“الذّبيحة” بين الطّقس الدّينيّ والسّياسيّ

الذّبيحة

 

ملخّص:

تعتبر “الذّبيحة” أو “الأضحية” من أهمّ وأقدم الشّعائر الدّينيّة التي عرفتها الدّيانات الإنسانيّة، نظراً لما تتضمّنه من بعد روحيّ ودينيّ. ولكنّها في الوقت نفسه طقسٌ أنتروبولوجيٌّ له أبعاد ثقافيّة تعكس في غالب الأحيان فهم الإنسان لواقعه المعيشيّ. وتبعا لهذا فنحن نسعى من خلال هذه الورقة البحثيّة إلى تبيان أنّ طقس “الأضحية” في عمقه مشبعٌ بدلالات متعدّدة ومتباينة.  ومعانيه العميقة التي تنتمي إلى مكوّناته البنيويّة والسّياقات الظّرفيّة تنهض بوظيفة منح الظّاهرة بعدا تجريبيّا حيًّا وديناميًا في الواقع الاجتماعيّ. حيث تتحوّل الأضحية من بعد مادّي يتجسّد تاريخيا في تأدية السّنّة الإبراهيميّة، إلى بعدٍ طقوسيّ يتقاطع مع جملة من الممارسات والمقولات الثّقافيّة التي يبقى استكشاف التّفاعلات القائمة بينها حدّا أساسيًا لتحقيق الفهم العميق والشّامل للظّاهرة.

ولهذا حاولنا تسليط الضّوء على دراستين مهمّتين في هذا المجال وهما دراسة عبد الله حمّودي بعنوان: “الأضحية وأقنعتها: بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغرب”، ودراسة حسن رشيق المعنونة بـ” سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير”. وقد مكّنتنا هاتان الدّراستان من تبيان التّأثير النّفسيّ والاجتماعيّ الذي يخلّفه طقس الأضحية لدى الأفراد والجماعات.  بل استطاع الباحثان أن يُسائلا، من خلال موضوع الأضحية، الأنتروبولوجيّة الاستعماريّة بطريقة نقديّة بنّاءة، أعادت الاعتبار للهويّة المحلّية، وأولت البعد الثّقافيّ المحلّي أهمّيةً قصوى في فهم الواقع الاجتماعيّ المحلّيّ.

الكلمات المفاتيح: الطّقس – الذّبيحة – الأنتروبولوجيا المحلّية – الأنتروبولوجيا الاستعماريّة – الثّقافة – الدّين.

Abstract:

There is no doubt that the “sacrifice” is considered one of the most important and oldest religious rites known to human religions, given the spiritual and religious dimension they contain. But at the same time, it is an anthropological ritual that has cultural dimensions, which often reflects a person’s understanding of his living reality. Through this paper, we seek to show that the ritual sacrifice of its “sacrifice” is saturated with multiple and different connotations that revive its deep meanings between its structural components and situational contexts, which gave the phenomenon a living and dynamic experimental dimension in social reality. Where the sacrifice is transformed from a material dimension that is historically embodied in the performance of the Abrahamic year, to a ritual dimension that intersects with a range of cultural practices and sayings, whose exploration of the existing interactions between them remains a fundamental limit to achieve a deep and comprehensive understanding of the phenomenon. That is why we have tried to shed light on two important studies in this field: the study of Abdullah Hammoudi, “The sacrifice and its persuasion it is research in the sacrifice and mockery in Morocco” and the study of Hassan Rachik entitled “Sidi Shamhrouche, the liturgical and political in the High Atlas”. These two studies have enabled us to demonstrate the psychological and social impact of sacrificial rituals on individuals and groups. Not only that, but the researchers were able to question, through the issue of sacrifice, colonial anthropology in a constructive and critical manner, which restored the local identity, and attached the local cultural dimension a paramount importance in understanding the local social reality.

Keywords: Ritual, sacrifice – local anthropology – colonial anthropology – culture – religion.


1- مقدمة:

إنّ العيش بالرّموز وتوظيفها فعاليّةٌ إنسانيّةٌ بامتياز، إذ يعيش بها الإنسان ويُؤثّث وجوده المادّي والمعنويّ. ذلك أنّ المجتمعات سواءً الحديثةَ أو التّقليديّةَ أو المسمّاة بلا كتابة، تُنتج متخيّلات وأساطير لتعيش بها وتَبني من خلالها رموزها وصورها عن نفسها وعن العالم والأشياء، وبواسطتها تُحدّد أنظمة عيشها الجماعيّ ومعاييرها الخاصّة[1]. وأقصد هنا بالتّحديد تلك “الطّقوس” والممارسات الرّمزيّة المنظّمة التي ينخرط فيها النّاس بكثافة ويعتقدون فيها. والمجتمع المغربيّ كغيره من المجتمعات الإنسانية مشبعٌ بطقوس وممارسات -لن نقول عنها خرافيّة أو بدائيّة- تُعبّر عن الوعيّ الجمعيّ للمغاربة وموقفهم من العالم. وهذا المجتمع المركّب الذي ظلّ ولوقت غيرَ بعيد وجهةً للأنتروبولوجيّين الأجانب، سواء في سياق الاستعمار الذي برزت فيه، أو في سياق خطاطة “النّحن والآخرون”، مازال غنيّا بمعتقدات وممارسات معقدّة تحتاجُ إلى دراسة علميّة بعيدا عن خطاب الاستعلاء والعجائبيّ أو التّجريميّ. بمعنى آخر وبالنّظر إلى الواقع الأنتروبولوجيّ المغربيّ اليوم نلاحظ قلّة الدّراسات التي تتناول البحث الميدانيّ الأنتروبولوجيّ. ومثل هذه المواضيع التي تنخر صميم المجتمع تَعكس في الحقيقة الهويّةَ الثّقافيّةَ المحلّيةَ وأنماط التّفكير السّائدة.[2]

تسعى هذه الورقة إذن إلى تسليط الضّوء على طقس “الذّبيحة” وما يرتبط به من ممارسات داخل السّياق المغربيّ، وذلك من خلال إجراء تحليل وصفيّ مقارن بين دراسة الأنتروبولوجيّ المغربيّ عبد الله حمّودي في كتابه “الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب”[3]، ودراسة الأنتروبولوجيّ حسن رشيق في كتابه: “سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير”[4]. ونهدف من خلال هذا العمل إلى تبيان كيفيّة مقاربة كلّ منهما لطقس “الذّبيحة”، وكيف يمكن لهذه الأخيرة أن تتّخذ معاني ودلالات مختلفة، وأن تتمّ في طقوس متعدّدة باختلاف الزّمان والمكان. فضلا عن هذا، تركّز دراستنا على الطّابع المحلّيّ-الدّاخليّ للظّاهرة الأنتروبولوجيّة، إيمانا منّا بأنّ الباحث إذا لم يكن مطّلعا بالتّفاصيل الدّقيقة لبنية المجتمع الذي يحتضن تلك الممارسات، فإنّ فهمه للدّلالة العميقة لتلك الطّقوس وفكّ رموزها سيكون أمرا صعبًا. الشّيء الذي سينجرّ عنه معرفة سطحيّة مختزلة وأيديولوجيّة كحال المعرفة الأنتروبولوجيّة الاستعماريّة. ولهذا ارتأيتنا التّطرّق في مستوى ثانٍ من هذه الورقة -ولو بشكل مقتضب- إلى واقع الأنتروبولوجيا في المغرب، وملامحها وأهمّ التّحدّيات التي تواجهها.

  • لماذا الذّبيحة موضوعًا للدّراسة؟

2- مقاربة عبد الله حمّوديل ” الذّبيحة الإسلاميّة” لعيد الأضحى:

تكاد الطّقوس تفرض نفسها على الباحثين كموضوع أنتروبولوجيّ صرف، ذلك أنّ تناول حمّوديل ذبيحة عيد الأضحى كان دافعه في البداية تحليل العلاقة بين التّقنيّات المحلّية والمجتمع. وأثناء تطبيقه لمشروعه هذا استهواه حفل “بوجلود”. غير أنّ المصادفة ليست وحدها التي تولّد الاهتمام بالطّقوس، وخصوصا المهمّشة منها، لأنّ الأهمّ يكمن في مواقف الباحث المعرفيّة لأنّها هي التي تحوّل المصادفة إلى مشروع علميّ يمكن أن يكون بداية الطّريق إلى تأسيس معرفة أنتروبولوجيّة ذات خصوصيّة عربيّة محلّية[5].

استهلّ حمّودي دراسته “الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب” بالتّطرّق إلى أهمّ الدّراسات الأنتروبولوجيّة الأجنبيّة التي اهتمّت بظاهرة (بيلماون) أو (بوجلود)[6] في سياق الاستعمار، ومن هؤلاء نجد “إدموند دوتي”، “أوغست موليراس”، “إميل لاوست”،”إدوارد وسترمارك”. وهذا الأخير حسب حمّودي هو الذي أدمج بصفة نسبيّة الذّبيحة الإسلاميّة في تأويل المسخرة التي تليها، في حين أنّ باقي الدّراسات -رغم أهمّيتها- كانت خاضعة إلى الأيديولوجيا الاستعماريّة، فغيّبت المعنى وظلّت حبيسة خيالهم النّظريّ.

لقد بالغ هؤلاء الأنتروبولوجيّين الأجانب في الجزئيّات وأساليب الوصف وكأنّهم لم يحاولوا، أبدا، رؤية ما لا يُرى ولا حتّى الملاحظة الشّاملة. فشبّههم “بالمتجوّلين الذين يصادفون جماعة بهلوانيّة، يتبعونها في أوّل درب ويتخلّون عنها ما أن تسلك دربا آخر، دون أن يتساءلوا عن إمكانيّة قيامها بالأفعال نفسها، أو بمشاهدة مغايرة”[7]. ويرى حمّودي أنّ ما يرافق عيد الأضحى من طقوس واحتفالات، يضرب بجذوره في أعماق التّاريخ البشريّ، ويقتسم هذه الجذور مع شعوب أخرى. غير أنّ الأطروحة التي يدافع عنها حمّودي تتمثّل في كون هاته الممارسات والطّقوس المرتبطة بـ “بوجلود” من الصّعب فهمها وتوضيحها دون ربطها بالذّبيحة الإسلاميّة. أي من خلال رؤيتها من منظور دينيّ يستمدّ دلالته من القصّة الإبراهيميّة. فالفعل العيديّ أو “تفاسكا”[8] يجمع بين الذّبيحة، من حيث هي الفعل المؤسّسيّ، والمسخرة، كنوع من تدمير النّظام القائم[9]. وهنا نستحضر أطروحة إدوارد فسترمارك، الذي فسّر أجواء السّخرية التي تكتنف عادة مهرجان “بوجلود” بكونها طريقة استهتاريّة احتفاليّة يتمرّد من خلالها النّاس ضدّ القداسة التي يفرضها عليهم العيد حتّى يتمكّنوا من الرّجوع إلى مشاغل الحياة دون خطر، وبالتّالي فهي تمثّل بمعنى ما من المعاني روحا معارضة للدّيانة الإسلاميّة[10].

بعد نقده للأدبيّات السّابقة والدّراسات الغربيّة، يصف حمّودي طقوس العيد بشكل مفصّل ودقيق، ابتداءً من شراء الأضحية وصلاة العيد، وصولا إلى نحر الأضحية. ليؤكّد أنّ وضع هذه الأخيرة هو الذي يُدخل في البداية والنّهاية الهويّة الذّكوريّة والأنثويّة في الملتبس، حيث تكون الأضحية محاصرة بهذه الثّنائيّة طيلة فترة اصطفائها، إذ يبقى مبدأ الذّكورة مفضّلا وإجباريّا، فـ “الذّبيحة ليست من شأن النّساء”[11]، ولكن ما يلبث هذا المبدأ حتى يفقد هويّته، خاصّة حين يتمّ تهيّئتها للنّحر، فخلال هذه اللّحظة تتدخّل النّساء لتزيين الذّبيحة بالحنّاء والكحل، وكأنّ الأمر يتعلّق بعروس يتمّ تجهيزها لليلة الدّخلة (النّحر)[12]. وبعد أن يقوم الرّجال بالذّبح، تجري النّساء إلى أخد الدّم ورشّه في مختلف أرجاء البيت، في حين يتمّ رشّ الدّم الموجود على الأرض بالملح حماية من الجنّ. أمّا الدّم المحتفظ به، يتمّ تجفيفه واستعماله في التّبخير في حالة المرض، أو للتّمائم لحماية الأطفال. وبالتّالي فدم الذّبيحة مشبع بالبركة[13]، إذ يشفي المرضى ويطرد الأرواح الشّرّيرة. وهنا نلمس مفارقة عجيبة تتمثّل في كون الذّبح يسلّم الضّحيّة إلى الله، فروحها تذهب إلى الملائكة، بينما دمها يذهب إلى الجنّ[14].

ويلفت حمّودي الانتباه إلى مسألة تتعلّق بتباعد المرجعيّة المكتوبة مع المرجعيّة المتداولة بين النّاس، حيث أنّه سمع طيلة فترة تواجده بالمنطقة المدروسة[15] تسميّات متعدّدة لتلك الشّعيرة،”تيغرسي”[16] أو “تفاسكا” وكذلك “الضّحيّة”، ولم يسمع اسم الأضحية إلاّ من أفواه الفقهاء. وبخلاف السّمع وجد في المكتوب “عيد الأضحى” ولم يجد “تفسكا”[17]. هذه المسافة التي توجد بين ماهو مكتوب وما هو متداول، يفرض على الباحث التّمييز بين الدّين والثّقافة، قصد بلورة التّفاعل بينهما، لأنّ هذا التّفاعل هو المشكّل لمادّة العيش والمعيش اليوميّ.

هذا التّمايز بين المثاليّ والواقعيّ، بين النّظريّ والعمليّ، وهذا التّباين بين هذين المستويين، دفع حمّودي إلى الخروج من دائرة النّصّ، إلى دائرة النّصّ الحيّ بتطبيقاته العمليّة الملموسة، التي يُعاد رسمها في كلّ مناسبة. فالإعادة هنا وكما يقول جيل دولوز: “لا تقف عند وفرة النّسخ التي تندرج في المفهوم نفسه، لكنّه يُخرج المفهوم من نفسه ويُرغمه على التّواجد في عدّة نسخ، هنا والآن”[18]. هناك إذن، فصل ووصل في آن واحد بين الأضحية والمضحّي التّأسيسيّ، فهي عادات ونقائضها: هنا الضّحيّة ونقيضها، منفصلان ومتّصلان في آن واحد. فتظهر الذّبيحة كتجدّد للعلاقات الاجتماعيّة، وكمنطق خلاص وتمرّد. وقد خلص حمّودي في كتابه إلى أهمّية الرّجوع إلى الجسد الأضحويّ الإبراهيميّ والجسد المحاكي له في طقوس “العيد الكبير”، وحيث لا محاكاة بمعنى التّكرار الحرفيّ، فإنّ العلاقة بين الضّحيّة الإبراهيميّة والذّبيحة في طقوس “العيد الكبير” هي دائما علاقة تأويل فعليّ واتّخاذ موقف، وذلك بالضّبط هو مكمن التّمفصل بين الأضحويّ والسّياسيّ، حيث يسكنه التّوافق والتّوتّر، القبول والمعاناة، والهروب إلى فضاءات أخرى. ومنه فحلول الجسد الأضحويّ الإبراهيميّ في الجسد الذّبيحيّ الاستبداليّ يوم العيد، لا يعني بالضّرورة زوال الفارق بين الدّين والسّياسة، وبمجرّد إدخال الطّقوسيّ والاحتفاليّ في الذّبح.

3- مقاربة حسن رشيق “لذبيحة الضّريح سيدي شمهروش”:

قام الباحث الأنتروبولوجيّ المغربيّ حسن رشيق بفحص أنتروبولوجيّ لطقس “سيدي شمهروش”، المعروف في المعتقد المغربيّ بوصفه “سلطان الجنّ”، الذي يقع قبره في الأطلس الكبير الغربيّ، بمنطقة أمازيغيّة بجنوب مرّاكش، حيث يتمّ في كلّ سنة إحياء موسم “سيدي شمهروش” لتجديد الصّلة بهذا الضّريح. ويشير حسن رشيق إلى أنّه بالرّغم من كون اللّفظتين المركزيّتين في هذا الطّقس “الموسم” و”الزّيارة” لفظين عربيّين، فإنّ اللّفظ المركزيّ الثّالث “تيغرْسي” أي “الذّبيحة”، يعتبر أساسيّا ونابعا من اللّغة المحكيّة لسكّان المنطقة. لذلك فهو مفهوم يكتسي هويّة محلّية أمازيغيّة. وفي الحقيقة تكمن القيمة المضافة لدراسة رشيق في كونها ليست فقط دراسة أنتروبولوجيّة عاديّة لطقس الوليّ، ولكنّها أيضا دراسة أدمجت البعد الطّقوسيّ الدّينيّ مع السّياسيّ، بمعنى مستوى سياسي محلّيّ قويّ بين سلالة إذ بلعيد، وقبائل آيت ميزان بدواويرها الثّلاثة[19]. وبهذا فإنّ رشيق ومن خلال دراسته هذه يروم توضيح العلاقة بين القدسيّ والسّياسيّ، والقيام بمقارنة بين نمطين من الأضحية: “الأضحية القدسيّة” التي يقوم بها فاعل “متخصّص في القدسيّ” ومتعوّد عليه، والأضحية التي تنظّمها الجماعة السّياسيّة “القبيلة” التي تفرض قواعد سياسيّة على الأضحية، وعلى المجال القدسيّ الذي تنتمي إليه بصفة عامّة[20].

يُنظّم الموسم أو “المعْروف”[21] بشكل منظّم وتناوبيّ بين “القبائل”، وتتمّ الذّبيحة يوم الخميس. وهذا الشّرط الطّقوسيّ ضروريّ بالنّسبة إلى باقي الذّبائح الجماعيّة المهداة إلى الوليّ، وحسب الرّواية الشّفهيّة، فإنّ يوم الخميس هو اليوم الذي يتداول فيه شمهروش على السّلطة، وينبغي أن تتوفّر مجموعة من الشّروط التي ترتبط بجنس ومواصفات الذّبيحة،إذ ينبغي أن تكون بقرة سوداء “تُمُوكَّايْنْت تِيظِيليتْ”[22].

وقد أشار حسن رشيق إلى أنّه سنة 1987 تمّ خرق هذه القاعدة من طرف دوّار امزيك[23]، حيث تمّ ذبح ثور أبيض. وتعتبر التّفسيرات التي قدّمها أعضاء القرية، الواعين بخروجهم عن المعيار، تقنيّة وطقوسيّة، تتمثّل في عدم تمكّن الأشخاص المكلّفين من العثور على بقرة مناسبة، ثمّ إنّ فقيه الدّوار أكّد لهم بالرّجوع إلى المعايير الإسلاميّة المتعلّقة بالأضحية في كون الذّبيحة الذّكر أفضل من الأنثى[24]. وهنا نلمس التّداخل والتّجاور بين البعد الدّينيّ المتمثّل في (المعايير الإسلاميّة) والبعد الطّقوسيّ الذي يتجلّى في شراء أضحية للوليّ “سيدي شمهروش”[25].

وتتمثّل أهمّ الشّروط الطّقوسيّة الموالية لتقديس الذّبيحة، في عزلها تدريجيا عن باقي البهائم في زريبة يملكها أحد أعضاء السّلالة، هذه الزّريبة التي تأوي طيلة السّنة بهائم، لكنّها تكون مقدّسة مرّة واحدة في كلّ سنة ولساعات معدودة، فتقوم النّساء بوضع البخور وإشعال الشّموع طيلة اللّيل، ثمّ تتوافد باقي النّسوة لزيارة المكان، وتتوجّهن إلى الذّبيحة كما لو أنّ الأمر يتعلّق بسيدي شمهروش. ويفسّر حسن رشيق هذا الفعل (عزل الذّبيحة) باعتباره طقسا ضروريّا من طقوس المرور،وقبل ساعات من موعد النّحر، وفي مكان قريب من الزّريبة يتمّ تحضير الموكب وحمل أعلام قديمة مكتوب عليها (لا إله إلا الله، محمّد رسول الله، الفقيه سيدي شمهروش)، وترتبط ساعة انطلاق الموكب بوصول السّلطات المحلّية، وأعضاء السّلالة الذين يشرفون على الموكب، في حين تتقدّم الموكب أخت الحارس وهي تحمل آنية عليها قالب سكّر وتمر وحليب[26]. ولمّا يصل الموكب إلى مكان الذّبح، الذي يكون مكتظًّا بالزّائرين، يقوم ممثّل السّلطات المحلّية بلمس الدّابّة على جبهتها، إيذانًا ببدء الذّبح، وهذا الأخير تُراعى فيه الطّقوس الإسلاميّة، كالبسملة، والتّوجّه صوب القبلة. وهنا يجب أن نلفت الانتباه إلى مسألة في غاية الأهمّية، وهي أنّ عمليّة الذّبح لا يقوم بها أفراد القبيلة بالرّغم من تنظيمهم للموسم، حيث تصير عمليّة الذّبح آساس تقسيم العمل بين الجماعات والقبائل، فإسالة الدّم هو الفعل الوحيد الذي لا ينجزه أعضاء القبيلة، في حين أنّ السّلالة تنتصب بصفتها متخصّصة في عمليّة الذّبح[27].

وما أن يتمّ النّحر حتّى يتسابق الزّوّار ويقومون بتلطيخ أيديهم ووجوههم بدم الذّبيحة، وهناك من النّساء من يفقدن وعيهنّ على إثر أزمات صرع. ثمّ يقوم أحد الأشخاص بنشر “سلهام” في الأرض التي توضع فيها حبوب الذّرة المقليّة دون ملح، مادام الجنّ لا يأكل سوى الطّعام الغثّ[28]. أمّا توزيع اللّحم فيكون يوم السّبت، ويخضع هذا لمبدأ التّناوب، بمعنى أنّ القبيلة التي نظّمت الموسم هي التي تستفيد من القرابين واللّحم. وتخضع عمليّة التّقسيم والتّوزيع إلى تنظيم في غاية التّعقيد، فهي مناسبة أمام القبيلة لتحديد مكانة العائلة (تكاتْ) والمرأة، والأجنبيّ، والجماعة. ومن خلال مواكبة حسن رشيق للموسم ومتابعته طيلة أربع سنوات، وفي تناوبه بين القبائل، لاحظ أنّ هناك نوعا من اقتسام الهيمنة بين الدّين والسّياسة، غير أنّ هناك تغيّرات بنيويّة، في ظلّ الشّروط السّياسيّة، حيث تنجح القبيلة في إبعاد الخدم[29]، والضّريح تراقبه القبائل. فضلا عن أنّ الطّقوس لم تعد محترمة بشكل صارم كما كانت من قبل، فتارة يُضحّي النّاس ببقرة سوداء، وتارة بثور أبيض. علاوة على التّخلّي عن عزل الذّبيحة في زريبة الخدّام. وبالتّالي فإبعاد الخذم عن تنظيم الطّقس، يمكن أن يؤدّي إلى إحداث تحوّل في البنية ليشمل، بالضّرورة، كلّ مراحل الطّقس التي يشارك فيها الخدم. لكنّ هذا القرار لم يكن مرتبطا بالقبيلة فقط، فقد رفضت السّلطات المحلّية هذا الاقتراح، الذي يمكن أن يهدّد الوضع القائم. فماذا سيصنع “المقدّم” طيلة السّنة سوى أنّه يذبح ذبيحة الموسم. ومنه فأيّ تعديل للموسم من شأنه أن يؤدّي إلى قلب بنية الطّقس، وانسجام هذا الأخير أو عدم انسجامه يدخل في الدّيناميّة السّياسيّة المحلّية[30].

4- المقاربة المنهجيّة والنّظريّة للدّراستين:

من خلال العرض الوصفيّ لمضامين دراسة كلّ من حمّودي ورشيق تبيّن لنا أنّ هناك تشابهًا وتداخلا بينهما، فالدّراستين أُقيمتا في المنطقة نفسها (آيت ميزان)، كما نلمس حضور البعد السّياسيّ والدّينيّ سواء في دراسة حمّودي[31] أو رشيق، دون أن ننسى تشابه الألفاظ وأخصّ بالذّكر هنا اللّغة المحكيّة الأمازيغيّة، مثلا “تيغرسي”. فبالرّغم من اختلاف المجال والمناسبة (عيد الأضحى في مقابل موسم ضريح سيدي شمهروش)، فإنّ فعل النّحر يحتفظ بدلالته الرّمزيّة، كما أنّ المرأة في كلتا الدّراستين تقتصر على فعل تزيين الذّبيحة وإعدادها للنّحر، في حين أنّ فعل الذّبح يقتصر على الرّجل. زد على ذلك حضور ثنائيّة الدّم والجنّ في الدّراستين معا. غير أنّ الفرق يكمن في أنّ ذبيحة “عيد الأضحى” يتمّ فيها رشّ الدّم الموجود في الأرض بالملح[32] حماية من الجنّ، في حين أنّ دم ذبيحة “سيدي شمهروش” يتمّ التّهافت عليه والتّبرّك منه من خلال طَليه بالأرجل واليدين، في حين يُترك جزء منه كحقّ للجنّ ليشربه. بل ويتمّ تجنّب استحضار الملح (من خلال طرح حبوب قمح مقليّة من دون ملح) لأنّ الذّبيحة في نهاية المطاف هديّة تيمّنًا وتبرّكًا بملك الجنّ (شمهروش).

نلاحظ أنّ هناك تقاربا منهجيّا بين الدّراستين، مع بعض الاختلافات، غير أنّ المشترك بينهما يتمثّل في الاعتماد على مقاربة أنثروبولوجيّة قائمة على المعاينة المباشرة، والوصف العميق لكلّ مراحل الطّقس، فضلاً عن اعتماد الباحثين على الصّور التي توثّق الميدان، واستعمال ألفاظ وتسميّات تلامس الواقع المحلّي للفاعلين.

إنّ أهمّ ما يميز الدّراستين هو سعيهما إلى فهم وتأويل الممارسات داخل سياقها الحيّ. وهذا يؤكد لنا وعي الباحثين بأهمّية هذه الممارسات الطّقوسيّة داخل المجتمعات، حيث الكتابة ممارسة هامشيّة في تمرير جزء كبير من معارف النّاس. وبالرّغم من كون دراسة حسن رشيق يغلب عليها الوصف، إذ لم نلمس في الدّراسة تحليلا عميقا للباحث، ولم يبيّن موقفه من الظّاهرة بشكل صريح، وبالرّغم من كونه مازال باحثا مبتدئا وقتها[33]، فإنّه تجاوز نظريّات التّضحية كقربان بين المضحِّي والمضحَّى له، معتبرا كلّ الهبات المقدّمة للوليّ رهانا سياسيّا، وموضوعا للنّزاعات الاجتماعية. في المقابل نلاحظ أنّ دراسة رشيق قد تجاوزت الحدود الفاصلة بين المقاربات الأنتروبولوجيّة والمقاربات السّوسيولوجيّة، بمعنى أنّه حاول المزج بين نظريّات الطّقوس والتّضحية من جهة، ونظريّات الفعل الجماعيّ والنّزاع الاجتماعيّ من جهة أخرى[34].

كما أنّ دراسة رشيق وجّهت الوصف نحو السّيرورات اليوميّة عوض حبسه في تمثّلات منفصلة عن الأفعال الاجتماعيّة كما هو سائد في الدّراسات الأنتروبولوجيّة التي أنجزت حول “البركة” و”العين” و “القربان”. ومنه فدراسة حسن رشيق من بين اللّبنات الأساسيّة في البحث الميدانيّ الأنتروبولوجيّ، التي أبرزت مركزيّة الطّقس كمدخل للمعرفة العاديّة. واستطاع بالفعل لفت الانتباه إلى النّزاعات الاجتماعيّة التي تنكشف أثناء توزيع جسد الذّبيحة، خاصّة حينما يتزايد تحكّم الجماعة السّياسيّة في العمليّة الطّقوسيّة. وتبيان كيف يتمّ إقصاء النّساء والأطفال والأجانب، وحرمانهم من أيّ نصيب من الذّبيحة. وبالتّالي فالدّراسة جعلت من “الذّبيحة” نقطة التقاء يتداخل فيها الدّينيّ والطّقوسيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والجندريّ في آن واحد. وهنا تكمن القيمة المضافة للدّراسة.

أمّا دراسة عبد الله حمّودي فتعدّ من الدّراسات الأساسيّة التي رسّخت البحث الأنتروبولوجيّ التّأويليّ بالمغرب، وهذا ليس بجديد على كتابات عبد الله حمّودي المتميّزة[35]، منهجيّا ونظريّا، حيث يقول: “في جميع أبحاثي الميدانيّة تبنّيت منهجا وهو منهج المعاينة والمشاركة في الأفعال كسيرورات، لها مراحل ملموسة أحاول رصدها وهي في طور الإنجاز، وذلك قصد تسجيل ديناميّاتها”[36]، وهذا ما نلمسه في دراسته هذه التي قدّمت تحليلا شاملا ودقيقا للدّراسات الأنتروبولوجيّة الغربيّة، ليس من أجل نقدها وأدلجتها فقط، ولكن من أجل تغطية كلّ ما تغافلت عنه، عبر التّركيز على السّياق الحيّ، حيث الفعل يصنع معناه لنفسه، وذلك من خلال الوصف الشّامل والعميق لمسرحة يقول فيها هذا المجتمع شيئا عن ذاته، بقدر ما ينطق ويستعرض نفسه عبر هذه السّيرورة.

لقد كان تأثير المدرسة التّأويليّة، خاصّة مع كليفورد غيرتز، حاضرا في دراسة حمّودي الذي استوحى منه طريقة الوصف للمعاينة المباشرة لطقوس الذّبيحة والمسخرة، وهو ما يسمّى بالوصف الكثيف (thick description)[37]، وهو عبارة عن فحص مجهريّ دقيق ومفصّل للأفعال الاجتماعيّة الملموسة، يركّز على المعاني ويأخذ في الحسبان الأطر الثّقافيّة المرجعيّة التي تفرض نفسها بطريقة لا واعية. وهذه القابليّة للفهم المرتبطة بشموليّة الوصف الإثنوغرافيّ مكّنت حمّودي من التّوصّل إلى أنّ الفعل الدّراميّ لا يبدأ بنسق الطّقوس الإسلاميّة ولا ينتهي باللّعب والمسخرة فحسب، وإنّما أيضا، مثل كلّ فعل دراميّ يحتاج إلى إعداد، وهذا الإعداد هو القسم الخفيّ من العرض كما في الأوبرا أو في المسرح، فيه سمات يتمّ بسطها في الفضاء العموميّ المتمثّل في بوجلود.[38] وبالتّالي فإنّ حمّودي يهدف إلى وصف وتفسير ومعاينة الواقع من دون تحريفه، ولذلك حاول وضع الذّبيحة الدّامية في سياقها الزّمنيّ، من خلال ربطها بشعيرة الحجّ، والقصّة الإبراهيميّة، وطقوس بوجلود، ومقارنة ذلك ب”الكرنفالات” الأوروبيّة. بيد أنّ مشروعه الطّموح لم يترجم بصفة كاملة، إذ لم يتعدّى تحليل الطّقوس إلى وحدات أفعال، مستوى التّلخيص لمراحلها المختلفة، ممّا جعل من عرض مضمون خطاب الجماعة حول نفسها مبهمًا ومصطنعًا في أغلب الأحيان[39]. زد على ذلك مؤاخذة نور الدّين الزّاهي على إغفاله القصديّ لدراسة رينيه جيرار حول “العنف والمقدّس”، وتشبيهه لحجز حيوانات الأضحية بمخيّمات الحجز والاعتقال[40].

   بالرّغم من الانتقادات التي يمكن أن تتوجّه إلى هاتين الدّراستين، فإنّهما يشكّلان مساهمة جدّية وصريحة نحو أهلنة[41] المعرفة السّوسيولوجيّة والأنتروبولوجيّة، حيث نلمس من خلالهما رغبة في تجاوز الإرث الغربيّ، وشقّ الطّريق لخطاب أنتروبولوجيّ مستقلّ يُعنى بقضايا مجتمعاتنا. وبما أنّنا اعتمدنا هاتين الدّراستين، كمدخل لمعرفة واقع ورهانات الأنتروبولوجيا المغربّية، فإنّ التّساؤل الذي يفرض نفسه هنا يتمثّل في: ماهي مميّزات الممارسة الأنتروبولوجيّة بالمغرب؟ وماهي طبيعة مواضيعها ومقارباتها النّظريّة؟ وماهي الأفق الممكنة لهذا التّخصّص المعرفيّ؟

5- الأنتروبولوجيّا المغربيّة: الواقع، والرّهانات، والآفاق:

لا يمكن إغفال السّياقين السّياسيّ والفكريّ، اللّذين نشأت فيهما الأنتروبولوجيا في الوطن العربيّ، فقد اعتُبرت هذه العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في الدّول المغاربيّة، خاصّة بعد الاستقلال، “علومًا خطيرةً”، فتمّ إخضاعها إلى المراقبة، ووجّهت الدّولة اهتمامها للعلوم التّقنيّة، وقد ظلّت هذه العلوم الاجتماعيّة مرفوضة، ومشتّتة، بل ومنفصلة عن الواقع السّوسيو اقتصاديّ والاجتماعيّ للبلد. وهنا نستحضر حادثة إغلاق معهد السّوسيولوجيّا في الرّباط الذي كان يديره عبد الكبير الخطيبيّ سنة 1970 بأمر من الحسن الثّاني، معتبرًا إيّاه معهدًا لتجمّع الملحدين والمعارضين اليساريّين[42]، الأمر الذي ترتّب عنه تردّد في مآل هذه العلوم، هل سيقع إدماجها؟ أم سيتمّ أخد مسافة منها ورفضها؟

إنّ هذه الواقعة إذن تُلخّص بدايات العلوم الاجتماعيّة في السّياق المغربيّ. غير أنّ هذه الوضعيّة المرتبكة للعلوم الاجتماعيّة خاصّة السّوسيولوجيّة والأنتروبولوجيّة منها طرأ عليها تحوّل، لا سيّما مع تجديد المغرب الصّلة بهذه العلوم، حيث كشف تقرير أُنجز سنة 1999 من قبل معهد الأبحاث من أجل التّنمية IRD بطلب من اللّجنة الأوربية DGXII، أنّ المغرب يحتلّ المرتبة الثّالثة على مستوى الإنتاج العلميّ (المنشورات العلميّة) بعد جنوب أفريقيا ومصر[43]. ويعود ذلك إلى تأثير السّياق السّوسيو اقتصاديّ للعولمة من دون شكّ، حيث استشعرت الدّولة الحاجة إلى توجيه الفضاء الجامعيّ والباحثين، قصد مواجهة المشاكل الاجتماعيّة المستفحلة من فقر، وبطالة…، فضلا عن تكوين معرفة حول الانتقالات والتّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤثّر في عمق المجتمع المغربيّ[44].

فظهرت مجموعة من الباحثين المغاربة من قبل: محمّد بوغالي، عبد الله حمّودي، نجيب بودربالة، حسن رشيق، مليكة البلغيتي، رحمة بورقيّة، محمّد الطّوزي، فاطمة المرنيسي… وغيرهم حاولوا محاورة ومناقشة ذلك الإرث الغربيّ الذي اتّخذ من المغرب مجالا للدّراسة[45]. ومن خلال هذا التّمشّي، سعى هؤلاء الباحثين المحلّيين إلى “هدم المفاهيم المنحدرة من المعرفة والخطاب السّوسيولوجيّين، اللّذين طُبعا بهيمنة غربيّة، وأيديولوجيا مركزيّة أوربيّة. وفي الوقت نفسه، تبنّي نقدا للمعرفة والخطابات المشيدة من قبل مختلف المجتمعات العربيّة حول نفسها”[46]. وقد شكّلت الظّواهر الاجتماعيّة الرّيفيّة التّقليديّة، من النّاحية الموضوعاتيّة، المواضيع الأكثر تداولا بين الباحثين. ويرجع ذلك إلى الرّهانات السّياسيّة المحلّية التي أولت اهتماما خاصّا للتّحديث الفلاحيّ، وهو ما أدّى إلى توجّه روّاد علماء الاجتماع وبعدهم الأنتروبولوجيين نحو المجال الرّيفيّ. فضلا عن تأثّرهم بالتّجديد الذي أدخله كثير من الأنتروبولوجيّين الأمريكيّين أمثال كليفورد غيرتز، براون كينيث، دايل إيكلمان…، كلّ هذا ساهم في توفير “مشاريع تنمويّة” سمحت للباحثين بالقيام بأبحاث ذات صبغة أكاديميّة (بول باسكون، عبد الله حرزني، عبد الله حمّودي، محمّد مهدي، رحمة بورقيّة)[47].

6- الخاتمة:

تاهت العلوم الاجتماعيّة العربيّة بين الدّاخل والخارج، التّقليد والمعاصر، القوميّ والعالمي، المحافظ والرّاديكاليّ. ومن هنا وجب طرح التّساؤل التّالي: هل أنّ أزمة العلوم الاجتماعيّة في العالم العربيّ تعود إلى عوامل داخليّة تتجلّى في تراثنا المجتمعيّ، أم إلى عوامل خارجيّة تتمثّل في التّقليد، أم هي نتاج تفاعل العوامل الدّاخليّة والخارجيّة؟ ومنه وجب التّوضيح التّالي: حينما نقول تَيَهان أو محدوديّة العلوم الاجتماعيّة والأنتروبولوجيّة، فإنّ هذا لا يعني غياب حالات فرديّة جادّة ومتميّزة، متناثرة هنا وهناك، لكن حديثنا هنا ليس عن هذه الحالات الفرديّة، وإنّما عن خلق مدارس سوسيولوجيّة عربيّة جدّية مهتمّة بالشّأن العربيّ، وتتبنّى رؤى نقديّة تحليليّة محلّية عميقة وموحّدة. أمّا في ما يتعلّق بالآفاق فإنّنا نلاحظ أنّ هناك هشاشة مقلقة، على صعيد التّعليم أو البحث، فلا وجود لأقسام أنتروبولوجيّة في الجامعات المغربيّة، ما عدا بعض الفروع كالأنتروبولوجيا الحضريّة باعتبارهما مكمّلين للعلوم السّياسيّة أو لعلم الاجتماع. هذه الهشاشة المؤسّساتية تتعارض مع الطّلب المتزايد، خصوصا من طرف الجهات الرّسميّة لإدماج البعد الثّقافيّ ضمن البرامج التّنمويّة. 

   وكنتيجة لذلك قادتنا هذه اللّمحة حول دراسة حمّودي ورشيق حول الطّقس، وواقع ورهانات وآفاق السّوسيولوجيا المغربيّة، إلى التّوصّل إلى فكرة مفادها أنّ الباحثين الأنتروبولوجيّين، بالرّغم من المشاكل التي يعانون منها، فإنّهم قد حدّدوا لأنفسهم طموحا وأهدافا رئيسيّة تتمثّل في تخليص الأنتروبولوجيا من النّزعة الاستعماريّة، وطبع العلوم الاجتماعيّة الكولونيانيّة بباراديغم إعادة امتلاك الهويّة، والحداثة، والتّنمية. ممّا فتح آفاقا ومقاربات جديدة منحت للبعد الثّقافيّ أهمّية في فهم الأفعال الاجتماعيّة. ويتجلّى هذا بالآساس في الدّراسات التي ستأتي في ما بعد لكلّ من الباحثين وأخصّ بالذّكر هنا كتاب “المسافة والتّحليل في صياغة أنتروبولوجيا عربيّة” لعبد الله حمّودي، و”القريب والبعيد قرن من الأنتروبولوجيا بالمغرب” لحسن رشيق. ليشقّا طريقهما في مسار التّأسيس النّظريّ والمنهجيّ لأنتروبولوجيا عربيّة تنظر إلى ثقافة الآخر نظرة نقديّة بغية استيعابها وتمثّلها وتجاوزها.

قائمة المصادر والمراجع:

باللّغة العربيّة  :

  • بورقيّة (رحمة)، رشيق (حسن): الهجرة النّسويّة بجهة مرّاكش، ترجمة محمّد دحمان، وزارة إعداد التّراب الوطنيّ والماء والبيئة، الدّار البيضاء، 2003.
  • باقادر (أبو بكر)، رشيق (حسن): الأنثروبولوجيا في الوطن العربيّ. دار الفكر، دمشق، 2012.
  • بن بيّه (رشيد): “السّوسيولوجيّة المغربيّة: من الرّفض إلى إعادة الاعتبار“، مجلّة إضافات، العددان 31-32، صيف-خريف، 2015.
  • حمّودي (عبد الله): الشّيخ والمريد، النّسق الثّقافيّ للسّلطة في المجتمعات العربيّة الحديثة، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، 2010.
  • حمّودي (عبد الله): الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، 1988.
  • رشيق (حسن): سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، إفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء، 2010.
  • رشيق (حسن): القريب والبعيد قرن من الأنثروبولوجيا بالمغرب، المركز الثّقافيّ للكتاب، الدّار البيضاء، 2018.
  • الزّاهي (نور الدّين): المدخل إلى علم الاجتماع المغربيّ، دفاتر وجهة نظر، الدّار البيضاء، 2011.
  • السّبتي (عبد الأحد): الماضي المتعدّد، قراءات ومحاولات تاريخيّة، فصل “الطّقس الاحتفاليّ وحديث المجتمع عن ذاته”، دار توبقال، الدّار البيضاء، 2016.
  • منذيب (عبد العني): الدّين والمجتمع: دراسة سوسيولوجيّة للتّديّن بالمغرب، إفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء، 2006.

باللّغة الأجنبيّة:

  • khatibi, Abdelkebir. )1975(. Sociologie du monde arabe.no 126. Positions “
  • Geertz, Clifford.)1973). Thick Description: Toward an Interpretative theory of culture. Basic Books New York.
  • Dray-Kleiche, Karima )2007(.La Recherche scientifique au Maroc. Rapport de synthèse, IRD-CJB.
  • Westermarck, Edward )1935(. Les survivances païennes dans la civilisation mahométane. Payot, Paris.
  • Erving Goffman, La mise en scène de la vie quotidienne (Paris : Ed
  • Hussein Fahim, Indigenous Anthropology in Non-western Countries (Paris: Carolina Academic Press, 1975.
  • Myriam Catusse, Le Social : Une affaire d`état dans le Maroc de Mohammed VI (Rabat: Confluences Méditerranée) 2011.
  • Pierre Ansart, Ideologie, conflits et pouvoir (Paris: PUF, 1977).

[1]– Pierre Ansart, Idéologie, conflits et pouvoir (Paris: PUF, 1977), p21.

[2]– لقد شكّلت المجتمعات المغاربيّة بشكل عامّ، والمجتمع المغربيّ بشكل خاصّ منذ الفترة الكولونيانيّة إلى ما بعد الاستقلال الوجهة المفضّلة لدى مجموعة من الباحثين، حيث استقطب المغرب لوحده بالمقارنة مع باقي المستعمرات الفرنسيّة خلال الفترة الكولونيانيّة أكبر عدد من الباحثين. وذلك راجع لعوامل عدّة أبرزها مرونة المغرب في الإجراءات المرتبطة بتوافد الأجانب، التّنوّع الثّقافيّ للمجتمع المغربيّ….انظر: عبد العني منذيب، الدّين والمجتمع دراسة سوسيولوجيّة للتّديّن بالمغرب، أفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء، 2006، ص52.

[3]– عبد الله حمّودي: الضّحية وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، 1988.

[4]– حسن رشيق: سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، أفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء، 2010.

[5]– أبو بكر باقادر، حسن رشيق: الأنتروبولوجيا في الوطن العربيّ، دار الفكر، دمشق، 2012، ص144-145.

[6]– يعدّ “بوجلود” و”بيلماون” مصطلحين أمازيغيين يشيران إلى طقس بوجلود، حيث يقوم الرّجال بلبس جلود الذّبيحة في مساء أوّل العيد.

[7]– عبد الله حمّودي:  الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، مرجع سابق، ص10.

[8]– لفظ أمازيغيّ محلّي يُقصد به “عيد الأضحى”.

[9]– عبد الله حمّودي: الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، مرجع سابق، ص1-2.

[10]– Edward Westermarck, Les survivances païennes dans la civilisation mahométane) Paris Payot, 1935( ,p197.

[11]– عبد الله حمّودي: الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، مرجع سابق، ص74.

[12]– نور الدّين الزّاهي: في الأسس الثّقافيّة للسّلطة، مجلّة المغربيّة، العدد التّاسع عشر، مارس 2002، ص29.

[13]– عبد الله حمّودي: أضحية وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، مرجع سابق، ص169.

[14]– هناك اعتقاد عامّ في المغرب يتمثّل في كون الدّم والجنّ مرتبطان، وأينما يتواجد الدّم يحضر الجنّ.

[15]– أجرى حمّودي دراسته هاته بسهل مرّاكش بالمغرب، وبالضّبط قرية آيت ميزان.

[16]– لفظ أمازيغيّ يُشير إلى فعل النّحر، وقد ارتبط بعيد الأضحى لكون أهمّ طقس يميّزه هو النّحر. وبالتّالي فهذا العيد داخل المجتمع المغربيّ يحتمل تسميات عديدة. تتدخّل فيها العربيّة بالأمازيغيّة (العيد لكبير، تفاسكا، تيغرسي، العيد إمقورن…)

[17]– عبد الله حمّودي: الشّيخ والمريد، النّسق الثّقافيّ للسّلطة في المجتمعات العربيّة الحديثة، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، 2010، ص299-300.

[18]– عبد الله حمّودي: الشّيخ والمريد، مرجع سابق، ص302.

[19]– تتواجد هذه القبائل بمنطقة جنوب مرّاكش، في الأطلس الكبير بالمغرب.

[20]– حسن رشيق: سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، 2010، ص10.

[21]– المعْروف أو الموسم وهو نوع من الاحتفاليّة المرتبطة بالأضرحة، وهذه القاعدة توجد بالمغرب حيث أنّ كلّ ضريح يُقام فيه المعْروف. ويتمّ خلاله اقتسام القرابين والأكل جماعة، على اعتبار أنّ ما تمّ طبخه وأكله في المعروف مشبع بالبركة.

[22]– حسن رشيق، سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص120.

[23]– ينتمي هذا الدّوار إلى قبيلة آيت ميزان.

[24]– حسن رشيق، سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص121.

[25]– هناك اعتقاد عامّ حول سيدي شمهروش يتمثّل في كون هذا الأخير لا ينتمي إلى عالم الإنس، إنّه من “الآخرين” أي من الجنّ. غير أنّ سيدي شمهروش متميّز عن هذه الكائنات غير المرئيّة، إنّه سلطانهم. ولكن سلطته محدودة في الزّمن، إنّه لا يحكم إلاّ مرّة في الأسبوع، وهو يوم الخميس. وعلى باب الضّريح مكتوبة “سلطان السّلاطين من الإنس والجنّ سيدي شمهروش عاش قرون”. انظر: حسن رشيق، سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص26.

[26]– حسن رشيق: سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص123.

[27]– المرجع نفسه، ص129.

[28]– حسن رشيق: سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق،ص126.

[29]– أو السّلالة وهي التي تشرف على ضريح سيدي شمهروش، فأعضاء السّلالة يعتبرون أنفسهم خدّام الوليّ. ويسمّى ب “المقدّم” ويروي هذا الأخير أنّ الشّخص الذي التقى بسيدي شمهروش أوّل مرّة هو موسى، ولمّا ضيّفه في بيته وأحسن معاملته، طلب منه شمهروش أن يجمع القبائل ويعلن لهم عن مكانه وبأنّهم ينبغي أن يحترموا موسى هو وأولاده ومن معه. انظر: حسن رشيق، سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، الفصل الثّاني: “خصائص الذّبائح”، ص46-64.

[30]– حسن رشيق: سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص176-179.

[31]– يشير حمّودي في دراسته إلى مرحلة كفاح المغرب في فترة الاستقلال عندما تمّ نفي الملك، وحدها أسر نادرة مخلصة للنّظام الفرنسيّ قامت بنحر الذّبيحة، في حين أنّ بقيّة الشّعب امتنع عن ذلك، ممّا يوضّح أنّ كلّ الممارسات الإسلاميّة الطّقوسيّة قد اكتسبت تجذّرا محلّيا شعبيّا، حيث يمكن أن تتحوّل من ضمانة للامتثال إلى علامة على التّمرّد والرّفض، ومنه نفهم المراقبة اليقظة التي تمارسها السّلطات العموميّة على أماكن العبادة. انظر: عبد الله حمّودي، الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، مرجع سابق، ص10.

[32]– يسود في الاعتقاد الشّعبيّ المغربيّ أنّ الملح يعتبر قوّة حمائيّة من طرف الجنّ والعين، فأن تُمسك بالملح في يدك، دلالة على امتلاكك السّلاح في وجه الكائنات الغيبيّة والنّجاة من كلّ خطر.

[33]– حسن رشيق: سيدي شمهروش، الطّقوسيّ والسّياسيّ في الأطلس الكبير، مرجع سابق، ص4.

[34]– أبو بكر باقادر، حسن رشيق: الأنتروبولوجيا في الوطن العربيّ، دار الفكر، دمشق، 2012، ص147.

[35]– عبد الأحد السّبتي: الماضي المتعدّد، قراءات ومحاولات تاريخيّة، الدّار البيضاء، دار توبقال، 2016، فصل “الطّقس الاحتفاليّ وحديث المجتمع عن ذاته”.

[36]– عبد الله حمّودي:  الشّيخ والمريد، النّسق الثّقافيّ للسّلطة في المجتمعات العربيّة الحديثة، مرجع سابق، ص320.

[37]– Clifford Geertz, “Thick Description: Toward an Interpretative theory of culture” (New York, Basic Books: 1973), pp6-10.

[38]– عبد الله حمّودي:  الضّحيّة وأقنعتها، بحث في الذّبيحة والمسخرة بالمغارب، مرجع سابق، ص12.

[39]– أبو بكر باقادر، حسن رشيق، الأنتروبولوجيا في الوطن العربيّ، مرجع سابق، ص144.

[40]– نور الدّين الزّاهي: المدخل إلى علم الاجتماع المغربيّ، الدّار البيضاء، دفاتر وجهة نظر، 2011. ص105.

[41]-Hussein Fahim, Indigenous Anthropology in Non-western Countries (Paris: Carolina Academic Press, 1975.)

[42]– رشيد بن بيّه: “السّوسيولوجيّة المغربيّة: من الرّفض إلى إعادة الاعتبار، مجلّة إضافات، العددان 31-32، صيف-خريف 2015، ص197.

[43]-Dray-Kleiche, Karima « La Recherche scientifique au Maroc » Rapport de synthèse, IRD-CJB.2007.p57.

[44]-Myriam Catusse, Le Social : Une affaire d`état dans le Maroc de Mohammed VI (Rabat: Confluences Méditerranée) 2011, pp63-76.

[45]– أبو بكر باقادر، حسن رشيق: الأنثروبولوجيا في الوطن العربيّ، دار الفكر دمشق، 2012، ص123.

[46]-Abdelkebirkhatibi, “Sociologie du monde arabe: Positions ” BESM : no 126. 1975. 13-9 et 26.

[47]– أنظر: رحمة بورقية، حسن رشيق: الهجرة النّسوية بجهة مرّاكش، ترجمة محمّد دحمان، وزارة إعداد التّراب الوطنيّ والماء والبيئة، الدّار البيضاء، 2003.

مقالات أخرى

النّسيج اللّغوي

سبينوزا متجاوزا ديكارت

الفلسفة والعلوم الإنسانية راهنا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد