfied with it, and another that feels oppressed and considers it a hostile and oppressive space.
keywords: House – feminist – intimacy – memory – repression.
1- مدخل:
يشكّل التخلّص من البيت وقيوده واحدا من أبرز مطالب الحركة النّسوية بل جوهرها. فمطالبها الأساسيّة على غرار الحقّ في العمل وطلب العلم وغير ذلك، تندرج أساسا ضمن ثورة على البيت وقوانينه القديمة، رغبة في التحرّر منه ومن سلطة الرّجل والعائلة. فهي في النهاية دعوات للخروج من البيت واختراق جدرانه.
وقد وجدت هذه المطالب صدى واسعا في المنطقة العربية واشتغلت المثقّفات العربيّات على طرحها وإبرازها وكانت الكاتبات في طليعة هؤلاء وقد عجّت كتاباتهنّ بمظاهر الحرب على قيد البيت وعلى سلطة الذكورة في نفس الوقت. ولكنّ هذا الخطاب تتراجع حدّته اليوم بسبب تحقيق المرأة العربية للعديد من هذه المطالب. فلم يعد خطابا مغريا رغم تحويله إلى دراسات علميّة. ويمكن القول إنّ الكاتبة العربيّة غادرت عوالم الكتابة النّافرة للبيت إلى كتابة مختلفة الطّعم والوقع. ولكن هذا الخطاب المطلبي النسوي مازال يسجّل حضوره، تاركا رواسبه وتمثلاته في الكتابة النسائية المعاصرة التي لم تخل من هذا الهاجس. وهو ما نلمسه في هذا البحث الذي نهتمّ فيه بصورة البيت في نماذج معاصرة من الكتابة النسائية العربية.
ولعلّ غايتنا تكمن في بحث مدى تخلّص هذه الكتابة من الهواجس النسويّة القديمة، باحثين في التّشكيل الاجتماعي للبيت وما يكشف عنه من صور وتحديدا تفاعل الشخصيات النسائية معه. فلا يمكن أن نكتفي باعتبار فضاء البيت في النص السردي، مجرّد إطار خارجي وشكلي، تجري داخله الأحداث، يقتصر الاهتمام به على وصف الأشياء التي تشكّله، بل لا بدّ من الانتباه إلى عمق ما يحمله من دلالات، تكشفها لنا أحاسيس الشخصيات القصصية التي تعيش فيه وأعمالها . فليس البيت مجرّد فضاء صامت ومحايد، و ”ليس مجرد شكل هندسي وركام جدران وأثاث بقدر ما هو معبر عن حقل دلالي، ينهض بعدد من الأبعاد والمستويات الرمزية التي ترتبط بوجود الإنسان الواعي واللا واعي وبذاكرته، عبر جدلية الماضي الراهن”[1]، على حدّ تعبير بوشوشة بن جمعة… فكثيرا ما حملت صورة البيت دلالات مختلفة وعميقة، يستمدّها من الأشخاص المنتمين إليه”دلالة إنسانية، حين يتبادل الأدوار بينه وبين الأشخاص الذين يقيمون، أو الذين كانوا يقيمون فيه”[2]. وهو بذلك يكتسب أهمية عميقة ”باعتباره مصدرا لفيض من المعاني والقيم”[3]. فهو يستمدّ أهمّيّته من صورة الحياة بين جدرانه وما يتسرّب منها من دلالات ومعان عميقة وليس من شكله وأشيائه. ”فمن الخطأ مثلا النّظر إلى البيت كركام من الجدران والأثاث يمكن تطويقه بالوصف الموضوعي والانتهاء من أمره بالتّركيز على مظهره الخارجي وصفاته الملموسة مباشرة [4]، ذلك إنّه متّصل بالشخصيات التي تعيش داخله وهي التي تحدّد دلالاته ومعانيه. ”فلا شيء في البيت يمكنه أن يكون ذا دلالة، من دون ربطه بالإنسان الذي يعيش فيه”[5]. لذلك يبدو البيت مصدرا هامّا لدراسة الخطاب الاجتماعي والعلاقات الاجتماعيّة. ”فالبيوت والمنازل تشكّل نموذجا ملائما لدراسة قيم الألفة ومظاهر الحياة الدّاخليّة التي تعيشها الشّخصيّات”[6]، على حد تعبير حسين بحراوي.
من هذا المنطلق نحاول الدّخول إلى عوالم هذه البيوت القصصية وتبيّن ما تتّسم به وما تحيل عليه من دلالات، متقصّين وضعيّة شخصية المرأة داخلها. وقد اخترنا طائفة من القصص النسائية القصيرة المعاصرة التي تدور أحداثها في فضاء البيت ونظرنا في كيفية كتابة هذا البيت وعلاقة الشخصيات التي تسكنه ببعضها البعض، مركّزين على وضعية النساء داخله. وقد لاح لنا تضارب في رؤية الكاتبات لهذا الفضاء. فهو لم يفقد صورته الأليفة الكامنة في القلب والذاكرة عند بعض الكاتبات، لكنّه اكتسب صورة الفضاء المعادي والقامع عند كاتبات أخريات مازلن ينهلن من الخطاب النّسوي. فكيف تصوّر بعض الأقاصيص البيت باعتباره فضاء أليفا، حالما؟ وكيف ينقلب عند البعض الآخر منهنّ إلى فضاء قامع، فضاء تسلّط وعنف؟
2- البيت فضاء الذاكرة والطقوس:
يكتسب البيت أهمية كبرى في وجدان الإنسان. فهو مصدر أحاسيس وذكريات، يظلّ فضاء حميميا ماثلا في الوجدان، لذلك كثيرا ما تعود إليه النصوص الأدبية المرتكزة على الذاكرة. فهو يعتبر مركز الفضاءات الأليفة. يحفظ الذاكرة ويثير تفاصيلها ”فالكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل البيت”[7]. وهو الذي يؤججها ”فالذكريات ساكنة وكلّما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكيدا كلّما أصبحت أوضح”[8]. بل يمكن اعتبار البيوت التي قطنها الإنسان منابع لذاكرته. فبعضها يرتبط بفترات طفولته والبعض الآـخر قد يتّصل بفترة الغربة أو الضياع في المدينة أو الدّراسة الجامعية. ولكن جانبا من كتابة البيت ينزع إلى كتابة ذاكرته وطقوسه القديمة التي أخذها الزمن.
هذا التّوجّه لا تخلو منه الكتابات القصصية المعاصرة بقلم المرأة وهو ما يتجلّى في نماذج مختلفة من ”أوشام سرية” للكاتبة التونسية هيام الفرشيشي التي تبدو في عدد من قصص هذه المجموعة محتفية بفضاء البيت القديم، بيت الذّاكرة والطّفولة واليوميّات الأولى. فكثيرا ما غاصت أقاصيص مجموعتها في تفاصيل البيت القديم، بيت الحنين والقدامة، محتفية بتلك الوجوه القديمة التي اتصلت بالسكن القديم والتي ترتبط بالذاكرة وتحظى بمكانة وجدانية فيها (الجدّة- الجدّ- العمّة….) . وهي في نفس الوقت تحتفي بذلك النمط الحياتي القديم الذي عرفته هذه البيوت، مستعرضة ما فيها من عادات وطقوس وأشياء وحكايات. فالساردة تستعيد مخيال بيوت الذاكرة والطفولة على غرار بيت الجدة أو بيت العمة، ملتقطة ما تحمله من هندسة وطقوس ووجوه غابرة. فهذه البيوت قد غادر أهلها ولكنها مازالت محافظة على الذاكرة.
على هذا النحو يبدو بيت الجد في قصّة عرس الذّيب خاليا من أهله وساكنته الأصلية ولكنه مازال مثيرا لروائح الحياة التي كانت ومذكّرا بالعادات والتقاليد:
“لقد رحلت الشّخصيّات الأليفة عن الدّار القديمة ولكن انبعثت فيها الرّوائح من جديد. قطع من العجين المخمّر تحت أغطية، قبل أن يلصق في الطابونة لينضج خبز الغنّاي. روائح الحليب الطازج وهو يحلب من ضرع البقرة. الدّجاج الذي ينبش في التراب…”[9].
إضافة إلى هذه العادات القديمة تذكر الكاتبة مصطلحات أخرى تحيل على التراث المحلي وعلى ذلك الواقع البدوي الذي يتوارى ”فتنبعث روائح الحنّاء والمردومة والحرقوس…[10]“.
إنّ الساردة وهي تجول في ذاكرة البيت، تتذكّر شخصياته مثل الجدة وضيوفها وتقدّم أشياءه وتفاصيله، الموحية بنمط الحياة، محافظة بذلك على الحسّ التراثي وعلى ذلك النمط من الحياة. فمشاغل الجدّة تعتبر نموذجا لنشاط المرأة الريفية وعاداتها. ( طبخ الرغيف صباحا… ألخ ).
“تنهض جدتي قبل بزوغ الشمس وحين تناولني الرّغيف الساخن، كنت أتأمّل الرغيف وأرفع عيني نحو الشمس…[11]“.
و تتعمّق هيام الفرشيشي في وصف حركات الجدّة ومراحل عملها ”وكان يحلو لي رؤيتها وهي تنهض صباحا، تحمي الخبز في الطابونة، بعدما تكون قد عجنت الدقيق فجرا وكوّمته قطعا صغيرة وتركته ليخمر وتحلب البقرات في الزريبة”[12]. وهي تتجاوز عاداتها في إعداد الطّعام إلى طقوس تقليدية أخرى، من ذلك الإشارة إلى نمط التداوي في ذلك الزمن. ذلك التداوي القائم على التّشليط والحشائش وغير ذلك من المعتقدات والوسائل القديمة. وهو ما تنخرط الجدّة في ممارسته:
“تشلّط جدّتي جبين كلّ رضيع تأتي به أمّه، لتقيه من الأمراض وإثر ذلك تكبس جبينه ببعض الحشائش، فيبكي الرضيع ألما وتبتهج أمه فرحا”[13].
وتكشف بعض الفقرات عن هندسة هذه البيوت القديمة، من ذلك ما تقدّمه في هذه الفقرة، واصفة بيت الجدة:
دخلت إلى الغرفة الواسعة التي تقسمها خزانة كبيرة، لم أر خزانة في حجمها وشكلها. هناك فجوة تؤدّي إلى وراء الخزانة عبر إزاحة خشبة كبيرة وراءها. كانت تخزّن جدتي خوابي العولة والدّقيق الكافية لإطعام العائلة أكثر من سنة[14]“.
ولا يخلو حديث الذاكرة من التقاط الموروث الشفوي بما فيه من حكايات مختلفة. فهي تستعيد الخرافات والأساطير التي يتداولها الناس. فتذكر في هذا المجال حكايات الجدة التي تظل صامدة في الذاكرة:
“مازلت أعشق جلسات جدتي شهرزاد الحكاية. مازلت انشد الاستماع إلى حكاياتها عن العصور الغابرة وعظمة البسطاء، باحثة عن أوراق مبعثرة في العمق”[15].
وفي المقابل تلتقط جزء آخر من الحكايات المخيفة التي تمتزج بالأساطير وهي حكايات تبدو معدة لتخويف الصغار من بعض الأشياء. فتذكر في هذا المجال بعض حكايات العمة عن الرّهبان:
“أيام طفولتنا تتحدث عمّتي عن الرّهبان الذي يسكن الإسطبل. هو أسود اللون، كبير الرّأس، ضخم الجثة، برز لها صيفا حين بقت ساهرة بمفردها وسط الدار[16]“.
وتورد كذلك حكايات ابنة عمّتها في هذا المجال عن بئر دار حماتها:
“ابنة عمتي روضة تحدّثني عن سيرة الأشباح والعفاريت. فبئر دار حماتي مسكون. لا يقتربون منه ليلا لأنّ الجنية ذات الشّعر الأشعث تقف على حافة البئر في العتمة وتصدر صوتا كالعويل يخافه أهل الدّار والجيران من حولهم…”[17].
هكذا تبدو الكاتبة في بعض هذه القصص محتفية بالذّاكرة وبالبيت القديم. فإذا هو منبع ذاكرة حية وإذا كتابته تنزع إلى البحث في مادّة انتربولوجية عميقة. فكتابة هذا البيت تتشكل من استراتيجيات بنائه وطقوس أهله وعاداتهم المعيشية وحكاياتهم وخرافاتهم ويومياتهم. ويمكن القول أن هيام الفرشيشي تكتب هذا البيت بشيء من الحميميّة، مقاومة للنسيان ومعبّرة في نهاية المطاف عن ألم الذاكرة وهذه الحياة التي تتحوّل إلى سراب:
“كانت الدار ساكنة والجدران العالية المتآكلة صامتة، ولا أطياف تخترق الغرف والدار عدا الذكريات، حتى جماعة الجن فقد استرسلوا في سبات عميق …[18]“.
نستخلص في هذا المستوى أن علاقة الساردة بهذه الفضاءات هي علاقة محبة وحنين. فهي تطرح صورا تحتفي بالماضي والذاكرة وترسم شيئا من الألفة بين الكاتبة والبيت. هذه الألفة التي يبعثها البيت تصوّرها كتابات أخرى من وجهة مختلفة، لكنّها ترسم دوما صورة البيت الحميميّة باعتباره فضاء ألفة ومحبة.
3- البيت فضاء ألفة ومحبة:
يكتسب البيت في نماذج قصصية أخرى صورة إيجابية. فهو فضاء ألفة ومحبة وهو فضاء حميمي مثالي يؤسّس للحياة النموذجية والعلاقات النّاجحة داخل الأسرة. ولعلّ أقاصيص هند حنفي في مجموعتها الناحية الثانية، تعدّ نموذجا لهذا التوجه. فالبيت في قصصها يتّسم بشيء من الحميمية والمحبة والصفاء بين الزوجين وهو فضاء الوفاء والمحبة. تمارس فيه المرأة عاطفتها وتعيش مشاعرها الصادقة. ويلفت انتباهنا في هذا المستوى، تكرّر صورة الزوجة الوفيّة، المشتاقة لزوجها في بعض قصصها. وهو ما يحوّل البيت إلى فضاء انتظار…
في هذا المجال تطلّ الزوجة في قصة ”حلم أم حقيقة”، منتظرة عودة زوجها الطّيّار، معبّرة عن مشاعر الحب العميق. ”ليته يعلم أنّها هاهنا الآن، تتطلّع لعودته بكلّ ما في نفسها من اشتياق جارف… تنهيدة حارّة من أعماقها ألهبت شفتيها وحملت معها بعضا من أسرار ألم الخوف والوحدة ولهيبهما…[19]“.
هذا الشّوق يتحوّل إلى حلم بالزّوج الغائب وتخيّل لحضوره:
“انقبضت أصابعها برفق وكأنّها تحتضن كفّها المتلهّف المشتاق إلى لمسة يده وضغطة أصابعه القرية الرقيقة…[20] “.
فهي تتخيّل حضوره وتحلم به:
“ظلّ واقفا أمام السرير لحظات، ضانّا بها عليها. وهو يعلم أن لا راحة لها إلا بين ذراعيه ثم أنزلها برفق وقبضتها الصغيرة متشبّثة به، تأبى عليه الابتعاد… استلقى بجانبها واحتضنها بقوة وحنان…”[21] .
هذا الانتظار وما فيه من حبّ وحلم وشوق يظهر أيضا في قصة ”سيعود“. فالزّوجة تنتظر زوجها المفقود في الثورة منذ حوالي سنة، دامعة حزينة ”تدور في أرجاء المنزل مخترعة أعمالا، لا وجود لها حتى لا تنفرد بنفسها. حتّى لا تجالس وحدتها وتلتقي بدموعها”[22].
وتبدو هذه الزوجة في حالة حيرة وقلق واضطراب ، متخيّلة مصير زوجها بين موت وحياة.”… ثم تفيق من خيالات جنازته على تنهيدة ملتهبة وصوت في قلبها يخبرها أنه سيعود… سيعود… ربما لا يستطيع أن يعود. ربما يحتجزونه في نفق ما في أمن الدولة. ربّما يعذّبونه الآن. فتعود تبكي صرخات ألمه وتشهق من تصوّرات تعذيبه… تضمّد جراحه وتمدّ يدا في الهواء تلمسه…[23]“.
وترسم الكاتبة الزوجة في حالة هستيرية، منتظرة الزّوج المفقود، متسلّلة إلى ليلها، ليل الانتظار الطويل:
“تزحف في الظلمة حتى ثيابه التي كانت آخر ما لبس… تحتضنها بقوّة كأنّما تضمّه… تغمر نفسها في رائحته حتى تنام”[24].
وأمّا في قصّة الصّمت فيتبادل الزّوجان أحاديث اعتراف وحبّ وتبدو بينهما حالة صفاء ومحبّة. فيبدو الزوج متفرّجا على زوجته، معجبا بحركاتها وهي تتحرك في فضاء الغرفة.”… ظلّ يرقبها صامتا وعينيه تتبعانها في ذهابها وإيابها، مستمتعا بتلك اللذة الخفية في مراقبة كل حركة من حركاتها”[25].
ويبدو الحوار بين الشخصيتين حاملا للغة عاطفية رومنسية حالمة. فهو يقول لها مغازلا ”مازلت كعهدي بك طفلة” ويتعامل معها بأهواء عاشق حرصت الكاتبة على إبرازها.
“أمسك يدها بسرعة قبل أن تذهب، قائلا بصوت حنون:
انتظري.
أدارت وجهها إليه فرمقها بنظرة عاشقة عذبة نقيّة، تحمل كل معاني التّقديس والحبّ…[26]“.
إنّ خطاب الزّوج وحركاته يحمل معاني الحب والعشق في صوته ونظرته وكلماته.
ويمكن القول أنّ هند حنفي تكتب في هذه المجموعة بيتا قائما على الصّفاء والألفة والحبّ والوفاء، طارحة نموذجا من كتابة تبرز قداسة البيت وصفائه. لكن جانبا آخر من الكتابات النسائية يتجاوز هذه الصّورة الحالمة وينتهك الحجب والممنوعات، متجاوزا المثاليات ويقدّم البيت باعتباره فضاء سلطويا، معاديا للمرأة الذي تعيش داخله ألوانا من القمع والظلم.
4- البيت فضاء قامعا:
يبدو البيت في بعض القصص فضاء قامعا، تتعرّض الشخصية النسائية داخله إلى شتّى أنواع القمع. وهو ما نستشفّه على سبيل المثال من المجموعة القصصيّة الرجوع الأخير للكاتبة الأردنية مجدولين عبد الرب. ففضاء البيت يبدو غالبا على هذه المجموعة، محتضنا لأغلب القصص. وتختلف صوره ودلالاته من قصّة إلى أخرى ولكنّها في النهاية تجمع على صورة مقلقة. فهو فضاء المتاعب والقلق والتسلط الذكوري.
هذه الصّورة تبدو في قصّة المكوى. فالزوجة تتذمّر من مشاغلها ومتاعبها وخصوصا منها القيام بشؤون الكيّ ”أكره الكيّ واستصعبه. نقل التراب ورصف ممرات الحديقة كان علي أهون…[27]“.
وهي تعبّر من انزعاجها من أوامر زوجها ومواقفه منها:
“قال لي أبو العبد وهو يصبغ شاربه إنّه بات يشعر بالخزي من هندامه، وإنّه يستحي أن يظهر أمام الناس. واتّهمني لم تعودي تكوي بذّمة”[28] .
ويبدو البيت فضاء عزلة وقلق أيضا وهو ما يلوح في قصة ”وتنقض غزلها” حيث تبدو الشّخصيّة قلقة من وحدتها:
“سئمت الصّوت الوحيد في وحدتها صوت التلفاز…أغلقته. فانسكب الصمت في البيت مجدّدا… جالت في أرجاء البيت الساكنة. أصخت السمع لعلّ الهاتف يرنّ. لعل أزيز صراصير يأتي من الخارج يؤنس ليلها.”[29].
ويبدو البيت من ناحية أخرى فضاء خديعة ووهم حيث تقام داخله علاقات مزيفة، وترسم مشاعر مخادعة وأخرى مخدوعة، على نحو ما نعثر عليه في قصّة العتمة. ففي ظلّ الأجواء الجنائزيّة، كان هناك احتقان خفيّ بين السّاردة وابن عمها بسبب واقعة قديمة، لم يكن أحد من الحاضرين يعرفها وهي واقعة التحرّش الجنسي. وعلى نفس هذه الصّورة نجد البيت في قصة” في انتظار الخميس”، يعود إلى بيته كل خميس فتحتفي به الأسرة وفي مقدمتها الزوجة، وهو بذلك يخفي حقيقة عائلته الثانية التي يقيم معها في عمان. وهي الحقيقة التي اكتشفتها ابنته الطالبة من خلال إحدى زميلاتها. فكانت العائلة تعيش فرحة الانتظار:
“بانتظار الخميس يعدّ إخوتها طلبات مفرحة ليلبّيها الأب، وتتمنى دالية لو إنّها أصغرهم لا أكبرهم…الأم تعدّ الطعام وترتّب بعض الالتزامات والزيارات التي ستقضيها مع زوجها …[30]“.
أما البنت فكانت تتعذّب وتعيش مرارة الحقيقة التي انكشفت صدفة.
ويبدو البيت فضاء تسلّط واستسلام لا يمكن تجاوزه، وهو ما نفهمه من قصة ”تبتسم بدلال ”التي تعود ابنتها من موعد غرامي. فتجد أنّ أهلها قرّروا تزويجها وأنّه عليها الاستعداد لمراسم الخطوبة” تلعثمت لما رأت والدها يقف بباب غرفته، مبتسما، وخالتها تقبل نحوها تقبلها وتستعجلها:
-أسرعي وامشطي شعرك وتزيّني لتسلّمي على الجماعة…
-الجماعة؟
-المرأة تريد أن تخطب لابنها. موظف راتبه ما شاء الله، ومعها قريباتها…[31]“.
هذه الصّورة نفسها، نعثر عليها في قّصة ”المضبوع” حيث يعيش الابن تحت تسلّط والده وغطرسته وتصلّب مواقفه…
ومن الصور اللافتة للانتباه تحوّل البيت إلى فضاء خوف. فلم يعد مساحة أمان وأمن بل صار عرضة للسرقة مثلما نجد ذلك في بعض القصص وتحديدا ”مسارح الظنون” حيث توقظ الزوجة زوجها اعتقادا منها لوجود سارق، ولكن تبين أنها امرأة هاربة قد ولجت البيت:
“مازال همس كلكماتها يوشوش في أذني: أبو طارق، أبو طارق، انهض. هناك لصّ في المنزل. لقد سمعت صوتا غريبا”[32].
كما تتكرّر هذه الصورة في قصّة المضبوع:
“شبح رجل ملثم يتسلل إلى غرفة الشيخ. يقف بالباب، متأمّلا الغرفة الغارقة في ظلال سوداء…[33]“.
وينتبه المتأمّل في عالم الشخصيات القصصية في هذه المجموعة، بيسر إلى قيامها على شبكة شخصيات يجمع بين الكثير منها الانتماء إلى نفس البيت ونفس الأسرة، فيندر حضور الغريب. فبين الشخصيات في قصص مجدولين رابطة هامة، وهي رابطة القرابة العائلية لذلك تبدو القصص ذات طابع عائلي، فيها الأب والعم والأم والأخ والأخت وابن العم، وغير ذلك من الرّتب العائلية.
على سبيل المثال تتمثل شخصيات ”العتمة” في الساردة وزوجها وابن العم والعائلة قاطبة، أما في الرجوع الأخير فنجد الأم المريضة وابنها والخادمة، وأما في ”انتظار الخميس” فتتشكل الشخصيات من العائلة والابنة الطالبة والأب الخائن. وعلى هذا النحو تتشكّل شخصيات أغلب القصص. فالطابع العائلي يسيطر على عالم الشخصيات. لكن الغالب على وضعية هذه العلاقات وجود نوع من التّوتّر والقلق الداخلي والاختلافات والصراعات. فهذا الأب يمارس كراهيّة مقيتة ضد أهل زوجته وأخوال ابنه، وهذا الزوج يخون عائلته كاملة ويستغنى عنها سرا، مشكّلا أسرة أخرى في الخفاء، وذلك ابن العمّ حاول اغتصاب ابنة عمه وصار بينهما حقد دفين.
تذكر السّاردة أنّ ابن عمّها قد تحرّش بها سابقا، حينما كانت تتردّد على بيت عمّها وتبيت هناك:
“إلى أن جاءت تلك الليلة. كان الجوّ حارا. صحوت عطشى. عندما دخلت المطبخ لأشرب وجدته هناك. لم اعرف أنّه في الدّاخل وحده. حشرني خلف الباب وحكّ جسدي بجسده. قلت له اتركني وهدّدته إنني سأخبر عمّي. ابتسم كأنّ الآمر لا يعنيه، وقبّل عنقي قبل أن أتمكّن من الإفلات منه وأنا اصرخ. كانت تلك آخر ليلة أبيتها في منزل عمي”[34] .
وإجمالا، تخلخل هذه القصص صورة بيت العزّ والأمان التّقليديّة وتقدّم المرأة ضحيّة عنف واغتصاب وخيانة وتزويج قسريّ وغير ذلك، مقابل صورة قاتمة للرّجل، الموسوم في هذه الأقاصيص بجملة من الأوصاف التي تجعله متسلّطا وقامعا. فهو المعتدي والخائن والمتلاعب والمضبوع والظالم…
ولعلّ هذه الصورة ترديد للّهجة المتشنّجة، الشّاكية التي عرفت بها كتابات المرأة العربية، ذات التوجّه النسويّ ضد الرّجل بصفة خاصة وضدّ المجتمع عموما… فهذه الصور المختلفة التي وردت في هذه المجموعة تقدم صورة غير مريحة للبيت. فهو فضاء تسلل إليه التعب والقلق والعزلة. وبدأ يفقد الصدق والأمن. وهي صور لاح لها مثيل في الواقع اليومي حيث فقد البيت العربي الكثير من خصوصياته وحميميّته وبات يثير الكثير من الأسئلة المؤرقة وهو ما يبدو مرّة أخرى في تناولنا للشّخصيات المرتبطة بهذه البيوت، ويمكن اعتبار كتابة البيت في هذه المجموعة كتابة تحاول التعمق في التصدعات التي تشهدها العائلة العربية التي تشهد تحولات عميقة …
5- خاتمة:
تقدّم هذه النماذج القصصيّة مواقف مختلفة في التّعامل مع البيت وكتابته. فإذا كان في بعضها يشكّل فضاء ألفة وذاكرة ثرية بالحياة أو فضاء حب فإنّه في البعض الآخر يلوح فضاء قامعا، تتعرض فيه المرأة إلى شتى أنواع الظلم والاعتداء بل يبدو مؤشّرا على انهيار الأسرة العربية وما يجتاحها من مشاكل وخلافات.
صفوة القول إنّ الكتابة السرديّة بقلم المرأة بدأت تخرج من جلباب الأطروحات النسويّة. فلا أثر للرجولة القامعة والغرف المغلقة على النساء في مجموعتي هيام الفرشيشي وهند حنفي، رغم ازدحام أقاصيص مجموعة ماجدولين بالألم النسائي. ولعلّ هذه الاتّجاهات التي سجّلناها في كتابة البيت تعكس مجمل اتجاهات كتابة البيت في السّرد النسائي العربيّ قصة ورواية. فكتابة البيت القامع هي كتابة تعكس النّفور من هذا البيت والرّغبة في تجاوز جدرانه، أما كتابة البيت الأليف فتظلّ نوعا من الانسجام مع الواقع والتّأقلم معه.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
- حنفي هند: من الناحية الثانية، القاهرة، شمس للنشر والإعلام، ط1، 2012
- أبو الرب مجدولين ، الرجوع الأخير ، الشارقة، كتاب الرافد، عدد يناير2015
- الفرشيشي هيام: أوشام سرية، تونس، دار الفكر، ط1، 2015
المراجع:
- بحراوي جسن : بنية الشكل الروائي، المغرب ، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990
- باشلار غاستون: جماليات المكان، تعريب غالب هلسا، بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزبع ، ط6 ،2006
- بن جمعة بوشوش ة: الرواية النسائية المغاربية، تونس المغاربية للنشر، ط1 ، س2003
- حطيني يوسف: الرّموز المكانية في القصة الإماراتية، أبو ظبي، جريدة الاتحاد، 24 جانفي، 2008
[1]– بوشوشة بن جمعة: الرواية النسائية المغاربية، تونس المغاربية للنشر، ط1، س2003، ص117.
[2]– يوسف حطيني: الرّموز المكانية في القصة الإماراتية، أبو ظبي، جريدة الاتحاد، 24 جانفي، 2008.
[3]– حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المغرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص42.
[5]– حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، مرجع سابق، ص44.
[6]– المرجع نفسه، ص43.
[7]– غاستون باشلار: جماليات المكان، تعريب غالب هلسا، بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزبع ، ط6 ،2006 ص39.
[8]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[9]– هيام الفرشيشي: أوشام سرية، تونس، دار الفكر، 2015، ط1، ص27.
[10]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[11]– المصدر نفسه، ص115.
[12]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[13]– المصدر نفسه، ص117 .
[14]– هيام الفرشيشي: أوشام سرية،ص118.
[15]– المصدر نفسه، ص117 .
[16]– المصدر نفسه، ص131.
[17]– المصدر نفسه، ص132.
[18]– المصدر نفسه، ص156.
[19]– هند حنفي: من الناحية الثانية، القاهرة، شمس للنشر والإعلام، 2012، ط1، ص75.
[20]– المصدر نفسه، ص75.
[21]– المصدر نفسه، ص77 .
[22]– المصدر نفسه، ص63
[23]– المصدر نفسه،ص65.
[24]– هند حنفي: من الناحية الثانية، مصدر سابق، ص65.
[25]– المصدر نفسه، ص115.
[26]– المصدر نفسه، ص116.
[27]– مجدولين أبو الرب، الرجوع الأخير، الشارقة، كناب الرافد، جانفي2015، ط1،ص32.
[28]– مجدولين أبو الرب، الرجوع الأخير، مصدر سابق، ص89.
[29]– المصدر نفسه، ص39.
[30]– المصدر نفسه،ص99.
[31]– المصدر نفسه، ص43.
[32]– مجدولين أبو الرب، الرجوع الأخير، مصدر سابق، ص70.
[33]– المصدر نفسه، ص8.