ثنائية المعرفة: من العقل إلى التجريب

 من المعروف أن أول محاولة في تاريخ الفكر الفلسفي لوضع مشكلة المعرفة الإنسانية موضع البحث المستقل المنظم، كانت في القرن السابع عشر مع الفيلسوف الإنجليزي “جون لوك” في كتابه “مقالة في العقل البشري”، الذي يعد بحق أول بحث علمي منظم تناول بالفحص والدراسة أصل المعرفة وماهيتها، وحدودها ودرجة اليقين فيها. ومع ذلك، فإن البحث في المعرفة قديم قدم التفلسف، إذ كان يمثل قسمًا مهمًا من التقسيم التقليدي لموضوعات البحث الفلسفي.

     ومن الثنائيات التي يتناولها البحث في نظرية المعرفة يمكن تحديد الثنائية التي تتصل بالبحث عن الوسيلة أو الأداة أو المصدر الذي تتم عن طريقه المعرفة، فقد ظهر في تاريخ الفكر الفلسفي اتجاهان أساسيان: الأول، يذهب أصحابه إلى أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة وهؤلاء هم (العقليون). والثاني، يذهب أصحابه إلى أن التجربة وحدها هي مصدر المعرفة وهؤلاء هم (التجريبيون). وفيما يلي توضيح لذلك:

1- الاتجاه العقلي في المعرفة

يقوم الاتجاه العقلي في المعرفة على أساس أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، ويذهب أصحابه إلى أنه لا يمكن استنباط الكلية والضرورة، وهما الصفتان الملازمتان المنطقيتان للمعرفة الحقة، من التجربة وتعميمها، إنما يمكن استنباطهما فقط من العقل نفسه، إما من مفهومات فطرية في العقل (نظرية الأفكار الفطرية عند ديكارت)، أو من مفهومات لا توجد إلا في شكل استعدادات مسبقة في العقل (1).

     وهكذا يقوم موقف العقليين على التسليم بأن للعقل مبادئ جاهزة، أو طرائقاً فطرية هي التي تقوده إلى معرفة حقائق الأشياء، ولذلك فإن الصورة المثلى للمعرفة عند العقليين هي تلك التي تمثلها البراهين الرياضية؛ فمثل هذه البراهين تبدأ ببديهيات أو حقائق واضحة بذاتها، وتصل عن طريق سلسلة من الاستنباطات المتدرجة إلى نتائج منطقية ضرورية لا رجوع فيها (2).

     وقد ظهر المذهب العقلاني كمحاولة لتعليل الخصائص المنطقية مثل: الصدق الرياضي والعلم الطبيعي الرياضي. وكان ممثلوه في القرن السابع عشر “ديكارت” و”سبينوزا” و”لاينبتز” وفي القرن الثالث عشر “كانط” و”فيخته” و”شلنغ” و “هيجل”.

     ومن الجدير بالذكر، أن فلاسفة المذهب العقلي في العصر الحديث ساروا على طريق “افلاطون” في اهتمامهم البالغ بالرياضيات، واستخدامهم للمنهج الرياضي، ويأتي على رأس هؤلاء أبو الفلسفة الحديثة، الفيلسوف الفرنسي “ديكارت”، فإلى جانب كونه فیلسوفًا، كان “ديكارت” عالمًا رياضيًا. وإذا كان الشك عند “ديكارت” هو مفتاح المنهج، فقد كان العلم الرياضي عنده هو مفتاح المذهب.

     وإذا كان “ديكارت” قد أعلن في القاعدة الأولى من قواعد منهجه “ألا يتلقى على الإطلاق شيئًا على أنه حق ما لم يتبين بالبداهة أنه كذلك”، فإنه كان يقصد ذلك النوع من الوضوح الذاتي الضروري. يقول ديكارت: “حتى نتمكن من إضفاء يقين على أي علم يساوي يقين علم الحساب أو علم الهندسة، يجب ألا نشتغل إلا بالمعاني الواضحة المتميزة، وهي التي مضمونها بديهي تام البداهة” (3).

     أما “سبينوزا”، فقد كان كثير الشبه من “ديكارت”، إذ يبدأ بأعم الحقائق ويعمل على استنباط كل ما تنطوي عليه من نتائج، ولكن الاختلاف بينه وبين “ديكارت” يتمثل في أن “ديكارت” كان حريصًا على أن يبدأ بقضية ذات وضوح تام، يؤدي إنكارها نفسه إلى تأكيدها، فكانت نقطة انطلاقه هي “أنا أفكر” في حين أن “سبينوزا” كان حريصًا على أن يبدأ بتأكيد الوحدة الشاملة للكل، مما جعله في غنى عن تلك الثنائية التي لا بد أن ينتهي إليها كل من يبدأ بحقيقة الفكر وحده (4).

    والمعرفة عند ” سبينوزا ” حالة من صفاء الذهن يتم التوصل إليها بتصحيح الفهم تصحيحًا يعتمد على تخليصه من الأفكار الغامضة المبهمة التي تنشا عن الخيال والإدراك الحسي، وعندما يعمل العقل على توضيح أفكاره جيدًا ، وإدراك ما تنطوي عليه تلك الأفكار، فإنه عندئذ يحصل على الأفكار الصادقة وعلى اليقين (5).

     أما “ليبنتز” فكان يرى أن فلسفة “ديكارت” هي الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة، وذهب إلى أن أفكارنا تكون أصلا في ذهننا، وتأتينا من أعماقنا، وأن أساس يقين الحقائق الكلية يكون في الأفكار نفسها مستقلة عن الحواس، ويُعدّ “ليبنتز” من أكثر العقليين تطرفًا، إذ زعم أن القضايا الصادقة كافة يمكن من حيث المبدأ معرفتها بوساطة الاستدلال العقلي الخالص (6).

     يتضح مما سبق، أن أنصار المذهب العقلي يتخذون من العقل الخالص وحده مصدرًا للمعرفة دون اعتماد على الحواس، أو استنادا إلى التجربة في مقابل أنصار الاتجاه التجريبي الخصم المألوف للاتجاه العقلي.

2- الاتجاه التجريبي في المعرفة

     يرى أنصار هذا الاتجاه أن الحس باب المعرفة الوحيد، ويؤكدون على أنه لا يوجد شيء في العقل لم يمر بالحس أولاً، ومن هذا المنطلق ينكرون أن يولد العقل مزودًا بأفكار فطرية موروثة كما يدعي العقليون. ومن هنا يلتقي التجريبيون مع الحسيين، ولكنهم خالفوهم في أنهم جعلوا للعقل فاعلية تبدو في القدرة على التفكير فيما تنقله الحواس من صور ذهنية، وتأليف أفكار من العناصر التي استمدها من التجربة وهي أفكار لا وجود لها في العالم الخارجي. وقد نشأ المذهب التجريبي الحديث بوصفه رد فعل للمذهب العقلي، وقام بتنميته مجموعة متعاقبة من الفلاسفة الإنجليز، كان أبرزهم : “لوك” و “باركلي” و “هيوم”. (7)

     أما “جون لوك” فإنه يعرب صراحة عن إيمانه بأن معرفتنا بوجود الأشياء لا ينبغي أن ترد إلى الذهن، فالوسيلة الوحيدة لهذه المعرفة في رأيه هي الإحساس، ولا يمكن عن طريق الأفكار الذهنية وحدها إثبات وجود موضوع للفكرة، مثلما لا يمكن إثبات وجود الإنسان من صورته المرسومة.

     ويشير “لوك” إلى أن أي فكرة تتولد في الذهن إنما ترتد إلى مصدر واحد فقط هو التجربة، فالعقل، من وجهة نظره، صفحة بيضاء ليس فيه أفكار فطرية أو معاني أولية، وإنما يستمد العقل كل خبراته وأفكاره من التجربة. فالتجربة الحسية هي التي تخط على هذه الصفحة البيضاء سطورها. ومن هذا المنطلق يرى “لوك” أن الإنسان لا يبدأ في التفكير إلا عندما يبدأ في الإحساس، فالإحساس سابق على التفكير، وليس هناك شيء في العقل ما لم يكن قبل ذلك في الحس. الذي به وحده يمكن تفسير المعرفة كلها عند “لوك” (8).

     أما “جورج باركلي”، فقد قدم محاولة من أكثر المحاولات تطرفًا لإنكار الوجود المستقل والمتميز للعالم الخارجي مع الاعتراف بأن الأشياء من حيث حقيقتها وواقعيتها ستظل كما هي. ولم يعترف ” باركلي إلا بما يظهر لنا من الأشياء من خلال إدراكنا الحسي لها. بعبارة أخرى، لا وجود للمادة المجردة، ولا وجود إلا لما ندركه بحواسنا من المادة. تطبيقًا لمبدأ المذهب الحسي الذي يرى أن المعرفة الحقة هي المقصورة على ما يبدو على الشعور بأعراض محسوسة، وإن ما لا يبدو محسوسًا وهم محض (9).

     أما “ديفيد هيوم” فيسلم بكل سهولة باستحالة إدراكنا لأي شيء خلاف أفكارنا. ويقول: “إن أي قدر من الفلسفة يعرفنا عدم إمكان استحضار عقولنا لأي شيء خلاف الصور والمدركات، وإن الحواس هي المنافذ الوحيدة التي تدخل منها هذه الأفكار”. ولذا يرى أنه بمقدورنا الحصول على أية معرفة بالمسائل التي تجاوز تجربتنا المباشرة، وتعلو على قدرات عقولنا (10).

     يتضح مما تقدم، أن المعرفة عملية مركبة يساهم فيها العقل والحواس معًا، وأن الإنسان مهما كان عاقلًا فإن العقل وحده لا يكفي لوحده كمصدر للمعرفة، كما أن التجربة أيضًا تبقى قاصرة لوحدها، لهذا كانت المعرفة الإنسانية عملية تركيب بين ما هو عقلي وما هو تجريبي، لهذا قال كانط: “الحدوس الحسية من دون مفاهيم تظل عمياء، والمفاهيم من دون حدوس حسية جوفاء”. إذًا المعرفة مصدرها العقل والتجربة معًا، ومن ثم فهي ليست فطرية وليست مكتسبة فقط، بل هي فطرية ومكتسبة في الوقت نفسه.

المراجع

1- يودين م. روزنتال . ب.: الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير کرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1981، ص 472.

2- هنترميد: “الفلسفة أنواعها ومشكلاتها”، ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، 1999، ص 188.

3- مصطفى غالب: ” ديكارت “، دار مكتبة الهلال، بیروت، 1982، ص ص 72-73.

4-  فؤاد زكريا: سبينوزا (ضمن معجم أعلام الفكر الإنساني)، تصدير إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الجزء الأول، 1989، ص 520.

5- الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية فؤاد کامل وآخرون، دار القلم، بیروت، د. ت، ص 251.

6- ليبنتز: “ابحاث جديدة في الفهم الإنساني“، ترجمة أحمد فؤاد کامل، دار الثقافة، القاهرة، 1983، ص 179.

7- مجمع اللغة العربية: “المعجم الفلسفي”، تصدير إبراهيم مدكور، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983، ص 145.

8- عزمي إسلام ، ” جون لوك “، دار الثقافة، القاهرة، 1976، ص ص 52-53.

9- يحي هويدي: “باركلي” (ضمن معجم أعلام الفكر الإنساني)”، مرجع سابق ، ص 815.

10- ريتشارد شاخت: “رواد الفلسفة الحديثة “، ترجمة أحمد حمدي محمود ، الهئية المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1993، ص 219.

 

مقالات أخرى

التربية الجنسية في الفلسفة الكانطية

صابر جيدوري : ثنائية الفرد والمجتمع وانعكاساتها التربوية

ظاهرة التنمر

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد