في ظل الزمن «الداعشي» تعيش الدولة الشرق أوسطية، لا سيما تلك التي وصلت فيها الحركة القومية العربية إلى السلطة ، تحت تأثير ظاهرة تفجر الدولة الشمولية ، والبنية القسرية وغير التوافقية، إذ تقوضت الدولة بعمق رأساً على عقب. ففي أثناء عدد من العقود رأت الحركات الجهادية المتشددة كثيراً في فرصها الإستراتيجية بالنسبة لعلاقة قوى غير مؤاتية دفعة واحدة يتسع إلى ما لا نهاية مجال الممكنات. فثمة تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية « الدولة الإسلامية »-«داعش».
فالدول العربية الشرق أوسطية الجديدة وجدت نفسها إذن من جديد مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم القوى الديمقراطية التي تطالب بإعادة بناء الدولة الوطنية ، ومن جهة أخرى باسم «الدولة الإسلامية » أوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان «الطابع الاصطناعي» واللاشرعية في الدولة الشرق أوسطية ، يمزقانها بين خطر التجزئة وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف أن مشروع «الدولة الإسلامية » داعش ،على الرغم من إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد لم يكف أبداً عن التسلط على عدد من الحركات الجهادية .
ومن المفارقة أن الأقليات العرقية ـ الدينية تمثل اليوم أصلب المؤيدين لهذه الدول العربية التي أُنشئت على أنقاض أحلامها في تحقيق الوحدة العربية لأنها ترى في هذه البُنى، إذا ما استبعدت ذات مرة، أفضل حاجز في وجه أمواج تنظيم «الدولة الإسلامية »-«داعش» التي تدفع من الداخل أو من الخارج إلى إنشاءدولة أوسع , حتى العناصر الأقلية التي تعترض على الشكل الاتحادي للدولة وتكون على حدود الانفصالية كالزعماء الأكراد العراقيين وهم في حالة السلطة المستقلة ذاتيا ، قد حرصوا دائماً على المعارضة سياسياً على انصهار الدولة بمثيلاتها أو جاراتها العربيات.
ولا يزال الفكر السياسي العربي بكل تلاوينه لا يميز بين الفكر القومي، والايديولوجية القومية ، والأحزاب والحركات القومية التي تتبنى إيديولوجية قومية، والتي وصلت إلى السلطة، و يحمل مسؤولية وأزمة الأوضاع الراهنة المزرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية في العالم العربي الى الفكر القومي العروبي الوحدوي، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن الهزيمة التي منيت بها الأمة العربية هي هزيمة الفكر القومي. يقينا أن هزيمة الأمة العربية اليوم هي هزيمة تشمل الأفراد والجماعات، والطبقات، والأحزاب السياسية على إختلاف مرجعياتها الايديولوجية، والحركة القومية العربية لأنها لم تكن ديموقراطية، حيث يمثل إخفاقها وعجزها عن تحقيق أطروحاتها في الوحدة والنهضة العربية – على رغم التأييد الأدبي والسياسي للجماهير الشعبية العربية لها – إخفاقاً تاريخياً عادلاً.
لكن الذي يتحمل وزر هذا الإخفاق التاريخي والهزيمة السياسية للأمة ليس الفكر القومي العروبي ولا المشروع القومي، وإنما الحركة القومية، الذي يعتبر انهيارها وهزيمتها هي ذاتها هزيمة المجتمع المدني وضموره، وتهميش الشعب ، و إخراجه من السياسة، وتسيد الدولة الشرق أوسطية التسلطية، التي حطمت كل المبادئ والنماذج الثابتة في الوجدان الاجتماعي (الديموقراطية، الرابطة القومية، التنمية بشروطها الوطنية والقومية) إشباعاً لنزواتها وخدمة لذاتها… فالدولة الشرق أوسطية إذن هي التي تتحمل وزر هذه الأوضاع لأنها أدارت ظهرها للإيديولوجية القومية ولايديولوجيا الإسلام فصنعت لنفسها ايديولوجيا منغلقة متأخرة أوصلت الأقطار إلى حالة البؤس. فهي لا تطيق الوضع الذي تصبح فيه ممارستها الخاطئة موضوعا للنقاش والجدل العلمي والوطني والقومي والديني البناء.
الدولة الشرق أوسطية العربية التي تروج لها بعض التوصيفات أنها «الدولة القومية» أو «الدولة الوطنية الحديثة» هي حالة تعبر في الصورة العامة عن رهانات ورغبات ايديولوجية، أكثر مما تعبر عن حقائق واقع هذه الدولة القطرية ذاتها ، التي تبقى نشأتها التاريخية مختلفة جذرياً عن السياق التاريخي – السياسي الذي نشأت فيه الدولة القومية الغربية، ولأنها أيضا ظلت بعيدة كل البعد عن الفتح البورجوازي الحديث. بل لأنها تجهل كلياً هذا الفتح البورجوازي المسمى بالحداثة السياسية والثقافية، التي تقوم على ركيزتين اساسيتين هما: الديموقراطية السياسية الحديثة، والعلمانية والعقلانية.
فالمظهر الخارجي الحديث للدولة الشرق أوسطية العربية كان يخفي واقعاً داخلياً ذي بنية تقليدية ومتخلفة من حيث الجوهر، تهيمن فيها ايديولوجية تقليدية، لا تزال ترى الى السياسة باعتبارها شأنا من شؤون شخص الحاكم أو الزعيم أو القائد الملهم، الذي يستمد مبدأه وفعاليته من الواجهة المؤسسية لسلطة بيروقراطية الدولة، ونظام الحزب الواحد، و إيديولوجية بيروقراطية الدولة، التي تفهم وتمارس السياسة في بعدها التقني البراغماتي وترفض منطق الصراع الفكري، و الجدل الثقافي والمعرفي، وتعمل على إخضاع تنظيمات المجتمع المدني لمنطق هيمنة أجهزة الدولة التسلطية.
إن سيرورة تشكل الدولة الشرق أوسطية العربية الحديثة في علاقتها بالمجتمع المدني من جهة، وبالقوى الاجتماعية من جهة أخرى، لم تتم في نطاق القطيعة مع ميراث الدولة الكولونيالية التي تمثل الاستمرار التاريخي للدولة البيروقراطية الحديثة، التي ولدت في أعقاب الثورة الديمقراطية البورجوازية في الغرب من ناحية، مثلما لم تتم القطيعة مع الدولة السلطانية التي سادت العالم الاسلامي من ناحية أخرى.
وهذه الدولة الشرق أوسطية العربية التي اضطلعت بتطبـــيق مشروعها التحديثي في نطاق علاقته بالمجتمع التقليدي الــذي دمرت الرأسمالية الكولونيالية توازنه العرضي الذي كان سائداً، والذي وسم المجتمع العربي الكولونيالي بالتجزؤ والتذرر، و التباعد، و التنافــر، بين مختلف اطرافه، قد خلقت بيروقراطيتها الحديثة ذات الطابع المركزي المهيمنة على هياكل ومؤسسات السياسة، والاقتـصاد، والمتغلغلة فـــي بنى ومؤسسات المجتمع المدني الوليد، حيث أصبحت هذه الدولة القطرية التي توحدت مع جهازها وبيروقراطيتها الحديثة خارجة عن المجتمع المدني، ومنفصلة عنه.
وكانت هذه الدولة الشرق أوسطية تمثل في الوقت عينه العنصر التكويني الرئيس للعلاقات الرأسمالية وكونها، «العلاقات الرأسمالية»، باعتبارها دولة كانت تبحث دائماً عن ممارسة سياسة وسط معينة بين النموذج الليبرالي ونموذج رأسمالية الدولة ، و كانت تجسد رأسمالية الدولة التابعة للمراكز الرأسمالية الغربية بامتياز . لكن بعد تضخم هيمنة الدولة على المجتمع المدني وصولا إلى تدويله، و إلغاء دور القوى الاجتماعية والشعب على صعيد إنتاج السياسة في المجتمع ، انبثقت الدولة البيروقراطية التسلطية الحديثة، وامتلكت ناصية الاستبداد المحدث، من «مصادر الاستبداد التقليدي باحتكار الحكم مركز السلطة» من ناحية، ومن خلال «احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع» عبر اختراق المجتمع المدني على مختلف مستوياته ومؤسساته، و «بقرطة» الاقتصاد إما خلال توسعة القطاع العام، وإما بإحكام السيطرة عليه فالتشريع و اللوائح (أي رأسمالية الدولة التابعة) وكون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للارهاب المنظم ضد المواطنين من ناحية اخرى.
وتكمن خصوصية التحديث في الدولة الشرق أوسطية العربية في انفصاله الكلي عن المسألة الديموقراطية، والحداثة السياسية، سواء في مفهومها الليبرالي الغربي المتعلق بإحلال مفهوم المواطنة، والإعتراف بسلطة الفرد الحر المسؤول، و بناء المؤسسات السياسية والدستورية التمثيلية، وما تقتضيه من إحلال قيم المشاركة السياسية من جانب الشعب في الشأن العام، بما في ذلك حق الانتخاب وحق الرقابة على مؤسسات الدولة وعلى رجال الدولة باعتبارهم وكلاء المصلحة العامة، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية وتوحيد التنمية وفق اختيارات اقتصادية اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الشعبية.
وفي هذه المعادلة غير المنطقية التي تقيم جداراً صينياً بين مشروع التحديث ونمط الديموقراطية، تكمن أزمة الدولة الشرق أوسطية العربية في ديناميات بناء السلطة وقضايا التحرر والتحديث على اختلاف مسمياتها، ونعوتها، وشعاراتها، من حيث أنها أصبحت في صورتها العامة دولة الزعيم أو العائلة أو الطائفة، أو القبيلة، لا دولة الأمة بمعنى سيادة الأمة، وسيادة الشعب تمارس الاحتكار الفعال لمصادرالقوة والسلطة في المجتمع بعد أن أفرغت العملية السياسية من المعارضة، حين ألغت المجال السياسي بهيمنتها المطلقة على المجتمع المدني، وإخضاعها النقابات لهيمنة الحزب الحاكم، وترييف المدن من خلال تهميش فئات الفلاحين وإبعادها عن كل تأثير سياسي، وخلقها مجالها السياسي الخاص بها، الذي قصر المساهمة السياسية على بيروقراطية الدولة المتكونة من أجهزتها الأمنية الضخمة: أي اجهزة العنف المنظم والرقابة والعقاب الجماعي التي تستخدم لتفكيك المجتمع المدني والإجهاز عليه، والحزب الشمولي الأوحد، وعلى المؤيدين والموالين من التكنوقراطين والمنتفعين بالسلطة.
إن ظهور تنظيمات «القاعدة»و «داعش» يؤكد على الفشل التاريخي للدولة الشرق أوسطية نموذج الدولة والايديولوجية القومية، وانتشار ظاهرة الشعبوية وانعدام تقاليد الحوار الديموقراطي في ظل تغييب كامل للديموقراطية من جانب الدولة التسلطية، التي حلّت سلطة الرئيس أو الزعيم أو القائد العام للحزب الواحد ، أو الحزب الواحد في أعماق نفسية المجتمع العربي محل المذهب الواحد او الدين الواحد، الذي لم يكن يسمح بما عداها، و انفصال الدولة القطرية عن المجتمع الذي هو أبرز مظهر من مظاهر الدولة الاستبدادية، والهزائم المتلاحقة التي منيت بها الأمة العربية، وإخفاق المشروع النهضوي العربي ، شكلت جميعها الأرضية الخصبة، والأسباب الرئيسية للعودة الضخمة والصارخة للعامل الديني، والاستخدام الشديد السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا الإرهاب من جانب الحركات الجهادية المتطرفة التي تطلق على نفسها اسم «الدولة الاسلامية» باعتبارها أحد إفرازات الهزيمة المذلة للدولة العربية أمام العدو القومي الاميركي-الصهيوني من جهة، وأمام همجية الإستبداد من جانب الدولة التسلطية من جهة اخرى.