مثالية أم مثاليات؟ بقلم الدكتور صابر جيدوري

 ” كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو أشد ضياءً من الشمس ” أفلاطون .

مقدمة:

تنطلق الفلسفة المثالية من أن هناك عالم آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه ونحسه، وهو الطبيعة الأزلية الخالدة والقيم والأفكار الذاتية التي هي ثابتة لا تتغير، ومن مسلماتها أن الكون مقسم إلى عالمين: مادي، وهو الذي نتعامل معه بالحواس، وعالم علوي، وهو الذي يُدرك بالعقل، وهذا العالم بطلق عليه المثالي، ويحتوي على أفكار وقيم مثالية مثل (الخير والجمال).

     ويری دعاة المثالية أن المعرفة، من حيث طبيعتها، هي عقلية بالدرجة الأولى، ترتبط بالفكر وتبدأ منه، وذلك على خلاف الفلاسفة الواقعيين الذين يردون بداية المعرفة إلى الواقع الخارجي المحسوس المتعين. (1) وبالتالي فالمعرفة عند فلاسفة الاتجاه المثالي ذات طرف واحد، بمعنى أنها تتكون من مجموعة من الأفكار العقلية القائمة في ذهن الإنسان، وليست ذات طرفين أحدهما فكرة في العقل، والثاني شيء في عالم الأشياء. لأن الأشياء في حقيقتها عقلية بالدرجة الأولى.

     وهكذا، فإن الوجود والمعرفة عند المثاليين مرتبطان الواحد بالآخر أشد الارتباط، لأن معرفة الإنسان لشيء معرفة عقلية هي نفسها وجود ذلك الشيء. فلا فرق بين الشيء بوصفه كائنًا من كائنات العالم، وبينه بوصفه تصورًا عقليًا. حتى لقد غالى كثير من المثاليين، وهم المثاليون الذاتيون بشكل خاص، في هذا الاتجاه فجعلوا وجود الأشياء مرهونًا بمعرفتنا، إذ لا وجود إلا لما يدركه عقل ما، وما ليس يدركه عقل ما يستحيل أن يكون موجودًا، فوجود الموجودات يتوقف في نظرهم على القوى التي تدركها وهي نفسها ليست إلا صورًا عقلية. (2) ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الفلسفة المثالية نسق فكري واحد أم يوجد لها أنساق فكرية متعددة تتفق في التوجه العام وتختلف في التفاصيل؟

     الإجابة عن هذا السؤال تُشير إلى أن الفلسفة المثالية ظهرت في أنساق فكرية متعددة أهمها: المثالية المفارقة عند “أفلاطون”، والمثالية الذاتية عند “باركلي”، والمثالية الترنسندنتالية عند ” كانط” كما سماها في كتابه “نقد العقل الخالص”، والذي عاد وأطلق عليها “المثالية النقدية” في كتابه “مقدمات لكل ميتافيزيقا مقبلة”. كما شاع استخدام اسم “المثالية” بالنسبة للفلسفات التي تذهب إلى أن الوجود في حقيقته كل واحد، وهو ما سماه “هيجل” بالمطلق، أو ما سمى كذلك بالروح المطلق، ومن ثم فقد أصبحت المثالية تطلق على فلسفة “هيجل” ومن سار على نهجه، وتسمى بالمثالية المطلقة. وفيما يلي توضيح لهذه الأنساق:

1- المثالية المفارقة عند أفلاطون

ذهب “أفلاطون” في نظريته عن “المُثل” إلى أن المُثل هي وحدها الموجودات الحقيقية التي توجد مفارقة في عالم خاص بها هو عالم المعقولات، وهذه المثل هي الأصل للعالم والنموذج للأشياء الحسية، ويقوم مذهب “أفلاطون” في المعرفة على أساس مجموعة من الثنائيات أهمها: المظهر والحقيقة، التغير والثبات، الحواس والعقل، والأشياء المادية والمثل المفارقة للمادة، ويميز أفلاطون بين نوعين من المعرفة: أولها، المعرفة الظنية: وهي المعرفة بعالم الأشياء المادية التي تأتي إلينا عن طريق الحواس، وتتصف بالتغير، وتتصل كذلك بالمظهر. وثانيها، المعرفة اليقينية: وهي المعرفة بعالم المثل المفارق للمادة، وتأتي إلينا عن طريق العقل، وتتميز بالثبات، وترتبط بالحقيقة (3).

     فالحقيقة في نظر “أفلاطون” هي المثل العقلية المفارقة للأشياء المادية، وهذه الأشياء المادية ليست إلا تجسيدًا للحقيقة، وانعكاسًا للعقل، ومحاكاة للمثل التي تُعبّر عن الطبيعة الحقيقية للأشياء، وتمثل الصورة العقلية للوجود، وتشكل النظام المثالي للعالم.

2- المثالية الذاتية عند باركلي

     المثالية الذاتية اتجاه فلسفي يرى عدم إمكان عدّ العالم الموضوعي موجودًا وجودًا مستقلًا عن نشاط الإنسان الإدراكي وعن وسائله في الإدراك. وتقوم نظرية المعرفة في المثالية الذاتية على إضفاء الطابع المطلق على الجوانب الذاتية للعملية الواقعية للإدراك. (4)

     وقد تمثل هذا الاتجاه بوضوح عند “باركلي” في محاولته تفنيد المادية التي كانت شائعة في عصره، فأثبت استحالة وجود المادة مستقلة، وأنكر وجود العالم المادي مستقلاً عن الإدراك، وأقام الحجة على أن وجود الأشياء لا يكون إلا بإدراكها. وقد انتهى “باركلي” إلى هذه النتيجة على أساس أننا لا نستطيع أن نتصور الصفات التي ننسبها إلى تلك الأشياء مجردة عن تجربتنا الحسية لها، فكل الأشياء التي نسميها “مادة” ليست إلا موضوعات لتجربتنا، ولا توجد إلا بوصفها إدراكات. وكل هذه الإدراكات ما هي إلا تجارب ذهنية لا توجد إلا بوجود الأشخاص المدركين. ويبرر “باركلي” هذه الفكرة بقوله: “هل في استطاعة أي شخص أن يعرف معنی وجود أي شيء إلا بكونه مدركا؟ لو أتيت بتعريف آخر فسوف أتنازل عن رأيي وأسلم” (5).

     فليس ثمة وجود بمعزل عن الذهن الذي يدخل هذا الوجود في تجربته، أو كما يقول “باركلي” في عبارته الشهيرة “وجود الشيء كونه مدركا”، ولكن ليس معنى هذا أن “باركلي” ينكر وجود الأشياء في العالم الخارجي، وإنما ينكر فقط وجودها المادي مستقلًا عن كل إدراك، وبذلك ينحل وجود الأشياء في رأي “باركلي” إلى وجود الإدراكات التي ليست إلا أفكارًا يستحيل أن توجد ما لم يدركها ذهن (6). وهذا هو لب مثالية “باركلي” الذاتية، فكل ما يمكننا أن نعرفه ونتحدث عنه حقًا هو مضامین ذهنية، وكل شيء يمكن معرفته لا بد أن يكون في ذهن من الأذهان.

3- المثالية النقدية عند كانط

     المثالية النقدية مصطلح يشير إلى نوع خاص من المثالية الفلسفية يمثله “كانط” وأتباعه، وقد استخدم هذا المصطلح في الفلسفة المدرسية للدلالة على المفهومات التي ترتفع على المقولات الخاصة جميعها بالتفكير.

     ويرى “كانط” أن الفلسفات المثالية التي سبقته قد طورت نظرية الوجود بطريقة قطعية، أي أنها فشلت في أن تبحث مقدمًا في الإمكانية الخاصة وشروط الحقائق الكلية والضرورية بشكل مطلق. وقد ذهب “كانط” إلى أن الفلسفة النظرية “الميتافيزيقا” عليها أن تفسر كيف تكون هذه الحقائق ممكنة في العلم، وفيما إذا كانت ممكنة في الفلسفة. وفي رأيه أن التفسيرات من هذا النوع إنما تزودنا بها المثالية النقدية التي تحاول البرهنة على أن الأشكال القبلية للوعي هي الشرط لمثل هذه الحقائق. (7)

     ويشير زكريا إبراهيم إلى أن نظرية “كانط” في المعرفة تقوم على أساس محاولة التوفيق بين الاتجاهين العقلي والتجريبي والجمع بين صورة المعرفة التي يقدمها العقل، ومادة المعرفة التي تقدمها التجربة، وهذا ما عبّر عنه “كانط” بعبارته المشهورة: (إن المفهومات من دون حدوس حسية جوفاء، كما أن الحدوس الحسية من دون مفهومات عمياء. وإنما تتولد “المعرفة” من اتحادهما معًا، بحيث يستحيل الإدراك الحسي إلى تجربة). (8)

     وعلى الرغم من أن المعرفة عند “كانط” لا تقوم إلا في إطار التجربة الحسية إلا أنه قد رفض أن تكون التجربة الحسية مصدرًا للمعرفة، لأن الحواس لا تقدم لنا إلا مادة المعرفة من دون تشكيل أو نظام، أما صورتها فهي من فعل العقل الذي يفرض نظامه وتصوراته ومقولاته على التجربة، فالتجربة إذًا ليست مستقلة عن العقل، وإنما تنتظم وفقًا لقوانين العقل، ويتم تفسيرها على أساس المفهومات العقلية (9). وهكذا، يرفع “كانط” من قيمة العقل، ويقول بالمذهب المثالي الذي يجعل الوجود كله يدور في فلك العقل، ويجعل العالم كله مرتبطًا بالذات وخاضعًا لقوانين العقل.

4– المثالية المطلقة عند هيجل

     تذهب المثالية المطلقة إلى أن الروح أولية والمادة ثانوية ومستمدة منها، وهي تختلف عن المثالية الذاتية في أنها لا ترى أن المصدر الأول للوجود هو العقل الإنساني الشخصي، وإنما ترى أنه وعي موضوعي من عالم آخر، وإنكار “هيجل” المثالية الذاتية للفلسفة النقدية ينطلق من أن الوعي ليس هو الحقيقة الواقعة، وأن العالم ليس مظهرًا، وأن الفكرة ليست وليدة ذات واعية تكونها، بل هي في حد ذاتها الحقيقة الواقعية الموضوعية. (10)

     من هنا يعارض “هيجل” “المثالية الذاتية للفلسفة النقدية” ويسميها “المثالية المطلقة”، فهو يعتقد أن “الأشياء التي نعرفها بصورة مباشرة هي ظواهر لا بالنسبة إلينا فحسب، بل في حد ذاتها. ولذا يرى أن الإحساس ليس غريبًا عن الفكر، بل إن الإحساس الذي يعزل عن الفكر هو تجريد لا يمكن تصوره، فالإحساس دائما مشحون بالفكر (11). وفي مثل هذا الموقف تكون المشكلة هي: كيف يمكن أن نميز بين الإحساس وبين غيره من ضروب النشاط العقلي؟

     يجيب “هيجل” عن ذلك بقوله: إن المعيار في التمييز بين الألوان المختلفة لنشاط العقل هو “الموضوع”. فإذا كان نشاط العقل ينصب على موضوع حسي سمي النشاط العقلي في هذه الحالة إدراكًا حسيًا، وإذا انصب على تصوير ذهني كان تخيلاً. ومن ثم فإن اعلى ضروب النشاط العقلي هي تلك اللي يتخذ فيها العقل من نفسه موضوعًا لنشاطه حيث يصبح هو نفسه الذات والموضوع في آن معا، والحوار الذي يدور بين هذه الذات وهذا الموضوع هو ما يسميه “هيجل” بالمنهج الجدلي (12).

     من هنا يعتقد “هيجل” أن الفكر ضروري لكل نشاط بشري. ولا يمكن أن نطلق صفة البشرية على أي نشاط يخلو من الفكر، وإذا كانت الذات البشرية كما يقول “هيجل” تشمل في جوفها محتويات كثيرة متنوعة ومختلفة آتية من الداخل ومن الخارج، فإننا نستطيع أن نصف حالتنا تبعا لطبيعة هذه المحتويات فنقول: إنها إدراك حسي أو تصور، إلا أن الفكر مبثوث فيها في هذه الحالات جميعها.

     وهكذا، يتفق “هيجل” مع المثاليين جميعا في نظرتهم إلى طبيعة المعرفة بوصفها في النهاية معرفة عقلية أو روحية، وفي نظرتهم إلى الواقع بوصفه في النهاية تجسيدًا للعقل أو الروح، ومن ثم فلا سبيل إلى فهمه، ولا طريق إلى إدراكه إلا من خلال العقل المصدر الوحيد للوجود والمعرفة معًا.

المراجع

1- عزمي إسلام: اتجاهات في الفلسفة المعاصرة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1980، ص 39.

2- توفيق الطويل: أسس الفلسفة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1908، ص 193.

3- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، طبعة جديدة، د.ت. ص ص 72- 76.

4- يودين م. روزنتال. ب.: الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير کرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1981، ص 455.

5- فؤاد زكريا: نظرية المعرفة، مكتبة مصر، القاهرة، 1991، ص 102.

6- هنترميد: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، 1969، ص ص 70-71.

7- – بودين. م. روزنتال. ب.: الموسوعة الفلسفية، مرجع سابق، ص 456.

8- زكريا إبراهيم: كانط” أو الفلسفة النقدية، مكتبة مصر، القاهرة، ط2، ص 61.

9- المرجع السابق نفسه: ص 62.

10- رينيه سيرو: هيجل والهيجلية، ترجمة نهاد رضا، دار الأنوار، بیروت، من دون تاريخ، ص 131.

11- إمام عبد الفتاح إمام: المنهج الجدلي عند هيجل (دراسة لمنطق هيجل)، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1989، ص 92.

12- المرجع السابق نفسه: ص 92

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد